اللاهوت الدفاعي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

رسول
ومدينته

بولس
وكورنتوس

رسائل
بولس صعبة. فجميع المسيحيين الذين حاولوا قراءتها، أو أكثرهم، يفكّرون هكذا. ففكر
الرسول يدور ويدور وهو مليء بالافكار المجرّدة التي ليست محسوسة كأفكار الانجيليين
الذين يسحروننا مرارًا بحيويّة الحوارات وجمال الأخبار والشعر في الأمثال.

وإحدى
الصعوبات الحاضرة هي أن رسائل بولس لا يمكن أن تقطّع بسهولة في متتاليات صغيرة
تتيح لنا أن نقرأ فقط بعض الآيات لكي نلج إليها بشكل أفضل. فهي وحدة متواصلة. وكل
مرة نقوم بعملية تقطيع في نصوص رسالة بولسية، نحسّ بخيانة للنصّ. وبما أن كل شيء
يتماسك، فالمقطع الذي نقرأه خارج سياقه لا يتكلّم طوعًا للقارئ أو السامع. هذا ما
نراه بوضوح في الليتورجيا: فإن وضعنا جانبًا بعض المقاطع المشهورة التي تُقرأ في
ظروف خاصة، مثل نشيد المحبّة الذي يختاره العديدون في الغرب لقداس زواجهم (1كور
13)، تبقى القراءات الليتورجيّة المأخوذة من رسائل بولس غير مفهومة لدى العامة.
ويندر أن يبني المحتفل عظته انطلاقًا من نصّ بولسي.

وهناك
صعوبة أخرى نحسّ بها حين نقرأ رسائل مار بولس: نعتبرها مرارًا نصوصًا مجرّدة،
لأننا لا نعرف وضع القرّاء. فرسائل بولس تشبه كل الرسائل. فحين نكتب إلى شخص نريد
أن نقول له شيئًا يعني حياته، بشكل عام. عرفنا برسالة سابقة أو بواسطة الهاتف، أو
وصل إلى مسامعنا خبر فرح أو حزن، أو مسألة تطرح. فأرسلنا الجواب. وحين نقرأ بولس،
نشعر أننا لا نعرف على ما يجيب من أسئلة، وهذا ما يزيد الصعوبة في فهمه.

ومع
ذلك، فنحن نستطيع أن نحصل على المعلومات. نحصل عليها بوسائل مختلفة: حين نقرأ
الرسالة كلها. وهذا ما يعطينا نظرة إجماليّة، فنفهم، انطلاقًا من الجواب، الوضعَ
الملموس الذي ردّ عليه الرسول. ونحصل على معلومات بواسطة الاكتشافات الاركيولوجيّة
والحفريّات التي تمّت في أماكن أقامت فيها الجماعات التي وجّه بولس كلامه إليها.
ذاك هو وضع كورنتوس، حيث جماعة مسيحيّة أسّسها بولس نفسه: نمتلك عنها خبرًا طويلاً
في سفر الأعمال، ورسالتين إلى الكورنثيين تضمّان معًا 29 فصلاً (16 في 1كور، 13 في
2كور) ومعلومات أركيولوجيّة مهمّة جدًا.

سأحاول
أن أبرز أمامكم العلاقات التي نُسجت بين بولس وجماعة كورنتوس المسيحيّة، في القرن
الأول المسيحي، بحيث تدركون أهميّة رسائل بولس وآنيّتها: فهي تتوجّه إلينا الآن،
في زمننا الحاضر.

 

1
– حمل الانجيل إلى كورنتوس

تمّت
زيارة بولس الأولى إلى كورنتوس خلال الرحلة الرسوليّة الثانية، حوالي سنة 50.
تحدّث عنها أع 18. ونحن نعرف من سفر الأعمال أنها دامت بين سنة ونصف السنة، أو
سنتين. وهذه الزيارة محدّدة على المستوى التاريخيّ. لأن نصّ الأعمال يتيح لنا أن
نعرف أن قنصل مقاطعة أخائية الرومانية، الذي كان يقيم في كورنتوس، كان في ذلك
الوقت غاليون، شقيق الفيلسوف اللاتيني سينيكا، الذي قام بوظيفته من الأول من تموز
سنة 50 حتّى ربيع سنة 51. كانت كورنتوس مدينة هامة جدًا بالنسبة إلى التاريخ
القديم. كانت في الامبراطورية الرومانيّة، المدينة الثالثة بعد رومة والاسكندرية،
فقُدّر عددُ سكّانها بخمسمائة ألف نسمة. ورافق بولس في عمله الرسولي، معاونان هما
سيلا وتيموتاوس. كما ساعده في عمل الكرازة زوجان يهوديان يحيكان الخيام: أقام بولس
عندهما وعمل معهما. هما أكيلا وبرسكلة. كانا في الاصل، في رومة، فهربا من المدينة
الخالدة على أثر قرار أصدره الامبراطور كلوديوس فطرد اليهود من المدينة.

لم
تتمّ المناداة بالانجيل بدون صعوبات، في هذه المدينة الواسعة التي اتّخذت وجهًا
مسكونيًا بسبب تمازج السكان فيها. والتي اجتمعت فيها جميع نشاطات مرفأ كبير بما
فيها المجون والاباحيّة. وأخبر لوقا، صاحب سفر الأعمال، أن اليهود عارضوا بولس. وأن
الرسول الذي اتُهم بإثارة القلافل، مثُل أمام المحكمة. وأن أحد رؤساء المجمع،
واسمه سوستانيس، الذي اقتنع بكرازة المرسلين المسيحيين، أوسع ضربًا. ومن المعقول،
وإن لم يقل النصّ شيئًا بطريقة مباشرة، أن يكون بولس أودع السجن لبضعة أيام على
الأقلّ.

ولما
انطلق بولس من كورنتوس بعد قرابة سنتين من الزمن، ترك في كورنتوس كنيسة مهمّة على
مستوى العدد. ولكنها كنيسة فتيّة وسريعة العطب. وسرعة العطب هذه نكتشفها في
المراسلة بين بولس وجماعة كورنتوس. وهي مراسلة تمّت سنة 54- 55، أي 4- 5 سنوات بعد
وصول بولس لأول مرة إلى المدينة.

 

2
– مراسلة غزيرة متنوّعة

يضمّ
العهد الجديد رسالتين إلى أهل كورنتوس. ولكن حين نقرأ هاتين الرسالتين، نلاحظ أن
تبادل الرسائل بين بولس من جهة، والجماعة المسيحية في كورنتوس من جهة ثانية، كان
أوسع بكثير. فيجب أن نعدّ على الأقل أربع رسائل إلى الكورنثيين، ما خلا الرسائل
التي كتبها الكورنثيون إلى رسولهم.

حين
نطالع 1كور نستطيع أن نقرأ في 5: 9: (كتبتُ إليكم في رسالتي بألاّ تخالطوا الزناة).
إذن، سبق لبولس وكتب إلى قرّائه. أين توجد هذه الرسالة؟ لا شكّ في أنها ضاعت. حاول
بعض الشرّاح أن يجدوا إما في 1كور أو في 2كور، مقطعًا يتكلّم بشكل واضح عن العلاقة
مع الزناة، فيكون حينئذ تلك الرسالة الأولى التي تسبق تلك التي نسمّيها (الأولى)
إلى كورنتوس. ولكنهم لم يجدوا مقطعًا موافقًا. إذن، ليست 1كور حقًا الرسالة
(الأولى)، بل (الثانية). لهذا نسمّيها (الرسالة ب) على أن نسمّي الرسالة التي جاءت
قبل 1كور وضاعت (الرسالة أ).

وبعد
ذلك، وإذ نواصل قراءة 1كور، نقرأ في 7: 1: (وأما من جهة ما كتبتم به إليّ). هذا
يعني أنه بين (الرسالة أ) و(الرسالة ب)، كتب الكورنثيون إلى بولس، فبدا قسمٌ من
1كور على أنه جواب على أسئلتهم. وهكذا تواصلت المراسلة واغتنت.

وحين
نلج نصّ 2كور التي هي الرسالة الثانية (الرسميّة)، والتي يجب أن لا نسمّيها
(الثانية)، بل (الثالثة)، نفهم أن بولس يتحدّث عن رسالة أخرى دوّنها (لئلا يناله،
عند قدومه، غمّ ممّن كان ينبغي أن يفرح بهم) (2كور 2: 3). ويضيف: (أجل، في كآبة
شديدة وكرب القلب، كتبتُ إليكم، في دموع كثيرة) (آ 4). أية كتابة يعني الرسول؟ هل
يعني 1كور؟ كلا، بدون شكّ. ففيها مقاطع قاسية، ولكننا لا نجد أثرًا (للدموع). لهذا،
يجب علينا أن نفترض (رسالة ج)، دُوّنت (وسط دموع كثيرة). وهذه الرسالة أيضًا، يصعب
اكتشافها، رغم محاولات الشرّاح. لهذا نقول إن 2كور هي في الواقع رسالة رابعة
(رسالة د). وزيادة في التعقيد، تبدو 2كور حين نحلّلها، أنها مركّبة من عدّة عناصر،
بحيث نكتشف فيها على الأقل رسالتين: (رسالة د) تشمل الفصول التسعة الأولى. و(رسالة
ه) التي تشمل بأسلوبها المشدود والمتوتّر 2كور 10- 13.

ولكننا
لن نتوقّف عند هذه التفاصيل. فمخيّلة الشرّاح واسعة، لكي نجد حلولاً لمسائل تطرحها
النصوص. فما أريد أن أقوله هنا هو أنه وُجدت رسائل عديدة توجّهت إلى الكورنثيين: أربع
أو خمس رسائل. ووُجدت أيضًا رسائل أرسلها الكورنثيون إلى بولس. وهكذا تواصلت
العلاقات بين بولس وجماعة لم تعرف الهدوء كثيرًا. فكأننا أمام قصّة حبّ. ولا ننسى
أن أخبار الحبّ تمرّ في تقلّبات عديدة.

ولنتوقّف
الآن عند مسألتين محدّدتين طُرحتا على جماعة كورنتوس، وعند ما قدّم لهما بولس من
جواب.

 

3
– الفوضى خلال الاحتفال بعشاء الربّ (1كور 11: 17- 34)

ما
صار في الكنيسة القداس أو الاحتفال الافخارستي، كان يُدعى، في زمن بولس، عشاء
الربّ. كانوا يتناولونه في بيوت خاصة، لأن الكنائس لم تكن بُنيت بعد. وما كان
ينحصر هذا العشاء في احتفال طقسيّ، بل إن الطقس ضُمَّ إلى وجبة طعام حقيقيّة يبارك
فيها رئيسُ المائدة الخبز والكأس، على مثال ما فعل يسوع في العشاء السرّي، في مساء
يوم الخميس من الاسبوع المقدس. ولكن لم تسر الأمور في كورنتوس، كما كان يجب أن
تسير. فكتب بولس في 1كور 11: 17-21: (هناك أمر لا أمتدحكم عليه: تجتمعون لا لما هو
لفائدتكم، بل لما هو لضرركم.. فلقد بلغني أولاً أن ما بينكم شقاقات.. متى اجتمعتم
ليس اجتماعكم لأكل عشاء الربّ. فكل واحد يبتدر إلى تناول عشائه الخاص، فيجوع
الواحد فيما الآخر يسكر).

فما
الذي حدث؟ وكيف يمكن وجود مثل هذه الفوضى في جماعة دخل إليها الإنجيل جديدًا؟ إن
ما حملته إلينا الاركيولوجيا من معلومات، في هذا المجال، يلقي الضوء على هذا
الوضع(1). وهكذا نستطيع أن نعرف الظروف الماديّة التي عاشت فيها هذه الجماعة،
فنفهم أن التنظيم المادي فيها جاء مؤاتيًا لمثل هذه الانحرافات: هناك شقاقات
وانقسامات. ولا تنتظر فئةٌ الفئةَ الأخرى من أجل الطعام.

في
الواقع، وفي غياب الكنائس في ذلك العصر، كانوا يجتمعون في بيوت تخصّ المسيحيين
الأغنياء، الذين يمتلكون دارات واسعة تستطيع أن تستوعب عشرات الأشخاص. ولكن عشرات
الأشخاص هؤلاء، لا يشكّلون جميع المسيحيين في المدينة: فقد صاروا بضع مئات بعد
ثلاث أو أربع سنوات على بداية المناداة بالانجيل. لهذا، يجب أن نكون حذرين حين
نتحدّث عن جماعة كورنتوس الواحدة. فهذا الواقع غير موجود. لهذا نقول: جماعات
كورنتوس. لأنه كان هناك أكثر من جماعة: تلك التي تجتمع في بيت فلان، وتلك التي
تجتمع في بيت آخر.. فلا بدّ أن يكون عشرة أماكن مختلفة وموزّعة في مختلف أحياء
المدينة. وكل هذا لا يساعد على الوحدة.

ثم
إن جمع عشرات الأشخاص في بيت واحد، لا يتيح لربّ البيت أن يجعلهم في قاعة واحدة.
نتذكّر هنا أن كورنتوس أعيد بناؤها سنة 44 ق م بقرار من يوليوس قيصر. فشُيّدت
بيوتُ الوجهاء على الطريقة الرومانيّة. انفتحت الغرف على رواق مركزي غُطّي بعضه(2)
وكُشف البعض الآخر مع حوض في الوسط يجمع مياه المطر. كان بمقدور الرواق أن يضمّ
أربعين شخصًا محشورًا. كانوا يجلسون على الحُصر. كما وُجدت أيضًا قاعة طعام(3) مع
ثمانية مقاعد أو تسعة (بشكل عام). كانوا يتمدّدون للطعام، على الطريقة الرومانيّة.

إذن،
ماذا كان يحدث ساعة تلتقي الجماعة المسيحيّة؟ إن العادات الاجتماعيّة لدى
الكورنثيين لم تسقط بين ليلة وضحاها. كان ربّ البيت يستقبل أصدقاءه الذين صاروا
مسيحيّين في قاعة الطعام. أما الآخرون فلم يكونوا محظوظين. لهذا، يُحشرون حشرًا في
الرواق. وما يقدّمه صاحب البيت من طعام، كان أفضل وأوفر من الزاد الذي يحمله أناس
من أصل وضيع. وبما أن أصدقاءه كانوا من الموظّفين أو التجّار الكبار، فكانوا يصلون
باكرًا. منذ الساعة الثالثة بعد الظهر، وهي الساعة التي اعتادوا فيها الاستقبال في
الولائم. أما في الرواق، فالعمّال والعبيد يصلون في وقت متأخّر، وبعد أن ينهوا
عملهم.

وهكذا
نفهم الصورة التي رسمها بولس عن الوضع: هناك شقاقات. لا ينتظر الواحد الآخر للطعام.
واحد ما زال جائعًا، وآخر شبع واتخم، بل سكر. فما الذي يعمله الرسول لكي يصحّح
الوضع؟ بدأ فذكر تقليد عشاء الربّ، أي خبر تأسيس الافخارستيا كما ورد في جماعة
انطاكية سورية (هي اليوم في تركيا) حيث سمعها. وهكذا، كان لنا خبر رابع حول تأسيس
الافخارستيا، بعد أخبار الأناجيل الإزائيّة الثلاثة:

(فأنا
من الرب تسلّمت ما سلّمته إليكم، وهو أن الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها، أخذ
خبزًا وشكر وكسره وقال: “هذا هو جسدي. إنه لأجلكم. إعملوا هذا لذكري”.
وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: “هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلما
شربتم، فاعملوا هذا لذكري”) (1كور 11: 23- 25). وأضاف الرسول شروحه الخاصّة: (كلّما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الربّ إلى أن يجيء) (آ 26).

بماذا
يذكّر بولس هؤلاء الناس الذين يعيشون عشاء الرب في الفوضى، الذين يتأثّرون بعادات
اجتماعيّة بارزة في إفراطها وعدم توازنها؟ قال لهم: ما تحتفلون به أمرّ جديّ. هو
يتكلّم عن الموت، عن موت الربّ. وهذا ما يجعلكم تلجون السرّ الفصحي، تغطسون فيه كما
في بحر: هذا يعني أننا لا نذهب إلى الحياة إلاّ إن عبرنا بالموت. وجسدُ الرب هو
الجسد الذي تكوّنون (أنتم أعضاء في جسد، حجارة حيّة) أي الكنيسة. وهذا الجسد هو
جسد مصلوب، جسد مُعطى للآخرين، مُعطى لجميع الآخرين. لسنا أمام مجرّد جسد اجتماعي
يجب أن يحافظ على ذاته. وبكلام آخر، إن الطريقة التي بها تحتفلون بعشاء الرب لا
تليق بما به تحتفلون. لا تماسكَ إطلاقًا بين ممارستكم ومعتقداتكم.

فما
هي النتائج التي يجب على الكورنثيين أن يستخلصوها؟ وما هي النتائج التي يستطيع أن
يستخرجها المسيحيون في كل زمان؟ في هذا المجال، بولس هو من عصرنا. يكلّمنا الآن
فيقول: لا افخارستيا بدون مقاسمة. حين تكونون في بيوتكم،خارج الجماعة المسيحيّة،
إفعلوا ما تشاؤون. أما حين تجتمعون لعشاء الرب (فانتظروا بعضكم بعضًا) (1كور 11: 33).
لا تُسرعوا إلى أكل طعامكم. لا تختاروا أفضل ما فيه، وتتركوا البقايا للآخرين.

ونستطيع
القول أيضًا إن الحياة المسيحيّة تجعل على المحكّ عددًا من التصرّفات الاجتماعيّة
التي صارت شبه طبيعيّة فينا. أليس من الطبيعيّ أن نضع أصدقاءنا في قاعة الطعام، أن
نأكل ونشرب معهم بانتظار أن يصل الآخرون؟ ولكن هذا لا يليق بجماعة الكنيسة التي هي
جسد المسيح. ففي الجسد، تتضامن جميع الأعضاء: (حين يتألّم عضو تتألم معه سائر
الأعضاء). هذا ما يتوسّع فيه بولس في 1كور 12 (هنا، آ 26).

من
الواضح أن مثل هذا الكلام يطرح سؤالاً على جماعاتنا حول الطريقة التي بها نعيش
الأسرار ونحتفل بها. وبما أن بولس يحبّ الكورنثيين، ما رضي بهذا التصرّف. ففعَل
هنا حقًا كما يفعل الراعي. فواجب الرعاة، الكهنة، أن يذكّروا الجماعات اليوم ببعض
حقائق جوهرية، إذا أرادوا أن يعيشوا عيشًا مسيحيًا فيشعّون ويضيء نورهم للناس.

 

4
– اللحوم المذبوحة للأوثان (1كور 8- 10)

مع
مسألة اللحوم المقدّمة للآلهة الوثنيّة في كورنتوس، نتعرّف إلى مسألة أخرى مهمّة،
في علاقات الرسول بمدينته. وقبل أن نعالج النصوص نفسها، يجب أن نعود هنا أيضًا إلى
التاريخ والاركيولوجيا، لكي نكتشف الوجهات المتعدّدة لمسألة طرحت نفسها على
المؤمنين.

في
العالم القديم، عالم اليونان والرومان، كانت الهياكل أهمّ الأماكن من أجل نحر
الحيوانات التي يؤكل لحمها. يأتي الشخص بحيوان يريد أن يقدّمه ذبيحة. فيقتلونه في
جوار المعبد ويتقاسمون لحمه: هناك جزء يُحرق في النار على المذبح. وجزء آخر يأكله
الكهنة. والقسم الأخير يُباع ويُعطى ثمنه للكهنة.

ويصل
الشارون إلى هذا اللحم بطريقتين مختلفتين: أو أن هذا اللحم يُباع في السوق على يد
موظفين صغار في الهيكل. حينئذ يشتريه الانسان ويأكله في بيته مع أفراد عائلته أو
أصدقائه. أو أن هذا اللحم يؤكل في جوار الهيكل، في أحد أروقته. فالحفريات التي
تمّت في موقع كورنتوس القديمة، ولا سيّما في الهيكل المكرّس لاسكليبيوس، إله
الشفاء المشهور في العالم القديم، دلّت على وجود قاعات طعام حول الرواق الذي يحيط
بسور الهيكل، تضمّ سبعة مقاعد أو ثمانية يتكّئ عليها المدعوّون ليشاركوا في
الوليمة. كانوا يتمدّدون، فيستندون إلى الكوع الأيسر، ويأكلون باليمنى، على
الطريقة الرومانيّة.

ووُجدت
أيضًا بطاقات دعوة إلى مثل هذا النوع من الولائم. وإليكم بطاقتين تحملان دعوة إلى
وليمة في سيرابايون، في هيكل سيرابيس(4). البطاقة الأولى: (يدعوك هارايس(5) للعشاء
في قاعة سيرابايون، إلى وليمة الرب سيرابيس، غدًا، في الحادي عشر، ابتداءً من
الساعة التاسعة (أي الساعة الثالثة بعد الظهر)). البطاقة الثانية: (خيريمون يدعوك
للعشاء، إلى وليمة الرب سيرابيس، في سيرابايون، غدًا الذي هو الخامس عشر، في
الساعة التاسعة).

مثل
هذه الممارسات كانت جزءًا من الحياة العاديّة في المجتمع، ولا سيّما في العائلات
الغنيّة. أما الناس الوضعاء فنادرًا ما كانوا يأكلون اللحم. وطُرح سؤال على سكّان
كورنتوس الذين اهتدوا إلى الايمان بيسوع المسيح: هل يستطيعون أن يأكلوا لحم حيوانات
قُدّمت للآلهة الوثنيّة، للأوثان، أو لا يستطيعون؟ أما يجب عليهم باسم إيمانهم
المسيحيّ أن يمتنعوا عن مثل هذه اللحوم؟ وكان السؤال سؤالين: يشير الأول إلى
الولائم التي تنظّم في قاعات الطعام التي بُنيت على مدّ رواق الهيكل. والثاني إلى
شراء لحم، في السوق، جاء من الهيكل، واُكل في البيت.

تجاه
هذا الوضع المعقّد، لم يتّفق الكورنثيون على ما يبدو. قال بعض المسيحيين: ما قيمة
حيوان يقدّم لإله وثنيّ؟ هو لحم مثل سائر اللحوم. فإن كنا نؤمن بالاله الواحد، كما
في التوراة، فالاصنام التي يكرّمها الوثنيون ليست بشيء. هي سراب وعدم. باسم هذه
العقيدة القائلة بأن الأصنام ليست بشيء، بأن لا كيان لها، لم يرَ بعض الوثنيين
المثقّفين أيَّ عائق يمنعهم من أكل لحوم قدِّمت لأصنام الأوثان. فالحياة المسيحيّة
ليست طاعة للائحة من الوصايا، ولا مراعاة لبعض المحرّمات. بل هي عمل انسان يفكّر
بما يعمل. في الأساس، كانوا يقولون: (كل شيء يحلّ لي) (1كور 10: 23). ويقولون: (نحن
نعرف أن الوثن لا كيان له، وأن لا إله إلاّ الله الأحد) (1كور 8: 4). إذن، نستطيع
أن نأكل من كل شيء وفي أي مكان.

غير
أن هذا لم يكن رأي جميع المسيحيين في كورنتوس. فبجانب هؤلاء المتعلّمين والأكيدين
من نفوسهم، كان أشخاص متجدّدون في الايمان وسريعو العطب. كما كان آخرون ما
استطاعوا أن يستوعبوا هذه الأمور الدقيقة، لأن إمكانيّة التفكير عندهم كانت محدودة.
فالوثن هو وثن. فيقول الواحد: منذ بضع سنوات كنت أنا وعائلتي نقدّم له الذبائح.
والآن اخترتُ الايمان بيسوع المسيح. إذن، عليّ أن أتخلّى عن إيماني السابق
بالأصنام، وأحذر من لمس لحوم الحيوانات التي ذُبحت في الهياكل الوثنيّة! بل إن مثل
هؤلاء الأشخاص تشكّكوا حين رأوا مسيحيين آخرين، أكيدين من أنفسهم في الظاهر،
يتّكئون في الهياكل، أو يشترون في السوق لحومًا اعتبروها منجّسة بعد أن ارتبطت
بشعائر عبادة الأوثان.

وهكذا
نرى أن الوضع لم يكن بسيطًا. وقد كرّس القديس بولس ثلاثة فصول في 1كور، للتفكير في
هذه المشكلة، ولإعطاء توجيهات توافق الجميع. لهذا، جاءت براهينه متشعّبة. لنحاول
أن ندرك الخطوط الكبرى دون أن نبسّطها بطريقة تُفقدها أصالتها. ونحن نوجزها في
ثلاث نقاط:

أولاً:
وافق بولس الناس الأكيدين من نفوسهم والمستعدّين لأن يأكلوا كل شيء (لنسمِّهم
(الاقوياء)) أن الحياة الاخلاقيّة ليست فقط فرائض ومحرّمات. فالقاعدة الأخيرة
للتمييز الخلقي هي الضمير. هم، في الأساس، على حقّ، حين يقولون: (كل شيء يحلّ لي).
ولكن إن كان كل شيء محلّلاً، مسموحًا به، (فكل شيء لا يليق). كل شيء لا يبني
الجماعة المسيحيّة (1كور 10: 23). بل هناك تصرّفات تدمّرها، كتصرّف من يشكّك أخًا
بدون فائدة. لهذا، إن حكمتُ على ما يجب أن أفعل عائدًا إلى الضمير، فيجب أن أحسب
حساب ضميري أنا وضمير الآخر. فهناك خطر بأن أجرح له ضميره (1كور 8: 12). على
المستوى النظريّ، يحقّ لي أن آكل من كل شيء وفي كل مكان. لكن يجب أن أعرف أن
أتخلّى عن بعض حقوقي لخير الجميع. وأعطى بولس تصرّفه الخاص مثالاً: هو رسول المسيح.
ويحقّ له أن يعيش على حساب الجماعات المسيحيّة التي أسّسها. ولكنه أراد أن يكون
أكثر حريّة، فما استعمل هذا الحقّ، بل فضّل أن يقوم بأوده في مهنة حياكة الخيام.
ففي كل ما أعمل، يجب أن أتنبّه إلى الطريقة التي بها يدرك الآخرون عملي. لا يحقّ
لي أن أشكّك الآخرين من أجل منفعتي الخاصّة.

ثانيًا:
وافق بولس الأقوياء أن الوثن ليس بشيء. ولكن لا بدّ من التدقيق في البرهان، هنا
أيضًا. إذا كان الوثن لاشيئًا، فالذبيحة هي شيء ملموس. فمن نحر حيوانًا لإله وثنيّ
ألزم نفسه في ما فعل. إنه يذبح حقًا. وبما أنه لا يقدّم ذبيحته لإله، والوثن ليس
بالإله الحقيقيّ، فهو يقدّمها للشياطين. هكذا يدرك الآخرون الأمور، أولئك الذين
سُمّوا (الضعفاء). فلا نتسرّع في كلامنا، باسم معرفة نعتبرها رفيعة، أن ذبح
الحيوان للوثن، فعلة حيادية، لا خير منها ولا شرّ. فمن الأفضل أن لا نلعب بالنار،
حتّى نعتبر نفوسنا عارفين. ولا نظنّ نفوسنا أقوى ممّا نحن في الواقع. هذا ما يعبّر
عنه بولس فيقول: (من ظنَّ أنه واقف فليحذر السقوط) (1كور 10: 13).

ثالثًا:
وأخيرًا لا نمزج الشيء بالشيء. فنحن ندخل في لعبة خطرة حين نشتري لحمًا من السوق،
مهما كان مصدر هذا اللحم. ونلعب لعبة أخطر إن شاركنا في وليمة، في جوار الهيكل وفي
حرمه. ويكون خطأنا أكبر حين نشتري لحمًا من السوق، من أن نأكل هذا اللحم عند صديق
اشتراه هو وقدّمه على مائدته. وبكلام آخر، إن دُعيتَ إلى بيت خاص، فلا تطرح سؤالاً
لكي تعرف مصدر اللحم الذي يقدّمونه لك. ولا تمتنع عن أكله إلاّ إذا قال لك مضيفك
بصريح العبارة: (هذا الطعام من ذبائح الأوثان) (1كور 10: 28). فهو بلا شكّ لا يفهم
موقفك حين تأكل منه مع أنك تعرف مصدره.

قد
تبدو هذه التمييزات بعيدة عنا كل البعد، ودقيقة كل الدقّة. لا شكّ في أنها دقيقة.
ولكنها ليست بعيدة عنا. ففي كل وقت يُطرح على المسيحيّ سؤال يريد به أن يعرف إن
كان يحقّ له أن يفعل هذا الشيء أو ذاك، في مجتمع ليس مسيحيًا في أكثريّته: هل يمكن
أن يكون الانسان مسيحيًا، ويعمل هذا العمل أو ذاك؟

هذا
ما يحصل على المستوى السياسي: في الماضي، كانوا يسألون في أوروبا الغربية: هل يمكن
أن يكون الانسان مسيحيًا وفي الوقت عينه ينتخب المرشّح الشيوعي؟ لقد تحوّل الآن
السؤال بعض الشيء: هل يمكن أن يكون الانسان مسيحيًا ويصوّت لحزب يعادي العمّال
الاغراب ويرفض استضافتهم؟

وعلى
المستوى الاجتماعي: فقد طُرح على الالمان سؤال، عُرف خارج حدود المانيا: هل تستطيع
الكنيسة أن تمسك مراكز تعطي شهادة تعفي المرأة من دفع غرامة بسبب الاجهاض. كان
جواب رومة سلبيًا. أما بعض الكاثوليك الالمان، فلم يقتنعوا كل الاقتناع بهذا
الجواب، مع أنهم خضعوا لما قالته رومة.

وعلى
المستوى الديني، منذ بعض الوقت، لم يكن يحقّ للكاثوليكي، في أوروبا الغربية، أن
يشارك البروتستانت في شعائر العبادة. ويمكن أن نجد أمورًا مماثلة في لبنان، ولكن
لا أعرف الوضع لكي أتكلّم عنه. تجاه مثل هذه الأسئلة، نجد نورًا ساطعًا في ما كتبه
بولس إلى الكورنثيين في شأن اللحوم المذبوحة للأوثان. وها أنا أستعيد ما كتبه
الرسول في خمس نقاط.

أولاً:
لا شريعة مطلقة (تطبَّق في كل زمان ومكان وعلى جميع الأشخاص) في مثل هذه المجالات.
فالخلقيّة المسيحيّة لا تنحصر في فرائض ومحرّمات. والضمير أوّل بالنسبة إلى
الشريعة. إذن، يستحيل أن نعطي قواعد توجّه تصرّفنا فتوافق الجميع في كل مكان.

ثانيًا:
ومع ذلك، لا نجعل من الضمير مطلقًا جديدًا. فقد يكون الضمير ضالاً فيضلّني. لهذا،
يجب أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار ضمير الآخر، ونسهر لئلا نشكّك الضعيف بدون سبب
جدّي. فمن اعتبر أنه يجد في نفسه وحدها معايير التمييز المطلقة، يعرّض ذاته لضلال
كبير وأخطاء عظيمة.

ثالثًا:
إن الحكم الخلقيّ، يفرض علينا أن نميّز بين عمل وعمل. هناك فرق بين أن نأكل في
الهيكل أو في بيت خاص، لحمًا ذُبح للأصنام. وهناك فرق أن يكون مضيفنا نبّهنا أن
مصدر هذا اللحم هيكل وثني، أو أن لا يكون نبّهنا قبل أن نأكل. وفي الإطار عينه
نقول: هناك فرق بأن أكون عضوًا في حزب سياسيّ يرفض الأجانب، أو أن أنتخب في ظرف من
الظروف أحد مرشّحيه.

رابعًا:
تفرض الخلقيّة المسيحيّة على المؤمن أن يقبل بأن لا يستعمل جميع حقوقه إذا طلب منه
سببٌ سام بأن يتخلّى عن هذه الحقوق. نعيش في زمن تشدّد فيه الدول الديموقراطيّة
كثيرًا على حقوق الناس. ولكن قد يكون تجاوز وافراط. مثلاً، يطالب أناس بحقّ الطفل
وينسون أن الأبوّة والأمومة نعمة، لا حقّ. لا شكّ في أنه يجب أن نقاتل لكي تُحترم
حقوقُ الانسان، كل يوم أكثر، على سطح الأرض. ولكن يجب أن نميّز ما هو حقّ وما ليس
بحقّ. ويجب أن نتذكّر أيضًا أنه من الخير أن نتخلّى عن التمتّع ببعض الحقوق لسبب
أسمى. وبعبارة أخرى، لا نهمل فريضة العدالة التي تتجاوزها، بعض المرّات، فريضةُ
المحبّة.

خامساً:
لا نحسب نفوسنا أقوى ممّا نحن. فالخبراء العلماء ليسوا أفضل الشهود. فإن اعتبر
بعضُ الكورثنيين أنهم يقدرون أن يأكلوا من كل شيء، فليمتنعوا أقلّه أن يقوموا بهذا
العمل في الهياكل. ونقول الشيء عينه اليوم. هناك أمكنة يمارس فيها المجون. ومجموعة
أشخاص فاسدين. فإن اقتربتُ وأطلتُ رفقتهم، يؤثّرون فيّ في النهاية، فيشوّهون حكمي
على الأمور ويقودونني في انحرافاتهم. فهل أنا قويّ بما فيه الكفاية لكي أخرج من
جميع الأوضاع دون أن أسيء إلى ذاتي؟

 

خاتمة

رسول
ومدينته. بولس وكورنتوس. ما قلناه الآن يبيّن أن العلاقات بينهما لم تكن بسيطة.
فبين الحين والآخر بدت كورنتوس وكأنها تواجه بولس. وفي مسائل أخرى كان الكورنثيون
منقسمين. ففعلَ بولس ما فعلَ ليجنّبهم القيام بعضهم على بعض. مثل هذه الأوضاع ليست
خاصة بالعصور القديمة.

والدرس
الاجمالي الذي نستطيع أن نستخرجه من الاعتبارات السابقة، على ما يبدو لي، هو أن
المعاشرة المتطلّبة للكتاب المقدس، للبيبليا، لا بدّ منها لشخص مؤمن. وحين نقرأ
رسائل بولس، ونتعمّق فيها، ونبحث عن الوثائق لكي نعرف الوسائل التي طُرحت على
الجماعات الأولى، نستطيع حقًا أن نجد في الكتاب المقدس تعاليم غنيّة جدًا. لا نجد
تعليمات بسيطة نطبّقها خانعين. بل آثار حياة ملموسة نجعلها في حوار مع أوضاعنا
الحاليّة. أعطي لنا الكتابُ ليكون بجانبنا كمثَل من الأمثال. هو يروي لنا خبرًا
ليس خبرنا. ولكنه يلقي ضوءه على هذا الخبر بخصب فريد حين نتعمّق فيه، في حياتنا
الشخصيّة وفي الجماعة الكنسيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار