اللاهوت الروحي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل الأول

1- الغيرة نار ملتهبة

الغيرة المقدسة هى نار متقدة فى قلب المؤمن
تدفعه بحماس شديد للسعى بكل الجهد لأجل خلاص الناس، وبناء الملكوت.

 

وكما قيل عن السيد الرب إنه: “يريد أن جميع
الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون” (1تى 2: 4).. هكذا أيضاً الإنسان الذى
تلهبه الغيرة المقدسة، يريد أن جميع الناس يخلصون.. وليس فقط يريد، إنما يعمل بكل
قوته، وبكل مشاعره، ولا يهدأ، كما قال داود النبى:

 

“إنى لا أدخل إلى مسكن بيتى، ولا أصعد على
سرير فراشى، ولا أعطى لعينى نوماً، ولا لأجفانى نعاسا، ولا راحة لصدغى. إلى أن أجد
موضعاً للرب، ومسكنا لإله يعقوب” (مز 131).

 

هكذا الذى تلهبه الغيرة المقدسة، لا يهدأ ولا
يستريح، إلى أن يجد موضعا للرب فى قلب كل أحد، ويخلص على كل حال قوماً (1كو 9: 22).

 

 الغيرة
نار فى قلب إنسان حار بالروح، يشتعل قلبه بمحبة الله، ومحبة الناس، ومحبة الملكوت.
وبكل حرارة يعمل بجدية، ولكى يحقق رغباته المقدسة، من جهة خلاص الناس وإنتشار
الملكوت.

 

ولذلك حسنا عندما أراد الله أن يرسل تلاميذه
للخدمة، حل الروح عليهم مثل السنة من نار.

 

وبهذاألهبهم للخدمة، وصارت كلماتهم فى الكرازة
كلمات نارية، كأنها اسهم من نار تلهب القلب وتحرك الضمائر، و”لا ترجع
فارغه” (إش 55: 11).. كلمة من القديس بطرس الرسول فى يوم الخمسين قادت ثلاث
آلاف إلى الإيمان (أع 2: 41). وبهذه الروح النارية، وبهذه الغيرة المقدسة، أتى
ملكوت الله بقوة..

 

إنها النار التى قال عنها السيد المسيح: “جئت
لألقى ناراً على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت” (لو 12: 49).

 

 إنه
العمل النارى الذى بدأ يوم الخمسين واستمر. وبه وقف الرسل القديسون أمام كل قوة
اليهود وكل قوة الرومان، يشهدون للإيمان ” بكل مجاهرة، بلا مانع” (أع 28:
31) ” ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أع 4: 31، 33).

 

ما أجمل قول المزمور: “الصَّانِعُ
مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً” (سفر المزامير
104: 4).

 

فإن كنت ناراً تلتهب، حينئذ تصلح أن تكون خادماً
لله. إذ يجب أن يكون خدامه ” حارين فى الروح” (رو 12: 11)، لأن إلهنا
نفسه قيل عنه إنه: “نار آكلة” (تث 24: 24).

 

إرمياء النبى كذلك: كانت كلمة الله فى جوفه
” كنار محرقة ” فلم يستطيع أن يهدأ، ولم يقدر أن يسكت، على الرغم من كل
التعب الذى أصابه (إر 20: 9). قال له الرب: “هأنذا جاعل كلامى فى فمك
ناراً” (إر 5: 14). وصاح إرميا: “أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى. يئن
فى قلبى. لا أستطيع السكوت” (إر 4: 19). وهوذا داود النبى يقول: “غيرة
بيتك أكلتنى، وتعييرات وقعت على” (مز 69: 9).

 

 أى أن
التعبير الذى يصيبك يا رب من الخطاة، أو يصيب كنيستك وشعبك، كأنه وقع على أنا
شخصيا. وداود شعر بهذا فعلا، لما عير جليات صفوف الله الحى (1صم 17: 26). ولم يهدأ
حتى أزال ذلك العار..

 

الغيرة هى حالة قلب متحمس، ومتقد بمحبة الله،
يريد أن محبة الله تصل إلى كل قلب. وهو إنسان يحب الله، ويريد أن جميع الناس
يحبونه معه

 

هو إنسان يشتغل قلبه من نحو مجد الله ونشر كلمة
الله، ويريد أن ملكوت الله ينتشر حتى يشمل كل موضع وكل أحد. ويريد أن الإيمان يدخل
كل قلب، ولا يفقد أحد نصيبه فى هذا الملكوت.

 

الإنسان الذى يتصف بالغيرة، يكون إنساناً متقداً
بالنار.

 

كلامه كالنار فى حماسته، وصلاته كالنار فى قوتها،
وخدمته كالنار فى فاعليتها وفى امتدادها.

 

بغيرته يلهب القلب، ويشغل المشاعر، ويقوى
الارادة ويدفع السامع دفعاً نحو التوبة ونحو الملكوت، وينخسه فى ضميره بطريقة لا
يمكن أن يقاومها..

 

وبعكس ذلك هناك من يتكلمون باسلوب فاتر لا يقنع
أحداً ولا يأتى بثمر، ولا تظهر فيه حرارة الروح.

 

ومن أمثلة الكلمة الباردة، توبيخ عالى الكاهن
لأولاده.

 

قال لهم ” لا يا بنى، ليس حسنا الخبر الذى
اسمع: تجعلون شعب الله يتعدون.. ” كلام لا جدية فيه ولا حزم ولا حرارة، لذلك
لم يؤثر فيهم، وقيل بعده: “ولم يسمعوا الصوت أبيهم” (1صم 2: 23 – 25).
عرضوا أباهم لغضب الله عليه.

 

مثال آخر وهو انذار لوط لأنسبائه فى سادوم.

 

لم تكن فى حياته بينهم القوة التى تجعل لكلامه
تأثيرا. لقد رأى شروهم من قبل، ولم تكن له الغيرة المقدسة على وصية الله. يكفى أنه
أعطاهم بناته زوجات وصاهرهم! لذلك عندما قال لهم ” قوموا اخرجوا من هذا
المكان، لأن الله مهلك المدينة”، لم يسمعوا، بل يقول الكتاب ” فكان
كمازح فى أعين أصهاره” (تك 19: 14).

 

بعكس ذلك كان بولس الرسول مثلا، الذى أنه وقف
متهما أمام فيلكس الوالى، ويقول عنه الكتاب ” وبينما كان يتكلم عن البر
والتعفف والدينونة العتيدة ارتعب فيلكس..” (أع 24: 25). وبنفس الوضع حينما
تلكم أمام أغريباس الملك، لم يستطع هذا الملك الوثنى أن يقاوم قوة الكلام الذى كان
يتكلم به بولس، ” فقال أغريباس لبولس: بقليل تقعنى أن أصير مسيحياً” (أع
26: 28).

 

الغيرة قوة فعالة، فيها الاهتمام والجدية، وليست
فيها رخاوة.

 

فقد قال الكتاب ” ملعون من يعمل عمل الرب
برخاوة” (أر 48: 10). لذلك كان خدام الله المتصفون بالغيرة، يعملون بكل جهد
وقوة وبذل ولعلنا سنشرح ذلك فى الفصل الخاص ب(شروط الغيرة).

 

قال الرب لتلاميذه: هلم ورائى فاجعلكم صيادى
الناس (مت 4: 19).

 

و الصياد المفروض فيه أن يبحث عن الأماكن التى
يوجد فيها اسماك، والتى يمكن فيها الصيد، ويضع الطعم، ويرمى الشبكة، ويجاهد ويصبر،
كما قال القديس بطرس ” تعبنا الليل كله..” (لو 5: 5). إذن المسألة فيها
تعب وجهد، ولكنها تنتهى بالفرح كلما امتلأت الشبكة سمكاً.

 

بولس الرسول كان يسهر إلى بعد منتصف الليل يعظ
(أع 20: 7). ومعروفة قصة افتيخوس الذى نام فوقع من الطاقة (أع 20: 7).

 

وربنا يسوع المسيح ظل يعظ الناس طول اليوم، حتى
مال النهار (لو 9: 12). إذن علينا أن نبذل جهداً، بكل غيرة، من أجل خلاص الناس.،
كما قال الرسول عن خدمته ” فى تعب وكد، وأسهار مراراً كثيرة” (1كو 11: 27).
لخادم المتلهب بالغيرة، لا يكتفى فقط بالتعب، وإنما يصلي ويكتئب ويبكي!

 

2- يصلي ويبكي ويكتئب!

إنه يصلى ويقول: لتكن مشيئتك منفذة على الأرض،
كما هى منفذة فى السماء. وليأت ملكوتك..

 

فلتملك يا رب على قلب كل أحد. ولتملك على الشعوب
وعلى الأمم.. على البلاد التى إنتشر فيها الإلحاد، وبدأت تفقد الإحساس بوجود الله.
ولتملك على كل واحد لا يعرفك، ولا يعرف محبتك للبشر وخلاصك العجيب..

 

و هناك شخص إذا إشتعلت الغيرة فى قلبه، ولم
يستطع أن يعمل شيئا، يقف أمام الله ويبكى.

 

يقف أمام خريطة آسيا مثلا، ويبكى على مئات
الملايين التى لا تعرف الله: ألف مليون شيوعى فى الصين لا يعرفون الله، وكذلك
حوالى خمسمائة مليون فى الهند، وأكثر من مائتى مليون فى اليابان، و.. وما أكثر
الذين يعبدون برهما وبوذا
Buddha وكنفوشيوس Confucius..! حقا أين ملكوت الله فى هذه القارة التى ولد فيها المسيح..

 

متى يا رب يتحقق المزمور الذى يقول: “للرب
الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها..” (مز 24)؟!

 

وماذا نقول أيضاً عن الهنود الحمر، وعن القبائل
البدائية فى أواسط أفريقيا وفى النصف الجنوبى منها.

 

إن لم ينفعل من أجل الغرباء البعيدين، فعلى
الأقل يشتعل قلبه من جهة المسيحيين الذين لهم اسم المسيحية فقط، بينما يسلكون فى
حياة الإباحية والمادية، ولا صلة لهم بالله ولا بالكنيسة، ولا يحيون حياة روحية..!
ثم ماذا عن المسيحيين الذين يغيرون مذهبهم أو دينهم، أو يعيشون بلا دين..؟! متى
يرجع هؤلاء جميعاً جميعاً إلى الله؟! هنا وتملك الغيرة على القلب، فيقول مع إرميا
النبى:

 

” ياليت راسى ماء، وعينى ينبوع دموع، فأبكى
نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى” (إر 9: 1).

 

إنه يبكى نهاراً وليلا، على أولئك الذين قتلتهم
الخطية، والذين أضلهم الشياطين، وإختاروا طريقا آخر، واصبحوا عرضة للهلاك.

 

هوذا داود النبى، تملكه الكآبة، وتملكة الدموع،
من أجل الخطاة الذين إنحرفوا فيقول فى غيرته للرب:

 

الكآبة ملكتنى من أجل الخطاة الذين تركوا ناموسك.

 

رأيت الذين لا يفهمون فاكتأبت، لأنهم لم يحفظوا
أقوالك0 غاصت عيناى فى مجارى المياه، لأنهم لم يحفظوا ناموسك (مز 119).

 

نتذكر هنا صموئيل، حينما ناح على شاول:

 

لما رفض الرب شاول: “إغتاظ صموئيل، وصرخ
إلى الرب الليل كله” (1صم 15: 11) ” ناح صموئيل على شاول والرب ندم لأنه
ملك شاول على إسرائيل” (1صم 15: 35).

 

ونتذكر هنا جهاد آباء الاعتراف لأجل أولادهم:

 

وفى ذلك يقول القديس بولس الرسول: “أطيعوا
مرشديكم واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم،: أنهم سوف يعطون حساباً، ولكى يفعلوا
ذلك بفرح غير انين” (عب 13: 17).

 

هكذا أب الاعتراف فى غيرته على خلاص أبنائه،
يبكى لأجل الخاطئ، ويحزن معه، ويصوم معه، ويداوم على المطانيات لأجله، ويذلل نفسه
لأجل خلاصه.

 

ويصلى لأجل كل واحد من أولاده: يا رب إرحم فلان،
يا رب إغفر له وسامحه. يا رب ساعد فلان، وأنقذه من الخطية الفلانية. لا تسمح يا رب
أن يهلك وأن طول النهار والليل، له حزن ووجع فى قلبه لا ينقطع من أجل آبنائه
بالروح. يريد أن يقول عنهم كما قال الرب للآب فى (يو 17: 12).

” الذين أعطيتنى حفظتهم، ولم يهلك منهم
أحد”.

 

3- العمل الإيجابي

هنا ونتذكر ايضاً غيرة نحميا وكم عملت:

لقد سمع من بعض الإخوة أن سور أورشليم منهدم،
وأبوابها محروقة بالنار، وأهلها فى شعر وعار. فغار غيرة للرب. يقول: “فلما
سمعت هذا الكلام، جلست وبكيت، ونحت أياما وصمت وصليت أمام إله السماء وقلت: .. هم
عبيدك وشعبك الذى افتديت بقوتك العظيمة..” (نح 1: 3، 4، 10).

 

ولكن نحميا لم يكتف بالصلاة والنوح، بل عمل
عملاً.

 

لقد قرر أن يكلم الملك فى هذا الأمر. لقد كان
ساقيا للملك وكان موقفه حساساً، ولكنه لم يصمت. فلما سأله الملك عن سر كآبته،
أجابه: “كيف لا يكمد وجهى، والمدينة بيت مقابر آبائى خراب، وأبوابها قد
أكلتها النار؟! ” وأضاف: “إذا سر الملك، وإذا أحسن عبدك أمامك، ترسلنى
إلى يهوذا، إلى مدينة قبور آبائى، فأبنيها” (نح 2: 3، 5).

 

وهكذا لم تكن غيره نحميا مجرد إنفعال، وإنما كانت
غيرة عملية إيجابية بناءة فسافر، وجمع الشعب، ونظم العمل، وقال قولته المشهورة: “هلم
فنبنى سور أورشليم، ولا نكون بعد عاراً” (نح 2: 17). وتحمل فى سبيل البناء
الكثير من المتاعب وشماتة الأعداء، ولكنه صمد فة قوة. وكان العاملون معه ”
باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأخرى يمسكون السلاح” (نح 4: 17) إلى أن تم
بناء السور فى أثنين وخمسين يوماً (نح 6: 15) وتفرغ بعد هذا للإصلاحات الروحية
وقيادة الشعب إلى التوبة (نح 8 – 10).

 

حقا أن غيرة القلب تدفع إلى الكآبة وإلى البكاء
من أجل الخطاة، كما كما تدفع أيضاً إلى العمل الكرازى فى قيادة الناس إلى الإيمان
والتوبة. قيل عن القديس بولس لما دخل أثينا إنه: “إحتدت روحه فيه، إذ رأى
المدينة مملوءة أصناماً ” (أع 17: 16). لذلك كان يكلم الذين يصادفونه فى
السوق كل يوم، ودخل فى مناقشة مع الفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين، وتكلم أيضاً مع
الأريوس باغوس.. كما تكلم في مجامع اليهود..

 

وهكذا فعل أبلوس، وهو حار بالروح:

 

” كان هذا خبيراً فى طريق الرب. وكان وهو
حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب.. وكان باشتداد يفحم اليهود جهراً
مبينا بالكتب أن يسوع هو المسيح” (أع 18: 25، 28). هناك عمل آخر فى الغيرة
وهو الصراع مع الله.

 

4- الصراع مع الله

مثال ذلك الموقف العجيب الذى وقفه النبى، لما
أخبره الله أنه سيهلك الشعب إذ عبدوا العجل الذهبى.. حينئذ شفع فيهم موسى بكل غيرة،
طالبا من الله أن يغفر لهم فلا يهلكوا ووصل فى حماسة أنه قال:

 

” لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك؟!..
والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت ” خر 32: 11، 32).

 

أى أنه يقول: لا أريد أن أدخل الملكوت وحدى.
فإما أن تغفر لهؤلاء، وإما أن أهلك معهم إن هلكوا، وتمحو اسمى من كتابك الذى كتبت..!!
انظروا إلى أية درجة وصلت محبة موسى وغيرته، لذلك فإن الله – قبل أن يعاقب – قال
له: ” أتركنى ليحمى غضبى عليهم وأفنيهم، وفأصيرك شعباً عظيماً” (خر 32: 10).

 

وأنا أقف منذهلاً أمام كلمة ” إتركنى
” يقولها الرب لموسى، كما لو كان موسى ممسكاً به لا يدعه يفعل..!

 

تقول له: “إتركنى “؟! ومن الذى يمسكك
يا رب؟! وما الذى يمنعك، وأنت الإله القادر على كل شئ؟! إنها محبة موسى للشعب،
وغيرة موسى على خلاصهم، تمسك بالرب، تمنعه من إفنائهم.. هوذا موسى يقول له: إرجع
يا رب عن حمو غضبك، واندم على الشر بشبعك.. إذكر إبراهيم واسحق.. ” خر 32: 12،
13) ” لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبث ليقتلهم فى الجبال، ويفنيهم
عن وجه الأرض؟! (خر 32: 12).

 

هذا هو الصراع مع الله: فيه تضرع، وشفاعة، وفى
منطق واقناع، وفيه حب للناس، وفيه إمساك بالرب (ومنعه) عن إهلاكهم..!

 

كنت وأنا طفل صغير ضئيل المعلومات، أظن أن يعقوب
أبا الآباء هو الوحيد الذى صارع مع الرب وقال له: “لا أتركك إن لم
تباركنى” (تك 32: 26). ولكن هوذا موسى يقول يقول له أيضاً ” لا
أتركك”..

 

لا أتركك يحمى غضبك على الشعب. لا أتركك تفنيهم
لا اتركك حتى تغفر لهم وتندم على الشر..

 

لابد أن تسامح. لابد أن تغفر. وإن كنت لا تريد
أن تغفر لهم، أمح اسمى من كتابك الذى كتبت..

 

إنها غيرة قلب، لا يشاء أن أحد يهلك.

 

” يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق
يقبلون (1تى 2: 4). ويصارع مع الله من أجل خلاص الكل، حتى الذين سجدوا للعجل
الذهبى، قالوا: “هذه هى آلهتك يا إسرئيل التى أصعدتك من أرض مصر” (خر32:
4)..!

 

” إن لى حزنا عظيما ووجعاً فى قلبى لا
ينقطع. فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من المسيح، لأجل إخوتى أنسبائى حسب
الجسد” (رو 9: 2، 3)

 

لو كان حرمانى هذا يوصلهم، لفضلت أن أكون
محروماً من المسيح، لكى يصلوا هم إليه!! أى حب أعظم من هذا فى محيط الخدمة؟! وأية
غيرة أعمق من هذه، فى بذل الذات لأجل الآخرين. إنها محبة للناس وشفقة عليهم.

 

 أولاد
الله الذين تملكهم الغيرة لهم صراع مع الله من أجل الكنيسة، وصراع مع الله من أجل
خلاص كل نفس. إنهم يصرخون إلى الله ويقولون له:

 

قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك..

 

وليهرب من قدام وجهك كل مبغضى إسمك القدوس. وأما
شعبك فليكن بالبركة ألوف ألوف وربوات ربوات يصنعون مشيئتك.

 

قم أيها الرب الإله، فإن البار قد فنى، قلت
الأمانة من بنى البشر (مز 12: 1). قم واعمل. لأنك رجاء من ليس له رجاء، ومعين من
ليس له معين، قم فإننا قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئا (لو 5: 5). أنت القوة
وأنت المعين، وبدونك لا نقدر أن نعمل شيئا (يو 15: 5).

من الوسائل الروحية التى تعمل بها الغيرة
المقدسة، تشجيع الخطاة حتى لا يدركهم اليأس فيفشلوا.

 

5- تشجيع الخطاة

ما أجمل وما أعمق قول القديس بولس فى هذا المعنى:

” شجعوا صغار النفوس. اسندوا الضعفاء.
تأنوا على الجميع” (1تس 5: 14)

إن أخطر سلاح يستخدمه الشيطان، هو أن يشعر
الإنسان الخاطئ بأنه لا فائدة، وأن الخطية قد سيطرت تماماً ولا مخرج منها! وبهذا
اليأس يقوده إلى الاستسلام والبقاء حيث هو فى وضعه الخاطئ.. بلا طريق إلى التوبة
والخلاص.

أما الإنسان المملؤ غيره على خلاص النفس، فإنه:

يفتح أمام الخطاة باب الرجاء، ويدفعهم فيه دفعاً..

ينفخ فى الفتيلة المدخنة لعلها تشتعل، ويعصب
القصبة المرضوضة
bruised reed
لعلها تستقيم، ويقول لكل أحد: “لا تخف. الله سوف لا يتركك. معونة الله معك.
هناك حلول كثيرة لمشكلتك. الله لا يعجز عن حلها”. وهكذا يدفعه دفعاً كما كان
الملاكان يدفعان لوطاً إلى خارج سادوم (تك 19: 15، 16).

 

و هكذا يتذكر قول الرسول: “قوموا الأيادى
المسترخية والركب المخلعة” (عب 12: 12). مستخدماً فى ذلك كل عطف وحنو وطول
أناة..، ويضرب الأمثلة بالذين كانت حالتهم أسوأ وأمكنهم أن يخلصوا..

 

أيضاً بالغيرة يدفع الخدام إلى الخدمة بقوة،
ويشجعهم.

 

وهكذا كان السيد المسيح يشجع التلاميذ قائلا لهم
” لا تضطرب قلوبكم ولا تجزع” (يو 14: 27) ” ها أنا معكم كل الأيام
وإلى أنقضاء الدهر” (متى 28: 25).. ” سيسلمونكم إلى مجالس، وفى مجامعهم
يجلونكم.. فمتى اسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنكم تعطون فى تلك الساعة
ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم فيكم” (متى 10: 17-
20) ” حتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة” (متى 10: 30). وبهذا التشجيع،
كانوا يمتلئون غيرة، ويخدمون بلا خوف.

 

وبهذا التشجيع، كانوا يمتلئون غيرة، ويخدمون بلا
خوف.

 

هوذا الله يشجع ارمياء فى العهد القديم ويقول له
” لا تخف من وجوههم، لأنى أنا معك لأنقذك.. ها قد جعلت كلامى فى فمك.. هأنذا
قد جعلتك اليوم مدينة حصينة، عمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض.. فيحاربونك ولا
يقدرون عليك، لأنى أنا معك –يقول الرب – لأنقذك” (أر 1: 8 _ 19) وبنفس الوضع
قال الرب لبولس مشجعاً:

 

” لا تخف، بل تكلم ولا تسكت، لأنى أنا معك،
ولا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع 18: 9، 10).

 

وبنفس الطريقة قام الرب بتشجيع موسى لما اعتذر
بأنه ليس صاحب كلام. فقال له الرب ” اذهب وأنا أكون مع فمك، وأعملك ما تتكلم
به.. وتأخذ فى يدك هذه العصا التى تصنع بها الآيات” (خر 4: 10- 17)

 

حتى أقوى الناس يحتاجون أحياناً إلى تشجيع، كما
حدث مع إيليا النبى لما هرب من إيزابل (1مل 19).

 

إن حرارة الغيرة إذا فترت، فالتشجيع يشعلها.

 

وإن كان الأنبياء يحتاجون إلى تشجيع كما شرحنا
بالنسبة إلى ارمياء وموسى وإيليا وبولس الرسول وباقى الرسل.. فكم بالأولى الخطاة
فى سقطاتهم..

 

إن وجدت خاطئاً عاجزاً عن التوبة لأنه يحب الخطية.

 

قل له: إن محبة الخطية سوف لا تستمر معك. لأن
نعمة الله ستعمل فيك وتنقذك من محبة الخطية. وسيأتى وقت تكرهها وتشمئز منها. الله
لن يترك الشيطان يحاربك طول الزمان بلا هوادة، فلابد أن الله سيوقفه عند جده. فلا
تخف.

 

يسقط عن يسارك ألوف، وعن يمينك ربوات، وأما أنت
فلا يقتربون إليك. بل مجازاة الخطاة تبصر (مز 91).

 

هناك أشخاص يسيرون فى حياة البر، ويخافون من عدم
القدرة على إكمال الطريق. وهناك من قد أحاطت بهم التجارب، ويخشون من عدم القدرة
على النجاة أو على الصمود.. هؤلاء وأولئك: اشرح لهم عمل النعمة وعمل الروح القدس.
واشرح لهم أن الله لا يترك الإنسان بمفرده، حتى إن ضغطت عليه التجارب إلى حين،
فلابد أن نعمة الله ستدركه وتنقذه. شجعهم بقول ارمياء النبى، لما أحاط الأعداء
بالمدينة:

الذين معنا أكثر من الذين علينا (2مل 6: 16).

بهذا لا يخاف الخطاة وإنما يصمدون. وإلى جوار
تشجيع الخطاة، لابد أيضاً من التدرج معهم.

 

6- التدرج مع الخطاة

ليست الغيرة القوية هى فرض حياة الكمال على
الناس، حتى لو كانوا لا يستطيعون السلوك فيها!

فقد حاول الكتبة والفريسيون أن يفعلوا ذلك،
فلامهم السيد المسيح له المجد لأنهم كانوا ” يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل،
ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بأصبعهم” (متى 23: 4).
وكانوا بهذا يغلقون ملكوت السموات قدام الناس.

فلا هم دخلوا، ولا جعلوا الداخلين يدخلون (متى
23: 13).

ليست الغيرة هى لوم الناس على عدم السلوك فى
المثاليات، إنما الغيرة هى مساعدتهم على السلوك فيها.

 

هى اعطاء قوة للضعيف، ورجاء لليائس، وثقة لمن
يظن حياة البرفوق مستواه. هى الأخذ بيد كل إنسان، ورفعه إلى المستوى الذى نريد له.
وذلك بأن تثبت له أن الحياة الروحية سهلة وممكنة، وتزيل منه الخوف..

 

ولا يأتى ذلك إلا بالتدرج مع التائب والمبتدئ.

و التدرج له فى الكتاب المقدس أمثلة عديدة: منها
ما قاله الرسل فى أول مجمع مقدس عقدوه فى أورشليم بشأن قبول الأمميين فى الإيمان.
أى هؤلاء الآباء القديسون، وفى حنو ورحمة وحكمة:

 

” أن لا يثقل على الراجعين إلى الله من
الأمم” (أع 15: 19)

 

” بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات
الأصنام، والزنا، والمخنوق والدم” (أع 15: 20)..و هكذا لم يضعوهم أمام وصايا
عديدة تجعل الطريق صعباً أمامهم0و هكذا قال بولس الرسول أيضا لأهل كورنثوس:

 

” لم استطع أن أكلمكم كروحيين، بل كجسديين،
كأطفال فى المسيح. سقيتكم لبنا لا طعاماً، لأنكم لم تكونوا بعد تستطعيون”
(1كو 3: 1،2).

 

الغيرة المقدسة لا تعنى أن تجعل المبتدئ يجتاز
الطريق الروحى كله فى فتره واحدة، فهذا غير ممكن عمليا. إنما خذ بيده خطوة خطوة
يصل. وهكذا كلما يجد لذة فى الحياة الروحية، يشتاق أن ينمو فيها، ويكمل طريقه. ولا
يأتى ذلك بالضغط أو بالأمر، إنما بالنمو الطبيعى. وحسناً قال أبونا يعقوب عن غنمه
الرخصة وبقرة المرضعة: “إن استكدوها.. ماتت فى الطريق” (تك 33: 13).

 

حتى السيد المسيح نفسه قال لتلاميذه ” إن
لى أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو
16: 12).. وهكذا كان يعلن لهم كل شئ فى حينه، حينما يمكنهم أن يستوعبوا.. واستخدم
الرب مبدأ ” فى ملء الزمان” (غل 14: 4).

 

ولذلك فالغيرة لا تعنى القسوة فى القيادة
والارشاد.

 

لا تعنى تشامخ الذين يعرفون، على الضعفاء الذين
لا يقدرون. ولا يمكن أن تعنى مطلقاً أن تطالب المبتدئ بالوصول إلى القمة، وإلا
أشبعته تو بيخاً وانتهاراً باسم الغيرة المقدسة. إن لكل إنسان مستواه ” كما
قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان” (رو 12: 3). فلا نطالب الكل بمستوى
واحد باسم الغيرة. وإنما كل واحد حسب قدرته وإمكانياته ومواهبه.

 

وربما ما لا يستطيعه الآن، يستطيعه فيما بعد.

 

إذن لا تثبط همة أحد. بل شجع الكل، وتدرج مع
الصغير حتى يكبر، ومع الضعيف حتى يقوى،.. فى غير كبرياء، وفى غير فريسيه. كن
حانياً ولا تكن جانياً. اعمل على تقوية الضعيف بدلا من أن تنتهره..

 

ومع تشجيع الخطاة والتدرج معهم، ضع أمامك قاعدة
روحية هامة فى فهم هذه النقطة وهى:

 

المقصود هو تسهيل الوصايا، وليس التساهل فى
الوصايا.

 

و نحن نقول فى صلوات القداس الإلهى ” سهل
لنا طريق التقوى”. والمدرس الناجح يسهل أمام تلاميذه فهم العلوم. وهكذا
الناجح يسهل طريقه تنفيذ الوصايا، دون أن يتساهل فيها، أى فى كسرها.. حاشاً..

 

لذلك فلتكن غيرتك ممزوجة بالحكمة. واذكر قول
الكتاب:

” رابح النفوس حكيم” (أم 11: 30).

ننتقل إلى نقطة أخرى فى (كيف تعمل الغيرة؟) وهى
عملها مع الله..

 

7- الشركة مع الله

لا يستطيع أحد أن يخلص إنساناً إلا عن طريق الله
نفسه فتحريك القلوب وايقاظ الضمائر، هو من أعمال الله ذاته، الذى قال فليكن نور،
فكان نور (تك 1: 3)، والذى قال ” بدونى لا تقدرون أن تعملوا شيئاً” (يو
15: 5).

 

لذلك فالعمل على خلاص النفس، لا يكون إلا
بالشركة مع الله.

 

لذلك قال بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبولس
” نحن عاملان مع الله” (1كو 3: 9) ” وأنتم فلاحة الله، بناء
الله”.

 

لابد أن يصل الإنسان إلى الله ليوصل الناس إليه.
واضرب لك مثل الحديد والمغناطيس.

 

المغناطيس يقدر أن يجذب الحديد. وإذا ما تمغنط
الحديد، يمكنه أن يجذب إليه حديداً آخر. وإذا تلاقت معهما قطعة حديد ثالثة، تنجذب
أيضاً.. إذن الحديد المتلامس مع المغناطيس يمكنه ذلك.

 

قطعة حديد وزنها طن لا يمكنها أن تجذب مسماراً،
إن كانت غير ممغنطه. ولكن مسماراً ينجذب اليه.

 

 مثال
آخر هو لمبة الكهرباء، وتيار الكهرباء:

 

هناك لمبات كهرباء، جميلة جداً، وقوية جداً، ومن
نوع ممتاز، تضئ فيفرح الناس جداً بضوئها. ولكنها فى الواقع لا تستطيع أن تعطى
ضوءاً مالم تكن متصلة بتيار الكهرباء. فإن انقطع عنها تيار الكهرباء، فحينئذ باطل
هو عملها، ولا فائدة من صنفها وجمالها وقوتها..

 

و هكذا باطلة كل غيرتك، وإن كانت بعيدة عن الله،
الذى هو مصدر القوة..

 

 وهكذا
مع غيرة التلاميذ فى نشر الملكوت، قال لهم الرب: “لا تبرحوا أورشليم حتى
تلبسوا قوة من العالى (لو 24: 49). وأكمل ذلك بقوله ” لكنكم ستنالون قوة متى
حل الروح القدس عليكم، وحينئذ تكونون لى شهوداً” (أع 1: 8). وهكذا كان. ولم
يبدأ الرسل خدمتهم إلا بعد حلول الروح القدس عليهم.

 

أترى كانت غيرة الرسل تكفى لنجاح الخدمة، بدون
حلول الروح القدس عليهم؟!

 

كلا بلاشك. فالخدمة كلها عبارة عن الشركة مع
الله، العامل فينا، والعامل معنا، والعامل بنا. ” وإن لم بين الرب البيت،
فباطلاً يتعب البناءون” (مز 127: 1) إن بولس كان يغرس وأبولس كان يسقى. لكن
الله كان ينمى” (1كو 3: 6).

 

ويعلق بولس الرسول على هذا الأمر فيقول ”
إذن ليس الغارس شيئاً، ولا الساقى، بل الله الذى ينمى” (1كو 3: 7).

 

افحص إذن غيرتك. هل هى عاملة مع الله؟

إن فقدت الصلة بالله، فلن تستطيع أن توصل أحداً
إليه، مهما كانت غيرتك. لأن ” فاقد الشئ لا يعطيه”.

لابد إذن أن نحب الله، لكى نجعل الناس يحبونه.

ولابد أن نطيع وصاياه، حتى نقدر أن نشرح لهم
عملياً كيف تطاع الوصايا.

حقاً أنه تواضع من الله أن يشركنا معه فى عمله.
ومع ذلك نحن نتكاسل!

 

الله قادر أن يخلص العالم كله بدوننا. ولكنه من
تواضعه اشركنا معه نحن الضعفاء ونحن الخطاة! فهل نتجاهل نعمته هذه ونتكاسل فى عمله.
ولا تكون لنا غيرة متقدة، مثله..!

 

هذا عجيب حقا. والأعجب منه، أننا أحياناً نعرقل
الملكوت!

 

بسلبياتنا، وبصراعاتنا فى الخدمة، وبفتورنا،
وبأخذ المفاتيح، ولا ندخل، ولا نجعل الداخلين يدخلون، بمنافسات بشرية بعيدة عن روح
الغيرة وروح الخدمة!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار