علم الله

الفصل الأربعون



الفصل الأربعون

الفصل
الأربعون

التجديد
والرجوع إلى الله

 

1 – ما هو الفرق بين التجديد والرجوع إلى الله؟

*
يعرِّف الكتاب المقدس التجديد أنه “الولادة الجديدة” (يو 3: 3 ويع 1:
18) و”الخليقة الجديدة” (2كو 5: 17 وغل 6: 15 وأف 2: 1 و4: 24) و”القيامة
إلى حياة جديدة” (يو 5: 21 وأف 2: 5) و”الولادة من الروح” (يو 3:
8) و”الحياة من الموت” (رو 6: 13). واستخدم اللاهوتيون غالباً كلمة “التجديد”
أو “الولادة الثانية” بهذا المعنى، وهو التغيير الذي يجريه الله في
النفس ونقلها من الموت الروحي إلى الحياة الروحية، فتتغيّر ميولها الطبيعية من
الشر إلى القداسة. فهو تغيير خلُقي لا يقدر على عمله إلا روح الله. ويمتاز التجديد
بأنه عمل الله الذي يُرجِع النفس إليه. وأما الرجوع إلى الله فهو عمل الإنسان
الناتج عن تجديده، حيث تعود النفس إلى الله بمعونة الروح القدس. والتجديد والرجوع
لله وجهان لأمرٍ واحد، الأول يختص بالله والآخر بالإنسان. ففي الأول تكون النفس
مفعولاً بها، وفي الثاني تكون فاعلةً، لأنه إذا غيّر الله الأخلاق الطبيعية
الساقطة المتسلطة على الإنسان كانت النفس بذلك مفعولاً بها. وإذا قصد الإنسان
بمعونة الله مقاصد جديدة وسعى في الرجوع إلى حياة الطاعة لله وقبول الحق واتِّباعه
كان هو بنفسه عاملاً. وبهذا يتميّز التجديد عن الرجوع، غير أنه لا بد من وجودهما
معاً، لأن المتجدد يرجع لله، ولا يرجع لله إلا المتجدد. ويُعبَّر أحياناً عن أمر
التجديد والرجوع معاً بكلمة “ترجيع” لأن الله أرجع الإنسان إليه، فرجع
إلى حياة التقوى، انقياداً لترجيع الله له.

فالرجوع
هو عمل الإنسان بمعونة الله ليتمم مطالب الله من كل خاطئ. والإنسان الساقط ينال من
الله الحياة الجديدة والتبرير والتبني والتقديس، كعطايا النعمة المجانية. ولكن لا
بد من اقترانها بسعيه في الرجوع إلى الصلاح بالتوبة والإيمان.

ومن
آيات الكتاب المقدس في الرجوع قوله “حيٌّ أنا يقول السيد الرب، إني لا أُسرّ
بموت الشرير، بل أن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا. ارجعوا ارجعوا عن طرقكم الرديئة،
فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل؟” (حز 33: 11) وقوله “فتوبوا وارجعوا
لتُمحى خطاياكم” (أع 3: 19) وقوله “وكانت يد الرب معهم، فآمن عدد كثير
ورجعوا إلى الرب” (أع 11: 21) وقوله “لأنكم كنتم كخرافٍ ضالة لكنكم
رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها” (1بط 2: 25).

ويرجع
الخاطئ لله أحياناً بسرعة وعزم شديدين ثابتين، ولكنه في أحيانٍ أخرى يستغرق مدة
تتردد فيها النفس إلى أن يثبت عزمها ولا تتزعزع، فترجع.

ويشتمل
رجوع الخاطئ على أمرين جوهريين، هما: (أ) العدول عن الخطية، و(ب) الإقبال إلى
الله. ونسمّي الأول “التوبة” والثاني “الإيمان”. “احسبوا
أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو 6: 11) “لأنكم
قد متُّم، وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (كو 3: 3). وهذا يعني أن الرجوع
لا يتم دفعة واحدة، بل يتوالى وينمو في حياة كل مسيحي، لأن حياته تتوقف على الرجوع
للرب بالتوبة والإيمان. غير أن رجوعه أولاً بعزم جديد وتغيُّر مقاصده تغيراً كلياً
هو الرجوع الأصلي الذي يتبعه دائماً كل ما يوافقه من حياة التقوى.

وقد
يرتد الإنسان أحياناً ويبتعد عن الله وتغلبه التجارب المحيطة به، ولكنه بعد ذلك
يرجع إلى الله ثانية بتوبة جديدة. ويُعبَّر أحياناً عن هذا بأنه “رجوع ثانٍ
إلى الرب”. لكن الأَوْلى أن نسمّيه “ترك الخطية” أو “الانفصال
عن العوائد الرديئة” أو “التوبة عن الفتور” أو “العودة من
الارتداد”. وتُخصَّص كلمة “الرجوع” للتعبير عمّا جرى في بداية
الحياة المسيحية في المؤمن عندما شرع أن يسلك في طريق التقوى.

2 – ماذا يقول الكتاب المقدس في التجديد؟

*
(1) التجديد ضروري لخلاص الخاطئ (يو 3: 7 وغل 6: 15 وعب 12: 14 وأف 2: 2 ورو 3: 11
ويو 6: 44، 65). ويحتاج الإنسان إليه لأنه خاطئ لا يحب القداسة ولا يرغب فيها، ولا
يستطيع ما دام في تلك الحال أن يقبل كفارة المسيح بقلبٍ صادق، ولا أن يستفيد منها.

(2)
التجديد تغيير تنشأ منه حياة جديدة (يو 3: 3 و5: 21 ورو 6: 13 وأف 2: 1 و5: 14).
فالخاطئ في حالته الطبيعية ميت بالخطية. وكما أن الميت بالجسد لا يرى ولا يحس ولا
يقدر أن يعمل، ولا يتأثر بما يؤثر في الحي، كذلك الخطاة هم موتى بالخطية، عاجزون
عن إدراك الأمور الروحية وما يختص بالله وبالخلاص وبالواجبات الروحية، ولا يسرّون
بها، فيحتاجون لحياة روحية جديدة تنظر نظرةً جديدة لله والمسيح والإنجيل والقداسة.

(3)
التجديد هو تغيير القلب والأخلاق الباطنة، فتتغير صفات الإنسان الأصلية المتسلطة
فيه، وينال قلباً جديداً (مت 12: 33-35 و15: 19 وأع 16: 14 ورو 6: 17 و10: 10 ومز
51: 10 وحز 11: 19). والقلب في اصطلاح الكتاب هو ما يفتكر ويشعر ويريد ويعمل، فهو
النفس أو الذات. وعليه يكون القلب الجديد ذاتاً جديدة، ويكون التجديد هو ولادة
الإنسان ولادة جديدة إذ تأخذ نفسه حياة جديدة وطبيعة جديدة، فكما جعل الله طبيعة
آدم مقدسة عندما خلقه، هكذا يخلق في من يختاره للخلاص طبيعة جديدة مقدسة، حتى
تتغير ميوله من جهةٍ إلى أخرى.

(4)
التجديد هو التغيير الكلي للنفس (أف 2: 5، 10 و4: 23، 24 وكو 1: 13 ورو 8: 2 و2كو
5: 17). وحسب التعليم الإنجيلي تتجدد النفس كلها، بقواها العقلية والحسية
وإرادتها. ويبرهن ذلك أن النفس جوهر واحد وقُواها غير منفصلةٍ عن بعضها، فلا يكون
بعضها صالحاً والآخر رديئاً، أو البعض يخلُص والآخر يهلك. ولما كان التجديد يشمل
كل قُوى النفس قيل إن العقل يستنير والإحساسات تتغيَّر والإرادة تتجدد، ويحصل
المتجدد على المعرفة الصحيحة والشعور الصالح والإرادة الخاضعة لأوامر الله، فيصير
كالشجرة الجيدة التي تعطي ثماراً جيدة، أي أن كل الشجرة تصير جيدة لا جزء منها.
وكذلك تكون النفس في وحدتها، موضوع فعل الروح القدس في التجديد.

(5)
التجديد فجائي يتم في الحال عندما يفعله الروح (يو 5: 24 ورو 6: 4 وكو 2: 13).
فالروح القدس حين يجدد النفس يتمم ذلك دفعة واحدة بعمل قوته الفائقة. وبهذا المعنى
يتميّز التجديد عن الاقتناع العقلي في أنه إيجاد حياة جديدة، وإقامة الميت إلى
الحياة. وهو عمل سري لا يُعرَف ولا يُدرَك بشعور المتجدد، بل بما ينتج عنه فقط من
التغيير في طبيعته وأفكاره وأعماله، كقول المسيح “الريح تهب حيث تشاء وتسمع
صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح”
(يو 3: 8).

(6)
التجديد هو عمل الروح مباشرةً بلا واسطةٍ إنسانية، ولكنه يتم بواسطة كلمة حق
الإنجيل. فإذا اعتبرنا التجديد خليقة جديدة وولادة جديدة روحية فهو يتم بفعل الروح
القدس مباشرةً في النفس كما في تجديد الأطفال. ولكن إذا اعتبرنا التجديد جزءاً من
رجوع الإنسان إلى الله، فهو يتم في البالغين دائماً بواسطة مرافقة كلمة الحق التي
تقنع الإنسان وتحثّه على إتمام ذلك. والواسطة الوحيدة التي في طاقة الإنسان أن
يستعملها لأجل نوال التجديد هي قبول الحق. على أننا لا نجزم ونقول بعدم إمكانية
التجديد بدون معرفة كلمة حق الإنجيل، لأن التجديد يتم في الأطفال، وإن شاءت
الإرادة الإلهية يُحتمل أن يتم كذلك في الوثنيين المسترشَدين من الروح للاتكال على
مجرد الرحمة الإلهية، وباستعمال ما عندهم من النور استعمالاً حسناً. وقد فصل
اللاهوتيون في هذه المسألة بقولهم إن الروح القدس هو فاعل التجديد، والحق هو
الواسطة التي يستعملها الروح ليكمل مقصده. غير أن الحق ليس له فعلٌ في ذلك إلا
باستعمال الروح إياه بقوته الفائقة (يع 1: 18 و1بط 1: 23 وأف 6: 17).

(7)
التجديد هو عمل الله، فالله هو المجدِّد والنفس هي المجدَّدة. وتظهر في التجديد
قوة الله القادرة على كل شيء، فهو فعال دائماً، لا بمعنى أنه يُجبر الإرادة، بل
بمعنى أنه يقنعها ويجذبها حتى توافق قصده من تلقاء نفسها بالتسليم الاختياري (يو
1: 13 و3: 5 وأف 1: 19، 20 و2: 10 و1بط 1: 3).

وبناءً
على ما سبق تتضح حقيقة التجديد، فنقول:

(1)
ليس التجديد تغييراً في جوهر النفس ولا في بنيتها الأصلية.

(2)
ليس التجديد من أعمال النفس، خلافاً لقول البيلاجيين الذين قالوا إن التجديد هو
عمل الإنسان وإنه لا يختلف عن الإصلاح الذاتي.

(3)
ليس التجديد تغييراً في قوة واحدة من قُوى النفس دون غيرها، لأن العقل لا يتجدد
دون الحواس الباطنة، ولا الإرادة دونهما، لأن حياتنا الروحية واحدة.

(4)
ليس التجديد مجرد استنارة، لأنه حياة جديدة. والاستنارة واحدةٌ من نتائج التجديد،
إذ تستنير النفس بنور الحق وتقدر على رؤيته بكماله وجماله ومجده.

3 – ما هو الرأي الإنجيلي في التجديد؟

*
الإنسان بسقوطه في حال الخطية خسر كل قدرة الإرادة على كل خير روحي يتعلّق
بالخلاص. وهو في هذه الحالة الطبيعية يكره كل ما هو صالح. وهو ميت في الخطية فلا
يستطيع بقدرته الذاتية أن يُرجع نفسه ولا أن يُعد نفسه للترجيع. وإذا رجع الخاطئ
ينقله الله إلى حال النعمة ويعتقه من عبوديته الطبيعية للخطية. وبنعمته وحدها
يقدّره على أن يريد بالحرية ما هو صالح روحياً فيفعله. غير أنه بسبب الفساد الباقي
فيه لا يريد مجرد الصالح ولا يريده إرادة تامة، ولكنه يريد الشر أيضاً فيفعله. وكل
الذين قد سبق الله فعيّنهم للحياة شاء أن يدعوهم بكلمته وروحه في الوقت المعيَّن
المختار من حال الخطية والموت التي هم فيها بطبيعتهم إلى النعمة والخلاص بيسوع
المسيح، فينير أذهانهم إنارة روحية خلاصية حتى يفهموا أمور الله، فينزع قلبهم
الحجري ويعطيهم قلباً لحمياً، ويجدد إرادتهم. وبقوته الضابطة يحوِّلهم إلى ما هو
صالح ويجذبهم إلى المسيح جذباً كافياً حتى يأتوا إليه بكامل حريتهم إذ جعلهم
منتدَبين بنعمته.

هذه
الدعوة الكافية هي من نعمة الله المجانية الخاصة، وليست من شيء سبق الله فرآه في
الإنسان.

4 – ما هي الأقوال المختلفة في سبب التجديد الفعال، وما هو القول
الصحيح؟

*
شاعت في تاريخ علم اللاهوت ثلاثة أقوال في سبب التجديد الفعال:

(1)
الأول أن سببه هو الإرادة البشرية، والقائلون بذلك فريقان: (أ) القائلون باستقلال
الإرادة البشرية عن كل الوسائط باعتبارها السبب الوحيد في تجديد النفس و(ب)
القائلون باقتران تأثير الحق وقوة الله بالإرادة البشرية في التجديد، حتى تشترك
الإرادة البشرية مع الروح القدس في التجديد. فالفريق الأول يقولون إن النفس تجدد
نفسها. وهذا مرفوض لأن الخاطئ عاجز بسبب خطيته وتسلط الميول الشريرة عليه، حتى أنه
لا يقدر أن يختار الصلاح ويسعى في البر إلا إذا تغيرت أخلاقه بفعل الروح القدس.
فالإنسان لا يختار من تلقاء نفسه ما يخالف الأخلاق الداخلية الراسخة فيه. والفريق
الثاني (وهم الأرمينيون) يقولون إن الإرادة البشرية تشترك مع الروح والحق في تجديد
النفس. وهذا المذهب يصح في أمر الرجوع إلى الله، لأن الإنسان يسعى ليعمل الله فيه.
أما في تجديد النفس وتغيير الأخلاق الأصلية الراسخة في الإنسان فليس للإرادة
البشرية قدرةٌ على ذلك، لأن تلك الأخلاق أقوى من الإرادة، والإرادة خاضعة لها حتى
لا يقدر الإنسان أن يخالفها. ولذلك كان التجديد في الإنسان يمس ما هو وراء الإرادة
وأعمق منها. والإرادة لا تفعل التجديد ولا تشترك في عمله، بل هي مفعول بها. ويختار
الإنسان القداسة نتيجة للتجديد. ولا يتم التجديد باختيار الإنسان له، وإنما تقبل
الإرادة التجديد.

(2)
السبب الفعال للتجديد هو الحق الذي يؤثر مباشرةً في نفس الإنسان فيعمل فيه ليتجدد.

فنقول
إن هذا الرأي ينسب إلى الحق قوة ليست فيه، لأن الخاطئ لا يقبل الحق مهما اتضح أمام
ذهنه، ولا يؤثر الحق فيه بمجرد تأثيره الذاتي لأن قلب الخاطئ يرفضه، ويرفض أن
يتسلط الحق عليه. ويجب أن ينظر القلب إلى الحق نظراً جديداً ويحبه، ويكون مستعداً
لقبوله قبل أن يأخذ الحق مفعوله فيه. فالتجديد بمقتضى هذا المذهب ليس إلا تأثير
الحق في النفس، على أن الإنسان لا يقدر أن يميّز الحق ويطيعه إلا بقلب جديد وأخلاق
متغيرة بروح الله. والإنسان لا يختار الله ولا يطيع حقه إلا إذا ظهر الله لديه
وصار موضوع محبته وإكرامه وطاعته، فإن “اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو
خاضعاً لناموس الله، لأنه أيضاً لا يستطيع” (رو 8: 7).

(3)
سبب التجديد الفعال هو الروح القدس، الذي وحده يقدر أن يغيّر أعماق القلب البشري،
وهو يؤثر في الإنسان بواسطة الحق. ولا يتم التجديد في البالغين إلا إذا رافق
الروحُ القدس كلمةَ حق الإنجيل. فالحق بدون الروح عاجز، والروح لا يستحسن تجديد
الإنسان إلا ببيان الحق للنفس. على أن الفاعل القدير ليس الحق، بل الروح. قال بولس
“سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف 6: 17) وهذا السيف إن لم يكن في يد
الروح فلا تأثير له. ولكنه إذا كان بيد الروح كان تأثيره فعالاً. ولا يتم فعل
الروح بمجرد جعل الحق مؤثراً، بل يغير جوهر القلب ويجهزه لقبول الحق واتِّباعه.
فالنفس مفعولٌ بها رأساً بالروح، لا بواسطة الحق فقط. والخليقة الجديدة هي عمل
الخالق رأساً، كما قيل في ليدية إن الله فتح قلبها لتصغي إلى ما كان يقوله بولس
(أع 16: 14). فكما أن عين الأعمى لا تبصر مهما زاد النور حولها، إلا بعد إزالة
العمى، وكما أن الميت لا يتأثر بالمؤثرات الخارجية مهما اشتدت قوتها إلا بعد رجوع
الحياة إليه، هكذا عمل الروح في التجديد لا يتم إلا بقوة الروح الذي يقيم النفس
للحياة المتجددة ليأخذ الحق مفعوله فيها. والحق هو الواسطة المرافقة لا الفعالة في
هذا التجديد.

5 – ما هي الأقوال المختلفة في الواسطة التي يتم بها التجديد؟

*
في ذلك قولان، هما قول التقليديين وقسم من الأسقفيين، وقول الإنجيليين:

(1)
الأول يعتبر المعمودية واسطةً فعالة ضرورية للتجديد، ويقول إنه عندما تتم
المعمودية يتم التجديد، ولا يتم التجديد إلا بالمعمودية. واتفق معهم قسمٌ من أهل
الكنيسة الأسقفية، وكذلك بعض اللوثريين. وهناك آياتٌ يستند إليها أهل هذا المذهب
(ومنها يو 3: 5 وأع 2: 38 وكو 2: 12 وتي 3: 5). مع أن هذه الآيات تقول إن عمل
التجديد يتم بقوة الله لا بالمعمودية، وتشير إلى التجديد الداخلي كما تشير إلى
العلامة الخارجية لذلك، وليس فيها ما يربط قوة التجديد بالمعمودية.

والقول
بفعل المعمودية في التجديد مرفوض، لأن الكتاب يعلّمنا أن المعمودية علامة خارجية
تشير إلى التجديد الداخلي، فإذا لم يكن قد تم التجديد في النفس لا يجوز تعميد
البالغين (أع 8: 12) فالأمر الجوهري في التجديد ليس فرض المعمودية الخارجي بل رجوع
النفس الداخلي إلى الله كما قال بطرس “الذي مثاله يخلِّصنا نحن الآن، أي
المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله” (1بط 3: 21).
فالسؤال عن الله بضميرٍ صالحٍ هو رجوع النفس إلى الله، وذلك أهم جداً من المعمودية
التي هي إشارة خارجية إليه.

ونردّ
أيضاً على هذا الاعتقاد بأن علاقة التجديد بالمعمودية ليست كعلاقة المعلول إلى
علته، لأن التجديد تغيير روحي في الإنسان، والمعمودية عمل خارجي لا يتجاوز الجسد
إلى النفس، إلا في ما يحدث فيها من التعليم الإلهي المرافق لخدمة السر. والكتاب لا
ينسب أيَّ تأثيرٍ داخلي في النفس لأي فرضٍ خارجي.

 (2)
والقول الثاني يعتبر أن قوة الله هي الفاعل في تجديد أخلاق النفس وتغيير صفاتها من
حالٍ إلى أخرى، وأن الحق هو الواسطة التي تجعل الإنسان يسعى لنوال الحياة الجديدة.
والروح القدس يجعل الحق فعالاً ويُقدِّر النفس على تمييز الحق وقبوله واتِّباعه،
فينتج من ذلك أن النفس من جهةٍ واحدةٍ مفعول بها، ومن جهةٍ أخرى فاعلة. فهي مفعول
بها في ما يختص بتغيير أخلاقها، وهي فاعلة في استعمال تلك الأخلاق المتجددة.
واستعمال النفس ذلك هو إجابة لتأثير الحق فيها. وبهذا المعنى نوفّق بين عمل الله
وفعل الإنسان في أمر التجديد والرجوع إلى الله، فالله يجري التجديد بقوة روحية
فائقة عاملة في تغيير أخلاق النفس، وهي عند ذلك ترجع إليه بسبب تأثير الحق فيها.
على أن عمل الله وعمل النفس غير منفصلين في الزمان، لأن النفس المتجددة لابد أن
تسعى حالاً في الرجوع إلى الله. وبما أن التجديد ليس عمل الإنسان، ولا يُطلَب منه
سوى الرجوع، وجب على الكارز بالإنجيل أن يحثّ سامعيه أن يرجعوا إلى الله حالاً،
كأنهم متجددون لا بأن يجددوا أنفسهم. وكل من يسعى في الرجوع لله يبرهن على أن
التجديد قد تم فيه بسبق عمل الله، وإن لم يعرف هو بذلك إلا بعد ظهور نتائجه.

6 – ما هي نتائج التجديد؟

*
(1) تغيير صفات النفس فجأة وإصلاح ميولها، وإنارة العقل، وحثّ الإرادة على الطاعة
وتمكينها من ذلك (يو 7: 17 وأع 16: 14 وأف 1: 18). فالنفس المتجددة ترجع لله
بالتوبة والإيمان، وعند ذلك تتبرر، فتعيش عيشة جديدة وتتقدس أكثر فأكثر إلى أن
تُقبَل أخيراً في أمجاد الحياة السماوية بعد الموت وتكميل تقديسها.

(2)
من أهم نتائج التجديد اتحاد النفس مع المسيح بحياة روحية، فتقترن حياة المسيح
بحياة النفس المتجددة، ويصبح المسيح والنفس المتجددة واحداً في حياتهما الروحية.
وقد اتضح هذا الاتحاد السري بين المسيح وشعبه المتجدد بأقوال مختلفة في الأسفار
المقدسة، فشبّهه الرسول بالعلاقة التي بين الأساس والمؤسَّس عليه (أف 2: 20-22 وكو
2: 7 و1بط 2: 4، 5) وباتّحاد الزوجين المؤمنين (2كو 11: 2 وأف 5: 31، 32 ورؤ 19: 7
و22: 17) وباتحاد الأغصان بالكرمة (يو 15: 1-10) وباتحاد أعضاء الجسد بالرأس (1كو
6: 15، 19 و12: 12 وأف 1: 22، 23 و4: 15، 16 و5: 29، 30) وباتحاد الجنس البشري
بآدم أصل حياته الجسدية (رو 5: 12- 21 و1كو 15: 22، 45، 49). وقيل صريحاً إن
المؤمن الحقيقي هو في المسيح (يو 14: 20 ورو 6: 11 و8: 1 و2كو 5: 17 وأف 2: 13)
وإن المسيح هو في المؤمن (يو 14: 20 ورو 8: 9 وغل 2: 20) وإن الآب والابن يسكنان
في المؤمن (يو 14: 23 وأف 3: 17 و1يو 4: 16) وإن للمؤمن حياةً باتحاده مع المسيح
كما للمسيح حياةٌ باتحاده مع الآب (يو 6: 53، 56، 57 و1كو 10: 16، 17 و1يو 1: 3)
وإن كل المؤمنين واحد في المسيح (يو 17: 21-23) وإن المؤمن قد اشترك في الطبيعة
الإلهية، ليس بمعنى أن جوهر الناسوت قد تغيَّر فصار جوهر اللاهوت، بل بمعنى أن
المسيح تنازل ليسكن في قلب المؤمن بروحه (2بط 1: 4) وإن المؤمن مسكنٌ لروح الله
(1كو 6: 17، 19 ورو 8: 9). فالمسيح بمقتضى هذا التعليم يحل بروحه في القلب
المتجدد، ويتم بذلك اشتراك حياة المؤمن في حياة المسيح. وليس لهذا الاتحاد السري
نهاية، فهو يزيد لذة وتأثيراً وقوة إلى أن يبلغ الكمال في الحياة السماوية، وهو من
أول نتائج التجديد وأهمهما، بل هو التجديد ذاته، بمعنى أن التجديد يتم به.

7 – ما هو السر العظيم في التجديد؟

*
يعلّم الكتاب أن الخاطئ يحتاج إلى التجديد، وأنه لا يقدر أن يجدد نفسه، وأن الرجوع
الحقيقي لله يقترن دائماً بالتجديد. ومع ذلك يحثّ الكتاب الخاطئ على الرجوع لله
بالتوبة والإيمان، ويُعتبَر خاطئاً إذا تأخر عن ذلك. فلله عمل ضروري في التجديد لا
يقدر البشر عليه ولا يشتركون فيه. كما أن للإنسان عملاً ضرورياً في التجديد يتبع
عمل الله ولا يتم بدونه. والإنسان مسؤول أمام الله إذا لم يرجع إليه تائباً.

فإن
قيل إن طلب ذلك من الخطاة الموتى عبثٌ، قلنا: لا، لأن الله أمرنا أن نعمل هكذا،
ووعد أن قدرته الإلهية ترافق تلك الدعوة، فيقدر الإنسان أن يستجيب لها. ولما كان
التجديد لا يحدث في البالغين إلا إذا عمل الروح القدس فيهم بكلمة الحق، وجب على كل
كارز بالإنجيل أن يقف أمام الخطاة كما وقف حزقيال النبي أمام البقعة المملوءة
عظاماً ودعا الأموات بالخطايا ليقوموا ويحيوا، على رجاء أن روح الله يحيي النفوس
ويعطيها القدرة على إجابة الدعوة. ونحن نعلم أن الإنجيل يأتي لا بالكلام فقط، بل
بالقوة أيضاً وبالروح القدس وبيقينٍ شديد (1تس 1: 5). “استيقِظ أيها النائم
وقُمْ من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14). فإن قيل إن ذلك سرٌ لا يدركه
العقل البشري قلنا إن الديانة الإلهية لا تخلو من الأسرار التي لا تستطيع عقول
البشر أن تدركها. وإن قيل إن هذا التعليم لا يوافق عدل الله، قلنا: كان الأَوْلى
بنا لا أن نعترض، بل أن نجتهد في الرجوع لله، وأن نحثّ الناس على أن يرجعوا أيضاً،
لأن الله يعامل البشر بالعدل. ولما كان هذا تعليم كتابه المقدس، فلا بد أنه يوافق
عدله الإلهي. والقول إن الله ملزوم (بموجب عدله) أن يعامل كل البشر بالتساوي في كل
شيء حتى في الرحمة والإحسان أيضاً، يخالف الواقع وغير صحيح (قارن بما قلناه في
قضاء الله في فصل 16 س 41-46).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار