اللاهوت المقارن

الخضوع ومشيئة الله



الخضوع ومشيئة الله

الخضوع ومشيئة الله

القمص
زكريا بطرس

“لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلا من
الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب
الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة”

(رو1: 132)

 

تمهيد

الحياة الروحية سواء في نشاطها الداخلي أو
الخارجي تحتاج إلى ضمير صالح للتصرف الحسن في كل شئ. (عب18: 13).

 وهذا
الضمير يحتاج إلى ميزان حساس لقياس الدوافع والأهداف والأسلوب الذي يؤدى به العمل
الروحي. ولعل موضوع (الخضوع ومشيئة الله) هو أحد هذه المعايير الحساسة لفحص الضمير
كما يتبين من هذه الدراسة.

 ودراسة
هذا الموضوع لها أهمية قصوى، لأن البعض استعاضوا عنه بمبدأ “ينبغي أن يطاع
الله اكثر من الناس”. (أع 5: 29) ظانين أن هذه الآية تلغى مبدأ الخضوع للسلطة،
ولكن المتأمل في هذه الآية يدرك أنها لا تنفى ذلك، فهي لم تقل (ينبغي أن يطاع الله
لا الناس) ولكنها تعطى الأولوية والأفضلية لطاعة الله متى تعارضت معها
مطالب الطاعة للناس.

 فكيف
إذن نوفق بين طاعة الله وطاعة الناس؟ ومتى وكيف نحقق مطلب هذه الآية؟

 هذا
ما سوف نتعرض له أيضا في هذه الدراسة التي أرجو أن تكون سبب بركة لحياة الكثيرين
بصلوات

حضرة
صاحب الغبطة والقداسة البابا المعظم الأنبا شنوده الثالث

بابا
الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وبلاد المهجر

 

الفصل الأول

أولاً: تعريف الخضوع

 الخضوع
هو موقف إيجابي متزن بين موقفين متناقضين هما التمرد والخنوع. وسوف نتناول كل موقف
من هذه المواقف بالتفصيل فيما يلي:

 

أولاً: التمرد

 التمرد
هو الثورة على السلطة، وعدم قبول أوامرها، وعدم طاعتها. ويصدر التمرد عن قلب متكبر،
وذات عنيدة، وإرادة عاصية، ونفس شريرة، كما يقول الكتاب “الشرير إنما يطلب
التمرد فيطلق عليه رسول قاسى” (أم11: 17)

ولقد
وضح ارميا النبي ما في التمرد من عصيان بقوله “وصار لهذا الشعب قلب عاصٍ
ومتمرد. عصوا ومضوا” (أر23: 5)

ويربط
الكتاب المقدس بين التمرد والسحر والعرافة وعبادة الأوثان على أنها جميعا من عمل
الشيطان فيقول “لأن التمرد كخطية العرافة والعناد كالوثن والترافيم ”
(1صم23: 15)

 ومن
أمثلة التمرد في الكتاب المقدس:

1-
شاول الملك:

 يذكر الكتاب
المقدس قصة التعدي التي سقط فيها شاول الملك بالخروج على ترتيب الله والتعدي على
حقوق السلطة المفوضة من قبل الرب فيقول “مكث (شاول) سبعة أيام حسب ميعاد
صموئيل ولم يأت صموئيل إلى الجلجال والشعب تفرق عنه. فقال شاول قدموا إليَّ
المحرقة وذبائح السلامة. فأصعد المحرقة. وكان لما انتهى من إصعاد المحرقة إذا
صموئيل مقبل فخرج شاول للقائه ليباركه فقال صموئيل: ماذا فعلت؟ فقال شاول لأني
رأيت أن الشعب قد تفرق عني وأنت لم تأت في أيام الميعاد والفلسطينيون متجمعون في
مخماس فقلت الآن ينزل الفلسطينيون إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الرب فتجلدت
وأصعدت المحرقة. فقال صموئيل لشاول قد انحمقت لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك
بها.. الآن مملكتك لا تقوم” (1صم8: 1314)

 

 ويلاحظ
أنه رغم كل هذه المبررات الجبرية التي ذكرها شاول لكن الحكم كان عليه بأنه ارتكب
حماقة لأنه تعدى ترتيب الله الذي فوض السلطة لصموئيل النبي الكاهن فقط أن يقدم
الذبيحة، ونتيجة لتمرده زالت مملكته.

 

2-
مريم وهارون:

 يذكر
الكتاب المقدس أيضا قصة تمرد مريم وهرون على موسى “فقالا هل كلم الرب موسى
وحده؟ ألم يكلمنا نحن أيضا!!..فحمى غضب الرب عليهما ومضى. فلما ارتفعت السحابة عن
الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج فالتفت هرون إلي مريم وإذا هي برصاء.. فصرخ موسى إلى
الرب قائلاً اللهم اشفها فقال الرب لموسى ولو بصق أبوها بصقاً في وجهها أما كانت
تخجل سبعة أيام؟ تحجز سبعة أيام خارج المحلة وبعد ذلك ترجع” (عدد1: 1215)
ويلاحظ عدم تهاون الله مع المتمردين على السلطة التي يعينها.

 

3-
قورح وداثان وأبيرام:

 وهذه
صورة أخرى من صور التمرد فقد أخذ هؤلاء الثلاثة “يقاومون موسى مع أناس من بنى
إسرائيل مائتين وخمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى
وهرون وقالوا لهما كفاكما.

إن
كل الجماعة بأسرها مقدسة وفى وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب.. وكلم
الرب موسى وهرون قائلا افترزوا من بين هذه الجماعة فإني أفنيهم.. وفتحت الأرض فاها
وابتلعتهم.. فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية وانطبقت عليهم الأرض
فبادوا من بين الجماعة) (عدد1: 1633)

كان
هذا تمرد من قورح وداثان وأبيرام ضد ترتيب الله الذي اختار موسى النبي لتتميم هدفه،
وهكذا كانت عقوبتهم أي عقوبة تمردهم، إذ فتجت الأرض فمها وابتلعتهم وهم أحياء.
ياللهول!!

 

4-
ديوتريفوس:

 يذكر
يوحنا الحبيب رسول المحبة قصة تمرد ديوتريفوس هذا قائلا “كتبت إلى الكنيسة
ولكن ديوتريفوس الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا. من أجل ذلك إذا جئت
فسأذكره بأعماله التي يعملها هاذرا علينا بأقوال خبيثة وإذ هو غير مكتف بهذه لا
يقبل الاخوة ويمنع أيضا الذين يريدون، ويطردهم من الكنيسة. أيها الحبيب (الشيخ
غايس) لا تتمثل بالشر بل بالخير لأن من يصنع الخير هو من الله ومن يصنع الشر فلم
يبصر الله” (3يو11: 9)

والملاحظ
أن القديس يوحنا بكل ما عرف عنه من رقة ومحبة نراه صارماً حازماً في تعبيراته
شديداً في مواجهة تمرد هذا الرجل.

هذه
بعض صور التمرد التي أوردها الكتاب المقدس ويتضح منها روح الثورة على السلطة في
عناد وعصيان وتكبر. إنه تطرف يساري معارض، وهناك تطرف على النقيض، تطرف يمينى مريض
هو الخنوع.

 

ثانياً: الخنوع

نركز
حديثنا عن الخنوع في نقاط بارزة:

1
مفهوم الخنوع:

 الخنوع
هو الامتثال والاستسلام في مذلة لاستجداء رضى الناس وخاصة أصحاب السلطة بأية وسيلة
ولو على حساب المبادئ والقيم ووصايا الرب.

ولعل
موقف لوط من أهل سدوم كان موقف الخنوع، فقد أحاطوا بالبيت وقالوا له “أين
الرجلان (الملاكان) اللذان دخلا إليك الليلة. أخرجهما إلينا لنعرفهما (أي ليفعلا
الشر بهما)، فخرج إليهم لوط إلى الباب واغلق الباب وراءه وقال لا تفعلوا شراً يا
اخوتي. هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلاً أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في
عيونكم”
(تك5: 198) فقد حاول لوط أن يرضى أهل سدوم بأي وسيلة على حساب
المبادئ والقيم بتعريض ابنتيه للرذيلة. إنه موقف الخنوع.

 

2- دوافع الخنوع:

 والوقع
أن الخنوع يصدر عن نفسية مريضة كئيبة يائسة، فاقدة الثقة محصورة في موقف الضعف
يرجفها الخوف فلا تملك إلا الخنوع والاستسلام مثلما حدث من بنهدد ملك آرام بعد
هزيمته أمام آخاب ملك إسرائيل، فهرب ودخل المدينة من مخدع إلى مخدع. وعمل بنصيحة
مشيريه فلبس المسوح وشد حبالاً على رأسه وأرسل إلى ملك إسرائيل وقال له “إني
أرد المدن التي أخذها أبى من أبيك، وتجعل لنفسك أسواق في دمشق فقطع له عهداً
وأطلقه” (1مل30: 2034) كان هذا العهد من منطلق الخنوع لا الخضوع بدليل أنه
بعد سنوات ثلاث اكتشف آخاب أن ملك آرام لم يفِ بعهده وأنه لم يعطه راموت جلعاد
فقامت الحرب بينهما من جديد. (1مل1: 2240)

 

3-
أسلوب الخنوع:

 فالخنوع
قد يكون له مظهر الخضوع ولكن ليس له جوهره
من صدق وأمانة وإخلاص. ولعل قصة
حنانيا وسفيرة كانت أيضاً خنوعاً لا خضوعاً وانكشف كذبهما وعدم صدقهما (أع1: 510)
وكما أن الخنوع قد يكون نوعاً من أنواع معاقبة الإنسان لنفسه، نراه في بعض الأحيان
الأخرى أسلوب من الأساليب التي يجيدها الضعفاء لتحقيق الذات بتملق الأقوياء
والصعود علي أكتافهم كما يفعل نبات العليق الضعيف في تسلقه لشجرة الأرز العملاق. ولعل
صدقيا بن كنعنة كبير الأنبياء الكذبة مثل واضح للتملق حفاظاً علي مركزه في بلاط
آخاب الملك فتنبأ له كذباً بالانتصار، وعندما جاء نبي الله ميخا وتنبأ بهزيمة
الملك، تقدم صدقيا وضربه علي فكه وقال “من أين عبر روح الرب مني ليكلمك”
(1مل24: 22) إنه الخنوع بتملق الأقوياء لتحقيق الذات.

 

ثالثاً: الخضوع

أما
الخضوع السليم فهو:

1
موقف إيجابي متزن بين التمرد والخنوع.

2
الخضوع هو تصرف روحاني يرى الله في المشهد بينك وبين السلطة، أما التمرد
والخنوع فهما تصرفات بشرية مع السلطة في حد ذاتها دون اعتبار لمشيئة الله.

3
الخضوع هو تسليم لمن يقضى بعدل (بط23: 2) بصفته المسئول عن مصير المؤمن، أما
التمرد فهو محاولة بشرية ممتلئة بالحقد والمرارة والعنف لتتخلص من السلطة التي
تلعب بمصيرك. في حين أن الخنوع هو استسلام يائس مع محاولات بشرية للتملق وتبرير
المواقف لأولئك الذين يلعبون بمصيره حتى يشفقوا عليه.

 

 ليس
كذلك الخضوع، فمنطلق الخضوع هو أن مصير المؤمن ليس متروكا لأهواء الناس يلعبون به.
بل هو محفوظ في يد القدير كما قال معلمنا بولس الرسول لهذا السبب أحتمل هذه الأمور
أيضا لكنني لست اخجل لأنني عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك
اليوم. (2تى3: 1)

 

4
إن من أروع الأمثلة على الخضوع بلا خنوع أو تمرد هو مثل ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
المسيح في موقفه أمام رؤساء الكهنة وبيلاطس البنطي. فما كان هناك أي أثر للتمرد
(وحاشا للسيد المسيح له المجد من ذلك) وإلا لكان قد أعلن الحرب وحرض التلاميذ على
الثورة لكي يخلص نفسه، بل على العكس نراه في البستان يقول لبطرس الذي استل سيفه
وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه: “رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون
السيف بالسيف يهلكون. أتظن أنى لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبى فيقدم لي أكثر من
أثنى عشر جيشاً من الملائكة” (مت52: 2653)

 

 وموقف
الرب يسوع المسيح لم يكن فيه شيئاً من الخنوع (وحاشا لرب المجد من ذلك) وإلا لحاول
أن يستعطف العسكر وبيلاطس ويبرر موقفه وتصرفاته حتى يعفوا عنه، ولكن الرب يسوع
المسيح له المجد كان قد قضى الليل كله في صلاة وخضوع مطلق لمشيئة الآب قائلاً (ولكن
لا لتكن إرادتي بل إرادتك) (لو42: 22)

فما
كان بيلاطس والكهنة والعسكر في نظره سوى آلات في يد الآب يتمم بها مشيئته لأنه
“سلم لمن يقضى بعدل” (1بط23: 2)

 هذه
هي أروع الأمثلة عن الخضوع بلا خنوع أو تمرد.

5
ولنا أيضا في قدوة معلمنا بولس الرسول الذي سار على منهج سيده مثلا آخر للخضوع بلا
خنوع أو تمرد. ففي تعاملاته مع السلطات لم يتصرف قط بتمرد وإلا كنا نلمس روح
المرارة في كتاباته عن السلطات ولكنه علمنا عن الخضوع لها على أنها مرتبة من الله
(رو1: 138)

 

 وكذلك
لم يكن خانعاً وإلا كان قد حاول استعطافهم ليطلقوه، ولكننا نراه يتكلم أمام فيلكس
عن الأيمان بالمسيح بكل ثقة (أع24: 2425) ويحتج أمام أغريباس بكل حكمة ومحبة (أع1:
2632) فلم يكن معلمنا بولس الرسول في خضوعه ممسوح الشخصية أي إنسان بلا شخصية بل
كان ينظر إلى نفسه في المسيح يسوع بنظرة إيجابية عالما قيمة هذه النفس عند الرب
لذلك يقول “لهذا السبب أحتمل هذه الأمور أيضا لكنني لست اخجل لأني عالم بمن
آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم” (2تى12: 1)

 

6
والواقع أن السلطات البشرية كالآلات (كالملزم والمطرقة والأزميل) في يد فنان ماهر
ليكسر بها الماس ويصقله، أو لينحت بها تمثال المرمر ليكون على صورة السيد المسيح.
فالمؤمن في خضوعه للسلطات التي يستخدمها الله لخيره وصقله وتشكيله ينمو في التشبه
بالسيد المسيح له المجد. وما أجمل تعبير المرنم “أدخلتنا إلى الشبكة جعلت
ضغطاً على متوننا. ركبت أناساً على رؤوسنا. دخلنا في النار والماء ثم أخرجتنا إلى
الخصب”
(مز11: 16).

 لعلك
من كل ما سبق تستطيع أن تدرك معني الخضوع والفرق بينه وبين التمرد والخنوع.

 

من أقوال الآباء القديسين عن مفهوم
الخضوع

يقول
القديس غريغوريوس السينائي:

 [لا
يوجد صعود إلى المساكن الإلهية بواسطة السلم القصير للفضائل أقصر من إخضاع
الانفعالات الخمسة المعادية للطاعة وهى:

 التمرد،
المجادلات، وإرضاء الذات، وتبرير النفس، وغرور الذات المؤذي.

 

 هذه
هي أطراف وأعضاء الشيطان المهلك الذي يلتهم المؤمنين الزائفين ويلقى بهم إلى هوة
الثعبان. العصيان هو فم الجحيم، والمحاجاة لسانه المشحوذ كالسيف، وإرضاء الذات
أسنانه الحادة، وتبرير النفس زوره (حلقه)، والغرور المؤذي الذي يطرح الإنسان إلى
جهنم هو جوفه الذي يبتلع كل شئ.

 

 ولكن
هذا الذي عن طريق الطاعة يقهر الأول، وبضربة واحدة يقضي على الباقي، وبخطوة واحدة
يصل إلى السماء، هذه هي المعجزة غير المرئية التي تجل عن الوصف المعد لنا من إلهنا
إله الرحمة الذي أعطانا إمكانية الوصول المباشر إلى السماء بواسطة فضيلة واحدة أو
بالحري وصية مفردة، تماما كما أننا بواسطة خطية مفردة نزلنا ولا نزال ننزل إلى
الجحيم]. (القديس غريغوريوس السينائى) [كتابات من الفيلوكاليا عن صلاة القلب
ترجمة ميخائيل توفيق ص 74].

 

الفصل الثاني

مجالات
الخضوع

(السلطات
الخمس)

لقد أمر الرب في الكتاب المقدس بأن يخضع المؤمن
لسلطات أقامها الله بحسب ترتيبه شخصياً وفوضها لتنفيذ خطته، وحذر من مقاومتها إذ
قال معلمنا بولس الرسول “لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هي
مرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون
لأنفسهم دينونة” (رو1: 132) وهذه السلطات هي:

1-
الوالدان.

2-
الزوج.

3-
الدولة.

4-
العمل أو المدرسة.

5-
الكنيسة.

 

أولاً:
سلطة الوالدين

لقد
أمر الرب الأبناء أن يخضعوا لوالديهم في كل شئ، وهذه بعض الآيات الكتابية عن ذلك:

 1-
يقول معلمنا بولس الرسول “أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شئ لأن هذا مرضى
في الرب” (كو20: 3) هنا يوضح خضوع الأولاد للآباء في كل شيء.

 

2-
ويقول أيضا “أيها الأولاد أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق”.(أف1: 6)
وهنا يوضح أن الطاعة هي في الرب أي عندما يضع الابن أمام عينيه الرب نفسه فيسهل
عليه الطاعة.

 

3-
ويقول سليمان الحكيم “يا ابني احفظ وصايا أبيك ولا تترك شريعة أمك اربطها علي
قلبك دائماً، قلد بها عنقك، إذا ذهبت تهديك. إذا نمت تحرسك. وإذا استيقظت فهي
تحدثك” (أم20: 622) موضحا أهمية خضوع الأبناء للآباء.

 

4-
ويقول سليمان الحكيم أيضا “الأحمق يستهين بتأديب أبيه. أما مراعي التوبيخ
فيذكى” (أم5: 15) موضحا أن عدم الخضوع للوالدين هو حماقة.

 

5-
ويحذر سليمان الحكيم أيضا من خطورة عدم طاعة الوالدين قائلا “العين المستهزئة
بأبيها والمحتقرة إطاعة أمها تقورها غربان الوادي وتآكلها فراخ النسر” (أم17:
3) ومعنى تقورها غربان الوادي كناية عن موته أشنع ميتة فلا يعرف موضع جثته حتى
تأكلها الغربان والنسور!!!

 

 من
كل ما تقدم نستطيع أن ندرك مدي اهتمام الله وتشديده علي حتمية خضوع الأبناء لسلطة
الآباء.

 قد
يتساءل البعض عن موقف آيات أخرى، من هذا الكلام مثل:

1-
“إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وأخواته حتى
نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو26: 14)

2-
“فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها وأعداء
الإنسان أهل بيته. من أحب أبا أو أما أكثر منى فلا يستحقني” (مت10: 3535)
وسوف نناقش هذه الأمور عند الحديث عن حدود الخضوع فيما بعد.

 

ثانياً:
سلطة الزوج

وتوضح
كلمة الله مبدأ خضوع الزوجة لزوجها كسلطة مفوضة من الله لقيادتها. وإليك بعض
الآيات الكتابية التي توضح ذلك:

 

1
يقول معلمنا بولس ارسول “أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب لأن الرجل هو
رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة”. (أف22: 523) فهذا نص صريح يوصي
الزوجة بالخضوع لزوجها.

 

2
ويقول أيضا “ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل
شئ”. (أف5: 24) فهو هنا يعطي المثل الواضح لهذا الخضوع فهو يشبه خضوع الكنيسة
عروس المسيح لعريسها.

 

3
“وأما المرأة فلتهب رجلها”. (أف33: 5) {تهب أي تحترم رجلها}.

 

4
ويقول أيضا “أيتها النساء اخضعن لرجالكن كما يليق في الرب”. (كو18: 3)
يضيف هنا أن الرجل يمثل في سلطته الرب نفسه، فيقول للزوجة أن تخضع له كما يليق
بالخضوع للرب.

 

5
ويضيف معلمنا بولس الرسول قائلا “كذلكن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى
إن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحون بسيرة النساء بدون كلمة”. (1بط1: 3)
موضحا أنه حتى لو كان الزوج لا يطيع كلمة الرب فهذا ليس مبررا لها لعدم خضوعها له.

 

6
ويقول معلمنا بطرس الرسول “فإنه هكذا كانت قديما النساء القديسات أيضا
المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعات لرجالهن”. (1بط5: 3) موضحا أن
تواضع المرأة في خضوعها هو الزينة الرائعة التي تحلي صورتها.

 

 من
هذا يتضح ترتيب الله الحكيم بخصوص السلطة، أن تخضع الزوجة لسلطة الرجل. وليس هذا
معناه أن الرجل أفضل من المرأة أو أعظم منها. كلا فالرب يقول “غير أن الرجل
ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب” (1كو11: 11)

 

 الواقع
أن السلطة في المسيحية مبنية على المحبة، فإن توفرت المحبة خضعت المرأة بلا مرارة
للرجل، وتعامل الرجل بتواضع مع امرأته.

 

ثالثا:
سلطة الدولة

من
السلطات التي فوضها الرب في العالم سلطة الدولة، رغم أن الدولة التي كانت لها
السيادة في زمان كتابة العهد الجديد كانت الدولة الرومانية، وهى دولة وثنية، فلم
يكن ذلك مبرراً للدعوى إلى التمرد عليها، بل على العكس أمر الله بالخضوع لسلطتها،
كما يتضح من الآيات الآتية وغيرها.

1-
قال معلمنا بولس الرسول “لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأن ليس سلطان إلا من
الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب
الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة.
بل للشريرة. أفتريد أن تخاف السلطان افعل الصلاح فيكون لك مدح منه لأنه خادم الله
للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثا وإذ هو خادم الله منتقم
للغضب من الذي يفعل الشر. لذلك يلزم أن يخضع له. ليس بسبب الغضب فقط بل أيضا بسبب
الضمير. فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه.
فأعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن
له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام”. (رو1: 137)

 

 الواقع
أن هذه المقطوعة التي كتبها بولس الرسول هي دستور المسيحي المؤمن الروحاني للتعامل
مع السلطة.

 

2-
وقد قال أيضا معلمنا بطرس الرسول “فاخضعوا لكل ترتيب بشرى من أجل الرب إن كان
للملك فكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح
لفاعلي الخير”. (1بط13: 214)

 

3-
وقال أيضا “اكرموا الجميع. احبوا الاخوة. خافوا الله. اكرموا الملك”.
(1بط17: 2)

 

4-
وسليمان الحكيم قال “لا تسب الملك ولا في فكرك”. (جا20: 10)

 هذا
بخصوص السلطة المفوضة من الله للحكام وضرورة الخضوع لهم. أما بخصوص الأسئلة التي
قد تنشأ عن حدود الخضوع فسوف يأتي الحديث عنها فيما بعد.

 

رابعاً:
سلطة السادة وأصحاب العمل

إن وصايا الكتاب بخصوص سلطة أصحاب العمل
والرؤساء تتمثل في الوصايا التي وجهت إلى العبيد المؤمنين بخصوص الخضوع لسلطة
سادتهم سواء كان هؤلاء السادة مؤمنين أم غير مؤمنين.

 وهذه
بعض تلك الوصايا:

 

1-     قال
معلمنا بولس الرسول “أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد لا بخدمة
العين كمن يرضى الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب. وكل ما فعلتم فافعلوا من القلب
لأنكم تخدمون الرب المسيح”. (كو22: 324)

 

2-
وقال أيضا “أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم
كما للمسيح. لا بخدمة العين كمن يرضى الناس بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من
القلب خادمين بنية صالحة كما للرب. ليس للناس. عالمين أن مهما عمل كل واحد من
الخير فذلك يناله من الرب عبداً كان أم حراً”. (أف5: 68)

 

3-
وقال أيضا “جميع الذين هم عبيد تحت نير فليحسبوا سادتهم مستحقين كل إكرام
لئلا يفترى على اسم الله وتعليمه. والذين لهم سادة مؤمنون لا يستهينون بهم لأنهم
أخوة بل ليخدموهم أكثر لأن الذين يتشاركون في الفائدة هم مؤمنون ومحبوبون”.
(1تى1: 63)

 

4-
وكذلك معلمنا بطرس قال “أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس
للصالحين المترفقين فقط بل للعنفاء أيضا لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو
الله يحتمل أحزانا متألماً بالظلم. لأنه أي مجد هو إن كنتم تلطمون مخطئين فتصبرون
بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله. لأنكم لهذا دعيتم.
فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته. الذي لم يفعل
خطية ولا وجد في فمه مكر. الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً. وإذ تألم لم يكن يهدد بل
كان يسلم لمن يقضى بعدل”. (1بط18: 223)

 

5-
“كذلك عظ.. العبيد أن يخضعوا لسادتهم ويرضوهم في كل شئ غير مناقضين. غير
مختلسين. بل مقدمين كل أمانة صالحة لكي يزينوا تعليم مخلصنا الله في كل شئ”.
(تى6: 210)

 

 وما
يقال للعبيد بخصوص الخضوع لسادتهم ينطبق تماما على الموظفين وخضوعهم لرؤسائهم في
العمل حتى ولو بلغ ظلمهم حد الاستعباد.

 

 ويبقى
أيضا مناقشة موضوع: إلى أي مدى يمكن الخضوع لهؤلاء السادة؟ وهذا ما سوف نناقشه كما
سبق أن قلت في باب حدود الخضوع للسلطة.

 

خامساً:
سلطة الكنيسة

الكنيسة
كوحدة تجمُّع للمؤمنين لا يعقل أن تكون بلا سلطة تعلن مشيئة الله لشعبها. فإن كان
البيت المكون من زوج وزوجة كأصغر وحدة تجمُّع أعطى الله فيها السلطة للزوج وأمر
الزوجة بالخضوع له. وكذلك بالنسبة للأسرة المكونة من والدين وأبناء كوحدة أكبر
أعطى الله فيها السلطة للوالدين وأمر الأبناء بالخضوع لهما. وهكذا الحال بالنسبة
لوحدة العمل ووحدة الدولة الأكبر، فكم بالحري للوحدة التي تجمع المؤمنين معاً أي
الكنيسة، لذلك نرى أن الله يفوض السلطة لأناس معينين فيها ويأمر بقية الأعضاء
بالخضوع لهم.

 

وهذه
بعض الآيات توضح تفويض السلطة للكنيسة على المؤمنين:

1-     قال
السيد المسيح “كأنما إنسان مسافر ترك بيته وأعطي عبيده السلطان ولكل
واحد عمله..” (مر34: 13) نلاحظ أن هذه المبادئ التي وضعها السيد
المسيح للسلطة قد صارت في القرن العشرين هي أساس علم الإدارة. فهنا نرى تحديد
المسئولين (عبيده) وتفويض السلطة (أعطاهم السلطان). ثم توصيف العمل
Job description (ولكل واحد عمله).

2-
ومعلمنا بولس الرسول يقول أيضا “أكتب بهذا وأنا غائب لكي لا أستعمل جزماً
وأنا حاضر حسب السلطان الذي أعطاني إياه الرب للبنيان لا للهدم) (2كو2: 1310)
ويلاحظ أنه بالرغم من أنه يقول أن السلطة المعطاه له هي للبنيان لا للهدم، نراه
يقول “إذا جئت أيضاً لا أشفق”. مما يؤكد أنه سلطان مفوض لإحكام الانضباط
في كنيسة الله.

وهذا
تؤيده الآيات الآتية التي كثيراً ما أسئ فهمها وقامت ضدها محاولات لتنحيتها عن أن
تكون تفويضاً بالسلطة لأناس معينين في الكنيسة، وليس هنا المجال للرد على تلك
الاعتراضات. واليك الآيات التي تشهد بتفويض السلطة.

3-
“فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ
وقال اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه
أمسكت”. (يو21: 2023)
هنا تفويض السلطة بالحل والربط.

4-
وقال أيضا “.. وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة وإن لم يسمع للكنيسة فليكن
عندك كالوثني والعشار
. الحق أقول لكم كل ما تربطونه علي الأرض يكون مربوطاً
في السماء وكل ما تحلونه علي الأرض يكون محلولاً في السماء
” (مت17: 1818)
في هذا تأكيد للتفويض.

5-
وذات الشيء الذي أعطاه لقادة الكنيسة عامة، أعطاه أيضا لكل فرد من هؤلاء القادة
بالتخصيص إذ قال “وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني
كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات فكل ما تربطه
علي الأرض يكون مربوطاً في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في
السموات”
(مت19: 16)

6-
ومعلمنا بطرس الرسول يقول ” أطلب إلي الشيوخ الذين بينكم أنا الشيخ رفيقهم
والشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يعلن. ارعوا رعية الله التي بينكم نظاراً
لاعن اضطرار بل بالاختيار” (بط1: 52) وواضح هنا تفويض السلطة للرعاة أن
يكونوا نظاراً.

 

7-
وفي سفر أعمال الرسل يسجل قرار أول مجمع لهم “وإذ كانوا يجتازون في المدن
كانوا يسلمونهم القضايا التي حكم بها الرسل والمشايخ الذين في أورشليم ليحفظونها)
(أع4: 16)

 ويتضح
من هذا أن السلطة الكنسية مفوَّضة لتصدر أحكاماً فيلتزم بها المؤمنون.

 هذه
بعض الآيات التي توضح تفويض السلطة لأناس في الكنيسة يستخدمها الله لتحقيق أهدافه.
وإليك آيات أخرى توضح وجوب الخضوع لهذه السلطة:

1-
يقول معلمنا بولس الرسول ” أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل
نفوسكم كأنهم سوف يعطون حساباً لكي يفعلوا ذلك لا آنيين لأن هذا غير نافع
لكم” (عب17: 13) واضح بكل جلاء حتمية الخضوع لسلطة المرشدين الروحيين.

2-
ويقول أيضا معلمنا بولس الرسول “ثم نسألكم أيها الاخوة أن تعرفوا الذين
يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم وأن تعتبروهم كثيراً جداً في
المحبة من أجل عملهم” (1تس5: 1213).

فالأمر
بالطاعة والخضوع واضح جداً من خلال هذه الآيات مع توضيح الدافع لهذا الخضوع وهو
المحبة، وأسلوب الخضوع وهو الاحترام (أن تعتبروهم كثيراً جداً).

 

الفصل
الثالث

حتمية
الخضوع

لماذا
يتحتم على المؤمن أن يمارس الخضوع للسلطات البشرية؟

الواقع
أنه يجب على المؤمن أن يخضع للسلطة لعدة أمور جوهرية منها:

1-الخضوع
للسلطة البشرية وصية إلهية واجبة التنفيذ:

 سبق
أن ذكرت بعض الآيات التي توضح ذلك وأذكر منها:

 أ يقول معلمنا بولس الرسول “لتخضع كل نفس للسلاطين
الفائقة لأن ليس سلطان إلا من الله” (رو1: 13). في قوله (لتخضع) أمر واجب
التنفيذ.

 

ب– ومعلمنا بطرس
الرسول يقول “فاخضعوا لكل ترتيب بشرى من اجل الرب” (1بط13: 2)

 

 فطالما
أن الخضوع هو أمر إلهي فليس على المؤمن إلا أن يطيع وينفذ ذلك، أي أنه لا يوجد
خيار، فإما الطاعة، وإما كسر الوصية.

 

2-السلطات
البشرية هي من ترتيب الله شخصياً:

 نعم
كل السلطات البشرية هي من ترتيب الله إذ يقول الكتاب “والسلاطين الكائنة هي
مرتبة من الله” (رو1: 13).

 بل
يقول بأسلوب في منتهى الحزم والتشدد “ليس سلطان إلا من الله” (رو1: 13)

 

 وبهذا
يكون واضحاً أمام كل إنسان أن كل شخص في سلطة قد وضعه الله بنفسه. من أجل ذلك
يتحتم على المؤمن الخضوع لكل سلطة بشرية وإلا سيكون مقاوماً لترتيب الله كما أكد
معلمنا بولس الرسول قائلا: “حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله. (رو13:
2).

 

3-
الخضوع لهذه السلطات هو خضوع لله نفسه:

 الواقع
أن الله هو صاحب السلطان المطلق كما يقول الكتاب “سلطانه سلطان أبدي ما لن
يزول” (دا14: 7) ولكنه حمَّل أشخاصاً معينين مسئوليات متنوعة لتنفيذ خطته
وتحقيق أهدافه، وفوض لهم سلطات تكفل سير العمل بحسب فكره الإلهي. وهذا ما قصده
الرب يسوع في مثله القائل “كأنما إنسان مسافر ترك بيته وأعطى عبيده
السلطان ولكل واحد عمله
.) (مر34: 13)

 ولهذا
قال بولس الرسول “فإنى وإن افتخرت شيئاً أكثر بسلطاننا الذي أعطانا
إياه الرب لبنيانكم لا لهدمكم لا أخجل”. (2كو8: 10)

 إذن
فطالما أن الله هو الذي أعطى التفويض بهذه السلطات فهي من سلطانه هو وهي تعبر عنه
شخصيا، لذلك فالخضوع لهذه السلطات المفوضة خضوع للسلطة الأساسية المطلقة أي خضوع
لله نفسه.

 

4-الخضوع
للسلطات منطلق إيماني امتدحه السيد المسيح:

 عندما
جاء قائد المائة للرب يسوع طالباً شفاء عبده قال للمسيح “أنا أيضا إنسان مرتب
تحت سلطان” (لو8: 7) ومن هذا المنطلق الإيماني بالخضوع للسلطات طلب من الرب
يسوع أن يقول كلمة فيبرأ غلامه. فما كان من السيد المسيح إلا أن شهد له قائلا
“لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا” (لو9: 7).

 فقد
امتدح الرب يسوع المسيح هذا الرجل على إيمانه والبرهان الذي أورده بأنه خاضع لسلطة
عليا ومنها يستمد هو نفسه سلطته فيستطيع أن يأمر فيطاع.

 

5-الخضوع
للسلطات برهان الأيمان الحقيقي:

 المؤمن
الحقيقي هو الذي يثبت في الإيمان إلى النهاية، عاملاً بوصايا الرب متحفظاً من
الخطايا التي تودي إلى الدينونة. إذن فهو يتحفظ من خطية التمرد على السلطات التي
يرتبها الرب وإلا وقع في الدينونة إذ يقول الكتاب “حتى أن من يقاوم السلطان
يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة” (رو2: 13).

 

6-الخضوع
للسلطات دليل النضوج الروحي:

 النضوج
الروحي هو موت الإنسان عن ذاته وعن مشيئته وإرادته، ليعيش الرب يسوع المسيح فيه
كقول معلمنا بولس الرسول “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا
في” (غل20: 2).

 

 فتصبح
مشيئة الله هي السائدة على حياته ولسان حاله يقول “لتكن لا إرادتي بل
إرادتك” (لو42: 22).

 

 وحيث
أن الله ينفذ إرادته من خلال السلطات التي فوضها كما يقول الكتاب عن صاحب السلطة
“لأنه خادم الله للصلاح” (رو4: 13) إذن فالخضوع لهذه السلطات هو الخضوع
لمشيئة الله فيهم وهذا يستلزم بالضرورة الموت عن المشيئة الذاتية وهذا هو النضوج
الروحي.

 

7-
الخضوع للسلطات هو أحد طرق معرفة مشيئة الله:

 يقول
الكتاب “اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله” (عب7: 13) ويكمل
الحديث بخصوص المرشدين في نفس الإصحاح قائلا “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم
يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعظون حسابا لكي يفعلوا ذلك بفرح غير أنين لأن هذا
غير نافع لكم” (عب17: 13) فقد أعطى الله المرشدين الروحيين تفويضاً أن
يتكلموا بكلمة الله ساهرين على النفوس مقدرين مسئوليتهم كأنهم سوف يعطون حساباً،
فالخضوع والطاعة لهم تعطى الفرصة للمؤمن أن يتعرف على مشيئة الله.

 

8-
الخضوع للسلطات هو أحد الطرق التي يستخدمها الله لصقل المؤمن:

 فالكتاب
المقدس يقول “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخر إذا وبخك لأن الذي يحبه
الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين.
فأي ابن لا يؤدبه أبوه. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم
نغول (أي أبناء غير شرعيين) لا بنون. ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدبين وكنا
نهابهم أفلا نخضع بالأولى جداً لأبى الأرواح (أي الله) فنحيا، لأن أولئك (أي
آباؤنا) أدبونا أياماً قليلة حسب استحسانهم وأما هذا (أي الله) فلأجل المنفعة لكي
نشترك في قداسته، ولكن كل تأديب في الحاضر لا يرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً
فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام” (عب5: 1210).

 

 فالله
يستخدم سلطة الأبوين لتأديب وتهذيب الأبناء وتربيتهم لهذا نراه يوصيهم بذلك قائلاً
“أدب ابنك لأن فيه رجاء” (أم18: 19) ويقول أيضاً “الجهالة مرتبطة
بقلب الولد. بعصا التأديب تبعدها عنه” (أم15: 22)

 

 وعلى
هذا القياس نري الرب يتعامل مع المؤمنين بتسليط عصا السلاطين لصقلهم فيقول “أنا
أكون له أبا وهو يكون لي إبناً. إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بنى آدم)”
(صم14: 7)

 

 بل
لقد استخدم الله ملوكا وثنيين وفوضهم السلطة لتأديب شعبه وصقلهم والأمثلة عديدة
نقرأ منها عن استخدام الرب لملك الكلدانيين ليقوم بمهمة تأديب بني إسرائيل إذ يقول
الكتاب “فأرسل الرب اله آبائهم إليهم عن يد رسله مبكراً ومرسلاً لأنه شفق على
شعبه وعلى مسكنه فكانوا يهزؤون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه حتى ثار
غضب الرب على شعبه حتى لم يكن شفاء فأصعد عليهم ملك الكلدانين فقتل
مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب بل
دفع الجميع ليده.. وأحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها
بالنار وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة” (2أخ36: 1519)

 

 عجيب
أن يسمح الرب بكل ذلك بالقتل والسبي حتى إحراق بيته!! نعم لأجل تأديب شعبه وصقل
حياتهم. من أجل هذا قال الحكيم “اسمع المشورة واقبل التأديب لكي تكون حكيماً
في آخرتك” (أم20: 19)

 

 هذه
هي بعض الأسباب الجوهرية التي تحتم على المؤمن الخضوع للسلطات البشرية على أنها
مفوضة من الله لتنفيذ خططه وتحقيق مقاصده.

 

من
أقوال الآباء القديسين
عن حتمية الخضوع

(1)
من أقوال القديس غريغوريوس السينائى:

 [من
المستحيل على أي ناسك أن يتعلم بنفسه فن الفضيلة، ولو أن البعض يستخدمون تجربتهم
الخاصة كمعلم. لأن كلا منهم يتصرف وفق ميله بدلاً من اتباع نصيحة هؤلاء الذين
نجحوا، هذا التصرف يؤدى إلى الغرور والاعتزاز بالنفس حيث “لا يقدر الابن أن
يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل لأنه مهما عمل ذاك فهذا يفعله الابن
كذلك” (يو19: 5) والروح القدس “لا يتكلم من نفسه” (يو13: 16) فمن
الذي يستطيع أن يفكر أنه وصل إلى ذروة الفضيلة وليس بحاجة إلى مشير وسط هذه
الأسرار؟ مثل هذا الإنسان في ادعائه يبدوا أنه أكثر حمقاً وأقل صلاحاً. وبناء
على ذلك يجب أن نصغي إلى هؤلاء الذين جربوا بأنفسهم آلام وأعمال الفضيلة النشطة،
ومارسوها تحت إشرافهم
وهى: الصوم الانقطاعى والتقشف، والصلاة المستمرة،
والاتضاع غير المصطنع، وانسحاق القلب الدائم].

(القديس
غريغوريوس السينائى)

 

(2)
من أقوال القديس كاليستوس:

 [كأولاد
النور، وورثة الله وشركاء في ارث المسيح، حسب الوعد الإلهي، يجب أن نتعلم من الله
نفسه (يو45: 6) ويجب أن يكون العهد الجديد منقوشاً في قلوبنا بدرجة تفوق الوصف،
وبحروف اكثر ضياء من اللهب، ويتسلط الروح القدس الحق الكريم علينا.

 

 لكننا
من جهة، منذ طفولتنا ضللنا عن الصلاح وملنا نحو الشر، ومن جهة أخرى تعلمنا من
غواية بليعام الجبار وعداوته غير المائتة أن نبتعد عن حفظ وصايا الله التي تخلص
النفس، حتى تدفع هنا وهناك في تيارات تحطم النفس. وفضلاً عن ذلك مما يدعو إلى الرثاء
والأسى، أنها تغرينا على التفكير والتصرف ضد ذواتنا إذ يقول الكتاب “هل من
فاهم طالب الرب” (مز2: 14) هكذا انحرفنا جميعاً عن طريق الحق وأصبحنا دنسين
شهوانيين مجردين من النعمة ولذلك نحن في أشد الحاجة إلى أن يساعد بعضنا البعض
كي ما يرشد كل منا الآخر نحو الصلاح
].

(كاليستوس)
[نفس المرجع السابق ص 196].

 

الفصل الرابع

دوافع
الخضوع

ما
هي الدوافع الداخلية التي تدفع المؤمن للخضوع؟

هل
يخضع عن إكراه وإجبار؟ أو عن خنوع واستسلام؟

 من
المؤكد أن دوافع الخضوع المقبول أمام الله لا بد وأن تكون دوافع سليمة وليست من
منطلق الانغلاب على الأمر أو الاستسلام المريض.

 وهذه
هي بعض الدوافع التي من منطلقها يكون الخضوع سليماً:

 

1
الثقة في الرب:

 لا
يستطيع أحد أن يمارس الخضوع إلا إذا كانت له ثقة في الرب بأنه ضابط الكل، الإله
القادر على كل شئ
. (رؤ8: 4) فلا شئ في الوجود يحدث ويفرض وجوده على الرب، بل
كل شئ يعلمه الرب ويضبطه لأنه قادر على كل شئ، لذلك يقول أرميا النبي. “من ذا
الذي يقول فيكون والرب لم يأمر” (مراثي أرميا 37: 3)

 

 لا
أحد في الوجود ولا الملوك يخرجون من يد الرب، فقد قال سليمان الحكيم النبي والملك.
“قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله” (أم1: 21)

 وبهذه
الثقة يستطيع المؤمن أن يخضع مطمئنا واثقاً أن الله لابد وأن ينفذ مشيئته بطريقته
الخاصة بدون صراع بشرى كقول حبقوق النبي. “لأن الرؤيا بعد إلي الميعاد وفي
النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانا ولا تتأخر”
(حب3: 2)

 فالثقة
في الرب وفي قدرته وحكمته وسلطانه دافع قوى للخضوع.

 

2
إنكار الذات:

 قال
الرب يسوع المسيح “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم
ويتبعني” (لو23: 9) وبهذا وضح أن أول الخطوات للسير وراء الرب هي إنكار الذات.
وما هو إنكار الذات؟ إنه قطع مشيئة الذات، وإلغاء إرادة النفس، والتنازل عن
الرغبات الشخصية، والتخلي عن الأهواء الخاصة.

 إنكار
الذات هو منطق سليم للخضوع والاستعداد لتنفيذ مشيئة الآخرين.

 

3-الضمير
الصالح:

 عندما
أوصى الكتاب بالخضوع لصاحب السلطة الذي هو “خادم الله المنتقم للغضب من الذي
يفعل الشر” (رو4: 13) قال “لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل
أيضا بسب الضمير” (رو5: 13).

 

 معنى
ذلك أنه ينبغي الخضوع لمن هو في سلطة ليس بدافع الخوف من غضبه بل بدافع مقدس وهو
مراعاة القيم الروحية التي تربى عليها ضميرنا أمام الله، فضميرنا يراعي مبادئ الله
في كل تعاملاتنا مع الآخرين، فمن المبادئ الإلهية ضرورة الخضوع لمن هم في سلطة
لأنهم يمثلون سلطة الله نفسه. إذن فلابد من مراعاة ضميرنا في الخضوع للسلطات
المتنوعة ليس للطفاء فقط بل وللعنفاء أيضا. وهذا ما يؤيده معلمنا بطرس الرسول في
صدر حديثه للخدام عن خضوعهم للسادة العنفاء أيضا أكمل قائلاً “لأن هذا
فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزانا متألماً بالظلم”
(1بط18: 219) فيضيف هنا بطرس الرسول أنه حتى ولو أتت علينا أحزان أو آلام بسبب ظلم
أصحاب السلطان فلابد أن نخضع لهم من أجل ضميرنا أمام الله.

 

 فحرص
المؤمن على أن يكون له ضمير صالح من نحو الله والناس. (أع16: 24) يدفعه على أن
يسلك في طاعة وخضوع للسلطات المقامة من الله.

 

4-
إرضاء الله:

 يوضح
معلمنا بولس الرسول دافعا آخر من دوافع الخضوع للسلطة وهو إرضاء الله في قوله
“أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة مشيئة الله
من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس” (أف5: 67)

 

 ويفسر
هذا الكلام بقوله “أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد لا بخدمة
العين كما يرضى الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب. وكل ما فعلتم فاعملوا من
القلب كما للرب ليس للناس. (كو22: 323)

 

 فالإنسان
الخاضع مدفوع بدافع من القلب لإرضاء الرب بعمل مشيئته، ليس لمجرد إرضاء الناس أو
الخوف منهم.

 

5-
المحبة:

 وهي
من أسمى دوافع الخضوع، ولقد وضع معلمنا بولس الرسول هذا الدافع بقوله “ثم
نسألكم أيها الاخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم وأن
تعتبروهم كثيراً جداً في المحبة من اجل عملهم. سالموا بعضكم
بعضاً”(1تس12: 513).

 وبولس
الرسول في قوله “الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم” يقصد
أصحاب السلطة في الكنيسة. فيوصى باحترامهم واحترام سلطتهم إذ يقول: “من اجل
عملهم” ويوضح الدافع قائلا: “في المحبة” فهي أقوى رباط وأقدس دافع.

 

من
أقوال الآباء القديسين
عن دوافع الخضوع

1
يقول القديس سمعان اللاهوتي: [إذا أمرك أبوك الروحي أن تريح جسدك
قليلاً (من الصوم) أطعه، ناكراً إرادتك الشخصية. وإذا راعيت هذا فسوف تظل
دائماً في كل شئ كراهب يصوم ويزهد وينكر إرادته كلية. فضلاً عن ذلك سوف تحتفظ
بالنار المتأججة داخل قلبك، التي تدفعك إلي احتقار كل شئ].

(كتابات
من الفيلوكاليا عن صلاة القلب ص112).

 

 2
وأيضا يقول القديس سمعان اللاهوتي: [أي إنسان يكتسب إيمانا فعالاً في أبيه
الروحي عندما يراه يظن أنه يرى المسيح نفسه. ولكونه في حضرته أو في تبعيته، فانه
يؤمن إيمانا راسخا أنه مع المسيح ويتبع المسيح. مثل هذا الإنسان لن يرغب مطلقاً في
أن يتحدث مع أي إنسان آخر، ولن يفضل الأمور الدنيوية علي محبة الله وذكر اسمه. تري
أي شخص أفضل واكثر نفعاً في الحياة الحاضرة والمستقبلية من أن يكون مع المسيح؟ وأي
شئ أحلي وأجمل من التأمل فيه؟ وإذا منح الإنسان أن يتحدث معه، حينئذ لابد أن يصف
الحياة الأبدية من هناك].      

(كتابات
من الفيلوكاليا عن صلاة القلب ص114)

 3
وأيضا للقديس سمعان اللاهوتي [هؤلاء الذين مع الخوف والرعدة وضعوا الأساس
السليم للإيمان والرجاء في ساحة البر، والذين ثبتوا أقدامهم علي صخرة الطاعة
لآبائهم الروحانيين
، يصغون إلي تعليمهم كما لو كانت صادرة من شفتي الرب. وعلي
أساس هذه الطاعة الثابتة غير المترددة يمارسون ما يتعلمونه في اتضاع، يصلون
بسرعة إلي النجاح. وأول عمل عظيم يقومون به في أنفسهم هو إنكار ذواتهم، لأن إطاعة
مشيئة الغير بدلاً من مشيئتهم لا تقوِّم فقط إنكارهم أنفسهم، بل تجعل العالم كله
ميتا بالنسبة لهم.

(كتابات
من الفيلوكاليا عن الصلاة القلب ص121)

 

 

الفصل
الخامس

أسلوب
الخضوع

(كيف
أخضع)

الخضوع
هو موقف إرادي واتجاه روحي، أعنى أنه قبول إرادي واقتناع شخصي من منطلق إيماني بأن
يكون الخضوع أسلوب حياة ممتدة على طول الطريق الروحي.

 

 والترجمة
العملية للخضوع التي تخرجه إلى حيز التنفيذ هي الطاعة. فالكتاب يقول عن خضوع أمنا
سارة لزوجها إبراهيم “كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها” (1بط6: 3)
وارتباط الطاعة بالخضوع واضح من قول معلمنا بولس الرسول “أطيعوا مرشديكم
واخضعوا” (عب17: 13)

 

 والواقع
أن الخضوع والطاعة أمران في منتهى السهولة على المؤمن إذا كان ما طُلب منه أمرا
يتفق مع أفكاره واقتناعاتة، ولكن المشكلة الكبرى تنشأ عندما يُطلب منه أمر يتعارض
مع أفكاره واقتناعاته!!

 فماذا
يفعل بازاء هذه المشكلة؟ هل يرفض الخضوع متمسكا بطاعة الله أكثر من الناس؟ نعم
ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس. ولكن هل هو متأكد تماما أن هذه هي مشيئة الله؟
أم أنه مندفع وراء إقتناعاته الشخصية وآرائه الخاصة؟ وهل رفض الخضوع يكون الخطوة
الأولى والأخيرة والحل الأوحد للمشكلة؟ أم يجب أن يسبقها خطوات حكيمة تعكس سمات
المسيح، وترشد إلى معرفة مشيئة الله؟

إليك
بعض الخطوات المقترحة:

 

 أولا:
تنقية الضمير:

 إن
التعامل مع السلطات ينبغي أن يكون من ضمير صالح بلا عثرة نحو الله والناس كما سبق
شرحه (رو5: 13)، (بط19: 18)، (أع16: 24) ولذلك ينبغي على المؤمن أن يفحص ضميره من
جهة محبته لمن هو في السلطة، ومن جهة إنكاره لذاته، ومن جهة الأمانة في التعامل
معه، ومن جهة طهارة ضميره، حتى يستطيع أن يرى مشيئة الله بوضوح بلا عائق أو شائبة
في الضمير.

وإليك
بعض الأسئلة التي تساعدك على فحص ضميرك من جهة نيتك الداخلية في الخضوع من عدمه:

 

1
المحبة:

أ
– هل أنت تحب الشخص الذي في السلطة من قلب طاهر بشدة؟

ب-
أم تحمل له بغضة وضغينة؟

ج-
هل يوجد في قلبك شئ من المرارة نحوه؟

د-
هل أدنته أو انتقدته أو شهرت به؟

ه-
هل مسكت سيرته وأبرزت عيوبه؟

و-
هل تظن السوء في نواياه وتصرفاته؟

ز-
هل احتملته حتى عندما أهانك؟

ع-
هل قمت بأعمال محبة له تعكس ما في قلبك من حب نحوه؟

ط-
هل تحبه فقط عندما تشعر أنه يحبك وعندما لا ترى محبته أو يلحقك منه ما لا يرضيك
تقلب له ظهر المجن، ويهبط ترمومتر محبتك له؟

 

2
إنكار الذات:

أ-
هل أنت متمركز حول ذاتك وتريد أن تظهرها وترى في وجود السلطة تحديداً لانطلاقك؟

ب-
هل تميل إلى الانعزالية والاستقلالية والانفرادية؟

ج-
هل لك تطلعات دفينه لأن تكون صاحب سلطة وسيادة؟

د-
هل تفكر في أعماقك أنك مساو لمن في السلطة ولسان حالك يقول مع مريم وهرون “هل
كلم الرب موسى وحده ألم يكلمنا نحن أيضا” (عدد12: 2) ويقول مع قورح ودوثان
وأبيرام “كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب. فما بالكما
ترتفعان على جماعة الرب” (عدد1: 163)؟

ه-
هل تتنافس معه وتريد أن تكون متقدماً عليه؟

و-
هل تظن إنه غير جدير بالسلطة وأنك أحق منه بها وتتحين الفرص لتأخذ موضعه؟ وإذا
تعذر ذلك تفكر في الانعزال لتحقيق أهدافك؟

ز-
هل دافع عدم خضوعك هو انك تريد أن الجميع يسيرون بحسب رأيك؟ وأن من هو في السلطة لا
يأخذ بوجهة نظرك؟

ع-
هل أنت تعارض لأنك لا تريد أن تكون مهزوماً؟

ط-
هل أنت مستعد أن تتخلى عن رأيك ولو كنت مقتنعاً أنه صواب، تاركا الأمر للرب،
والقرار الأخير لصاحب السلطة؟

 

3-
الأمانة:

أ-
هل أنت أمين في علاقتك بمن هو في السلطة؟

ب-
هل تقوم بكل واجباتك نحوه، وتوفي له كل حقوقه؟

ج-
هل تتحدث معه بإخلاص وصدق؟

د-
هل أنت غامض ومغلق معه، وتخفي عنه أموراً، ولا تظهر له إلا ما تري أنه يمكن أن
يعرفه من آخرين، أما أسرارك فقد أغلقت عليها دونه؟

ه-
هل تقبل آراءه علي مضض؟ وأنت رافضها داخل قلبك؟ ولكن تظهر له أنك قابلها، ثم تخرج
مصراً علي آرائك وتتصرف من منطلقها ضارباً عرض الحائط بآرائه؟

و-
هل طلب منك أشياء وتصرفت بعدم أمانة معه بخصوصها؟

ز-
هل سلبته حقاً من حقوقه المادية أو الأدبية؟

 

4-
الطهارة:

 قد
يخيل إلينا أنه لا علاقة للطهارة بالخضوع. ولكن الواقع أن النجاسة وعدم الطهارة
تطمس رؤى القلب، فقد قال الرب يسوع المسيح “طوبى للأنقياء القلب لأنهم
يعاينون الله” (مت8: 5)، وقال أيضاً معلمنا بولس الرسول “القداسة التي
بدونها لن يري أحد الرب” (عب12: 14) فعند ما يكون القلب طاهراً يستطيع
الإنسان أن يدرك مشيئة الرب، وإن كان نجساً أصر الإنسان علي مشيئة نفسه لأنه لا
يستطيع أن يري الرب أو يدرك مشيئتة. لذلك يلزم فحص النفس من جهة الطهارة.

وإليك
بعض الأسئلة للفحص:

أ-
هل هناك خطية تراعيها في داخل قلبك وتخفيها عن الآخرين؟

ب-
هل لهذه الخطية تأثير علي تفكيرك وآرائك ومواقفك واتجاهاتك وقراراتك؟

ج-
هل تفصل هذه الخطية بينك وبين إلهك وتحجب وجهه عنك فتؤثرعلى علاقتك بالرب وصلواتك
وسلامك؟

د
هل أنت تضحي بكل
شئ من أجل الحفاظ علي هذه الخطية؟

ه-
هل تخشى من السلطة أن تتدخل في حياتك بخصوص هذه الخطية؟

 

 يقول
سليمان الحكيم: “من أحب طهارة القلب فلنعمة شفتيه يكون الملك صديقة”
(أم22: 11). فإن فحص الضمير وتنقيته بكل إخلاص وجرأة من جهة المحبة وإنكار الذات
والأمانة والطهارة، هو الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتبعها في سبيل التعرف علي
مشيئة الله من جهة الخضوع للسلطة من عدمه.

 

ثانياً
تصحيح المواقف:

 بعد
اكتشاف مواطن الخطأ الداخلي نتيجة لتنقية الضمير، تبدأ عملية تصحيح المواقف
الخاطئة التي ترتبت علي ذلك وأعثرت الآخرين وشوهت صورة المسيح التي كان يجب أن
يراها فيك.

 

 وهذه
بعض التصرفات العملية لتصحيح المواقف:

1-
اذهب واعترف بكل أخطائك بصراحة التي أخطأت بها في حق صاحب السلطة (بلا تبريرات أو
التماس الأعذار) حتى لا يشار إليك بأصابع الاتهام أنك لم تعتذر عن خطأ نحوه.

2-
اطلب منه أن يساعدك علي معرفة أخطائك التي يراها هو ولا تراها أنت حتى تستطيع أن
تعتذر عنها وأن تصححها.

3-
نفذ التعليمات التي كانت قد صدرت إليك ورفضت تنفيذها.

4-
ارجع الحقوق المسلوبة سواء كانت مسلوبات مادية أو أدبية.

5-
اظهر استعدادك للخضوع والطاعة والتنازل عن مشيئتك الخاصة.

 

هذه
هي الخطوة الثانية التي يجب التصرف علي ضوئها حتى يستطيع صاحب السلطة أن يلمس من
خلالها أمانتك وسلامة ضميرك.

 

 وإذا
أتممت هذه الخطوة ستساعدك علي معرفة مشيئة الله بعد ذلك من جهة الخضوع للسلطة من
عدمه.

 

 وبدون
إتمام هذه الخطوة لا تستطيع أن تتقدم إلى الخطوات التالية لأنها تحتاج إلي شفافية
من الطرفين، ولا يمكن أن توجد الشفافية إلا في جو من الثقة، ولن تتوفر الثقة ما لم
يتم تصحيح المواقف. بعدها نخطو إلى الخطوة الثالثة:

 

ثالثاً:
الانفتاح لفهم مقاصده:

 إن
عدم الخضوع ينشأ أحيانا من عدم فهم مقاصد من هو في السلطة، أو إساءة فهمه. لذلك
يتحتم أن ينفتح الإنسان بأمانة وإخلاص ورغبة صادقة لفهم مقاصده ونواياه ودوافعه
وأسلوب تفكيره. وهذه بعض الإرشادات التي تساعدك علي ذلك:

 

1-         
استفسر منه عن أهدافه ورغباته وخططه حتى تكون
لنفسك اقتناعات قوية بها.

2-         
حاول أن تفهم طريقة تفكيره وأسلوب معالجتة
للأمور.

3-         
حاول أن تتفهم الظروف المحيطة به والملابسات
المختلفة.

4-         
حاول أن تتفهم الإمكانيات المتاحة لتتصرف في
حدودها.

5-         
حاول أن تكون حساساً لمتطلباته.

6-         
لا تكن عبئاً عليه فدورك معه هو أن تعين لا أن
تعوق.

7-         
حاول أن تتعرف علي مشيئة الله وهدفه من خلال ما
يفكر فيه.

 

 فإن
الفهم الجيد لمن هو في السلطة يساعد علي معرفة مشيئة الله بخصوص الخضوع له، حتى لا
يشتكى عليك ضميرك في ما بعد بأنك تصرفت في رعونة وتمرد دون أن تفهم جيداً مقاصده.

 

 هذه
هي الخطوة الثالثة التي تفسح الطريق للخطوة الرابعة.

 

رابعاً:
شرح رؤيتك واقتناعاتك:

 بعد
أن تفهم جيداً أفكار وأهداف وخطط صاحب السلطة، تستطيع في هدوء واتضاع ومحبة وبروح
التلميذ والعبد، أن تشرح اقتناعاتك ووجهات نظرك بدون انفعال أو تحدٍ ودون أن تنتقد
أفكاره أو تقلل من شأنها.

1-
اعرض أفكارك علي أنها وجهات نظر لا علي أنها قرارات واجبة التنفيذ.

2-
اظهر استعدادك لأن تغير اقتناعاتك إن كانت خاطئة أو مبنية علي فهم خاطئ للكتاب.

3-
لا تتشبث برأيك لمجرد العناد والخوف من الهزيمة بل كن مخلصاً مع نفسك ومع الله.

4-
لا تظهر امتعاضاً وضيقاً إذا لم يؤخذ بوجهة نظرك.

 

 هذه
هي الخطوة الرابعة، وقد لا تكون نتائجها طيبة بل قد تكتشف أن هناك هوة بين رأيه
ورأيك، إذن فالأمر يحتاج إلي أن نتقدم إلى الخطوة الخامسة:

 

خامساً:
الأرضية المشتركة والبدائل المقبولة:

 الإنسان
الذي يسلك بحسب متطلبات الضمير الصالح الذي بلا عثرة، والذي يريد أن يعرف مشيئة
الله بكل إخلاص، لا ينسف الجسور والكباري في التفاهم، ولا يسرع إلي نهاية الطريق
حيث لا عودة، بل يحاول أن يبحث عن أرضية مشتركة وبدائل مقبولة.

 

إليك
بعض الاقتراحات للبحث عن أرضية مشتركة:

1
عليك أن تبحث عن نقاط الاتفاق بين رأيك ورأى صاحب السلطة، وتؤكد له اقتناعاتك بها
فإن هذا يساعد علي تقارب وجهات النظر.

2
وأن لا تتكلم بروح المجادلة والمناقشات الغبية التي تولد الخصومات.

3
وأن لا تتكلم بروح المعلم ظنا منك أنك تقود صاحب السلطة للرأي الصحيح.

4
ابحث عن بدائل للألفاظ والتعبيرات التي قد تضايقه.

5-
ابحث عن بدائل للأساليب التي تحقق أهدافه ولا تتعارض مع اقتناعاتك مثلما فعل
دانيال مع رئيس الخصيان، فقد رفض دانيال أن يأكل من أطايب الملك ولكنه حاول أن
يفهم مقاصد رئيس الخصيان واقترح بديلاً لهذه الأطايب وهو البقول (القطاني) الذي
يحقق نفس الهدف وهو الصحة الموفورة. (دانيال8: 1-16).

6-
اترك له القرار الأخير فهو من حق السلطة وحدها، وحاول أن تفهم إرادة الرب من خلال
هذا القرار.

 

 هذه
هي الخطوة الخامسة وربما أيضاً تبوء بالفشل فماذا يكون التصرف؟

 إن
التصرف الحكيم هو أن تخطو إلى الخطوة السادسة.

 

سادساً:
انتظار الرب:

 ما
أقوى تعبيرات أرميا النبي بخصوص هذه الخطوة لاكتشاف مشيئة الرب إذ يقول:

 

“جيد
أن ينتظر الإنسان ويتوقع بسكوت خلاص الرب.. يجلس وحده ويسكت.. يجعل في التراب فمه
لعله يوجد رجاء. يشبع عاراً لأن السيد لا يرفض إلى الأبد فإنه لو أحزن يرحم حسب
كثرة مراحمه. لأنه لا يذلّ من قلبه ولا يحزن بنى الإنسان. أن يدوس أحد تحت رجليه
كل أسرى الأرض (ظلماً) أن يحرق حق الرجل (ظلماً) أمام وجه العلي. أن يغلب الإنسان
في دعوى (ظلماً) (فهل) السيد لا يرى؟ من ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر‍؟
من فم العلي ألا تخرج الشرور (المصائب) والخير؟‍ (مراثى26: 338).

 

ماذا
يريد أرميا النبي أن يوضح؟

إنه
يريد أن يقول: على المؤمن أن ينتظر إعلان الرب عن مشيئته التي لابد أن تسري دون
عائق يعوقها..

إذن
أعطى فرصة للرب لإعلان مشيئته، وذلك بإتباع الخطوات التالية:

1-
كن في روح الصلاة والتسليم للرب.

2-
اصبر في سكوت وتوقع خلاص الرب.

3-
توقع أن يغير الرب فكرك أنت، أو فكره هو، أو الظروف والملابسات.

4-
توقع أن يكون رد الفعل لخضوعك مزيداً من الضغوط والقيود عليك، فاجعل فمك في التراب،
وأعط خدك للضرب، وتأكد أن الله يستخدم كل ذلك لخيرك “ونحن نعلم أن كل الأشياء
تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده” (رو28: 8).

5-
لتكن ردود فعلك صحيحة حتى لا تكون سبب عثرة، وحتى يستخدمها الله في

 تغيير
المواقف.

6-
انتظر الرب ليتشدد وليتشجع قلبك وأنتظر الرب. (مز14: 27) واحذر من قول

 المرنم
“أسرعوا فنسوا أعماله.ولم ينتظروا مشورته” (مز1: 613)

 

 هذه
هي الخطوات الستة في حياة الخضوع حتى يكتشف المؤمن مشيئة الله من خلال ضمير شفاف
لا يجد الرب فيه عائقاً لإعلان إرادته من خلاله،كما أن هذه الخطوات الستة تحمى
المؤمن من اختلال موازين أحكامه بسبب سوء سلوكه وحماقته وانفعالاته وتهوره فلا
يتعرف علي مشيئة الله من جهة خضوعه للسلطات من عدمه.

 

 ولكن
إذا ما انتهت هذه الخطوات كلها إلى لاشيء، وظلت السلطة مصرَّةً على مطالبها
المضادة لوصايا الرب فنكون قد وصلنا إلى نهاية حدود الخضوع، الأمر الذي سنناقشه في
الفصل التالي.

 

الفصل السادس

حدود
الخضوع

هناك
عدة أسئلة جوهرية تفرض نفسها على الضمير الروحي وهي:

1-
إلى أي مدى يلزم الخضوع للسلطات؟

2-
لو أصدرت السلطات أوامر ضد وصايا الرب هل تنفذها؟

ماذا
عن الآية القائلة (ينبغي أن يطاع الله اكثر من الناس) (أع29: 5)؟

 

 هذه
الأسئلة وغيرها تأتى بنا إلى مناقشة جانب جوهري من جوانب الخضوع وهو (حدود الخضوع)
أي إلى أي حد يمكن للمؤمن أن يخضع للسلطة، ومتى يكون في حل من هذا الالتزام.

 

 الحقيقة
أن المؤمن مطالب بالخضوع للسلطات في كل شئ إذ يقول الكتاب المقدس للأبناء

“أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شئ..”(كو20: 3)

ويقول
للنساء
“كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شئ
(أف24: 5)

ويقول
للعبيد “أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد”
(كو22: 3) ويقول للمواطنين بخصوص سلطة الدولة “فاخضعوا لكل ترتيب
بشرى..
” (1بط13: 2)

وبالنسبة
لسلطان الكنيسة قال “الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض
يكون مربوطاً في السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في
السماء” (مت18: 18).

 

 فالمؤمن
مطالب بالخضوع في كل شئ على اعتبار أن هذه السلطات مقامة من الله كما قال معلمنا
بولس الرسول “لأن ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من
الله” (رو1: 13).

 

 ولكن
إذا ما أصدرت السلطات أمراً ضد وصايا الرب كأن يأمر أب ابنه بالسرقة، أو ابنته
بالزنا، أو أن يأمر الملك المؤمنين بالسجود للأصنام أو التبخير للأوثان ففي هذه
الحالة ينبغي أن يتبع المؤمن الخطوات الست السالفة بكل أمانة ومحبة وضمير صالح،
ومتى لم تفلح هذه الخطوات نكون قد وصلنا إلى نهاية حدود الخضوع للسلطة، وعندئذ
يتحتم على المؤمن أن يطيع الله أكثر من الناس (أع29: 5)

 وهذا
ما أكده القديس أنطونيوس الكبير بقوله [إن أُمرت بشيء يوافق مشيئة الله
فاحفظه (أي نفذه)، وإن أُمرت بما يخالف الوصايا فقل إن الطاعة لله أولى من الطاعة
للناس] (بستان الرهبان ص179)

والأمثلة
على ذلك عديدة منها:

1-
الثلاثة فتية القديسون: فقد رفضوا الخضوع لأوامر الملك بالسجود لتمثال الذهب
الذي نصبه. (دا1: 330)

2-
دانيال: رفض الأمر الملكي رغم المحبة الشديدة التي تربطه بالملك وصلى إلى
إلهه وكواه مفتوحة فطرح في جب الأسود. (دا1: 624)

3-
نابوت اليزرعيلى: رفض طلب الملك بالتخلي عن ميراث آبائه فرجم.

 (1مل1:
2116)

4-
يوسف الطاهر: رفض طلب سيدته امرأة فوطيفار فطرح في السجن. (تك7: 2920)

5-
التلاميذ القديسون: رفضوا أمر رئيس الكهنة بعدم الكرازة بالسيد المسيح
فسجنوا وجلدوا (أع17: 540).

 

 ولكن
على المؤمن في هذه الحالة أن يكمل الخطوات الست السالفة باتخاذ هذه الخطوة السابعة
ولكن في التزام كامل بروح المسيح من جهة رفض أوامر السلطة، مراعيا نقاوة الدافع
وقداسة الهدف وروحانية الأسلوب، قابلاً حمل الصليب.

 

أولاً:
نقاوة الدافع:

1-
لا يكون الرفض بدافع العناد والتشبث بالرأي، بل من منطلق الأمانة للرب.

2-
ولا يكون بدافع حب الذات والتعالي على الآخرين.

 

ثانياً:
قداسة الهدف:

1-
لا يكون الهدف هو السعي إلى الشهرة وكسب مواقف بطولية.

2-
أو الرغبة في التحرر من السلطة والحياة في حرية وهمية.

 

ثالثاً:
روحانية الأسلوب:

1-
ينبغي أن يكون سلوك المؤمن في هذا الموقف خالياً من الغطرسة واحتقار الآخرين.

2-
وغير مصحوب بالبغضة والمرارة. فدانيال الذي القي في جب الأسود لم يفقد محبته للملك
قط كما يتضح من أسلوب رده عليه “يا أيها الملك عش إلى الأبد” (دا21: 6).

 

رابعاً:
حمل الصليب:

 ينبغي
أن يكون واضحاً منذ البداية حساب النفقة لقرار مثل هذا، وهو حمل الصليب واحتمال
الألم بروح راضية، بغير تأفف أو شعور بعقدة الشهيد، والإحساس بالظلم، واتهام
الآخرين بالفساد وعدم العدالة والقسوة. فالرب يسوع المسيح قال: “إن أراد أحد
أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني” (لو23: 9).

 

 فحمل
الصليب والحياة تحت الألم بنفس منسحقة وقلب منكسر هو نوع من أنواع الخضوع كما يقول
الكتاب عن رب المجد يسوع “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون
معادلا لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة
كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى6: 28).

 

 في
الواقع إن صدور أمر السلطة المضاد لوصية الله غالباً ما يكون خياراً بين مطلبين:

 

المطلب
الأول:
هو
تنفيذ هذا الأمر الذي يتعارض مع الوصية.

والمطلب
الثاني:
هو
العذاب (بالسجن، أو الإلقاء في النار، أو الموت) أو بتعبير الكتاب (حمل الصليب)
والمؤمن أمام المطلبين هو حر في الاختيار أن يرفض الأول ويقبل الثاني بكل خضوع. إذن
فالمؤمن خاضع للسلطة على كل حال
، ورفضه لأحد المطلبين ليس تمرداً عل السلطة بل
استخدام لحق الاختيار الذي أتاحته له السلطة نفسها.

 

 ورب
معترض يقول إن المؤمن ليس أمامه اختيار، لأن العذاب في السجن أو في النار أو الحكم
بالموت ما هو إلا نتيجة حتمية لرفض أمر السلطة. لكن الواقع أن المؤمن يكون أمامه
أكثر من اختيار كما يتضح مما يلي:

 

الاختيار
الأول:
رفض أمر السلطة الذي يتعارض مع الوصية.

الاختيار
الثاني
:
قبول حمل الصليب أو العذاب.

الاختيار
الثالث:
تملق
السلطة أي الخنوع.

الاختيار
الرابع:
التمرد
على السلطة وإعلان الثورة والجهاد المسلح (كما فعل بطرس في البستان بقطع أذن عبد
رئيس الكهنة بالسيف) وتحريض الجماهير بالثورة ضد السلطة، وتدريب مناضلين، وتكوين
ميليشيات وأجهزة سرية وتدبير مؤامرات وإثارة الفتن والتآمر مع أعداء السلطة..الخ.
ولكن عندما أمر الرب بطرس بأن يرد السيف إلى غمده أنهى على الاختيار الرابع من
حياة كل مؤمن، وأبطل الالتجاء إلى القوة البشرية، وأغلق طريق التمرد إلى الأبد.
وعندما سأل تلميذيه يعقوب ويوحنا ابني زبدى قائلا “أتستطيعان أن تشربا الكأس
التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا” (مر38: 10) حدد
أمامهما مبدأ اختيار الصليب لا كنتيجة حتمية لرفض أوامر السلطات المنافية للوصية
بل كاختيار إما يستطيعانه أو يرفضانه.

 

 إذا
تحمل الصليب وقبول الألم هو نوع من أنواع الخضوع للسلطة، حتى يتمجد الله في الموقف،
مع اليقين بأنه في نهاية درب الصليب يوجد قبر، ولكن حول القبر كان هناك بستان، ومن
داخل القبر فجَّت أنوار القيامة، أي أن الله سوف يتمجد في النهاية.

 

من
أقوال الآباء القديسين
عن حدود الخضوع

1
القديس سمعان اللاهوتي:
[ابتهل إلي الله بصلواتك ودعواتك أن يعطيك
معلماً باراً خالياً من الانفعالات وادرس أيضاً بنفسك الكتب المقدسة، وبخاصة
كتابات الآباء القديسين العملية، لكي تقارن بينها وبين ما تتعلمه من مدرسك ومعلمك.
هكذا سوف ترى كما في مرآة إلي أي حد يتفوقون. وعلى ذلك استوعب واستبق في أفكارك ما
يطابق المؤلفات الدينية، وبعد دراسة فاحصة ذكية تجنب مالا يطابق، لئلا تقع في
الباطل. لأنه يجب عليك أن تعرف أن عدداً كبيراً من المعلمين الأفاقين والمضلين
ينتشرون بيننا الآن]. (كتاب الفيلوكاليا ص118)

2
القديس سمعان اللاهوتي:
[إذا أردت أن تنبذ العالم وتتعلم كيف تعيش حسب
تعاليم الأناجيل، تتلمذ علي يد مدرس كفء خبير في معرفة الانفعالات، لئلا بدلاً من
أن تحيا حسب تعاليم الأناجيل، تتعلم حياة الشيطان. إن المدرسين الأكفاء يعطون
دروساً جيدة، والمدرسون الأردياء تكون دروسهم رديئة. إن البذرة الرديئة تنتج دائما
نباناً رديئاً]           (كتاب الفيلوكاليا ص118)

 

 3
القديس سمعان اللاهوتي:
[كل إنسان لا يرى (أي أعمى روحياً) ويرشد
الآخرين، يكون مضلاً، ويلقي بأتباعه في خندق الهلاك. إذ يقول الكتاب “إن كان
أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة” (مت15: 14)] (كتاب الفيلوكاليا ص118)

 4
القديس سمعان اللاهوتي:
[إذا راعي الإنسان الطاعة التامة لأبيه الروحي، فإنه
يتحرر من كل الاهتمامات ويلقيها مرة واحدة علي كتفي أبيه الروحي.. لأن الإنسان إذا
سلم نفسه تسليماً تاماً وألقي كل اهتماماته عليه وعلي أبيه الروحي، فهو بإطاعته
هذه لا يعيش بعد ذلك حياته الخاصة، ولا يتبع إرادته الذاتية، بل يميت نفسه عن كل
الارتباطات الدينية وحاجاته البدنية]. (كتاب الفيلوكاليا ص185)

 

الفصل السابع

تأمين
الخضوع

قد
يخشى المؤمن من الضياع إن هو سلك بمبدأ الخضوع، ضياع نفسه، وضياع خطة الله وأهدافه.
فدعنا نبحث ذلك.

 

أولا:
ضياع النفس:

 الواقع
أن ضياع النفس أمر يهدف إليه الرب من خلال مبدأ الخضوع فقد قال السيد المسيح
“من أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت39: 10)

 

 بل
لقد قرر الرب حقيقة في غاية الغرابة وهي أن ضياع النفس وفناءها شرط أساسي وطريق
شرعي للاستخدام المجيد بقوله “الحق. الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في
الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير” (يو24: 12).

 

 لقد
أمن الرب طريق الضياع، فالنفس التي تضيع من أجل الرب، تضيع معالم شخصيتها، وتضيع
مشيئتها وإرادتها، ولكننا نجد أن الرب يضمنها ويضمن عودتها إلى حياة أفضل، إلى
حياة على شاكلته وصورته فيتحقق قول معلمنا بولس الرسول “مع المسيح صلبت فأحيا
لا أنا بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان. إيمان
ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلى” (غل20: 2).

 لقد
ضاعت حياة شاول الطرسوسى كأكبر متحمس لإلهه، وضاع مستقبله كتلميذ ووارث شرعي
لغمالائيل معلم الناموس، وضاعت كرامته ومهابته فبعد أن كان يقود الناس إلى السجون،
ويقف شاهداً على الذين يرجمون، أصبح بولس الرسول هو نفسه يقاد إلى السجن، ويرجم
بالحجارة والطوب، ويقف خاضعاً أمام الولاة والحكام، وعندما أضاع حياته ضمنها رب
المجد وأوجدها، حياة تفوح منها رائحة السيد المسيح الذكية على مدى الأجيال.

 

 فلا
داعي للخوف من ضياع النفس، بل على العكس لنسع إلى ذلك بكل أمانة وإخلاص، تاركين
المجال بالكامل ليتمجد فيه الرب يسوع المسيح.

 

ثانياً:
ضياع خطة الله وأهدافه:

 إن
الخوف من ضياع عمل الله وخطته وأهدافه يدفع الكثيرين من المؤمنين المخلصين إلى
الوقوف في وجه السلطة ومعارضتها والتمرد عليها لحماية عمل الله من الضياع.

 

 والواقع
أن خطة الله وعمله وأهدافه لا يمكن أن تضيع نتيجة لخضوع المؤمن للسلطة، طالما كان
خضوعه سليماً، كما أوضحنا، وليس خنوعاً مريضاً.

 ولنا
في قصة أمنا سارة مثلاً توضيحياً، فلقد كانت سارة مطيعة لزوجها إبراهيم، وقد خضعت
له حتى عندما أمرها أن تشترك في إخفاء نصف الحقيقة (لأنها كانت أخت غير شقيقة له)
على فرعون وتذهب إليه (تك10: 1220) وأيضاً عندما تكرر الأمر مع أبيمالك (تك1: 2018)
فهل بخضوع سارة ضاعت خطة الله لإيجاد نسل مقدس منها؟ كلا. فإن الله أمن خضوع سارة
وفي كل مرة كان ينقذها بطريقة غير عادية حفاظا على خطته وتحقيقاً لأهدافه.

 وهناك
مثل آخر يوضح أيضا تأمين الله لخطته مهما بدا أن الخضوع للسلطة معوقاً لذلك. فالرب
يسوع المسيح عندما كانت له اثنتا عشرة سنة كان في الهيكل جالساً في وسط المعلمين
ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته، ولكن عندما جاءت السيدة العذراء
ويوسف النجار طلبا منه أن يترك الهيكل ويذهب معهما فقال لهما رب المجد يسوع
“ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبى” ورغم أن الكتاب يسجل أنهما
“لم يفهما الكلام الذي قاله لهما” إلا أنه نزل معهما وجاء إلى الناصرة
وكان خاضعاً لهما (لو42: 251).

 

 إن
خضوع السيد المسيح لهما وذهابه معهما وترك الهيكل والشيوخ والتعليم قد عطل مهمته
بحسب الظاهر ثمانية عشر عاماً حتى بلغ سن الثلاثين. ولكن الواقع أن هذا الخضوع لم
يضيع خطة الله بل على العكس حققها، فقد كانت هذه الفترة لازمة لنموه في الحكمة
والقامة والنعمة عند الله والناس (لو52: 2). وبعدها انطلق في رسالته بحسب خطة الله
الأزلية وفي الوقت المعين.

 

 فلا
تخف من الخضوع فإنه قد يعطل خدمتنا بعض الوقت، ولكن بالتأكيد هذا الوقت معمول
حسابه في خطة الله، فربما لم تأت الساعة بعد لبدء الخدمة، وأننا في حاجة إلى هذه
الفترة لننمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس. وفي الوقت المعين يسمح
الله بالانطلاقة شرعية بحسب خطته لتحقيق أهدافه، فسليمان الحكيم يقول “لكل شئ
زمان ولكل أمر تحت السموات وقت” (جا1: 3). وقال ارميا النبي “الرب ساهر
على كلمته ليجربها” (أر12: 1). وقد قيل في سفر الرؤيا أن الله “يفتح ولا
أحد يغلق ويغلق ولا أحد يفتح” (رؤ7: 3).

 

الفصل الثامن

ثمار
الخضوع

 يقول الكتاب
المقدس “إن سمعوا وأطاعوا قضوا أيامهم بالخير وسنيهم بالنعيم” (أى11: 36)

 فما
هو ذلك الخير وتلك النعم التي تثمر في حياة الطائعين الخاضعين؟ إنها كثيرة بلا شك،
منها:

 

أولاً:
الحرية:

 ما
أقسى عبودية الفرد لمشيئته الخاصة ورغباته الشخصية!

فكل
عبد لهذا النوع من العبودية يريد أن كل ما في محيط دنياه يسير بحسب هواه! وكم تكون
ثورته عندما يجد الأمور لا تسير بحسب ما يريد! فتنقلب تعزياته إلى مرارة، وسعادته
إلى تعاسة، ويتعكر صفو مزاجه، والسبب الكامن وراء كل هذا هو أنه مازال عبداً لرأيه
الخاص.

 

لذلك
فالخضوع يحرر الإنسان من عبوديته لمشيئته، ويصبح لسان حاله في حرية سعيدة
“لتكن لا إرادتي بل إرادتك” (لو42: 22).

 كم
كان يونان النبي محتاجاً إلى هذه الحرية فقد كانت عبوديته لرأيه سبب غم
مستفيض له كما سجل الكتاب “فغم ذلك يونان غما شديداً فاغتاظ وصلى إلى الرب
وقال آه يأرب أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضى.. فالآن يارب خذ نفسي مني
لأن موتى خير من حياتي” (يون1: 43).

 وجيحزى
غلام أليشع كان عبداً لمشيئته الخاصة ولم يخضع لرأى سيده إذ قال في نفسه “هو
ذا سيدي قد امتنع عن أن يأخذ من يد نعمان الآرامي هذا ما أحضره حي هو الرب إني
أجرى وراءه وآخذ منه شيئا” وحصل فعلاً على ما أراد ولكن عبوديته لمشيئته
الخاصة أثمرت برصاً لصق به وبنسله إلى الأبد (2مل20: 527).

 ما
أحوج الإنسان فعلاً إلى التحرر من عبوديته لآرائه ورغباته ومشيئته. والله يستخدم
مبدأ الخضوع في حياة أبنائه ليحقق فيهم هذه الحرية.

 

ثانياً:
الحكمة:

 ما
من شك أن الاستهانة بالسلطة حماقة، فالأحمق هو الذي يستهين بالسلطة كما يقول
الكتاب “الأحمق يستهين بتأديب (أي سلطة) أبيه” (أم5: 15). أما الخضوع
للسلطة ففيه نمو في الحكمة فقد قال الكتاب عن الرب يسوع “ثم نزل معهما وجاء
إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما.. فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله
والناس. (لو51: 252)

 

 فالإنسان
الخاضع كما رأينا قد تحرر من عبوديته لرأيه الخاص وبهذا يكون مستعداً أن يصغي
لآراء الآخرين ويتقبل رأي صاحب السلطة بلا صراع داخلي أو تمزق، فيكتسب خبرات أسمي
من خبراته، وتصبح له نظرة للأمور أوسع من نظرته الشخصية. ولعله من أجل ذلك قال
سليمان الحكيم “يأتي الكبرياء فيأتي الهوان ومع المتواضعين حكمة” (أم2: 11)
ولقد قال القديس مار أفرام السرياني: “في الرجل الوديع والمتواضع
تستريح روح الحكمة”.

 

ثالثاً:
الحماية:

 الخضوع
للسلطة ليس معناه الاستعباد لصاحب السلطة بل هو الدخول تحت حماية ومظلة السلطة
وهذا ما وضحه معلمنا بولس الرسول عندما أوصي بالخضوع للمرشدين مشيراً إلي سر ذلك
بقوله “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون علي نفوسكم كأنهم سوف يعطون
حساباً لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنين لأن هذا غير نافع لكم” (عب17: 13).

 

 معني
ذلك أن صاحب السلطة هو المسئول عن الإنسان الخاضع له مسئول عنه أمام الله،
ومسئول عن تصرفاته أمام انتقادات الناس فيدافع عنه وعن تصرفاته لأنه لم يعملها إلا
بمشورته وبتوجيهه وفقاً لحكمة الإرشاد. وبهذا يعيش المؤمن الخاضع في مأمن من
الأخطار التي قد تعوق خدمته.

 

 قال
قديس: “إن الذي يجلس في طاعة أب روحاني لهو أكثر جرأة وأقل خطر من ذاك الذي
يجلس منفرداً في الوحدة والسكون” (بستان الرهبان ص179).

 

رابعاً:
السلام:

 إن
الخضوع للسلطة حتى وإن أوقعت تأديبا معينا على الشخص فلابد وأن يثمر أخيرا سلاماً،
كما قال معلمنا بولس الرسول “أي ابن لا يؤدبه أبوه.. ولكن كل تأديب في الحاضر
لا يُرى أنه للفرح بل للحزن. وأما أخيراً فيعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام)
(عب7: 1211) ليس فقط سلاماً مع الظروف المحيطة بل هو بالأكثر سلام مع النفس ومع
الضمير. حتى وإن لم يتوفر السلام مع الظروف الخارجية يستطيع بالسلام الداخلي أن
يتحمل قسوة تلك الظروف ومتاعبها.

 

خامساً:
الزينة المقدسة
:

 

 إن
الخضوع هو زينة النفس المؤمنة، هذا ما وضحه معلمنا بطرس الرسول بقوله “فإنه
هكذا كانت قديما النساء القديسات أيضا المتوكلات على الله يزين أنفسهن خاضعات
لرجالهن” (1بط5: 3) فقد لا يتوفر لإمرأة جمال جسدي، وحتى إن توفر فهو ليس
بشيء كما قال الكتاب “الحسن غش والجمال باطل. أما المرأة المتقية الرب فهي
تمدح” (أم30: 31) ولكن روحها المتواضعة الخاضعة تضفي عليها جمالاً روحانياً
خاصاً.

 

 وكل
نفس تتحلى بالتواضع والخضوع تتزين بالبهاء الذي لا يدانيه شئ، فقد قال القديس
باخوميوس
“إن شئت أن تنظر منظراً بهياً يفيدك بالحق فإني أدلك عليه وهو: إذا
رأيت إنساناً متواضع القلب طاهراً فهذا أعظم من سائر المناظر، لأنك بواسطته تشاهد
الله الذي لا يرى. فعن أفضل من هذا المنظر لا تسأل” (بستان الرهبان ص310)

 

 الخضوع
ليس فقط هو زينة النفس بل أنه أيضا زينة تعليم مخلصنا الله كما يقول معلمنا بولس
الرسول “عظ العبيد أن يخضعوا لسادتهم ويرضوهم في كل شئ.. لكي يزينوا تعليم
مخلصنا الله
في كل شئ” (تى9: 210).

 

سادساً:
جزاء الميراث:

 لقد
قال معلمنا بولس الرسول “أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب
الجسد لا بخدمة العين كمن يرضى الناس بل ببساطة القلب خائفين الرب. عالمين أنكم من
الرب ستأخذون جزاء الميراث لأنكم تخدمون الرب المسيح (كو22: 324)

 إنها
مجازاة الخضوع، فقد يفقد الإنسان الخاضع بسبب خضوعه امتيازات كثيرة هنا في الأرض،
ولكن الكتاب يطمئن المؤمن بتعويضات فائقة بجزاء الميراث.

 

 ما
من شك أن المؤمن الذي يمارس الحياة المسيحية بمبدأ حمل الصليب وتفضيل مصلحة
الآخرين على مصلحته لا بد وأن يدفع في سبيل ذلك ثمناً غالياً وضريبة عالية، ولكنه
من المؤكد أنه سيختبر في أعماقه قوة ومجد هذا الميراث المقدس الذي يهبه له السيد
المسيح في هذه الحياة عربونا لميراث المجد.

هذه
هي بعض ثمار الخضوع التي يتمتع بها المؤمن في هذه الحياة وفي الدهر الآتي.

 

الفصل التاسع

خطورة
عدم الخضوع

إن نتائج عدم الخضوع مريرة للغاية بل مهلكة
للنفس المتمردة، وهذه بعض تلك النتائج الخطيرة:

 

أولاً:
الرؤية المغلوطة:

 من
الثابت حقاً أن روح التمرد وعدم الخضوع لا تستطيع أن ترى الأمور على حقيقتها، وقد
تقلب الحقائق والأوضاع متعمدة حتى تبرر لنفسها الثورة، وحتى تحمل غيرها على
العصيان.

 ونجد
في الكتاب المقدس مثلاً واضحاً عن ذلك في تمرد قورح ودوثان وأبيرام الذين
في ثورتهم ضد موسى رأوا الحقائق (موروبة) أي منحرفة، وإليك بعض تلك الانحرافات أو
المغالطات:

 

1-
فقد نسوا أن أرض مصر بالنسبة لهم كانت أرض عبودية حيث السخرة، وأن طعامهم فيها كان
القثاء والكرات والبصل والتوم (عدد5: 11) ولكنهم في ثورتهم وتمردهم صارت رؤيتهم
موروبة فقالوا لموسى “أقليل أنك أصعدنا من أرض تفيض لبنا وعسلاً” (عدد13:
16) فهل كانت أرض مصر لهم أرض لبن وعسل حقا؟!

 ‍‍

2-
وبعين التمرد هذه لم يروا أن موسى قد أخرجهم ليحررهم من العبودية ويطلقهم إلى أرض
كنعان، وإنما بالرؤية الموروبة رأوا حقيقة مغلوطة فقالوا لموسى “إنك أصعدتنا
حتى تترأس علينا ترأساً” (عدد13: 16) فهل كانت هذه دوافع موسى حقاً؟ هذا
الرجل الذي حاول أن يعتذر للرب مراراً عن هذه المسئولية‍! ولكن هكذا روح التمرد لا
ترى الأمور على حقيقتها.

 

3-
والعجيب أنهم يتهمون موسى النبى القديس بأنه يغش الشعب كله ويضحك عليهم فيقولون له
“هل تقلع أعين هؤلاء القوم” (عدد14: 16)

 يالخطورة
التمرد، فالإنسان في ثورته تختل موازينه، وتتعوج أحكامه ويرى الحقائق مقلوبة،
ويسقط في الإدانة. وإلى جوار ذلك هناك:

 

ثانياً:
الحصاد المرير:

 ما
أصدق قول معلمنا بولس الرسول “إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا” (غل7:
6) فمن يعامل السلطات التي فوقه بروح التمرد والعصيان، فلن يجنى من الذين يقودهم
سوى هذا الحصاد المرير من التمرد أيضا والعصيان، “لأنه بالكيل الذي تكيلون
يكال لكم ويزاد لكم” (مر24: 4)

 فكما
عامل يعقوب أباه اسحق بالخداع والكذب هكذا عامله أبناؤه بنفس الطريقة إذ
كذبوا عليه قائلين عن يوسف أن وحشاً افترسه. وجنى يعقوب ثمار ما زرع، وتجرَّع من
نفس الكيل الذي كال به لأبيه. (تك37: 27)

 

 ولهذا
نستطيع أن ندرك ما في قول قائد المائة من حكمة عندما قال: “أنا أيضا
إنسان مرتب تحت سلطان لي جند تحت يدى. وأقول لهذا اذهب فيذهب ولآخر ائت فيأتي
ولعبدي افعل هذا فيفعل” (لو8: 7)

 

والحكمة
في هذا الكلام هي أن قائد المائة يوضح أمرين:

1-
أنه هو نفسه تحت سلطان أي أنه خاضع للسلطان الذي فوقه لقائد الألف مثلا، أما هو
فقائد مائة فقط.

 

2-
والأمر الثاني هو أنه يوضح أن له سلطان على الجنود الذين تحت يده. والواقع أن سلطة
قائد المائة على الجنود الذين تحت يده مستمدة من خضوعه هو نفسه إلى السلطة التي
فوقه. فلو تمرد قائد المائة على السلطة التي فوقه لحدث حتما تمرد عليه من الجنود
الذين تحته.

 

 والكتاب
يزخر بالأمثلة على هذه الحقيقة “إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا”
فمنها ما ذكره الكتاب عن يربعام الذي تمرد على سليمان الملك كما يقول
الكتاب “رفع يده على الملك” (1مل26: 11) وبعد أن انشقت المملكة كان
يربعام هذا أول ملك على الأسباط ثائراً ضد رحبعام ابن سليمان (1مل12) واستقرت
مملكة يربعام المتمرد ولكن ماذا حدث؟ بدأ يجني الحصاد المرير فقد قام متمرد من
المملكة يدعى بعشا بن أخيا ضد ابن يربعام الذي ملك عوضا عن أبيه وقتله ويصف
الكتاب صورة هذا التمرد بقوله “وفتن عليه بعشا بن أخيا.. وأماته.. ولما ملك
ضرب كل بيت يربعام. لم يبق نسمة ليربعام حتى أفناهم” (1مل27: 1529) وما حدث
من بعشا هذا ضد يربعام، جنا ثمره المرير عندما قام عبده زمرى بحركة تمرد
مماثلة وقتل ابن بعشا وملك عوضا عنه ويصف الكتاب حركة التمرد هذه بقوله “فدخل
زمري وضربه فقتله وملك عوضاً عنه. وعند تملكه وجلوسه على كرسيه ضرب كل بيت بعشا.
لم يبق له بائلا بحائط (أي كلب)” (1مل10: 1611)

 

 وما
حدث من زمرى ضد بعشا. جنا ثمره المرير عندما قام أحد المتمردين عليه وهو
رئيس جيشه ويدعى عمري وحاصره حتى اضطر زمرى إلى الانتحار حرقاً كما سجل الكتاب
“ولما رأى زمري أن المدينة قد أخذت دخل إلى قصر بيت الملك وأحرق على نفسه بيت
الملك بالنار فمات” (1مل18: 16)

 

 ويعوزنا
الوقت لو استطردنا في سرد أحداث التمرد كثمار مريرة لبذار مرة تأكيداً لهذه
الحقيقة البديهية “إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضا” (غل7: 6).
وعلاوة على ذلك هناك نتيجة أخرى لعدم الخضوع هي:

 

ثالثا:
التعرض للأخطار:

 ضرب
رب المجد يسوع مثلاً يوضح الأخطار التي يتعرض لها الابن المتمرد على أبيه عندما
يخرج من تحت مظلته، وهذا المثل هو المعروف بمثل الابن الضال الذي أخذ حقه
في الميراث وذهب إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف فلما أنفق كل شئ حدث جوع
شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى
حقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله
فلم يعطيه أحد. فرجع إلى نفسه وقال.. أنا هنا أهلك جوعاً. (لو11: 1517)

 

 تأمل
الأخطار التي تعرض لها:

1-
تعرض للجوع الشديد.

2-
الاحتياج.

3-
اضطر إلى عمل غير شريف وهو رعى الخنازير النجسة بحسب الناموس.

4-
التمزق إذ كان يشتهى طعام الخنازير فلم يعطه أحد.

5-
الهلاك.

 وهذا هو حال
كل من يخرج من تحت مظلة السلطة التي عينها الله، فيتعرض المتمرد إلى جوع داخلي
شديد واحتياج إلى غذاء روحي ليشبع، وقد يضطره ذلك إلى القيام بأعمال غير مقدسة،
ويفضي به الأمر إلى التمزق النفسي، وقد يعرضه إلى التهلكة ما لم يرجع إلى نفسه
ويعود إلى مظلة السلطة فيحيا. وثمة ثمرة أخرى لعدم الخضوع هي:

 

رابعا:
مقاومة الله للتمرد:

 يقول
معلمنا بطرس الرسول “كذلك أيها الأحداث اخضعوا للشيوخ وتسربلوا بالتواضع. لأن
الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة. فتواضعوا تحت يد الله القوية
لكي يرفعكم في حينه. ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم” (1بط5: 57)

 

 ففي
هذه الأعداد يوصى معلمنا بطرس الرسول الشباب بالخضوع للشيوخ (القسوس) موضحاً أن
هذا الخضوع يصدر عن الاتضاع وعن الثقة في الرب وإلقاء الهم عليه لأنه يعتني
بالإنسان الخاضع في حين أنه يقاوم الإنسان المستكبر.

 

 كيف
يقاوم الله الإنسان المتمرد؟

 يقاومه
بأن يطلق عليه رسولاً قاسياً كما يقول الكتاب “الشرير إنما يطلب التمرد فيطلق
عليه رسول قاس” (أم11: 17)

 

 ربما
يكون الرسول القاسي هو الاضطراب الداخلي وعدم السلام (أما الأشرار فكالبحر المضطرب
لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطينا. ليس سلام قال إلهي للأشرار.)
(اش20: 5721)

 وربما
يكون هذا الرسول القاسي هو الفشل في الخدمة إذ يضيع الهدف وتنطمس الرؤية وتنقلب
الموازين فعوض أن يجمع نراه يفرق وعوض أن يضم للكنيسة نفوساً نراه يطردهم منها كما
حدث مع ديوتريفوس المتمرد الذي تحدث عنه يوحنا الحبيب قائلاً “ولكن ديوتريفوس
الذي يحب أن يكون الأول بينهم لا يقبلنا.. ولا يقبل الاخوة ويمنع أيضا الذين
يريدون ويطردهم من الكنيسة.) (3يو10: 9)

 

 نعم
أن الله ضد المتمردين على قدر ما هو مع الخاضعين المتواضعين (1بط5: 57). ومن
الثمار المريرة لعدم الخضوع:

 

خامساً:
الدينونة:

 في
صدد حديث معلمنا بولس الرسول عن الخضوع للسلطة وضح بكل صراحة خطورة التمرد لأنه يودي
إلى الدينونة بقوله “من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون
لأنفسهم دينونة” (رو2: 13) وقد حاول البعض أن يخفف من وقع كلمة دينونة مدعين
أنها لا تشير إلى الدينونة الأبدية، بل إلى العقوبة التي ينالها المقاوم من السلطة
فقط. والواقع الذي شهد له المفسرون أن معلمنا بولس الرسول كان يقصد الدينونة
الأبدية كما توضح الكلمة في أصلها اليوناني، وكما هو واضح من سياق الكلام إذ يقول
“إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله.. ” ومن ذا الذي يقاوم ترتيب
الله ويتهاون معه الله؟ إن المؤمن الحقيقي هو الإنسان الذي يخضع لترتيب الله
ولإرادة الله. ولكن متى خرج هذا الإنسان عن ترتيب الله وقاوم الله فإنه يحكم على
نفسه أنه مستحق الدينونة! وهذا ما قرره معلمنا بولس عندما أكمل الآية قائلاً
“والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة
Condemnation
(رو 2: 13).

 ما
أخطر التمرد وعدم الخضوع، وما أشدّ ثماره مرارة.

 

من
أقول الآباء القديسين
عن خطورة عدم الخضوع

1
القديس غريغوريوس السينائى [الطاعة من أجل التواضع جديرة بكل فضيلة. أما
غير المطيعين سواء كانوا بسطاء أم مثقفين فلا يعلمهم أحد هذا النظام خشية أن يقعوا
في الباطل. لأن هؤلاء الذين هم قانون لأنفسهم (أي بدون مرشد) لا يقدرون أن يتحاشوا
الغرور الذي دائماً يتبعه الباطل كما يقول مار اسحق] (كتابات من
الفيلوكاليا عن صلاة القلب ص101)

 

2
القديس سمعان اللاهوتي [أي إنسان لا يظهر رغبة في أن يصل نفسه بآخر
القديسين (في زمانه،كمرشد روحي) بكل محبة واتضاع بالنسبة إلي عدم الثقة به، لن
يتصل أبداً بالقديسين السابقين، ولن يسمح له بالتعاقب معهم، حتى لو يظن أنه يمتلك
كل الإيمان الممكن والمحبة لله ولجميع القديسين وهو سوف يطرد من بينهم كواحد رفض
أن يأخذ في اتضاع مكانه المعد له من الله منذ قبل الأزمان ورفض أن يصل نفسه بآخر
قديس (في زمانه) كما دبر الله] (كتابات من الفيلوكاليا عن صلاة القلب ص159).

 

الفصل العاشر

اعتراضات
على الخضوع
والرد عليها

تقوم في وجه مبدأ الخضوع لأصحاب السلطة عدة
اعتراضات تبدو في منطقها أنها كتابية ومعقولة ولكنها تهدف إلى التحرر من قيود
الخضوع. فدعنا نناقش بعض هذه الاعتراضات.

 

أولاً:
الكل واحد في المسيح:

 استناداً
على قول معلمنا بولس الرسول “لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان
بالمسيح يسوع لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا
يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر أو أنثى.
لأنكم جميعاً واحد في المسيح
يسوع”
(غل26: 328) يظن البعض أنه يقصد إلغاء مبدأ الخضوع حيث أن الجميع
واحد في المسيح يسوع.

 

 والمتأمل
في هذا القول يدرك أن معلمنا بولس الرسول لا يفرق بين يهودي ويوناني، وعبد وحر،
وذكر وأنثى، في الامتيازات التي لهم جميعاً في المسيح يسوع إذ يقول
“لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع”

 وأما
من جهة الخضوع فليس في هذا الكلام ما يشير إلى أن معلمنا بولس الرسول قصد أن يلغيه،
بل على العكس نراه في اكثر من موضع من رسائله يؤكد مبدأ الخضوع، كما مر بنا
في فصل “مجالات الخضوع” (يحسن مراجعته).

 

 بل
إن البرهان الأقوى على احترام معلمنا بولس الرسول لمبدأ الخضوع وحضه المؤمنين على
مراعاته ما ذكره في رسالته إلى تلميذه فليمون بخصوص عبده أنسيموس. فبعد أن هرب
أنسيموس العبد من سيده فليمون وتقابل مع معلمنا بولس الرسول وفتح قلبه لقبول السيد
المسيح في تلك المقابلة، كتب على الفور رسالة إلى تلميذه فليمون يقول له
“لأنه ربما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد” (فل15)
وهو بهذا الكلام يحض أنسيموس على الخضوع لسيده.

 

 وفي
نفس الوقت يخاطب فليمون (السيد) أن يقبل أنسيموس “لا كعبد فيما بعد بل أفضل
من عبد كأخ محبوب ولا سيما إليَّ (أي إلى بولس نفسه) فكم بالحري إليك في الجسد وفي
الرب جميعاً” (فل16). وهناك اعتراض آخر:

 

ثانياً:
الطاعة في الرب فقط:

 ويقوم
هذا الاعتراض بناء على قول بولس الرسول “أيها الأولاد أطيعوا والديكم في
الرب لأن هذا حق
” (اف1: 6) ظانين أن الأولاد غير مطالبين بالطاعة إلا
للوالدين المؤمنين الذين يعيشون في الرب فقط.

 الرد:

 1-
ولكن الذي يدرس الأصل اليوناني لهذه الآية كما أجمع المفسرون بجد أن عبارة (في
الرب) (إن كيريو) لا تعود على الوالدين بل تعود على الطاعة نفسها، والقصد من
المعنى هو أن حياة الأبناء التي يعيشونها في الرب وفي شركة مع السيد المسيح تجعل
هذه الطاعة سهلة عليهم فلا يجدون فيها صعوبة. وقال المفسرون أيضا أن واجب الطاعة
يستند على المبدأ الأخلاقي الأول وهو (لأن هذا حق) أي أن هذا الحق لا يمكن أن
يتغير مع العصور ولا يمكن أن يحل محله روح الاستقلالية عند الأبناء.

2-
والدليل على ذلك أن الكتاب يطالب النساء بالخضوع لأزواجهن حتى وإن كان الأزواج غير
مؤمنين وغير طائعين للكلمة، لأن الخضوع قد يستخدمه الرب كوسيلة لجذبهم إلى الإيمان،
لهذا قال معلمنا بطرس الرسول “كذلكن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن
كان البعض لا يطيعون الكلمة
يربحون بسيرة النساء بدون كلمة” (1بط1: 3)

 

3-
كما أن وصية معلمنا بولس الرسول بالخضوع للسلطة المدنية أو الحكومية توضح أن
الخضوع لا يقتصر على أن يكون للسادة المؤمنين فقط، لأن الدولة الرومانية التي كانت
صاحبة السيادة في ذلك الوقت كانت دولة وثنيه وبالرغم من هذا قال الرسول
“لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأن ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة
هي مرتبة من الله حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون
لأنفسهم دينونة” (رو 1: 132)

4-
وعلاوة على ذلك نجد معلمنا بولس الرسول يوصي العبيد بالخضوع للسادة غير المؤمنين
أساساً، ولذلك نراه يخصص وصية أيضا عن الخضوع للسادة المؤمنين بقوله “جميع
الذين هم عبيد تحت نير فليحسبوا سادتهم مستحقين كل إكرام لئلا يفتري على اسم الله
وتعليمه، والذين لهم سادة مؤمنين لا يستهينون بهم لأنهم اخوة بل
ليخدموهم أكثر
لأن الذين يتشاركون في الفائدة هم مؤمنون ومحبوبون” (1تى1:
62).

5-
ويوضح الأسرار بكل جلاء معلمنا بطرس الرسول بقوله: “أيها الخدام كونوا خاضعين
بكل هيبة للسادة، ليس الصالحين المترفقين فقط بل للعنفاء أيضاً” (1بط18: 2).

 ويوجد
اعتراض ثالث:

 

ثالثاً:
انحراف السلطة:

 يعترض
البعض بأن الرسل لم يكونوا خاضعين للكهنة ورؤساء الكهنة بسبب انحرافهم وطلباتهم
التي كانت ضد الكرازة باسم السيد المسيح مما اضطر معلمنا بولس الرسول أن يقول لهم
مع الرسل “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع29: 5)

 وكما
ذكرت في موضع آخر بخصوص هذه الآية أنها لا تقصد أن تنفي الخضوع للناس فهي لا تقول
(ينبغي أن يطاع الله لا الناس) ولكنها تشير إلى طاعة الله، وطاعة الناس أيضا على
أن تعطى الأولوية إلى طاعة الله متى تعارضت مع طاعة الناس.

 

 والواقع
إن مفهوم الخضوع يختلف عن مفهوم الخنوع كما مر بنا، فقد عرفنا أن الخضوع لا يلغي
أن يعبِّر الإنسان عن رأيه، ولكنه يعبر بأسلوب مسيحي ومع استعداده بأن يتعرف على
مشيئة الله من خلال السلطات. ولهذا يلزم أن يتبع الخطوات السبع التي أشرنا إليها
في موضوع (حدود الخضوع). ومتي اتبع هذه الخطوات فحتى وإن قال “ينبغي أن يطاع
الله أكثر من الناس” رافضا أمراً من أوامر السلطة، وهو المضاد لوصايا المسيح،
ولكنه سيكون خاضعاً لبقية أوامرها الأخرى التي تتعلق بنفسه هو، كأن تلقيه السلطة
في السجن أو تحمله الصليب، ولا يملك أن يرفض أمر هذه السلطة وإلا اعتبر متمرداً.
ولقد وضح معلمنا بولس الرسول ذلك في قوله عن الرب يسوع: “وإذ وجد في الهيئة
كانسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى8: 2)

 وما
أكثر ما تعرض التلاميذ للسجن فلم يتمردوا أو يثورا، كما يتضح من التالي:

 1-
“فألقوا أيديهم على الرسل ووضعوهم في الحبس العامة”. (أع17: 5)

2-    “قبض
على بطرس.. ووضعوه في السجن. فكان بطرس محروساً في السجن وأما الكنيسة فكانت تصير
منها صلاة بلجاجة إلى الله من أجله” (أع3: 12)

3-
“فوضعوا عليهما (بولس وسيلا) ضربات كثيرة والقوهما في السجن وأوصوا حافظ
السجن أن يحرسهما بضبط. وهو إذ أخذ وصية مثل هذه ألقاهما في السجن الداخلي وضبط
أرجلهما في المقطرة” (أع13: 1624).

كما
يوجد اعتراض آخر هو:

 

رابعاً:
الإنسان الروحي لا يحكم فيه من أحد:

 من
الآيات التي يتذرع بها بعض المعترضين ما قاله بولس الرسول في رسالته إلى أهل
كورنثوس “ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة ولا
يقدر أن يعرفه لأنه إنما يحكم فيه روحياً وأما الروحي فيحكم في كل شئ وهو لا
يحكم فيه من أحد” (1كو14: 215)

ويستخلصون
من الآية الأخيرة “أما الروحي فيحكم في كل شئ وهو لا يحكم فيه من أحد”
أن المؤمن ليس تحت سلطان ولا يخضع لأحد.

 والواقع
أنه إن كان هذا هو ظاهر الآية ولكن إذا عدنا إلى سياق الحديث نجد أن معلمنا بولس
الرسول لا يقصد ذلك مطلقاً وإنما كان يتكلم بخصوص حكم أهل كورنثوس عليه بخصوص
شرعية رسوليته من عدمها عندما قارنوا بينه وبين أبولس. لذلك فهو يحذرهم من إصدار
أحكام في غير ما يخصهم ومن أجل هذا يكمل حديثه قائلا:

“إذاً
لا تحكموا في شئ قبل الوقت حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ويظهر آراء
القلوب. وحينئذ يكون المرح لكل واحد من الله فهذا أيها الاخوة حولته تشبيها إلى
نفسي وإلى أبولس
من أجلكم لكي تتعلموا فينا أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب كي
لا ينتفخ أحد لأجل الواحد على الأخر) (1كو5: 4و6)

 

 من
هذا يتضح أنه ما قصد إطلاقاً القول بأن المؤمن لا يخضع لحكم أحد والدليل على ذلك
أنه في نفس الرسالة يتكلم عن حتمية محاكمة المؤمن أمام الكنيسة وليس أمام المحاكم
المدنية بقوله: “أيتجاسر فيكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين
وليس عند القديسين” ويستنكر مقاضاة المؤمن عند المحاكم المدنية بقوله: “لتخجيلكم
أقول أهكذا ليس بينكم حكيم ولا واحد يقدر أن يقضى بين اخوته لكن الأخ يحاكم
الأخ
وذلك عند غير المؤمنين!!) (1كو1: 66).

ثم
هناك اعتراض أخير:

 

خامساً:
المؤمن حر:

 وثمة
آية أخرى يرفعها المعترضون شعاراً لعدم الخضوع هي قول الرب يسوع “فإن حرركم
الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو36: 8) ظناً منهم أن المسيح يدعو
إلى التحرر من السلطة.

 والواقع
أن السيد المسيح كان يتكلم عن التحرير من الخطية وليس التحرر من السلطة بدليل قوله
في الآيات التي تسبق هذه الآية “أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من
يعمل الخطية هو عبد للخطية
والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى
إلى الأبد فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً) (يو34: 836)

 هذا
هو سياق الحديث الذي يوضح الهدف الذي يقصده السيد المسيح من هذا القول ألا وهو
التحرير من عبودية الخطية وليس التحرر من السلطات البشرية.

 

الخاتمة

 لعله
قد اتضح لنا من خلال هذه الدراسة أهمية الخضوع للسلطة التي أقامها الله كمبدإ
أساسي في حياة المؤمن، حتى يبرهن على سلامة إيمانه ونموه في النعمة.

 ويلاحظ
من هذه الدراسة أنني أتكلم عن (الخضوع للسلطة) بالذات، أى أنني لا أتكلم عن السلطة
عموماً
بل عن وجه واحد من وجهي العملة. فقد تكلمت عن حقوق السلطة، وعن ما يجب
على التابع والمرؤوس أن يقوم به نحو صاحب السلطة.

 أما
الجانب الآخر من السلطة وهو واجباتها والتزاماتها وحدودها وما يجب أن تقوم به نحو
من هم تحت سلطتهم، فهو ليس موضوع حديثي لذلك لم أتطرق إليه، إذ أن كل ما يهمني في
هذه الدراسة هو إيضاح كيف يسلك المؤمن خاضعا تحت صاحب السلطان بصورة ترضى الرب،
وتنفيذا لما قاله معلمنا بولس الرسول “وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما
للرب ليس للناس” (كو24: 3)

 وإني
أرجو أن تكون هذه الدراسة سبب بركة للكثيرين الذين يريدون أن يعيشوا بضمير صالح
بلا عثره نحو الله والناس (أع16: 24)

ولإلهنا
كل مجد وإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.

 

صلاة

سيدي
وربي يسوع المسيح إني أقدم نفسي ذبيحة حب

على
مذبح التكريس. إني بكل الرضا أقبل أن تذبح ذاتي المتعجرفة لتحيا أنت فيّ حتى أقول
مع بولس الرسول “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ، فما أحياه
الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه
لأجلي” (غعل2: 20).

وإني
مستعد يا إلهي أن أخضع لكل سلطان بشري لأنه يمثلك حيث أنك الذي أقمته “لأن
ليس سلطان إلا منك

يا
سيدي” (رو13: 2) وخضوعي لهذه

السلاطين
هو خضوع لسلطانك يارب.

فاعطني
روح الاتضاع والطاعة التي

عشت
أنت بها يا سيدي.

آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار