القاموس الكنسي

الثيئوتوكوس theotokos

[ السلام لمريم الثيئوتوكـوس ،
الكنز الثمين الذي وجده العالم ،
المصبـــــاح غير المنطفئ قط ،
تــــــــــــــاج البتوليــــــــــــــة ،
الهيكل غيـــــــر المنهـــــــــدم ،
الموضع الذي احتوى غير المُحوى ،
الأم الباقيــــــــــة عــــــــــذراء ] ( القديس كيرلس الكبير P.G. LXXVII, 992 b )

في الحقيقة أن لقب القديس العذراء مريم ” الثيئوتوكوس ” ( أي والدة الإله ) ليس لفظاً لتكريم العذراء لنجعلها آلهة لنعبدها كما يظن البعض من الذين ليس لهم الحس الكنسي المنضبط بإعلان الروح وإلهامه، وليس هو مجرد لقب تكريمي كما يعتقد البعض، وإنما هو تعريف لاهوتي بالدرجة الأولى، يحمل حقيقة واقعية وإيمان حي وجهاد قوي على مر العصور كلها، بل ويُعتبر عن جدارة رؤية في الخلود. والنطق بهذه الكلمة مدخل أساسي للإيمان الأرثوذكسي وبدونه مستحيل أن يُقبل أحد في الإيمان. ويؤكد على هذا القديس غريغوريوس في رسالته إلى لكليدونيوس 101 قائلاً: [ إذا لم يؤمن أحد أن مريم هي ” الثيئوتوكوس ” فهو غريب عن الله ]
فمنذ فجر عصور المسيحية ولقب العذراء القديسة مريم هو ” أم الله – ثيئوتوكوس ” ويُنطق على كل لسان وهذا ما يقوله جميع الآباء على مر العصور، وحتى أصحاب الآراء المتعارضة لم ينكروا أبداً كرامة القديسة العذراء مريم، بسبب أن الكلمة سكن في احشائها …
يقول القديس كيرلس الكبير: [ حيث أن العذراء القديسة ولدت حسب الجسد الله المتحد بالجسد، من أجل هذا السبب نقول عنها إنها ” والدة الإله ” ثيئوتوكوس، ليس أن الكلمة أخذ بدايته من الجسد، حاشا لأنه موجود منذ البدء ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله “، وهو خالق العالم سرمدي مع الآب، ولكن كما سبق وقلنا إذ انه اتحد شخصياً بطبيعة الإنسان فإنه سمح أيضاً أن يولد بالجسد من رحمها ] ( Cat. Rud. 17, 11)

والتأكيد الذي أصرَّ عليه القديس كيرلس الكبير ان العذراء القديسة مريم هي الثيئوتوكوس، هو التأكيد على الإيمان الذي تسلمناه من القديسين، أي أن الذي وُلِدَ من العذراء القديسة مريم الدائمة البتولية هو شخص الكلمة المتجسد الذي هو الله الظاهر في الجسد ولم يكن شخصاً آخر !!!!، لذلك الذين يريدون منا – اليوم – أن نُغير لقب العذراء القديسة مريم أم الله لنجعل لقبها أم يسوع فقط [ ولا نقل أنها أم الله ] فهم على خطأ لاهوتي رهيب، لأنهم بدون وعي يريدون أن ننكر أولاً أن يسوع هو المسيح، وثانياً أن ننكر المولود منها هو قدوس الله أي ابن الله الحي، وبذلك ننكر إيماننا كله وننقض الكتاب المقدس ونرفض بشارة الله على فم الملاك وكلامه مع القديسة العذراء مريم والدة الإله الكلمة المتجسد الذي رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحق !!!!
مع أنه مكتوب بوضوح وبدون مورابة وبنص رسولي صريح جداً لا يحتاج لشرح أو تأويل: [ من هو الكذاب الا الذي يُنكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن ] (1يو 2 : 22)

*** ونذكر على سبيل المثال بعض البدع التي أنكرت تجسد الكلمة من العذراء القديسة مريم لنستطيع أن نفهم أهمية هذا اللفظ وضرورة التأكيد عليه، لا تزمتاً من الكنائس التقليدية ولا من أجل العذراء القديسة مريم في حد ذاتها كما يظن الذين ليسوا على دراية بالإنجيل الحي، بل كاعتراف إيمان بتجسد الكلمة حسب التدبير:

(1) الدوكيتون

وهم جماعة تُعلِّم أن المسيح عَبَرَ في العذراء دون أن يأخذ من جسدها شيئاً، إذ يقولون: إنه لم يصر إنساناً حقيقياً بل (بدى) وكأنه إنسان !!!؛ ومن ضمن هذه الجماعة بعض الأسماء المشهورة كمروجي التعليم لهذه الجماعة وهما كالآتي:
– ساتيرنانيوس (حوالي سنة 120م) وقد أعلن أن المُخلَّص لم يتجسد، لم يولد ولم يكن له شكل وهو يعتبر أن الزواج وإنجاب الأطفال من صنع الشيطان !!!
– فالنتينوس (توفى سنة 161م) أعلن أن المسيح اتحد بالإنسان يسوع، الذي وُلِدَ عَبر مريم وليس من مريم، عَبَرَ بواسطتها كما بواسطة قناة !!!
– مرقيون (85 – 160م تقريباً) أعتبر أن المسيح لم يولد من مريم بل ظهر فجأة في جسد خيالي، شخصاً كامل النمو مستعداً لبدء الخدمة.
– ابيليس (غير معروف تاريخ ميلاده ولكنه في القرون الأولى ) وقد أعلن أن للسيد جسداً حقيقياً لكنه جسد سماوي أُعطيَّ له من السماء وليس من مريم …
عموماً قد حذر الآباء الرسوليون والآباء المدافعين عن الإيمان [ إغناطيوس، يوستينوس، إيريناوس، ترتليانوس، أوريجانس … وغيرهم … ] المؤمنين من هذه التعاليم الكاذبة، كما نقرأ للقديس إغناطيوس (استشهد ما بين 100 – 117) في رسالته قائلاً: [ صمّوا آذانكم عندما تسمعون كلاماً لا يكون عن المسيح ابن داود المولود من مريم العذراء … ] (الرسالة إلى تراليان 9: 10)

(2) المانيّة أو المانوية:

يؤمن أصحاب هذه البدعة أن المسيح ليس ابناً لمريم، وقد حاربهم القديس ألكسندروس الاسكندري والقديس أثناسيوس الرسولي (296 – 373) والقديس أمبروسيوس الميلاني (339 – 397). ومن أقوال القديس أثناسيوس الكبير (الرسولي) إلى ابيكتاثوس: [ كان جسد الرب جسداً حقيقياً مثل جسدنا لأن مريم هي أختنا (بالجسد – من حيث إنسانيتها) ]. ويقول القديس أمبروسيوس: [ إن مريم قدَّمت شيئاً من عندها ولم تعطِ المسيح شيئاً غريباً عنها بل من جسدها ] (في تجسد الرب 4: 1) .

(3) الآريوسية

أنكر الآريوسيون ألوهية المسيح الإله مُنكرين بالتالي أمومة مريم لله الكلمة المتجسد، وقد واجههم بالطبع آباء الإسكندرية الكبار [ ألكسندروس، وأثناسيوس الرسولي وغيرهما من الآباء ] بتسمية القديسة العذراء مريم ب [ والدة الإله – الثيئوتوكس ]، وكما نعلم جميعاً أن هذا بدأ في مجمع نيقية الشهير وما يليها …

(4) النسطورية

أطلق نسطور على والدة الإله اسم [ خريستوتوكس ] أي والدة [ المسيح ] قائلاً: [ ليت أحداً لا يُسمي مريم العذراء والدة الإله لأنها لم تكن سوى امرأة ومن المستحيل أن يولد الله من إمرأة ]. وقد وقف العديد من الآباء ( وعلى الأخص القديس كيرلس الكبير المشهور بـ “عامود الدين” )، وقد أكدت الكنيسة في المجمع المسكوني الثالث (431م) لقب ثيئوتوكوس لمريم العذراء، مُذَّكرة أنها والدة الإله وليس فقط والدة يسوع …
وعموماً أول من اعترض على عبارة [ والدة الإله ] وسبق نسطور في هذا المجال هو ثيودورس اسقف موبسوستيه (350 – 428) الذي قال: [ إن مريم ولدت يسوع لا الكلمة، لأن الكلمة كان ولا يزال حاضراً في كل مكان وإن سكن منذ البداية في يسوع بطريقة خاصة. وهكذا فأن مريم هي أم يسوع نفسه وليست أم الله. على أنها يُمكن أن تُدعى على سبيل المجاز والدة الإله لأن الله في المسيح بصورة مُميزة. ولكنها في الحقيقة ولدت إنساناً اتحد به الكلمة لكن هذا الاتحاد لم يتم تماماً إذ لم يكن يُدعى بعد ابن الله ]، وقد قال في موضع آخر: [ إنه لمن الجنون أن نقول إن الله وًلِدَ من مريم ]، وطبعاً هذا نتاج الفلسفة والفكر الإنساني المريض، لأن الله اتخذ من مريم العذراء جسداً وهو مولوداً منذ الأزل ميلاداً ليس كسائر الناس، بل ميلاداً لاهوتياً يفوق الشرح والفكر الإنساني، ولم تلده العذراء ولادة أزلية، لأنها ولدت الله الكلمة المتجسد، أي المسلاد حسب الجسد، ولم تلده من جهة لاهوته بالطبع…

* ومن أهم الدفاع عن الإيمان الحي في مواجهة البدع وعلى الأخص موضوع والدة الإله هو مجمع أفسس، المجمع المسكوني الثالث الذي حضره القديس كيرلس الكبير (431م) …؛ ومن إبسالات (أي حرومات) المجمع ضد نسطور هو كالتالي: [ ليكن مبسلاً (محروماً) كل من لا يعترف أن عمانوئيل هو إله حق، وأن العذراء القديسة هي لذلك والدة الإله لأنها بحسب الجسد ولدت كلمة الله الذي صار جسداً كما كُتِبَ: ” والكلمة صار جسداً ” (يوحنا1: 14) ] …
كما ورد أيضاً في إحدى رسائل القديس كيرلس الكبير عامود الدين التي قُرأت في أولى جلسات المجمع (مجمع أفسس المسكوني) الآتي: [ …وولد (المسيح) إنساناً من امرأة دون أن يخلع عنه وجوده كإله أو ولادته الأزلية من الله الآب. ولكنه مع اتخاذه لنفسه جسداً بقى كما كان. هذا هو إعلان الإيمان القويم الذي يُنادى به في كل مكان. وهكذا اعتقد الآباء القديسون. لذلك تجرأوا على أن يدعوا العذراء القديسة والدة الإله، ليس لأن طبيعة الكلمة أو لاهوته كانت بدايته من العذراء القديسة، بل لأنه منها وُلِدَ الجسد المقدس بنفس عاقلة، وهو الجسد الذي اتحد به شخصياً الكلمة الذي قيل عنه إنه وُلِدَ بحسب الجسد …
وما دامت العذراء القديسة ولدت بالجسد الله الذي صار واحداً مع الجسد بحسب الطبيعة، لهذا السبب ندعوها والدة الإله ولا نعني بذلك أن طبيعة الكلمة كانت بداية وجودها من الجسد … ]
وقد تم التأكيد على تسمية العذراء القديسة مريم بوالدة الإله بعد ذلك في جميع المجامع بحسب الإيمان القويم بهذه الجملة الشهيرة [ وُلِدَ السيد من العذراء مريم والدة الإله بحسب الطبيعة البشرية في آخر الأزمنة لأجلنا ولأجل خلاصنا … ]

عموماً كلمة ” ثيئوتوكوس ” لا تستحدث أي عنصر جديد في الإيمان أو تفتح نقاشاً جديداً أو تُعطي مفهوماً جديداً، وإنما تجمع شمل الإيمان في تعبير يحمية من أي التباس أو تأويل، فهي كلمة قاطعة استخدمتها الكنيسة قبل عصور المجامع المقدسة ثم أقرها المجمع الثالث في أفسس، لتحديد مفهوم طبيعة المسيح المتحدة من اللاهوت والناسوت بدون تغيير. حيث لم يكن موضوع الحوار – في المجمع – بخصوص ” الثيئوتوكوس ” يدور حول العذراء مريم، إنما دار حول طبيعة المسيح له المجد. فكلمة ” ثيئوتوكوس ” أي والدة الإله ليست إذن لقب شرف للعذراء القديسة الدائمة البتولية، وإنما عقيدة لاهوتية تخص طبيعة المسيح له المجد، بمعنى أن المسيح له المجد المولود من العذراء القديسة مريم لاهوت وناسوت متحدان بلا امتزاج أو اختلاط أو تغيير، وأنه هو المسيح الواحد بلا انفصال أو انقسام، فهو الله الكلمة المتجسد بالحقيقة…

ومن هنا يتضح لنا أن ما يخص القديسة العذراء مريم يدخل ضمن عقيدة الإيمان المسيحي بالضرورة. هكذا نرى أن ” الثيئوتوكوس ” كلمة عميقة تُعتبر في العقيدة الأرثوذكسية مدخل رسمي للإيمان المستقيم، وأي محاولة للتخلص من هذه الكلمة يخلخل الإيمان المسيحي من أساسه …
فالمدخل الوحيد لفهم شخصية القديسة العذراء مريم فهماً أرثوذكسياً (لا أقصد المعنى الطائفي إنما المعنى الجوهري للكلمة) سليماً هو من جهة طبيعة ربنا يسوع المسيح المتحدة من اللاهوت والناسوت المولودة منها. فالقديسة مريم العذراء الدائمة البتولية عنصر أساسي في التجسد [ وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء ] ( قانون الإيمان )

إذن أي محاولة لفهم قداسة العذراء القديسة مريم أو تكريمها كشخصية مستقلة عن المسيح له المجد شيء مستحيل على الإطلاق، لأن طبيعة المسيح له المجد، إن كانت قد اصبحت قادرة على أن تجذب إليها البشرية بدالة العنصر البشري الذي فيها ” إذ تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً فيهما كذلك … من ثم كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء ” ( عب 2 : 14 – 16 )، فبالأولى جداً تُصبح ” الأم ” التي أعطته من لحمها ودمها هذا العنصر البشري في طبيعته الكاملة القائم بها حتى الآن وإلى الأبد، ذات اتصال دائم ووثيق معه لا ينحل أو ينفك …

ولنختم كلماتنا القليلة بتسبحة ننطق بها معاً قائلين:

السلام للسماء الجديدة التي صنعها الآب وجعلها موضع راحة لإبنه الحبيب
الســــــــــلام للكرسي الملوكي الــــذي للمحمــــــــــول على الشاروبيـم
الســـــلام للمرتفعة جداً أكثر من رؤساء الآباء ومكرمـــة أفضل من الأنبيــاء
الســـــلام للتي صار لها دالـــــة عند الله أكثــــــر من الشاروبيم والساروفيم
أيتهـــــا العـــذراء القديســـــة مريـــــم والـــــدة الإلـــــــه الثيئوتوكــــــــــوس
يـــــا مـــــن صــــــــــرتِ فخــــــــــر جنسنــــــــــا وشفيعــــــــــة نفوسنــــــا
أشفعي فينـــــا أمـــــام مخلصنا لكي يثبتنا في الإيمان المستقيم
وينعم لنا بغفران خطايانا ، حتى نفوز برحمة بواسطة شفاعتك
المجـــــد لك أيها الثالـــــوث القـــــدوس الإلـــه الواحـــــد آمين

________________________________________________________________
بعض المراجع الهامة والتي تم الاستعانة بها لمن يحب أن يتوسع في الموضوع
* العذراء القديسة مريم الثيئوتوكوس – الأب متى المسكين – إصدار دير الأنبا مقار 1979
* القديسة مريم في المفهوم الأرثوذكسي – القمص تادرس يعقوب مالطي – إصدار اسبورتنج 1978
* مجموعة الشرع الكنسي، جمع وترجمة الأب حنيانيا كسّاب – منشورات النور 1982
* الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعقيدة سلسلة تعرف على كنيستك – منشورات النور 1982
* الرؤية الأرثوذكسية لوالدة الإله – مجموعة من المؤلفين – سلسلة تعرف على كنيستك 1982
* معجم المصطلحات الكنسية الجزء الأول – مقدمات في طقوس الكنيسة 2001

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار