القاموس الكنسي

التقليد – لمحة سريعة عن التقليد

يقول القديس بولس الرسول لتيموثاوس الرسول: [ أحفظ الوديعة ] (1تي6: 20)
ويقول فلاديمير لوسكي: [ التقليد حياة الروح القدس في الكنيسة ]، ويقول البطاركة الشرقيين باختصار وإيجاز: [ نحافظ على عقيدة الرب بدون فساد، ونتمسك بثبات الإيمان الذي أعطانا، ونحفظه مُنزهاً عن كل شائبة أو نقص كما يُحفظ كنز ملكي وصرح باهظ الثمن، لا نُضيف إليه شيئاً ولا ننتقص منه شيئاً ]
ويقول يوحنا الدمشقي: [ لن نُغير في الحدود الأزلية التي خطها آباؤنا، بل نُحافظ على التقليد كما تسلمناه ]
عموماً التقليد بالمعنى القاموسي للكلمة: هو رأي أو معتقد أو عادة ينقلها الأسلاف لذُريتهم عن طريق التعليم والتدريب والمشاهدة، وهذا يكون عادة تلقائياً بالمشاركة والتطبيق. والتقليد المسيحي، في هذا الحال، هو الإيمان الذي سلَّمه المسيح الرب بشخصه للرسل، ذلك الإيمان الذي تناقلته الأجيال المتعاقبة في الكنيسة منذ عصر الرسل [ فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب ] (1كو15: 3).
على أن التقليد يعني بالنسبة للمسيحي الحي بالإيمان المستقيم واللابس الروح، ما هو أدق من المعنى القاموسي الذي تحدثنا عنه، لأنه كما أنه يحمل المعاني السابقة ولكن أيضاً يعني الأسفار المقدسة، ودستور الإيمان، وقرارات المجامع المسكونية، وكتابات الآباء القديسين والمعتبرين أعمدة كأساس للتعليم الصحيح والشرح المستقيم، كما يعني أيضاً القوانين الكنسية المعتمدة في المجامع والكتب الليتورجية، أي في النهاية هو كل ما عبَّرت عنه الأرثوذكسية (القصد الإيمان باستقامة الرؤيا بإلهام الروح) عبر العصور من عقيدة وتعليم كنسي قائم على العبادة بالروح والحق في سر التقوى ومحبة الله. وبالتالي المفروض على المسيحي اليوم أن يتشرب من هذا التقليد الحي بالروح واساس قاعدته الإيمان المُسلَّم من جيل لجيل، ليُسلمه بدوره كحياة مُعاشة وخبرة تقوى للجيل الذي يليه …

ولنلاحظ أن المشكلة عند البعض لا يدرك أن الكتاب المقدس جزء من التقليد وأساس قاعدته، إذ يعتقدون – خطأ – على أن [ التعليم الشفهي الذي أعطاه المسيح ولم يدونه تلاميذه المباشرون ] (قاموس أكسفورد)، وبالتالي يظنون أن التقليد شيء آخر غير الكتاب المقدس، وإنهما مصدران مختلفان من مصادر الإيمان المسيحي عند الطوائف التقليدية.
مع أنه في الواقع لا يوجد سوى مصدر واحد فقط للتقليد (كما سوف نرى عند كتابة البحث التفصيلي) لأن الكتاب المقدس موجود من ضمن التقليد وهو أساسه، والظن أو العمل على فصل الكتاب المقدس وعزله عن التقليد أو وضعهما الواحد في مواجهة الآخر، يعني افتقارهما معاً والخروج عن وحدة الروح الواحد الذي يقود الكنيسة كلها عبر الأجيال، لأنه يستحيل يختلف التعليم طالما أن الروح واحد وهو الذي يعطيه لأنه يعلمنا ويوجهنا ويُذكرنا بكل ما قاله المسيح الرب لنا: [ وأما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يُعلمكم كل شيء ويُذكركم بكل ما قلته لكم ] (يو 14: 26)

وبسبب أن الروح القدس هو العامل والقائد ومُعطي التعليم، وهو الذي يحفره وينحته في قلب الكنيسة عَبر الأجيال، لذلك فهو تقليد حي، لأن المسيحية لا تكتفي بلاهوت الترداد العقيم، والذي فيه يتم الاكتفاء بتردد صيغ معروفة دون السعي لبلوغ مضمونها ولعمق روحها الحامل لقوة الله، فليس هناك آلية في مضمار الولاء الواعي للتقليد لأنه لا ينحصر في زمان أو مكان أو ينحبس في طائفية وتعصب، بل أنه متسع اتساع الروح نفسه، لأنه ينبض بحياة الله وأنفاسه الخاصة.

والتقليد ليس هو مجرد نقل كيفما اتفق أو كما هو في حالة جمود كما تلقيناه مثل التلاميذ في المدارس، لأنه علينا أن نرى التقليد من الداخل ونحمل روحه وليست مجرد ألفاظه في حالة من الجمود، لأن الروح القدس مُعطيه ليس جامد أو قابل للتجمد !!!

ولكي نحيا التقليد ونعيشه في واقعنا اليومي كخبرة وحياة، لا يكفي إطلاقاً أن نلتزم فكرياً بمجموعة من العقائد، لأن التقليد ابعد وأوسع بكثير جداً من مجرد مجموعة من الآراء والأفكار مهما ما كانت حسنة وتعجبنا جداً ومقنعة لنا ولعقولنا …
ففي المفهوم الكنسي الصحيح، التقليد لس جامداً ولا يدعو للتجمد والوقوف عند زمان ما ولا يتحرك نحو الاتساع والنمو، لأن التقليد حيوي، وليس هو قبول متجمد ميت للماضي، بل هو خبرة الروح القدس، الخبرة الحية التي تُحافظ على تجديدها ونموها باستمرار، لأن التقليد في المفهوم الآبائي الصحيح هو لقاء حي وشخصي مع المسيح الرب في الروح القدس، لذلك لا تحفظ الكنيسة التقليد كمجرد حفظ، بل يعيش فيها ضارباً بجذوره في أعماقها من الداخل، وهو في الكنيسة حياة الروح القدس.

وبالرغم من ثبوت التقليد داخلياً – لأن الله ثابت لا يتغير على الإطلاق – فأنه يتخذ على الدوام صيغاً جديدة، تُضاف الواحدة إلى الأخرى دون أن تحل محلها، بالرغم من أن خدام كثيرين ومسحيين لا يعون قوة حياة التقليد بالروح القدس، فيتحدثون معظم الأحيان وكأن مرحلة التحديد العقائدي قد انتهت تماماً في الأزمنة السالفة، لذلك يقفون عند التقليد المتجمد الغير قابل للنمو وكأن الروح القدس جامد ووقف عند حد معين لا يستطيع أن ينمو ويرتقي بالكنيسة من مفهوم لآخر مستمر من جيل لجيل، يأخذ الماضي ويضيف إليه إعلان جديد لتكون الكنيسة أكثر وعي وأكثر انفتاحاً على الله الحي المعلن فيها والظاهر في أعضائها كنور للعالم وملح الأرض…

فالتقليد ليس حامد بل هو حي لذلك يقول اللاهوتي جورج فلوروفسكي: [ التقليد شهادة الروح القدس ووحيه الذي لا ينقطع، وبشارته المستمرة … ولكي نقبل التقليد ونفهمه، علينا أن نحيا في الكنيسة، وان نعي حضور السيد واهب البركات، وعلينا أن نحس فيها نَفَس الروح القدس … فالتقليد ليس مبدأ للصيانة والحفظ، بل هو أولاً مبدأ النمو والتجدد … والتقليد ليس ذاكرة نُطقية فقط، بل هو المُستَقرّ الدائم للروح القدس ]
لذلك فالتقليد هو شهادة الروح القدس [ وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يُرشدكم إلى جميع الحق ] (يو 16: 13)، فهذا الوعد الإلهي هو مصدر لاحترام التقليد الحي في الكنيسة…

وعموماً العناصر الأساسية للتقليد والتي تُسمى بالتعابير الخارجية للتقليد هي:
+ الكتاب المقدس (وهو القاعدة الأساسية للتقليد)
+ المجامع المسكونية
+ الليتورجية
+ آباء الكنيسة
+ القانون الكنسي
+ الأيقونات

وتلك العناصر الأساسية التي تكون التقليد من الناحية الخارجية، لا يُمكن باي حال فصلها عن بعضها البعض أو ترتيبها ترتيب خاص، أو وضع بعضها مقابل بعض، أو في مواجهة بين عنصر وآخر، لأن الروح القدس يتكلم من خلالها جميعاً ومن الصعوبة التامة فصل إحداها عن الآخر، لذل نجد أنه قيل أن السبب الرئيسي لانشقاق المسيحية في القرن السادس عشرن يعود إلى ذاك الانفصال الذي حلَّ بين اللاهوت والتصوف (mysticism) وبين الليتورجيا والتقوى الشخصية، وبين التعليم والتأمل …

عموماً المفروض أن كل مسيحي حقيقي يكون بطبعة لاهوتي (ممتلئ من الله)، يحيا بنبض الروح القدس، ولا يتكلم ويُعلم من ذاته وحسب دراسته واستنتاجه الشخصي وتعبيراته الخاصة مهما ما كانت صحيحة كل الصحة، لأنه ينبغي أن يتحرك بموجب إعلان الله وإلهامه بالروح القدس جاملاً قوة التقليد لينطق بها، مع إدراك أن اللاهوت حين لا يكون مُعاشاً في سر التقوى بالإيمان الحي ومحبة الله، فأنه يسقط في علم كلام جاف، كلام وحديث أكاديمي خالي من الروح مملوء من كل معرفة عقلية شخصية محصورة في اللفظ ومن هو على صواب ومن هو على خطأ، وأحياناً يحدث تصادم وخصومة في أني انا الصح والآخر على خطأ، ولن يستطيع أحد أن يفك هذا الاشتباك لأن كلها اجتهادات وظنون شخصية قائمة على بحث موسوعي ليس فيه رؤية بانفتاح عين القلب الداخلية وانفتاح الذهن بالروح على الله ليسمع من فمه ويكتب ما يكشفه ويعلنه الروح القدس بسكيب حياة الله في النفس ولننظر لما كان يقوم به الرسل حينما يقفون امام مشكلة أو في اي عمل [ لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة ] (اع 15: 28)

فاللاهوت والروحانية والدراسة الواعية والعبادة الحية والفن الكنسي والقراءة … الخ، كل هذه الأشياء لا ينبغي فصل بعضها عن بعض قط، فالعقيدة لا يُمكن فهمها إلا من خلال الصلاة، وبقول إيفاغوريوس البُنطي [ اللاهوتي إنسان يُحسن الصلاة، ومن يُصلي بالروح والحق هو لاهوتي ]

والعقيدة التي تُدرك في ضوء الصلاة ولقاء الله، يجب أن تكون مُعاشة، أي عندي نعمة من الله لكي أعيشها وهي حياتي الشخصية، لأن اللاهوت والحديث عن الله الذي لا يُترجم لعمل في حياتي الخاصة، هو كما قال القديس مكسيموس المعترف [ لاهوت شياطين ]…
فدستور الإيمان لا يخص إلا أولئك الذين يعيشونه: فالإيمان والمحبة، واللاهوت والحياة، أمور لا يسوغ فصلها عن حياتنا الشخصية في تطبيق واضح لنا وللآخرين، لأن ما هي المنفعة أن نتكلم عن نظريات لا يستطيع ان يحيا بها أحد وغير قابله للتطبيق، لأن المسيح الر ب لم يأتي إلى العالم يعطينا نظريات وأفكار لاهوتية رائعة ليقنع بها عقلنا بل أظهر محبته بالصليب الذي ليس فيه أي فلسفة بل صار جهالة عند غير المُخلَّصين، لأن الصليب صار لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، لذلك من الجهالة التامة أن نتكلم عن كل ما يخص الله في معزل عن الروح القدس وإلهامه وأن نحيا كما يحق لإنجيل المسيح الرب…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار