علم المسيح

التعليم الأخير والصلاة الأخيرة



التعليم الأخير والصلاة الأخيرة

التعليم الأخير
والصلاة الأخيرة

من
هوايات اليهود، بعد الطعام، أن يستمروا في الحديث، وليس رغبة في الشرب، كما كان
دأب الرومان، بل استمتاعاً بالكلام، كما هي العادة في الشرق. وأما القديسان متي
ومرقس فلم يثبتا لنا شيئاً من ذاك الحديث الأخير، اعتقاداً – ولا شك – منها أن
المسيح إنما أعاد فيه سالف تعليمه، وكذلك القديس لوقا لم يدون منه سوي جزء يسير،
في بضع آيات. (لوقا 22: 31 -38). وأما القديس يوحنا فقد وقف له بضعة فصول (13: 13
– 17: 26) لم يأت في جميع الإنجيل ما يضاهيها بساطة في الأسلوب، وصدقاً في الأداء،
وتعبيراً عن ذكريات دقيقة وتأثر عميق، وشهادة عيان.. حديث ودي، ولقاء أخير بأتباعه
الأحد عشر، وجد له المسيح كلمات غاية في الرقة والآسي: ” يا أولادي الصغار،
أنا معكم بعد زماناً يسيراً..”. ويتعاقب علي استفهامه توما وفيلبس ويهوذا،
فيجيب إلي أسئلتهم بهدوء، مع أنهم يقرون له – ألئك المساكين! – أنهم لم يفقهوا بعد
شيئاً من تلك المأساة التي نشبوا فيها. وتأخذ من بطرس نشوة الحمية والصلف، فيندفع
مؤكدا: ” يا رب، ها أنا مستعد أن أمضي معك إلي السجن وإلي الموت! “،
فينبئه يسوع، بعبارة مازجة محزونة معاً: ” أأنت تبذل حياتك عني! الحق الحق أقول
لك: إنه لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات!..”. فالمسيح مع حبه للناس حباً
جماً، لم يكن ليغتر بأمرهم، ويخدع عن حقيقتهم!.

 

.
ولكم كان الشوط عظيماً بين يسوع وأولئك الرجال المستبدين لإنسانيتهم في أفكارهم،
وأسئلتهم الترابية، ورغبتهم في الآيات الحسية: ” يا رب، لسنا نعرف إلي أين
تذهب، فكيف نعرف الطريق؟ ” – ” يا رب! أرنا الآب وحسبنا! “. يسوع
محلق في أجواء السمو والإشراق، وكأنه قد نشط من عقالات الأرض، وثاب إلي الأبدية،
وعلق يكشف لهم عن غيوبها ببساطة رائعة

 

.
وأما ما أفضي به إلي أولئك التلاميذ – وما دروا أنهم معه في الحديث أخير – فهو،
أولاً، خلاصة ما استودعهم إياه في غصون أكثر من سنتين: التصريح الرسمي برسالة
الإلهية: ” أنا الطريق والحق والحياة! لا أحد يأتي إلي الآب إلا بي. أنا جذع
الكرمة، من يثبت في وأنا فيه فهو يأتي بثمر كثير.. ومن لا يثبت في، يطرح به خارجاً
كالغصن فييبس “، ضرورة أقول لكم كل ما تسألون الآب باسمي يعطيكموه! “،
ضرورة المحبة خصوصاً، وليس فقط ناموس المحبة الشاملة بل تلك المودة الشخصية، وذاك
الحنان المسيحي الأخوي الذي اشتهر به المسيحيون الأولون، وكان من لروعة والرسوخ
بحيث أقرت لهم به الوثنية: ” أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا! “، تلك
هي ” الوصية الجديدة 1 ”

 

. بيد
أننا نري، من خلال معرض تلك المبادئ العظمي، صورة ملحاحة، وشبه أيذان مخيف! فيكيف
أمكن التلاميذ، وهم ينصتون إلي تلك الأقوال إلا يستحوذ عليهم القلق ويساورهم
الخوف؟ فقد كان المستقبل يتكشف لهم تارة في شبه نصر مبين، وطوراً في شبه استشهاد
مريع: ” الآن تمجد ابن البشر، وتمجد الله فيه.. إني ذاهب لا تضطرب
قلوبكم!..لا أحدثكم بعد طويلاً لأن رئيس هذا العالم قد وافي.. الآن أترك العالم
وأمضي إلي الآب..”، مثل هذا الكلام، كيف السبيل إلي إغفال مراميه؟

 

و
أنكي من هذا أن يسوع. ولعله أراد أن يذكي في نفوس مستمعيه هول الكارثة المتحفزة –
طفق بنبئهم بالمصير الجديد الذي يترقبهم: اذكروا الكلمة التي قلتها لكم: ”
العبد ليس أعظم من سيده! فإن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضاً.. وسوف يخرجونكم
من المجامع.. بل ستأتي ساعة يتوهم فيها كل من يقتلكم أنه يؤدي لله عبادة.. ”
أفليس ثمة أي فسحة للأمل، وأي فرجة للنور، في تلك الظلمات الحوالك؟ بلي، فإن ضوءاً
عظيماً ينبعث من تلك النبوءات المخيفة: ” ثقوا، فقد غلبت العالم! لن أدعكم
يتامى، إني أتي إليكم، السلام أستودعكم. سلامي أعطيكم.. ليس لأحد حب أعظم من أن
يبذل الحياة عن أصدقائه..”. لقد عاد المسيح مرة أخري، بتلك الكلمات البسيطة
لرائعة، إلي إزاحة الستار عن جميع ما انطوي عليه سر تلك التضحية الدانية، من وعود
جبارة، باتت تحلق فوق أولئك الرجال الأحد عشر، وهم حوله يصغون.. لقد وعدهم بالقيامة:
” بعد قليل لا تروني، ثم بعد قليل ترونني..”، وعدهم بالروح القدس يفهمهم
أخيراً جميع ما استغلق عليهم، وينير نفوسهم بهدية، ويكمل، علي صعيد المعرفة ما
شرعوا فيه علي صعيد المحبة: ” وأنا أسأل الآب فيعطيكم معزياً آخر ليقيم معكم
إلي الأبد.. وسوف يرسل إليكم باسمي، ويعلمكم كل شيء، ويذكركم جميع ما قلت لكم،
ويرشدكم إلي الحق! “، العقيدة التي سوف يسترسل القديس بولس في تفسيرها، نجدها
كاملة، في هذه الآيات القليلة التي حشد فيها الرسول الحبي ذكرياته: فليس للإنسان
خلاص إلا بموت المسيح. وموت المسيح إنما هو الحدث الذي ترتكز عليه الشريعة الجدية،
وينطلق منه تاريخ جديد. فإذا ما نفذ في المسيح قضاء الموت، صرعت الخطيئة، وتم
الخلاص، وشخص الإنسان إلي ربه، بيسوع، وبهدي الروح القديس.

 

استوفي
يسوع حديثه، وإذا به يتحظي تلاميذه، ويتوجه، منذ تلك اللحظة إلي أبيه، في وثبه من
أروع ما في كيانه من طاقات تفوق الإنسان، وتنطلق من شفتيه تلك ” الصلاة
الكهنوتية ” التي هي – بلا منازع – أجمل فقرة صوفية في الإنجيل، فهي مناجاة
الله الحي للإله المحجوب، في حوار سواء!

 


يا أبتاه! لقد أتت الساعة. فمجد ابنك لكي يمجدك ابنك، ويعطي – وقد قلدته السلطان
علي كل بشر – الحياة الأبدية لجميع الذين أعطيتهم له.. إنهم كانوا لك، وأنت
أعطيتهم لي، وقد حفظوا كلمتك. وهم يعلمون الآن أن كل ما أعطيته لي هو منك!.. وقد
أيقنوا أني منك خرجت، وآمنوا أنك أنت أرسلنتني. فلأجلهم أنا أصلي.. لست أنا بعد
في العالم، وأما هم فإنهم في العالم.. أيها الآب القدوس، احفظهم باسمك ليكونوا
واحداً مثلما نحن واحد. قدسهم في الحق.. ولست لأجلهم فقط أصلي، بل لآجل الذين
يؤمنون بي عن كلامهم، لكي يكونوا بأجمعهم واحداً.. أيها الآب، إن الذين أعطيتني
أنك أحببتني قبل إنشاء لعالم. لقد عرفتهم اسمك، وسأعرفهم أيضاً، لتكون فيهم المحبة
التي أحببتني وأكون أنا فيهم..”

 

تكلم
يسوع بهذا ثم أخلد إلي الصمت. وكانت قد أزفت ساعة الرحيل من الغرفة، والرجوع إلي
جبل الزيتون، حيث كانوا قد أعدوا لهم مبيتاً وكان يسوع قد أنذرهم، أثناء الحديث،
بأن ساعة القراع قد دنت، وأن السيف، في تلك الأحوال، أجدى من الثوب. أما هم فقد
فاتهم الرمز، واستمسكوا كعادتهم، بالمعني الحرفي، فكاشفوه بأن عندهم سلاحاً، وأنهم
علي أهبة لمقارعة أخطار الظلام: ” يا رب، إن ههنا سيفين!”، فقال لهم
” كفي! “. ولا بد أن المسيح قد نطق بهذه اللفظة الأخيرة، وعلي شفتيه
ابتسامة حلم عظيم، – علي حد ما جاء في تعليق للقديس كيرلس الاسكندري. هزء سميح علي
شفتي رجل استولي فوق الطبيعة وسبر غور الأوهان كلها، وخرج من معرفة ذاك الواقع
الأليم، لا بالتسخط والتهكم والموجدة، بل بضرورة حب أعظم.

 

. ثم
خرج يسوع من العلية.فمن المشرف الذي بنيت عليه، كان يطل النظر علي جميع أحياء
المدينة: فهنا، بالقرب منهم، صرح رؤساء الكهنة، وإلي اليسار قصر هيرودس وقد لاح من
خلال الحدائق، وهنالك، حيالهم، من وراء غيابه التيروبيون المائلة، ومن وراء أوفيل
وصهيون القابعتين عند أقدام الهيكل، قلعة الأنطونيا، وقد بدت كتلة باهظة ورمزاً
للمذلة. لقد كان بوسع المسيح أن يضم في نظرة دائرية، مراحل محاكمته الثلاث!.. وأما
الجلجلة فكانت وراء أسوار المدينة، محجوبة عن الأبصار.. وكان بدر نيسان قد بدأ، إذ
ذاك، يطل بأنواره علي المدينة الساجية: البدر الفصحى ” المبارك بسبب الخروج
من العبودية “..و هناك فوق ذؤابة برج فازائيل، كانت نار هاجعة، بينما، كان
يهجع أيضاً، في ظلمة مخفر قذر، يهوذا الاسخريوطي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار