المسيحية

التثليث في القرآن



التثليث في القرآن

التثليث
في القرآن

“يا
عيسى ابن مري أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهي من دون الله” (مائدة 119).

كما
حارب القرآن “تأليه” عيسى ابن مريم عند بعض نصارى العرب الجهال، حارب
كذلك عقيدة “التثليث” عند قوم آخرين منهم ضلوا عن الإنجيل والقرآن.

فالتثليث
الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي.

فالتثليث
المسيحي هو من صميم التوحيد، من صميم وحدانية الله، في وحدة الذات الإلهية.

1)
التثليث الذي ينكره القرآن:

هناك
ثلاثة نصوص توحيه لنا:

الأول
من سورة النساء:

170   يا
أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلىمريم وروح منه. فآمنوا بالله ورسله، ولا
تقولوا: ثلاثة! انتهوا، خير لكم! إنما الله إله واحد! سبحانه أن يكون له ولد، له
ما في السماوات وما في الأرض، وكفى به وكيلاً!

171     
لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا
الملائكة المقربون! – ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً.

والثاني
من سورة المائدة:

70         
لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن
مريم!..

76         
لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وما
من إله إلا إله واحد! وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهمعذاب أليم.

والثالث
من سورةالمائدة أيضاً، أبان فيه تلميحاً ثم تصريحاً من هم “الثلاثة”:

77         
أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرون، والله غفور
رحيم:

78    ما
المسيح، ابن مريم، إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صديقة. كانا يأكلان الطعام.
انظر كيف نبين لهم الآيات؛ ثم انظر أنى يؤفكون!”

119   وإذ
قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله! – قال:
سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق! إن كنت قلته فقد علمته!.. ما قلت لهم إلا
ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.

فالخطاب
في سورة النساء لأهل الكتاب عامة: “يا أهل الكتاب.. لا تقولوا “ثلاثة”
(170). والخطاب في سورة المائدة خاص بفئتين أو ثلاث من أهل الكتاب العرب
يفسرون معنى “الثلاثة”: فئة تدعي أن الله هو المسيح ابن مري! وفئة تدعي
أن الله ثالث ثلاثة!

وإذا
سألت القرآن عن “الثلاثة” التي يزعمون، أجاب تلميحاً (مائدة 77) ثم
تصريحاً (مائدة 119) بأنهم: الله، وعيسى ابن مريم، ومريم أم عيسى: فهما
إلهان مع الله.

ذاك
هو التثليث أو الثالوث الذي كان يدين به بعض نصارى العرب، فأنكره القرآن عليهم،
وكفرهم به من النقل علىلسان المسيح: “وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا
الله ربي وربكم” (مائدة 75): “ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا
الله ربي وربكم” (مائدة 119)؛ ومن المنطق والعقل أنه “ما من إله إلا إله
واحد (76) وقد كان المسيح وأمه يأكلان الطعام (78) قل أتعبدون من دون الله ما لا
يملك لكم ضراً ولا نفعاً” (79).

اعتبر
القرآن ذلك الاعتقاد الفاسد قولاً من بعضهم “الذين قالوا” (75 و76)
الذين كفروامنهم” (76): ثم اعتبره غلواً منجميعهم (نساء 170، مائدة 80). لذلك
يدعوهم إلى نبذ الغلو في تأليه المسيح والتثليث المذكور “يا أهل الكتاب لا
تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول
الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
“ثلاثة”، انتهوا خير لكم” (نساء 170) “قل يا أهل الكتاب لا
تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا
عن سواء السبيل” (مائدة 80).

1)           
موقف المفسرين من قول القرآن: ولا تقولوا: “ثلاثة”
(نساء 170).

قال
الجلالان: “أي الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه”.

وقال
البيضاوي: “أي الآلهة ثلاثة: الله والمسيح ومريم، ويشهد عليه قوله: أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله – أو الله ثلاثة: إن صح أنهم يقولون: الله
ثلاثة أقانيم الآب والابن وروح القدس ويريدون بالآب الذات، وبالابن العلم وبروح
القدس الحياة”. – ونقول: وإن صح أن النصارى يعنون “بالآب الذات وبالابن
العلم وبروح القدس الحياة” فذلك لا يدل على تعدد الذات الإلهية، لأن العلم
والحياة في الله هما ذات الله بعينها. وهكذا تختلف جوهرياً مقالة القرآن عن مقالة
الإنجيل في التثليث.

وقال
الزمخشري: “إن صحت الحكاية عن النصارى أنهم يقولون: هو جوهر واحد ثلاثة
أقانيم: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الآب
الذات وبأقنو الابن العلم وبأقنوم روح القدس الحياة: فتقديره “الله
ثلاثة”، وإلا فتقديره “الآلهة ثلاثة”:: والذي يدل عليه القرآن هو
التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم: ألا
ترى إلى قوله “أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله” وحكاية
الله أوثق من حكاية غيره!!” – أجل حكاية الله أوثق من حكاية غيره، لكن القرآن
بقوله ما تقديره: الآلهة ثلاثة، الله والمسيح ومريم، وأن المسيح ولد الله من مريم،
حكى حكاية بعض نصارى العرب الذين يكفرهم، وليس حكاية الإنجيل والنصارى عامة الذين
يقولون: الله جوهر واحد، في ثلاثة أقانيم، وهذه المقالة لا تنافي التوحيد، ولا دخل
لمريم في هذا التثليث ولا لولادتها الجسدية لعيسى، وهي تختلف تماماً عن مقالة
القرآن “الآلهة ثلاثة، الله وعيسى ومريم” أو الإله صار ثلاثة “الله
وعيسى ومريم”.

والرازي
المدقق يقول: “قوله ثلاثة خبر متبدأ محذوف. ثم اختلفوا على تعيين ذلك المبتدأ
على وجوه: (الأول) ما ذكرناه أي ولا تقولوا: “الأقانيم ثلاثة”؛ (الثاني)
آلهتنا ثلاثة كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة؛ (الثالث) قال الفراء: “هم
ثلاثة” كقوله “سيقولون ثلاثة” وذلك لأن ذكر عيسى ومريم ع الله بهذه
العبارة يوهم كونهما إلهين”. ثم يفسر لرأيه “الأقانيم ثلاثة”: أي
والمعنى ولا تقولوا “إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم”؛ واعلم أن
مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهمأثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث؛
إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها (!) فلهذا
المعنى قال “ولا تقولوا: ثلاثة، انتهوا”. فأما إن حملنا الثلاثة على
أنهم يثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول: هو
الله الملك القدوس العالم الحي القادر.. ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما
نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك. فلو كان القول بتعدد الصفات
كفر لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من
كونه تعالى عالماً غير المفهوم من قوله حياً”.

وأنا
لنستغرب قول الرازي “إن مذهب النصارى مجهول جداً”، وقد عرفه تمام
المعرفة “إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم” وأنهم أي النصارى
“اثبتوا،على قوله، ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث”. وفي كل القولين ليس من
تعدد ينقض التوحيد. ولكن ضل عندما أراد أن يطبق مذهبهم على مقالة القرآن القائلة
“بثلاثة آلهة” فاستنتج منه “أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة
ذوات قائمة بأنفسها!! كلا ليست “الأقانيم الثلاثة” ذوات قائمة
بأنفسها مما يُشعر بأنها ثلاثة آلهة، بل هي علاقات ذاتية قائمة بالذات الإلهية
الواحدة؛ وقد أشعر هو نفسه أن ذلك ممكن حيث قال: “فأما إن حملنا الثلاثة على
أنهم ثبتون صفات ثلاثاً فهذا لا يمكن إنكاره.. فلو كان القول بتعدد الصفات كفر لزم
رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى
عالماً غير المفهوم من قوله حياً”، وبهذه المقالة يلتحق الزمخشري والبيضاوي
حيث يصف مذهب النصارى أنه: “جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم
الابن وأقنوم روح القدس؛ وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات وبأقنوم الابن العلم
وبأقنوم روح القدس الحياة”. وما كان ضرهم لو قالوا بقول النصارى وإنجيلهم
القائم على توحيد الجوهر الإلهي الفرد: فالله واحد في ثلاثة أقانيم أي علاقات
جوهرية غير قائمة بأنفسها بل قائمة في الذات الإلهية الواحدة؟

فمقالة
“الثلاثة” أو الثالوث أو التثليث لها وجه مقبول ينسجم مع التوحيد الصارم
ولها وجه مرذول ينقض التوحيد ويعني تعدد الآلهة. وما نهاهم القرآن عنها “ولا
تقولوا: ثلاثة” إلا لأن العرب، أو بعض نصارى العرب الهال قد فهموا التثليث
المسيحي على غير حقيقته فمالوا به إلى تعدد الآلهة أو تعدد الذات الإلهية، وأقحموا
فيه ما ليس منه “مريم أم المسيح”، ونسبوا إلى الله ما يقشعر له المرء
أبى استيلاده عيسى من مريم كما سيظهر من مقالاتهم في ما يلي:

“الله
ثالث ثلاثة” (مائدة 76):

إن
بعض نصارى الحجاز قد فهموا بالثالوث أو “الثلاثة” أن “الله ثالث
ثلاثة”
(مائدة 76)، ولا يجوز فهم هذا التعبير كفهم سابقه “ولا
تقولوا: ثلاثة”
لأنه في حد ذاته يجعل الله أحد ثلاثة فيعدد الآلهة، أو
يعدد الذات الإلهية. وهذا كفر كما نعته القرآن. وتلاحظ أنه يكفر مقالة
“الله ثالث ثلاثة” فيما ينعت مقالة “الثلاثة” بالغلو (نساء
170).

وقد
نفسر هذه المقالة بأن “الابن والروح إلهان من دون الله” وهي تعني حتماً
تعدد الآلهة، وقد تُفسر بأن “المسيح ومريم إلهان من دون الله” وظاهرها
يعني أيضاً تعدد الآلهة. ويميل القرآن إلى التفسير الثاني لأن الآية 78 من المائدة
بيان للآية 76 منها. وكلا القولين كفر كما نعتهما القرآن؛ بيد أن القرآن لا
ينسبهما إلى عموم نصارى الحجاز بل إلى الذين “كفروا منهم” (76).

قال
الجلالان: أي أحد آلهة ثلاثة والآخران عيسى وأمه. وهم فرقة من النصارى.

وقال
البيضاوي: أي أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية (؟) والملكانية منهم
القائلون بالأقانيم الثلاثة وما سبق (75) قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد[1].

وقال
الرازي ناقلاً رأي المفسرين ورأي المتكلمين: “في تفسير قول النصارى
“ثالث ثلاثة” طريقان: (الأول) قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن
الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله: “أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله”، والدليل أنه المراد، قوله في الرد عليهم “وما
من إله إلا واحد”؛ (والثاني) أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر
واحد، ثلاثة أقانيم: آب وابن وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم
يتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالآب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة؛
وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا أن الآب إله والابن إله والروح إله والكل
إله واحد”. نقول لقد أنصفهم المتكلمون، وظلمهم المفسرون بنسبة مقالة بعض
نصارى العرب الكفار إلى عموم النصارى. وعقب الرازي على حكاية المتكلمين: “إن
هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون
ثلاثة!”
– أجل من وجه واحد، كلا من وجوه مختلفة، فالنصارى يوحدون جوهر
الله أو طبيعته الإلهية، ويثلثون أقانيمه الذاتية، وهذا لا يعني جعل الثلاثة
واحداً والواحد ثلاثة حتى يجوز القول إنه لا يُرى في الدنيا مقالة أشد فساداً
وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى” (الرازي) فلا يراها المتكلمون كذلك، ولا
الراسخون في العلم!!

فمقالة
بعض نصارى الحجاز “الله ثالث ثلاثة” تفسير خاطئ فاسد لا يجوز تعميمه على
سائر النصارى.

“إلهان
من دون الله” (مائدة 119):

إن
بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون “عيسى ومريم أمه إلهان من دون الله”
(مائدة 78 و119) وهذه المقالة أيضاً تفسير آخر فاسد لمقالة النصرانية بالثالوث أو
“بالثلاثة” الأقانيم.

فمقالة
تلك الفئة الضالة تعني صراحة تعدد الآلهة، لا بل تأليه مخلوقين مع الله، الإنسان
عيسى ابن مريم، وأمه. لذلك يستفظعها الله يوم الدين ويستجوب عيسى عنها: “إذ
قال الله (يوم يجمع الرسل): أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون
الله؟!” فيستنكر عيسى التهمة ويشهد للتوحيد؛ ويستغفر لمن قال بها.

ويرد
القرآن على هذه المقالة الفاسدة ببراهين عدة: “ما المسيح ابن مريم إلا رسول
قد خلت من قبله الرسل” أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه الله بآيات كما
خصهم بها (البيضاوي)؛ “أمه صديقة”: وإن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن
لم يككن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إلهاً (الرازي)؛ و”كانا يأكلان
الطعام”: أي أنهما كانا محتاجين، لأنهما كانا محتاجين إلى الطام أشد الحاجة
والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إلهاً (الرازي)؛
و”قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً؟ أي أن عيسى وأمه لا
يملكان الضر والنفع مثل الله حتى يكونا إلهين.

ونقول
إنها براهين سديدة تنقض مقالةجهال الحجاز من النصارى لأنها تعني تأليه مخلوقين مع
الله. ولكن قولهم ليس بقول النصارى الحق، ولا تعنيهم أدلة القرآن الواردة. فالإله
في عيسى ليس ما ولد من مريم أي ناسوته أو طبيعته الإنسانية، بل منألقى إلى مريم من
جوهر الله دون انقسام أي “كلمة الله” الذي هو “روح منه” تعالى.

“الله
هو المسيح” (مائدة 75):

وإن
بعض نصارى الحجاز كانوا يقولون “إن الله هو المسيح ابن مريم” (مائدة 75)
ومقالتهم هذه هي تفسير ثالث لعقيدة النصارى العامة في التثليث أي
“الثلاثة” الأقانيم.

ومقالة
أولئك تفسير خاطئ لأنها تعني أن جوهر الله كله، وذات الله كلها، وطبيعة الله كلها،
قد صارت عيسى ابن مريم. أو تعني على الأقل “أن الله تعالى حل في ذات عيسى
واتحد بذات عيسى” (الرازي) وهذا هو مذهب الحول الذي يجيز على الله ما لا يجوز
أي أن يتغير أو يتبدل أو يتحول.

قال
الجلالان: لقد كفروا حيث جعلوا ابن مريم إلهاً، وهم اليعقوبية، فرقة من النصارى.

وقال
البيضاو: هم الذين قالوا بالاتحاد منهم؛ وقيل لم يصرح به أحد منهم بل حكى لسان
حالهم.

وقال
الرازي: حكى عن فريق منهم أنهم قالوا “إن الله هو المسيح ابن مريم” وهذا
هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلهاً. ولعل معنى هذا المذهب أنهم
يقولون: أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى”.

ونقول:
إن النصارى يكفرون مع القرآن هذه المقالة: ليس لعيسى ابن مريم ذات غير ذات الكلمة
الملقاة إلى مريم روحاً من الله: فليس هناك ذاتانبل ذات واحدة تجسدت من مريم أي
تدرعت بجسد منها وهذا القول بعيد كل البعد عن مذهب الحلول والحلولية، ومذهب
الامتزاج بين ذات خالقة وذات مخلوقة.

تلك
هي التفاسير الثلاثة التي قال بها بعض نصارى العرب الجاهلين، البعيدين عن مراكز النصرانية
الحنيفة الرسمية، في ما يتعلق بعقيدة التثليث النصرانية، أي الأقانيم
“الثلاثة” في الله الواحد، وتلك مقالات فاسدة جعلت القرآن يكفر أصحابها
واحداً واحداً، وينهاهم عن الاعتقاد “بالثلاثة” على الإطلاق: “ولا
تقولوا: ثلاثة! انتهوا، خير لكم” (نساء 170)[2].

استنتاج
وتطبيق:

نستنتج
مما تقدم أن التثليث الذي ينكره القرآن غير التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل.
كل من الإنجيل والقرآن يقصد غير ما يعنيه الآخر. والمسيحيون يعتقدون غير ما ينكر
المسلمون.

1)
تصريح الإنجيل:

فالثالوث
المسيحي مبني في الإنجيل على وحدانية الله، لا إله إلا هو. سُئل السيد المسيح: “أي
وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟ فأجاب الأولى هي: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا هو
الرب الوحيد فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك. فقال له الكاتب:
حسن يا معلم لقد أصبت إذ قلت أنه الوحيد ولا آخر سواه” (مرقس 12: 28-34). ومع
هذا الإقرار الصريح بالوحدانية الإلهية فالتصريح بالتثليث لا ريب فيه، وقد ختم
المسيح حياته ورسالته وإنجيله بقوله لتلاميذه الحواريين: “لقد دُفع إلي كل
سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم. وعمدوهم باسم الآب
والابن والروح القدس،
وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا ذا معكم
كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (خاتمة متى).

فهذا
الإعلان النهائي سبقته تصاريح متعددة عن الوحدة بين المسيح الابن والله الآب: “ووقع
عيد التجديد في أورشليم وكان شتاء وكان يسوع يذهب ويجيء في الهيكل في رواق سليمان
فتحلق اليهود حوله وقالوا له: “حتى م تريب أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقله
لنا جهراً! أجابهم يسوع: لقد قلته لكم ولا تصدقون، والأعمال التي أعملها باسم أبي
هي تشهد لي.. (ثم قال) أنا والآب واحد! حينئذ تناول اليهود من جديد حجارة
لكي يرجموه. فأجابهم لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب فلأي عمل منها
ترجموني؟ أجابه اليهود: لسنا لعمل حسن نرجمك بل لأجل التجديف ولأنك تجعل نفسك
إلهاً وأنت إنسان! فأجابهم يسوع: أوليس مكتوباً في ناموسكم: “أنا قلت أنكم
آلهة”؟ فإن كان يدعو آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله = ولا يمكن أن
ينقض الكتاب – فأنا الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم تقولون لي أنك تجدف! لكوني
قلت: أنا ابن الله؟ إن كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تصدقوني، ولكن إن كنت أعملها ولا
تريدون أن تصدقوني فصدقوا هذه الأعمال لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب في وأني في
الآب
” (يوحنا 10: 22-42).

فهذه
الوحدة بين الله الآب والمسيح الابن ليست معنوية بل جوهرية، والمسيح هو ابن الله
ليس على طريق الاصطفاء أو على سبيل المجاز، بل حسب الطبيعة “لكي تعلموا
وتعترفوا أن الآب في وأني في الآب” (10: 38)؛ ثم يعود إلى الشهادة ذاتها مع
تلاميذه: “قال له فيلبس: يا رب، أرنا الآب وحسبنا، قال له يسوع: أنا معكم كل
هذا الزمان ولا تعرفني؟ يا فيلبس، من رآني فقد رأى الآب! فكيف تقول أنت: أرنا
الآب! أفلا تؤمن أني أنا في الآب وأن الآب في؟ الأقوال التي أكلمكم بها لا أتكلم
بها من نفسي بل الآب المقيم في هو يعمل أعماله. صدقوني أني أنا في الآب والآب في.
وإلا فصدقوا من أجل الأعمال” (يوحنا 14: 3).

وقد
سبقته أيضاً، تصاريح عن الوحدة القائمة بين الابن وروح القدس. فالروح القدس هو
المحامي عن الحواريين في نشر الإيمان لأنه روح الحق الذي ينبثق من الآب: “ومتى
جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب،
فهو يشهد لي، وانتم أيضاً تشهدون بما أنكم معي منذ البدء” (يوحنا 15: 26)؛
وروح الحق ينزل بعد رفع المسيح: “غير أني أقول لكم الحق: أن في انطلاقي
لخيراً لكم: فإن لم أنطلق لا يأتيكم المحامي وأما إذا انطلقت فإني أرسله إليكم (16:
7)، ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلها لأنه لا يتكلم من
عند نفسه بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم بما يأتي. إنه سيمجدني لأنه يأخذ
مما لي
ويخبركم. جميع ما للآب فهو لي: من أجل هذا قلت لكم إنه يأخذ مما لي
ويخبركم” (16: 12-15).

2)
تحليل التصريح:

وهكذا
يعلمنا الإنجيل أن “الله روح” محض لا دخل للجسد ولشؤون الجسد فيه تعالى،
“والذين يعبدونه يجب أن يعبدوه بالروح والحق” (يوحنا 4: 25)؛ ويعلم
الإنجيل أن يسوع المسيح هو “ابن الله” و”كلمة الله” لأنه
“كما أن الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في
ذاته” (يوحنا 5: 26). إن الله هو الوجود، والوجود هو الحياة، والله هو
“الحي القيوم” (آل عمران 2،
بقرة 255، طه 111)، يحيا ويتفاعل ويتسلسل في ذاته الواحدة. والإنجيل بتسميته
“الابن كلمة الله” (يوحنا 1: 1) – كذلك القرآن نساء 170 – أفهمنا
أن هذا التفاعل والتسلسل روحي عقلي. فالمسيح هو ابن الله، أي فكر الله الجوهري، أو
نُطق الله الجوهري. فهل يمكن أن يكون الله بدون عقل؟ وهل يكون عقله إلا غير محدود
كذاته. وفكره الذي هو منتوج عقله، وهو غير محدود في الله كعقله، هو ما يسميه
الإنجيل بلفظ علمي فلسفي لاهوتي “كلمة الله”، وبتعبير شعبي تفهمه
الجماهير “ابن الله” والشعب البسيط نفسه ألا يسمي الأفكار بنات العقل؟
وعندما يستعمل الإنجيل لفظ “كلمة” يدل بصراحة على أن بنوة الابن من الآب
وفي الآب، ضمن الذات أو الطبيعة الإلهية الواحدة، هي بنوة فكرية نطقية عقلية؛ وأن
الولادة في الجوهر الإلهي الفرد هي روحية إلهية، فوق الزمان والمكان، وفوق الجسد
والمخلوق. يتسلسل كلمة الله من جوهر الله كما يصدر نطقنا من عقلنا. وهذا الصدور أو
التسلسل غير المخلوق، نتيجة التفاعل الإلهي، لا يمكن التعبير عنه تماماً بكلام
مخلوق، فيسميه الإنجيل بلغة بشرية تقرب غير المدرك من إدراكنا “ولادة
وبنوة” ثم “أباً وابناً”. فكلمة الله أو نطق الله الصادر عن القوة
العاقلة في الله، هو في وضع يشبه عند البشر وضع ابن من أبيه، وفي علاقة ولادة
روحية وبنوة عقلية تشبه فينا ولادة الفكر من العقل. فليس في ذلك إذن رفع مخلوق إلى
صفة الخالق، ولاحظ الخالق إلى درجة المخلوق؛ بل هو تفاعل روحي وتسلسل عقلي؛ بل هو ولادة
روحية وبنوة عقلية في الذات الإلهية الواحدة.

وكما أنه لابد من الاعتراف في الجوهر الإلهي الفرد بقوة
عاقلة كذلك لابد من الاعتراف فيه بقوة محبة، كما قال الإنجيل: الله نور”
و”الله محبة”. فالطبيعة الإلهية الواحدة هي ذاتها قوة عاقلة وقوة محبة.
والقوة العاقلة فيها تنتج فكرها أو “ابنها”، والقوة المحبة في الآب
والابن تنتج، عن طريق التبادل، ثمراً حبياً هو الروح القدس الذي يعرفه النصارى
“محبة الآب والابن المتبادلة”. وحياة الحي القيوم هي حياة قوة ذاته
العاقلة وحياة قوة ذاته المحبة: فابن الله هو فكر الله الجوهري، وروح الله أو روح
القدس هو حب الله الجوهري. ولكي يقرب لنا المسيح فهم هذه الحياة الإلهية وكيفية
تفاعلها في داخلها عبر لنا بكلام بشري عن ذات الله وعن ثمرة عقله الجوهرية وثمرة
حبه الجوهرية، إذ لا عرض في ذات الله، إنها “الآب والابن والروح القدس”
وأن “الثلاثة” هي الإله الواحد، لا إله إلا هو.

وهكذا فالروح اسم وحقيقة للمحبة المتبادلة في ذات الله؛
والابن اسم وحقيقة لثمرة القوة العاقلة في جوهر الله؛ والآب اسم وحقيقة لمصدر
هاتين الثمرتين في الذات الإلهية الواحدة. وهكذا فالآب والابن والروح جوهر واحد،
طبيعة واحدة، وذات إلهية واحدة، هو الله لا إله إلا هو. ومن ثم فإذا بشر الإنجيل
بالتثليث ضمن الطبيعة الإلهية الواحدة فهو لا يجعل مع الله إلهاً آخر، ولا يجعل
الله “ثالث ثلاثة”، ولا يجعل الله “ثلاثة” آلهة؛ بل هو تثليث
علاقات أقنومية قائمة في الذات الإلهية الواحدة، هو تثليث في التوحيد الخالص.

 

وقد نجد عند أرسطو والغزالي ما يشبه من بعض الوجوه هذا
التحليل:

فأرسطو يقول = على حد ما نقل عنه الشهرستاني: “المسألة
الثالثة في أن واجب الوجود لذاته عقل لذاته، وعاقل ومعقول لذاته – عُقل من غيره أم
لم يُعقل – أما أنه عقلٌ فلأنه مجرد عن المادة، منزه عن اللوازم المادية، فلا يحجب
ذاته عن ذاته؛ وأما أنه عاقل لذاته فلأنه مجرد لذاته؛ وأما أنه معقول لذاته فلأنه
غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره” (ص 313): فالله إذن عاقل وعقلُ ومعقول في
ذاته الواحدة؛ ومثل هذا “التثليث” في الذات الواحدة لا يتنافى مع
وحدانية الله.

وقال حجة الإسلام الإمام الأول الغزالي: “يعتقدون
أن ذات الباري واحدة ولها اعتباران: فإن اعتبرت مقيدة بصفة لا يتوقف وجودها
على تقدم وجود صفة قبلها، كالوجود، فذلك المسمى عندهم بأقنوم الآب. وأن
اعتبرت موصوفة بصفة يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالعلم، فإن
الذات يتوقف انصافها بالعلم على انصافها بالوجود فذلك هو المسمى عندهم بأقنوم الابن
والكلمة. وإن اعتبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها فذلك المسمى عندهم بأقنوم روح
القدس. فيقوم إذن من الآب معنى الوجود، ومن الابن أو الكلمة معنى العالم،
ومن روح القدس كون ذات الباري معقولة له. هذا حاصل هذا الاصطلاح، فتكون ذات
الإله واحدة في الموضوع موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم. ومنهم من يقول: أن
الذات، إن اعتبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة
عن العقل المجرد وهو المسمى بأقنوم الآب وإن اعتبرت من حيث هي عاقلة لذاتها فهذا
الاعتبار عندهم عبارة عن معنى العاقل وهو المسمى بأقنوم الابن والكلمة. وإن اعتبرت
بقيد كون ذاتها معقولة لها فهذا الاعتبار عندهم هو المسمى بأقنوم معنى المعقول،
روح القدس. فعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها،
والابن أو الكلمة مرادفين له[3]؛
والمعقولية عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادفاً له. هذا هو
اعتقادهم في هذه الأقانيم. وإذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ” (ص
43).

فيعود
تحليله إلى قوله: الذات الإلهية موصوفة بخواص جوهرية ثلاث الوجود والعلم
والمعقولية، وهي الآب والابن والروح القدس الإله الواحد؛ أو إلى قوله: الذات الإلهية
هي عقل وعاقل ومعقول معاً وهي الآب والابن والروح القدس الإله الواحد: فهل في هذا
“التثليث” ما ينافي التوحيد؟

وقد
رأيت أن المفسرين أخذوا بالاصطلاح الأول، فيما المتكلمون يأخذون بالاصطلاح الثاني.
وقد فسر الشهرستاني بعدهم عقيدة التثليث المسيحية بقوله: “وأثبتوا لله تعالى
أقانيم ثلاثة؛ قالوا: الباري تعالى جوهر واحد، يعنون به القائم بالنفس، لا التحيز
والحجمية؛ فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية؛ ويعنون بالأقنومية الصفات كالوجود
والعلم والحياة، الآب والابن وروح القدس؛ وأن العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم
(ص 172): قد أوجز الشهرستاني عقيدتي “التثليث” والتجسد: فهل في مثل هذا
ما ينافي التوحيد؟

لقد
ثبت لنا بالنقل والعقل أن التثليث المسيحي الذي يعلمه الإنجيل ويدين به النصارى لا
ينافي التوحيد، بل يقوم عليه، وهو من صُلبه، وهو تفسير سام لحياة “الحي
القيوم” في ذاته، لا إله إله هو سبحانه وتعالى.

فالتثليث
المسيحي إذن هو من صميم وحدانية الله، في وحدة الذات الإلهية.

 

أما
في القرآن فقد رأيت أن التثليث الذي يذكره في تعابيره الأربعة: “الثلاثة”
(نساء 170) و”الله ثالث ثلاثة” (مائدة 76) و”الله هو المسيح ابن
مريم” (مائدة 75) و”عيسى وأمه إلهان من دون الله” (مائدة 119) يعود
إلى نكران وحدانية الله، وتعدد الذات الإلهية وإيجاد ثلاثة آلهة أي إلهين غريبين
مع الله هما الإنسان عيسى ابن مريم وأمه. وهذا التثليث القرآني كفر محض ينكره
الإنجيل كما ينكره القرآن، لأنه يعني “تأليه” عيسى وأمه “واتخاذهما”
إلهين من دون الله. والإنجيل لا يعرف اتخاذاً ولا تأليهاً. فقول كهذا يعني ثلاثة
آلهة، وتعدد الذات الإلهية، مما لا أثر له في الإنجيل ولا في اعتقاد النصارى.

ومما
يستفز النصارى اتهامهم بتأليه مريم أم المسيح كما فعله “المريميون” أو
“الكليريون” من نصارى العرب الجهال فحكى القرآن حكايتهم. وها هي كتب
النصارى ومؤلفات علمائهم تملأ العالم منذ ألفي سنة فلا تجد فيها أثراً لهذا
التثليث الذي ينكره القرآن على نصارى العرب: الله والإنسان عيسى ابن مريم، وأمه؛
ولا تجد فيها ذكراً لا شراك أم المسيح من قريب أو بعيد في عقيدة التثليث. فهل جُن
جميع النصارى منذ ألفي سنة حتى يؤمنوا بثلاثة آلهة؟ هل توصل جهلهم وحماقتهم إلى أن
يؤلهوا مخلوقاً الإنسان عيسى ابن مريم، أو امرأة هي مريم بنت عمران أم عيسى؟!
فالنصارى قبل إيمانهم بألوهية المسيح، وقبل إيمانهم بالثالوث الأقدس يدينون بوحدانية
الله الخالصة. وإذا كان في ألوهية المسيح أو التثليث الإلهي ما ينافي وحدة الطبيعة
الإلهية فهم يرفضونهما.

لذلك
فالتثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث المسيحي. فلا النصارىيؤمنون ولا الإنجيل
علم ولا المسيح قال للناس: “اتخذوني وأمي إلهين من دون الله” (مائدة
119).



([2] ) فذلكة تاريخية:
هل وراء أقوال نصارى الحجاز مذاهب نصرانية معروفة وصلت إلى قلب الجزيرة؟ قد يكون
الأمر كذلكعلى ما يؤخذ من نصوص القرآن واجتهادات المفسرين، كما رأينا.

قبل
مبعث النبي العربي كان يتقاسم العالم امبراطوريتان ضخمتان، الفرس في الشرق من
الجزيرة العربية، والروم في الغرب. وقد تنصرت دولة الروم، وبدأت النصرانية تغزو
دولة الفرس، وهذا سبب ما كان بينهما في مطلع القرن السابع من حرب سجال، علاوةعلى
المنافسة على سيادة العالم، وتنازع البقاء.

وقد
غزت النصرانية الجزيرة وتوغلت إلى الحجاز، آتية من الشرق ومن الغرب معاً.

وقد
حاولت نصرانية الفرس أن تقرب بين المسيحية والدين القومي “المزدكية”
القائلة بإلهين، إله الخير وإله الشر أو إله النور وإله الظلمة، فطلعت علينا ببدعة
المانوية التي تسربت إلى قلب الجزيرة ونجد لها صدى في قول القرآن “وقال الله:
ولا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحد” (نحل 51). قال الشهرستاني هذه
المقالة تنقل تعليم المانوية والديصائية، من مارقة النصارى، القائلين بعنصرين أو
إلهين، إله الخير وهو النور، وإله الشر وهو الظلمة، (كتاب الملل والنحل ج 1 ص
143).

كما
غزت الحجاز النصرانية الغربية بفرقها الثلاث المعروفة آنذاك: المكائية واليعقوبية،
والنسطورية وليدة وحليفة الآريوسية المصرية. فكان آريوس يدعي أن المسيح عبد الله
ورسوله فهو مخلوق قبل غيره، وبه كبواسطة خلق الله العالم، فهو غير الله، فتبرأت
النصرانية منه، ودانت بالتثليث. وافترقت النصرانية الغربية ثلاث فرق في فهم هذا
التثليث: فقالت اليعقوبية، أتبعا يعقوب البرادعي، “بالأقانيم الثلاثة”
إلا أنهم قالوا انقلبت اكلمة لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده
بل هو هو وعنهم أخبرنا القرآن: “لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن
مريم!”. وقالت الملكانية أتباع الملك والمجمع النصراني “بالأقانيم
الثلاثة، إلا أنهم قالوا أن الكلمة اتحد بجسد المسيح وتدرع بناسوته” ففهم
العرب من ذلك أن الله صار “ثالث ثلاثة” فحكى عنهم القرآن: “لقد كفر
الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة”. وقالت النسطورية “وهي من الملكائية
كالمعتزلة من السنة” وهم أتباع نسطور: أن مريم هي أم المسيح لا أم الله،
فليست مريم بإله، ولا ولدت الله، وبهذا قد ينكرون عرضاً ألوهية المسيح كما قالت
اليعقوبية، والتثليث كما قالت الملكائية. ونظن مع عبد المسيح الكندي، أن القرآن في
قبوله نبوة المسيح، ونكرانه بنوته قد انتهى إلى مقالة النسطورية، فكفر معهم
اليعقوبية والملكائية من النصرانية الغربية كما كفر النصرانية الشرقية ونهى عن
القول بالتثليث “لا تقولوا: ثلاثة! انتهوا” ففيه مزلقة عن التوحيد. كما
نهى عن القول بالثنائية: “ولا تتخذوا إلهين اثنين” ففيه نكران للتوحيد.

وننقل
على سبيل الاطلاع ما كتبه الشهرستاني المؤرخ الديني: “واثبتوا لله تعالى
أقانيم ثلاثة. قالوا: الباري تعالى جوهر واحد يعنون به القائم بالنفس، لا التحيز
والحجمية، فهو واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية، ويعنون بالأقنومية الصفات:
كالوجود والعلم والحياة أي الآب والابن وروح القدس. وإنما العلم تدرع وتجسد دون
سائر الأقانيم (172) … وقالت الملكائية: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت
بناسوته ويعنون بالكلمة أقنوم العلم. ويعنون بروح القدس أقنوم الحياة. ولا يسمون
العلم قبل تدرعه به ابناً، بل المسيح مع ما تدرع به ابن … وصرحت الملكائية بأن
الجوهر غير الأقانيم وذلك كالموصوف والصفة. وعن هذا صرحوا بإثبات التثليث (173)
… وعنهم أخبر القرآن: لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة” … وحسب
رأي النسطورية، وهي من الملكائية كالمعتزلة من السنة: إن الله تعالى واحد ذو
أقانيم ثلاثة” الوجود والعلم والحياة، وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات،
ولا هي هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام على طريق الامتزاج كما تقول
الملكائية (؟) ولا على طريق الظهورية كما قالت اليعقوبية ولكن كإظهار الشمس في كوة
أو على بلور أو كظهور النقش في الخاتم. وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم
أحوال أبي هاشم من المعتزلة فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد (174). واليعقوبية أصحاب
يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحماً
ودماً فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن
الكريم: لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم. فمنهم من قال المسيح هو
الله ومنهم من قال ظهر اللاهوت بالناسوت (176). وزعم آريوس أن الله واحد سماه
أباً، وأن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل خلق العالم وهو
خالق الأشياء. وزعم أن الله تعالى روحاً مخلوقة أكبر من سائر الأرواح وأنها واسطة
بين الآب والابن تؤدي إليه الوحي. وزعم أن المسيح ابتدأ جوهراً لطيفاً روحانياً
خالقاً غير مركب ولا ممزوج بشيء من الطبائع وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند
الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم. وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث فتبرأوا منه
لمخالفتهم إياه في المذهب” (178) (كتاب الملل والنحل).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار