علم المسيح

التبشيرُ



التبشيرُ

التبشيرُ

. إن
الأسلوب الذي اعتمده المسيح، في تلك الفترة التي بلغت فيها البشارة أقصى مداها، لا
يختلف البتة عن ذاك الذي انتهجه في الفترات التمهيدية. فهو، من جهة يخطب ويعلّم،
ومن جهة أخرى يكشف عن قدرته بالمعجزات. وإنما يبدو أن شخصيته، مذ ذاك، قد اكتسبت
أبعاداً لا مثيل لها. أجل، إن قدرة الله الحيّ كانت قد تجلت في ذاك النبيّ
المجهول، يوم اخترق، بنظرْة واحدة، قلب نثنائيل والسامرية، أو في ذاك الشافي الذي
أفاء إلى اَلطمأنيئة أحد قوّاد أنتيباس.. بيد أن تلك القدرة باتت أبهى جلالاً في
ذاك الذي راحت الجموع الذاهلة تطيف به، وهو يخرج لهم، متكاثراً بين يديه، ما هو
ضروري من خبز الحياة؛ أو في ذاك الخطيب الذي راح، من على متن زورق، أو في فضاء
مدرّج ما بين الهضاب، ينطق بأقوال ثوريةّ تقَلْب الأعراف. هكذا نمت رسالة المسيح
شيئا فشيئاً. وما انقشع السرّ عنها تمام الانقشاع إلاّ في اللحظة التي انزاج فيها
الحَجرَ عن باب القبر، وظهر المسيح للنسوة ناهضاً من بين الأموات. بيد أن ملامحها
باتتَ تتًكشّف للناس، مع توالي الأيام في الجليل، وبات يتجلىّ، شيئا فشيئاً، من
وراء قسمات وجه النبيّ الإنسان، جلالُ وجه الله

 

. لقد
كان لكلام المسيح -على ما يبدو- وقع عجيب في الجماهير. فالشرق شديد الإعجاب بفصيح
الكلام؛ وفي تقاليد الساميين، من يهود وعرب وبابليين، كان على كل واضع مذهب جديد
أن يكون رجلاً من الملهمين، تجيش القلوبُ لفصاحته. ويوم عهد الله إلى موسى، عند
العوسجة الملتهبة، بإعتاق شعبه من العبودية، حاول التملّص من تلك إلمهمّة الساحقة
بقوله: “.. لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا من أول أمس، ولا من حين كلمت عبدك،
بل أنا ثقيل الفم واللسان!.. ” (خروج 4: 10 – 16). لقد كان أعاظم الأنبياء
كلّهم من أرباب الفصاحة. ومن الثابت أن المسيح قد ملك مثل تلك القدرة على تحريك
النفوس بالكلام. ويتضح لنا، من إحدى صفحات مرقس، أن الجليليين، لسماعه، تهافتوا
عليه يومأ، ولجّوا في محاصرته، فاضطرُ إلى الانسحاب من بينهم، وجاز البحيرة على
متن زورق، فازدادوا اندفاعاً، وبادروا إلى الطواف حول البحيرة لملاقاته في الجهة
المحاذية.. وقد اتفق للجماهير أيضأ، وهم منصتون إليه، أن سهوا عن فوات الساعة،
وزوال النهار، وذهلوا حتى عن استغاثات الجوع

 

ماذا
كان موضوع كرازة المسيح؟ هناك طائفة من التعاليم كان ينشرح لها القلب اليهودي
ويأنس بها. فعندما كان يقول لمستمعيه: ” أنتم نور العالم.. فليضئ نوركم قدّام
الناس، ليروا أعمالكم الصالحة، ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات ” (متى 5: 14
– 16)؛ أو كان يردد على مسامعهم: ” أنتم ملح الأرض!..” (متى 5: 13)،
كانوا، إذ ذاك، يفقهون، من غير عناء، معنى كلامه؛ كيف لا، وهم خالفة ذاك الشعب
المصطفى، الذي بات يفخر بكونه رسول التوحيد، منذ ألفي سنة!.. وأن يبُشِّروا بملكوت
اللّه، وما يتقّبهم فيه من تأسية أحزانهم، ومغفرة زلاتهم، وسعادة مقيمة، وخلاص؛
وأن يعُلنَ لهم: ” إن ابن الإنسان قريب على الأبواب، وأن هذا الجيل لا يمضي
حتى يكون هذا كله ” (مرقس 13: 29- 30)، فذلك كان، ولا شك، يصادف عندهم أحرّ
الموافقة، ويرُضي، بكلمات وجيزة، ما كان يكمن في كيانهم من ترقب دهريّ. بيد أن
تعليم المسيح ظلّ، مع ذلك، بعيداً كل البعد، عن نسق تلك الدعاوات التي طالما
أطلقها، في هضاب فلسطين، رجال متهوّسون، نصفُ أنبياء ونصف متآمرين، لا يبغون، من
ورائها، سوى إرضاء الصلف اليهودي. لقد كان يسوع، بالمعنى الصحيح، من المناقضين،
يجابه اللياقات والأعراف المقرّرة في تحديد الواجبات والحقوق؛ ويتصدّى لما هو
بديهيّ من وجوه الرفاه والتوقّر.. ماكان تفكير ذاك الشعب الجليلي، يوم طرقت أسماعه
كلمات المسيح، حيث قال: ” سمعتم أنه قيل: عين بعين، وسنّ بسن! وأما أنا فأقول
لكم: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى من مبغضيكم! ” (متى 5: 38؛ لوقا 6: 27). أي
خروج، فيَ ذلك، على المبادئ السلوكية؟! أوَ ما كان يبدو لمواطنيه – حتى في المواقف
التي لم يبلغ فيها إلى مثل ذاك التطرّف – على جانب فريد من الغلواء، يوم راح يؤكّد
لهم مثلاً، أنه لاُ يحرّم القتل فقط، بًل مجرّد الحنق أيضاً (متى5: 21)، وليس
الزنى فحسب، بل حتى تلك النظرة العَكرة التي يحوّط بها الرجلُ المرأةَ التي
يشتهيها (متى 5: 27). هذا، ولم يَكن يكتم عنهم أن تعاليمه سوف تحدث مقاومات هائلة،
وأنّ أتباعه سوف يسُامون ألوانا من ” الإهانة والاضطهادَ “، ويتُهّمون
زوراً بشتى المآثم (متى5: 11)، وأنّه لا بدّ لهم مع ذلك، من أن “يحملوا
صليبهم ” بفرح! (لوقا 14: 27). هذه الأقوال المذهلة، وكثر من أشباهها، تبدو
اليوم كأنها قد فقدت صرامتها، وأمست لغواً وخطابة! وقد لطّف الناسُ تلك الحكم
العنيفة، وكأنّ آذانهم باتت تنوء بها! أجل، إن استيعابها ليس دائماً بالأمر
اليسير. فلغة الشرق تجنح إلى شئ من المغالاة، وفيها وُجُوه ٌمن التعبير لم تكن
لتخفى على معاصري المسيح مراميها الصحيحة؛ فإذا حملناها على معانيها الحرفية،
تعرّضنا لأن نخرج بها عن الأغراض التي قصد إليها المسيح نفسه. إن ما يُطلَب من
المسيحي، من خلال ذاك الكلام الثورويّ، إنما هو التنكّر للميوعة سالسهولة والمذاهب
المسلكيّة الرغيدة. وليس من حاجة إلى التزام المستحيل. فإنه لم يؤثر قط عن رسول من
رسل المسيح أنه ” قلع عينه ” أو أنه ” قطع يده ” حجباً
للتجربة. وًيسوع نفسه، في غضون آلامه، لم يحوّل خدّه الأيسر لمن لطمه على خدّه
الأيمن. والكنيسة لم تثنِْ على أوريجانوس، يوم ضحىّ برجولته، رغبةً في تفسير بعض
آيات من الإنجيل (متى5: 29 – 30) بأنها فرائض إلزاميةّ! فلا بدّ إذن من أن نأخذ
بتعاليم المسيح أخذا حرفياً، حجهد المستطاع ن ولكن من غير جنوح إلى الفضيحة
والفوضى..

 

. هذا
ويبقى واقعاً أن المتحضر من أهل هذا الزمان – باستثناء ما ندر! – لا يفكر مطلقاً
بأن يحول خده الأيسر لمن يلطمه على خده الأيمن، وأنه يزهد كل الزهد في أن يبذل
رداءه لمن يغتصبه ثوبه! والحق أن هذه العبارات لا تزال تُسخطنا ن مع أن لنا من
المسيحية تراث ألفي سنة. فكيف بتلك الجماهير من أهل الجليل، وقد وجهت إليهم في
جدتها الأولى ن وسنائها الساطع؟.. ولا شك أن أولئك اليهود الذين ألفوا المحاسبة
الدقيقة، في تطبيق الشرائع الموسوية، قد فوجئوا بها، بقدر ما يمكن أن يفاجأ بها،
في القرن العشرين، أقوام من المسيحيين المتضجعين في تقاليدهم البرجوازية. فلكي
يكون هذا الكلام قد وفق إلى بعث ذاك الولع الشعبي الذي يذكره الإنجيل، لا بد أن
تكون قدرة خفية قد انطلقت منه، وأن يكون الجليليون قد أنسوا، من خلال بساطتها المطلقة،
شيئاً يفوق طاقة المخلوق

 

. تلك
القدرة قد تجلّت أيضا في المعجزات التي جاد بها المسيح، طوال مقُامه في الجليل.
وكأنما أراد أن يدعم كلامه ويوثق إيمان أتباعه، بتلك الخوارق التي كانت تلُجىء
أعصى الناس إلى الإقرار بمصادرها العلوية. ومعجزات المسيح فئتان: منها ما توخىّ به
التخفيف من برُحاء الناس والإعراب عمّا كان يحفل به قلبه من رأفة لامحدودة بتلك
الطبيعة الرهينة بجميع ألوان العذاب، والتي منها اتخذ الكلمة جسداً. وأماّ الفئة
الأخرى فقد باتت مرتبطة ارتباطاً أوضح بالأهداف الماسويةّ، فتجلىّ بها، من خلال
الحسد الفاني، مجد الله الحيّ!

 

. يجب
أن نتمثل المسيح وسط زُمرَ من المرض والعرُجْ والشُلّ في توارد مستمرّ. وكانوا
يتقاطرون إليه، فور توقفّه عن الكلام، عند خروجه من مجمع، أو هبوطه من زورق: فمن
عمُي يلتمسونه بأحداقهم الفارغة، وصمّ يشخصون إليه بوجوههم الكَثيفة. وًلم يكن من
قرح خبيث إلاّ وكانوا يقدمون على طرحه أمام ناظريه. وأماّ يسوع فكان يستجيب لذلك
كله استجابة لا تعرف الملل. وكان حسبه أن يلمس رغبة صادقة، أو يقع على قبس من
الإيمان، فيجعل شيئاً من قدرته في خدمة تلك القضايا الصغيرة

 

. في
ذات يوم، جاء المسيح رجلٌ أبرص، – واحد من أولئك الذين يثيرون كره الناس
واشمئزازهم – واندسّ في الجمهور، خلافاً للسنةّ الموسويةّ القاضية بعزلهم
(اللاويين 13: 45). وكشف للمسيح عن اللمعة الحمراء الكريهة، االمكوّرة بشكل فوهة
بركانيةّ، يتخللها شعر أبيض. وقال له: ” إن أردت، تقدر أن تطهرني “. أجل
إنه يؤمن بقدرة المسيح الخارقة ويتوقع منها غياثاً.. ولكن، من أي صنف كان ذاك
البرص؟ فلفظة البرص كانت تطلق على علل كثيرة منها أمًراض جلدية سهلة الشفاء؛ ومنها
السلّ العظمي، ذو القروح المصدّدة، وهو نادر الشفاء، يفتك بسلاميّات الأصابع
فيفكّكها؛ ولا يزال له آثار في الشرق. ومنها البرَص الحقيقي، ولم يكن له -إذ ذاك –
عند الناس، علاج! مهما يكن من أمر، فحسب المسيح كلمة، بل إشارة! ومدّ يسوع يده
قائلاٌ: ” أريد، فاطهر! “. وللحال زال قرحه، فاستُطير من الفرح، وتوجّه
توّاً إلى قادش – وهي مدينة اللاويين في الجليل – ليشُهِد الكُهّان فيها على حقيقة
شفائه (على ما جاء في الشريعة الموسوية، لاويين 13: 4 1)، ويشكر لله تَطهَره من
البرص (لوقا5: 12-16؛ مرقس 1: 40- 45؛ متى 8: 1-4)

 

.
وهكذا نرى المسيح يُعيد الحركة إلى مشلول سيق إليه، والمرونة إلى يد يابسة بسُطت
نحوه، والبرء إلى غلام أحد القوّاد، كان قد أشفى على الموت. ولم يكن ليستفئ رحمةَ
المسيح إخوتهُ في العنصر والدين فقط، بل كلّ بشر! ففي رحلته إلى فينيقية، وهي
البلد الذي كان يضمر أهلهُ لليهود بغضاً- على حدّ ما أثبته يوسيفوس – نراه يستجيب
دعاء الغرباء والوثنيين، ممن جاؤوا يستنجدونه. منهم ذاك الأصم الألكن الذي قُدّ م
إليه، فوضع أصابعه في أذنيه، وتفل ولمس لسانه بريقه، وقال له: ” إفّثاً! أي
انفتح! “، وللوقت انحلّت عقدة لسانه، وانفتح مسمعاه. (مرقس 8: 31-37). ومنهم
أيصاً تلك الكنعانية التي أقبلت تستعطفه على ابنتها المريضة؛ وإذ تظاهر يسوعٍ،
بادىء الأمر، بصرفها، وجدت، لاسترحامه، كلمات مؤثرة، غاية في التواضع. فقد قال لها
المعلم: ” ليس حسناً أن يؤُخذ خبزُ البنين، ويلُقى للكلاب، فأجابت وقالت له:
نعم، يا سيّدي!والكلاب أيضاً تحت المائدة تأكل من فتات البنين ” (مرقس 7:
24-30؛ متى15: 21 – 28)

 

! لقد
عزًتْ الكنعانية إلى الشيطان بلوى فتاتها. ولا غرابة في ذلك، فقد كان الناس، في
ذلك العهد، يتوهّمون الشيطان في كل مكان. وقد ورد في التلمود أن الأبالسة يألفون
التردّد إلى الأماكن التي يبيت فيها الرجال وحدهم، وقد يحضرون أيضاً في المخادع
الزوجيّة. فإذا ذُرّ الرماد على حضيضها، ظهرت، عند الصباح، آثار أقدامها المعقوفة
مثل أقدام الديك. وكانت تعُزى إليهم أمراض عصبية كثيرة، باتوا يكافحونها بالعزائم.
وقد روى يوسيفوس خبر رجل اسمه أليعازر، زعم يوماً، في حضرة الامبراطور فسبسيانسُ،
إعتاق رجل استحوذت عليه الأرواح. فجعل تحت منخريه خاتماً فيه ” حشيشة سليمان
“، واندفع يعزّم عليه بالرّقى.. وأمّا المسيح فما تذرّع بشيءٍ من ذلك، بل
اجتزأ بكلمة واحدة، كان فيها شفاء ابنة الكنعانية

 

. بيد
أن القوى التي كان يجابهها، في جولات عنيفة، لم تكن ليستهان بها. فلقد أفضى،
يوماً، إلى بقعة الجدريين – وهي المنطقة الواقعة جنوبي بيت صيدا يولياس، عند ضفة
البحيرة – فواقع فيها رجلاً به شيطان، كان يقضي حياته في القبور. (هناك كهوف لا
تزال حتى اليوم في الصخور). وكان من الشراسة بحيث لم يكن في طاقة إنسان أن يقمعه.
إذ ذاك جرى بين المسيح والروح النجس صراع ما كان إلاّ لقدرة اللّه أن تحرز فيه
نصراً ساحقاً. لقد كان المجنون هناك يصيح ويتخبطّ؛ فما إن مثل المسيح، حتى هرُع
إليه، وكأنّ قدرة خلاّبة قد اجتذبته. وصاح، وكأنما أراد هو نفسه أن يعُمل الرقية
في خصمه العنيد: ” مالي ولك، يا يسوع ابن الله العلي؟.. اسنحلفك بالله أن لاّ
تعذبني! ” فسأله المسيح: ” ما اسمك؟ ” فقال: ” اسمي لجئون
لأننا كثيرون!”. فقال يسوع: ” اخرج من هذا الرجل! “، فانصاعت
الكتيبة الشيطانية، وتهاوت تلتمس فريسة، فإذا بقطيع من الخنازير، فدخلت فيه؛
فتواثب القطيع عن الجرف إلى البحر!.. برئ الرجل، وجلس عند أقدام يسوع، صحيح العقل،
هادئ الأعصاب. ولقد جرى ذلك كله في جوّ من الرعب والبساطة في آن واحد. فأوجس أهل
المنطقة ذعراً من ذاك النبيّ، وما يملكه من قدرة خارًقة، فتوسلّوا إليه أن ينصرف
عن تخومهم (لوقا 7: 26-39؛ مرقس 5: 1-20؛ متى 8: 28 – 34)

 

.
والواقع أنها مرُعبة تلك القوة التي كانت بين يدي المسيح. ولكنه خلافاً للسَحرَة،
بل خلافا لموسى بالذات، لم يسخرّها قطّ إلاّ للخير. فالموت نفسه كان خاضعا لها..
فلقد جرى ذلك، في نايين (نائيم)، وهي قرية صغيرة بقرب الناصرة. وكان المعلم شاخصاً
إليها مع تلاميذه. وإنهم لصاعدون اليها في المقربَة التي لاتزال مسلوكةً حتى
اليوم، وإذا بموكب ينحسر منها شطر الرموس المَنحوتة في سفح الهضبة. وكانوا يشيّعون
شاباً فوق نعش قد همدت عليه جثة مُسجّاة بكفن. ومشت وراء النعش امرأة تذرّف السمع
صامتةً لا ثشكو شيئاً، ولا يختلح في ضميرها فكرة واعية، من شدّة الأسى. ولكنّ رأفة
الله قد نفذت إلى أعماق تلك النفس الملتاعة: إنه لا بدّ لتلك الأرملة من ان تستعيد
ابنها وسندها الأوحد!.. ودنا يسوع من النعش، ولمسه قائلا: ” أيها الشاب، لك
أقول قم! ” (لوقا 7: 1 1- 16)

 

.
وجرى مثل ذلك، مرّة أخرى، في كفرناحوم أو في جوارها: هبط يسوع من الزورق، وإذا في
الجمع رجل ينتظره، اسمه يايروس (يائيروس). وكان من وجوه القوم، ورئيساً للمجمع.
وكان له ابنة وحيدة قد أشرفت على الموت؛ فجاء يتوسّل إليه. ولا ريب أن ذاك
اليهوديّ المؤمن قد تذكّر، في تلك اللحظة، أن إيليّا وأليشع قد بعثا أمواتاً،
(كانا يعمدان إلى الجثة، وينطرحان عليها ” الفم فوق الفم، والعين فوق العين،
واليدان فوق اليدين له).. وإذ أقبل إليه من ينبئه بوفاة ابنته، لم يكفّ عن
التوسّل، بل ظلّ ثابتاً على إيمانه بقدرة اللّه.. وذهب يسوع إلى بيت الميتة، فإذا
بالأمتعة قد قُلبت حدادأ، والزمّارين قد أخذوا بالنواح؛ فقال يسوع: ” طاليثا
قومي!”. كلمتان أثبتهما مرقس بالعبرية، فكانت بهما الكفاية! ” يا بنية،
لك أقول قومي! “، فأطاعت الفتاة، ونهضت أمام والديها؛ وكانا من شدة الدهش
بحيث اضطرُ المسيح -وفيَ قلبه عناية الوالدين – أن يطلب لها من والديها طعاماً.
(لوقا 8: 40-42؛ 49-56؛ مرقس 5: 22-24؛ 35-43؛ متى 9: 8 1 – 9 1؛ 23 – 26)

 

. لقد
كانت إذن هائلة، تلك القوّة، ومع ذلك، في منتهى الروعة والبساطة. ولقد مرّ بنا أن
يسوع لم يتذرعّ قطّ بما كان يتذرعّ به السحرة والرابيوّن من رقىً وعزائم، ولم
يلجأ، في سبيل إحياء الموتى، إلى ما كان يلجأ إليه كبارالأنبياء، من طرائق. فلقد
كانت إرادته كافية لإرغام الطبيعة. إن القوى الجهنمية بحاجة إلى الاعتمال
والتمحّل. وأما المسيح فكانُ يجري، بمنتهى الطبعيةّ، أعمالاً باتت ثفوق الطبيعة.
وإذ اتهمه خصومه يوماً بالتعامل مع قوى الجحيم، في إجراء تلك الخوارق، أجابهم
هادئاً، مطمئناً: ” فإن كان الشيطان يخرج الشيطان. فقد انقسم على ذاته، فكيف
تثبت مملكته؟” (متى 12: 26). فكل شيء، في بطًل تلك المشاهد، يفوح اطمئناناً
وثقة بدعوته؛ بل كل شيء فيه ينمّ عن اللّه

 

. إن
المشاهد الكبرى التي تتخلّل هذا الجزء من الإنجيل قد بات لها، على ما يبدو، غاية
أخرى: وهي أن تقوم، في نظر أولئك المحظوظين الذين اختارهم يسوع أعواناً، دليلاً
ساطعاً على عظمته الفريدة. أجل، إن الأشفية، وإخراج الأرواح، وبعث الأموات، كل ذلك
يبهر العقل، ويلتبس على المنطق. وإنما يبقى بإمكان الذهن أن يتقصى مؤديّاتها،
ويكتشف لها شبه حلول وعلل. وأمّا أن ينفّذ إنسان إرادته في عناصر الطبيعة، ويتمكن
من نواميسها الأساسية!.. كان المسيح، ذات مساء، قد تعب من التبشير، فاستسلم للنعاس
في زورق بطرس، مسنداً رأسه إلي تلك الوسائد التي ما زالت، من عهد هوميرس حتى
اليوم، تجهزّ بها موخّرات السفن. فهبّت الريح. وربما كان ذلك في الفصل الذي تنصبّ
فيه الرياح على البحيرة ” زوبعةً هائلة” (على حدّ ما جاء في أحد النصوص
الربّينية)، وذلك عبر الشعاب التي تخدّ نجاد شرقي الأردن.. وعَبّ البحرُ، واصطفقت
أمواجه، ثائرة، تعوي عواء العناصر إذا نشطت من عقالاتها.. إن الملاّحين، في طبرية،
يهابون حتى اليوم، مثل تلك العواصف. فهرع التلاميذ إلى يسوع يوقظونه: ” يا
سيد، نجنا، فإننا نهلك”، ففتح المعلّم جفنيه. في ظرف مثل هذا الظرف، كان جواب
قيصر المتعجرف للبحار الذي كان عابراً بهً بحر الأدريتيك: ” علامَ الخوف،
وأنت تقُلِّ قيصر وثروته؟ “؛ وأمّا يسوع فاكتفى بأن قال: ” أين إيمانكم؟
“.ثم انتصب، وبسط ذراعه في حركة مثّلها رامبراندت في صورة رائعة، وقال للريح:
” صه! “، وللبحر: ” أصمت! “. إذ ذاك استحوذ على قلوب التلاميذ
ذهول آخر، ورعب أعظم! أجل، لقد كانت ثقتهم بالمعلم عظيمة! ولكنهم ما كانوا
ليتوقّعوا أن يطوّع الريح والبحر! (لوقا 8: 22- 25؛ مرقس 4: 35- 41؛ متى 8: 23 –
27)

 

.
هناك عاصفة أخرى استدعت معجزة لا تقِلّ روعة عن الأولى. وكان للتلاميذ، ليلتها،
وحدهم، في السفينة. وأمّا يسوع، فكان قد انتحى موضعا يصليّ فيه، كمألوف عادته.
وكان التلاميذ قد فصلوا عن الشاطىء الشرقي يرومون كفرناحوم. ولكن الرياح الهوجاء
كانت ترتدّ بهم شطر اليمّ. وعند الساعة الثالثة من الصباح، كانوا ما زالوا بعد على
خمسة كيلومترات أو ستة من المرفأ، وقد أوهى التعب سواعدهم. إذ ذاك تمثل لهم خيال مقبل
إليهم فوق المياه؛ فانتابهم الخوف لمشهد ذاك الطيف. إلا أن صوتاً تناهى إليهم، في
تلك اللحظة، قائلاً: ” انا هو لا تخافوا! “؛ ولم تكنملامح الشبح، في
الظلمة، على كثير من الوضوح. فصاح بطرس قائلاً: ” إن كنت أنت هو، فمرني أن
آتي إليك على الماء!”؛ فقال: ” تعال! “. فألقى بطرس نفسه في اللجة.
ولكنه ما إن جس، بقدمه ن الغمر المتحرك، وآنس ذاته في ذاك الوضع المهدد حتى داهمه
الشك؛ وللحال بدأ يغرق. فأمسك يسوع بيده، وتوجه به شطر الزروق ن وأصعده إليه. لقد
كانت العبرة بينة: فالذي يطالب به المسيح أولئك الذين تبعوه، إنما هو الإيمان بلا
خلل، مهما كانت مريبة الظروف التي يقذفهم فيها

 

. ذاك
هو الوجه الثاني الذي تميزّت به الرسالة التي قام بها يسوع، طوال ثماني عشر شهراً،
وسط الهضاب الجليلية. فهو، في الوقت نفسه، قد علّم، وبرهن عن قدرته بالآيات. ولم
يكن هناك أدلّ على قدرته، من معجزتىْ ” تكثير الخبز “، حيث استعاد
المسيح، نوعاً ما -ولمجرّد إقاتة بعض آلاف من الجياع – قدرة الخلاّق، فبعث في
الناس طعامة بات كأنه، سلفاً، بشرى الطعام الذي سوف تغتذي به الأرواح! ويتبين أن
المسيح، في مختلف نواحي رسالته، قد اتبع نهجاً واحداً، في ما هو من تبليغ رسالته
وفق نظام تدريجي، والاحراز من أن يكشف للناس، دفعة واحدة، عن مضمون تعليمه. فكما
سنراه يخاطب الناس بأمثال، نراه أيضاً يتقدّم إلى الذين أوثروا بمعجزاته، أو الذين
وقفوا عليها، بألاّ يبوحوا بها للجموع. فهو قد حظرَ الكلام، مثلاً، على الأبرص
والأخرس ويائيرُس وكثر غيرهم. وإنما ليس من عجب ألاّ يكون ذاك الحظرْ قد نُفّذ
تنفيذاً كاملاً. فالولع الذي أثاره المسيح بكلامه، كان زهيداً إلى جانب ما أثاره
بخوارقه: ” فكلما زجرهم عن الكلام، ازدادوا إعلاناً لتلك الأمور، لأن إعجابهم
به كان عظيما”: مثلُ هذا التعبير كثير في الإنجيل

 

.
يبقى أن نعرف كيف كانت أصداء هذه المعجزات في المسيح ذاته، من حيث بشريّته! قد لا
يعسر أن ندرك، فيه، نفسيّة الخطيب الذي بات يسيطر على الناس بقوّة بلاغته.. ولكن
ما كان أمر الشافي، وقهّار الأبالسة، وباعث الموتى؟.. إن الإقلاع عن كل بحثٍ نفسي
متعين هنا! فإنما نحن بإزاء سرّ مطويّ! بيد أن هناك حادثة قصيرة- وردت في الأناجيل
المؤتلفة- تبسو كأنها تفُسح إلى ذاك السرّ منفذاً، لا يعتم أن ينحجب من جديد؛ وإذا
بتلك الأسطر الانجيلية تخلّف من المعضلات أكثر مما تكشف عنه من حلول!..

 

. لقد
جرى ذلك في اليوم الذي أنهض فيه يسوع ابنة يائرس من الموت. فقد كان في الجمع امرأة
يحرّم عليها الشرع اختلاطها بالناس، إذ كانت مصابة ” بنزيف دم ”
باسوريّ، باتت معه، في نظر الناموس، من فئة المنجسين. وكانت، عبثا، قد استفرغت
لشفائها كل حيلة؛ وقد صرّح مرقس – بلا مواربة- أن الأطباّء كانو! قد تحيفوا
ثروتها.. وربما كانت قد عمدت، أيضا، إلى الوصفات الغريبة التي أشار بها حكماء
إسرإئيل في معالجة ذاك الداء: من مثل حمل رماد بيضة نعام في جراب صغير فوق الصدر،
أو حبةّ شعير مأخوذة في روث بغلة بيضاء. مهما يكن من أمر فقد توفقّت المرأة إلى أن
تدنو من المسيح –ولم يًبق لها سوى أمل وحيد! – ستلمس أحد الأهداب الزرق التي كان
يحملها، – جريا على العوائد- في أطراف عباءته. ” وفي الحال – على حد ما جاء
في إنجيل لوقا- (في تلك اللّحظة السرّية المعيّنة)، وقف نزف دمها. فقال يسوع:
” من لمسني؟ فإني قد شعرت بقوّة قد خرجت مني!”. لقد أوجس، في وسط الجموع
المزدحمة من حوله، ذاك النداء الصامت الموجّه إلى قدرته، وعرف أن الآب، بواسطته،
قد أثاب إيمان تلك المرأة. فقال لها، وهي عند أقسامه مرتعدة: ” يا ابنتي!
إيمانك خلّصك، اذهبي بسلام! “. أجل! إننا ندرك حق الإدراك صنيع المرأة، وثقتها
المتواضعة. وأماّ يسوع؟.. فهل نفقه شيئاً من ذاك الجهاز النفسيّ الذي أنبأه
بالقوّة التى استرقت منه؟.. ربما كان بالإمكان أن نتحسّس، من خلال هذه الحادثة،
شَيئا من السرّ السحيق الذي اكتنف عمل الطبيعة الإلهية، عبر الطبيعة الانسانية، في
السيد المسيح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار