اللاهوت العقيدي

الباب الرابع



الباب الرابع

الباب الرابع

سر العشاء والأغابي

الفصل الأول

المفهوم اللاهوتي لسر العشاء وتسليمه
كعمل إيمان وأساس عقيدة

حينما يسرد المؤرخون
والكُتَّاب الكنسيون في العهد الجديد أخبار الكنيسة، نجد الإفخارستيا تحتل دائماً
مكاناً هاماً في كل مدوَّناتهم. ولكن للأسف الشديد يحاول الكُتَّاب دائماً وخصوصاً
في القرون الأُولى إضفاء السرِّية على ممارسة السر، عن قصد، حتى لا يُدرَك مفهومه
إلاَّ عند المختصين به، كما سبق وقلنا.

ولكن من خلال هذا
التاريخ ينكشف دائماً الاتجاه الفكري والإيماني الذي كان يعيش فيه ويؤمن به أصحاب
كل حقبة زمنية يتعرَّض لها المؤرخ، مهما كان الشحُّ ومهما كانت السرية التي
يُعالَج بها هذا السر. فالكاتب الكنسي كان دائماً أبداً يضع في اعتباره، بل ويحمل
في وعيه اللاإرادي، أن يوصِّل الحق إلى الأجيال الآتية توصيلاً صحيحاً ونقياً
كاملاً.

لقد كان سر الإفخارستيا
منذ أول يوم تأسس فيه، خلال العشاء ليلة الخميس، معتبَراً أنه سر الأجيال القادمة
كلها الذي سيضبط إيمانهم بالله وحياتهم في المسيح وسلوكهم في الحاضر ورجاءهم في
المستقبل. هكذا رأى المسيح، وهكذا صمَّم ودبَّر وأسس هذا السر، لذلك وجدنا في
الفصول السابقة كلها، وسنجد دائماً أبداً، أن كلمات الرب التي أسس بها سر
الإفخارستيا متفقة تماماً مع أعماله التي عملها قبل ذلك وبعد ذلك بانسجام يفوق
الوصف.

فحياة الرب لا يمكن
فهمها إلاَّ بموته، وموته لا يمكن فهمه إلاَّ بحياته، وحياته وموته لا يمكن
إعلانهما إلاَّ بالإفخارستيا.

وهو لم يكن بشراً عادياً
حتى إن موته وحياته يحفظهما التاريخ بالإجلال والإكرام فحسب، بل إن المسيح إله عاش
بالجسد على مستوى إله ومات بالجسد على مستوى إله. إذاً، لزم وتحتَّم
أن هذا الجسد الإلهي
» بدمه ولحمه «الإلهيين
لابد أن يشهد للاهوته على مستوى الواقع ويعلنه!!

وهكذا
كان، وهكذا يكون، جسد ودم على المذبح يشهدان بصورة دائمة للاهوت المسيح على مستوى
الإيمان والقوة والحياة. فاللاهوت لن يستنفذ الإفخارستيا شرحاً في يوم من الأيام،
بل الإفخارستيا هي التي تُلقي النور والحق والحياة باستمرار في القلوب والعقول
لفهم لاهوت المسيح على مدى العصور.

أمَّا الحوادث التي
عبرها المسيح إذا نُظرَت تاريخياً وحسب، مثل المحاكمة والصلب والموت وحتى أخبار
القيامة، فإن فهم التلاميذ لها من جهة لاهوت المسيح ومضمون العهد الجديد فيها كان
عسيراً ومتعثراً جداً. وهذا هو كلام المسيح بعد القيامة لتلميذين من التلاميذ:

+ » أيها
الغبيَّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلَّم به الأنبياء، أما كان ينبغي
أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر
لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب.
«(لو 24: 2527)

ولكن لأن الرب كان
عالماً ببطء القلوب في الإيمان على مستوى الحوادث وثقل الآذان في السمع والفهم على
مستوى الأخبار وشرحها، وضع في تدبيره هذا السر بعمقه الإلهي وأسسه لهم ليلة العشاء
الأخير ليكون هو بذرة الإيمان الحيَّة الباقية لهم إلى نهاية الدهور، حتى وإن
كانوا لم يفهموه آنئذٍ، إلاَّ أنهم على مدى الأيام استطاعوا من خلال هذا السر
وممارساته أن يشرحوا كل الحوادث، بل كل الأقوال والأعمال التي قال وصنع!
» لست تعلم
أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد.
«(يو 7: 13)

وعلى نفس مائدة العشاء
السري التي أكلوا عليها مع الرب الوليمة الأخيرة، وفي نفس العليَّة، جلس التلاميذ
بعد القيامة وبعد الصعود مراراً وتذاكروا وتذكَّروا وفهموا كل شيء! نعم، فهموا كل
شيء! لأن سر الإفخارستيا أضاء لهم فعلاً طريق الحياة والخلود، وخبز السماء فتح
أعينهم ليدركوا الآتي من السماء مع كل أسرار السماء:
» فلما اتكأ
معهما أخذ خبزاً وبارك وكسَّر وناولهما. فانفتحت أعينهما.
«(لو 24: 30و31)

فمن خلال الإفخارستيا
وكلمات العشاء الأخير، أدركوا معنى الصليب وعمق الصليب ودم الصليب،

ثم
انعكس نور الجلجثة إلى الوراء على جلسة العشاء الأخير، فأضاء معاني الكلمات التي
قالها الرب واستوضح سرها، فانكشف أمامهم سر الإفخارستيا، سر العهد الجديد بدم
المسيح.

كذلك أيضاً فمن خلال
الإفخارستيا والجسد المأكول أدركوا سر القيامة بالجسد التي قامها المسيح وأدركوا
عدم الموت الذي أحسُّوه بإيمانهم، وذاقوا عمق الحياة الأبدية ومعناها.

وبالتالي فإن القيامة
بالجسد التي قامها المسيح أمام عيونهم عادت فألقت نورها أكثر فأكثر على سر
الإفخارستيا، فأدركوا في أكل الجسد الحي والمحيي قوة القيامة والحياة، وأدركوا في
دم الإفخارستيا دواء عدم الموت، وأدركوا عمق الحياة الأبدية وصدَّقوا المجيء
الثاني وترجَّوه.

لقد بدت أحاديث المسيح
عن الموت وقت العشاء الأخير مساء الخميس غير مفهومة وثقيلة جداً جداً على قلوبهم
التي كانت قد تعلَّقت بشخصه أشد التعلُّق، فهل الموت إذاً سيفصل بينهم وبين مَنْ
أحبوه و
» أحبهم إلى المنتهى «

كما بدت لهم أقوال الرب
وأحاديثه عن القيامة والملكوت الآتي، في مساء الخميس أيضاً، أنها شيء يختص باليوم
الأخير هناك في المستقبل البعيد كما قالت مريم أخت لعازر، لقد كانت أحاديث باهتة
جداً زادت الإحساس بموت الرب ثقلاً على ثقل في هذه الليلة.

ولكن المسيح وهو عالم
أن القيامة قائمة وعلى الأبواب، وأن الملكوت رهن الصعود، لم يكترث كثيراً لحزنهم
وثقل قلوبهم:

+ » لأني قلت
لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم؟ … أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح … لكني
سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم
ولا ينزع أحد فرحكم منكم، وفي ذلك اليوم لا
تسألونني شيئاً.
«(يو
16: 6و20و22و23)

وفعلاً صارت اجتماعاتهم
حول الإفخارستيا بعد صعود الرب وبحضور الروح القدس مصدر فرح لا يوصف بسبب إحساسهم
بحضور الرب، وبسبب النور الذي أضاء قلوبهم وأذهانهم وأدركوا به كل شيء! لقد ذاقوا
من خلال الإفخارستيا ليس فقط معاني الحياة والملكوت والخلود، بل
» وذاقوا قوات
الدهر الآتي
«(عب 5: 6)، ذاقوا
المسيا بالروح والحق وعاشوا أيامه مجدَّداً إنما فوق الزمن والتاريخ.

 ولكن
لولا الإفخارستيا التي جمعتهم في المسيح وجعلت من اجتماعهم جسماً حيًّا متحداً
بالروح القدس استُعلن فيه المسيح واستُعلن بواسطته،
ما كانت كنيسة وما استُعلن شيء من أعمال الرب.

لذلك نستطيع أن نقول
بيقين، إنه بعملين تمَّ استعلان المسيح للعالم: بالإفخارستيا، وبوحدة التلاميذ
الروحية في جسد المسيح السري.
فبالإفخارستيا استُعلن سر الجسد والدم! وبوحدة
التلاميذ الروحية في الإفخارستيا استُعلن المسيح بالروح وحُفظت جميع أقواله
وتعاليمه في قالب واحد، أي في الكنيسة التي بواسطتها استُعلنت كافة أعمال الرب
وصفاته الإلهية برأي واحد وفكر واحد متحد كما رأيناه في الأناجيل والرسائل.

إذاً، يمكن أن نقول إن
الإفخارستيا حققت وجود المسيح الحي، أمَّا وحدة التلاميذ بالروح في جسد المسيح فقد
أمَّنت الكنيسة ضد الخلافات والآراء الفردية والنظريات والذاتيات بالنسبة للكنيسة
الأُولى الأم، أي كنيسة الرسل!!

لقد نجحت الكنيسة
الأُولى، ومنذ أول اجتماع كرازي لها أي منذ أول ممارسة لها لوصية
الرب، أن
» تُخبر بموته « نجحت في الشهادة للمسيح على مستوى كل ما قاله
المسيح ليلة العشاء، وذلك حينما وقف بطرس الرسول يقول:
» فليعلم
يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًّا ومسيحاً
«(أع 36: 2). هنا شهادة من عمق الإفخارستيا. الصليب هنا فهمه بطرس
الرسول بصورته الإرادية كمشيئة الآب ومسرة المسيح. ألَم يسبق المسيح ويقدِّم لبطرس
جسده مكسوراً ودمه مسفوكاً قبل الصليب في مساء الخميس على العشاء؟

إذاً، فالصليب رسالة
وطريق لاستعلان ربوبيته وواسطة حتمية للإيمان بالمسيا!! كان لا يمكن بدون سر عشاء
الرب وتقديم الجسد المكسور والدم المسفوك مُسْبَقاً وقبل الصليب أن يدرك بطرس هذا الإدراك العالي والإلهي والأُخروي لمفهوم الصليب
الإرادي ورسالة الصليب الكرازية للإيمان بالمسيَّا!

هكذا
خرجت الكنيسة الأُولى كارزة بمجد الصليب وبموت الرب الكفَّاري وعمل الدم للمغفرة
والتطهير والمصالحة والفداء من وراء خلفية قوية صلبة أي الإفخارستيا
في عشاء الخميس التي كانت تشرح كل هذا بجرأة كجرأة النبي الذي يتكلَّم عن
المستقبلات وعيناه تريان الحقيقة!!

لقد تم قول الرب الذي
قاله على مائدة العشاء الرباني:
» وقلتُ لكم الآن قبل أن
يكون حتى متى كان تؤمنون
«(يو 29: 14). نعم، قد تحقق هذا على مستوى أكثر من الكلام، فدم
الإفخارستيا الذي قدَّمه الرب لتلاميذه في الكأس قائلاً: «هذا هو دمي المسفوك
عنكم لمغفرة الخطايا»
جعل التلاميذ يدركون قوة وفعل الدم الذي سُفك على الصليب
(كان يستحيل فهم ذلك بدون الإفخارستيا):

+ » دم يسوع
المسيح ابنه يطهِّرنا من كل خطية.
«(1يو 7: 1)،

+ » الذي حمل هو
نفسه خطايانا في جسده على الخشبة.
«(1بط 24: 2)،

+ » عاملاً
الصلح بدم صليبه.
«(كو
20: 1)،

+ » متبررون
الآن بدمه.
«(رو 9: 5)،

+ » لنا الفداء
بدمه.
«(أف
7: 1)،

+ » غسلنا من
خطايانا بدمه.
«(رؤ 5: 1)،

+ » اشتريتنا
لله بدمك.
«(رؤ 9: 5)

إن هذه الرؤيا العالية
والمبهجة لقوة الدم وفعله الذي سكبه المسيح على الصليب هي منظورة من خلال
الإفخارستيا من شهادة المسيح والكأس في يديه وهو يقول:
» هذا هو دمي
المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا
« لقد سَرَتْ فيهم فعلاً قوة وفعل دم المسيح الذي قدَّمه لهم
مسفوكاً في سر كأس الإفخارستيا قبل الصليب!! فكان لهم قوة لرؤية الحوادث على مستوى
النبوة التي لم يفهموها أولاً ولكن لمَّا تحققت أمام أعينهم على الصليب صاروا لها
شهودا ًمن علٍ، من فوق، من فوق الزمان وموقع الحوادث!

المسيح لم يشرح
لتلاميذه الفداء والكفارة بالدم والخلاص بالصليب كنظرية فكرية أو كفلسفة لاهوتية،
ولكنه قدَّم لهم الفداء والكفارة بالدم كسرٍّ وقوة روحية تسري فيهم من خلال الجسد
المكسور الذي قدَّمه لهم في الخبز للاشتراك فيه كحق يؤكل الآن ويُفهم غداً،
وبالدم المسفوك الذي قدَّمه لهم في كأس البركة ليشربوا منه كحق يُشرَب الآن ويُفهم
غداً كذلك.

أي أنه بذبيحة نفسه
الطوعية التي قدَّمها لهم في هذا السر الإلهي الرهيب ليلة الخميس، أي الإفخارستيا، ترك الرب لتلاميذه «المنطق الإلهي السري» الذي به يستطيعون أن
يشرحوا نظرية
الفداء والكفارة، والخلاص،
ومجد الصليب، والكنيسة كجسد المسيح السري،

وكل ملهمات العهد الجديد!!

هذا ما سلَّمه الرب
لتلاميذه في العشاء الأخير، وهذا ما سلَّمه التلاميذ بالفعل للكنيسة، فكان ولا
يزال سر الإفخارستيا المأكل الحق والمشرب الحق الذي يُستعلن من خلاله كل الحق وكل
أسرار المسيح والكنيسة والدهر الآتي.

هذا
يبدو واضحاً جداً في تعبيرات الآباء الرسوليين الذين استلموا هذا السر من الرسل
بهذا المعنى

تماماً حيث نقرأ للقديس
إغناطيوس الأنطاكي الذي
استُشهد حوالي عام 110م. تعليماً واضحاً بهذا الشأن:

[إن الكنيسة هي موضع
الذبيحة.]
(الرسالة
إلى أفسس 2: 5، تراليا 2: 7، فيلادلفيا: 4)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار