اللاهوت الدفاعي

الباب الثامن



الباب الثامن

الباب
الثامن

قضية
فداء السيد المسيح للإنسان

تعلّم
المسيحية أن الله القدوس قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وقد أسكن آدم وحواء
الجنة وأمرهم بعدم الأكل من شجرة الخير والشر حتى لا يموتا. فخالفاه، وبذلك كانا
نائبين عن الجنس البشرى بأجمعه فى جذب الموت وفساد الطبيعة البشرية كما يقول
الكتاب المقدس: ” بإنسان واحد (آدم) دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت
وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس.. “ووقف الإنسان بين مطلبى العدل والرحمة
الإلهية، وهما مطلبان مختلفان تماماً.. ففى ملء الزمان ظهر الله فى الجسد لمحبته
الفائقة وجال يصنع خيراً ثم مات على الصليب فداء لنا وإتماما لمطلب العدل والرحمة،
ثم قبر وقام من بين الأموات وصعد إلى السموات..

 

والآن
لنبحث هذه التعاليم من واقع القرآن الكريم:

 (1)
جاء فى البقرة 28 ” إنى جاعل فى الأرض خليفه”. وجاء أيضاً أن آدم أسمى
من الملائكة وكل المخلوقات بدليل قوله (وعلم “الله” آدم الأسماء كلها ثم
عرضهم على الملائكة فقال “أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك
لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما
أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ماتبدون وما
كنتم تكتمون” (سورة البقرة 29 – 33) كأن الله عالم غيب السموات والأرض وهب
آدم معرفة كل شىء، وظل الملائكة جاهلين لها حتى أنبأهم آدم بما كانوا يريدون. وهنا
تتضح مكانه آدم السامية.

 

وقد
جاء فى سفر التكوين أن الله سلط آدم ” على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى
البهائم وعلى كل الأرض ” (تكوين 1: 26).

 

وفى
حديث للبخارى ومسلم قال نبى الإسلام (فإن الله خلق آدم على صورته) (راجع مشكاه
المصابيح جزء 3 ص 17 وأيضاً مشكاة الأنوار للغزالى ص 7).

 

وقيل
فى القرآن الكريم عن خلق آدم (ثم سواه ونفخ فيه من
روحه) (سورة
السجدة 8) وقد شرح البيضاوى ذلك شرحاً دقيقاً فقال (نفخ فيه من روحه) أضافه إلى
نفسه تشريفاً (له) وإشعاراً بأنه خلق عجيب وأن له شأناً له مناسبه إلى الحضرة
الربيه ولأجله من عرف نفسه فقد عرف ربه.

 

وقد
قال على أبن ابى طالب ما يشبه هذه الكلمات (من عرف نفسه عرف ربه) مما يوضح لنا أنه
أدرك شيئاً من طبيعة الإنسان السامية الرفيعة. والحقيقة أننا كلما وجدنا فى أنفسنا
صورة نقية طاهرة اتسعت دائرة معرفتنا بالله وصفاته وطبيعته لأننا صورته..

 

وهذه
المشابهة أساس روحى تدور حول الروح التى هى أشرف وأسمى ما فى الإنسان. فما أروع أن
يتصور الإنسان وهو فى أوج الكمال أنه صورة مصغرة من الله خالقه. ولكن من دواعى
الأسف ان هذه الصورة الأدبية النقية قد لوثتها الخطية وشوهت جمالها وكمالها فلا
يستطيع إنسان الوصول إلى درجة الكمال إلا إذا كفّر عن خطاياه؛ لأن آدم أكل من
الشجرة التى نهاه الله عنها، فعصى خالقه وغوى وأضاع مكانته أمام الله، وأصبح
ملايين البشر من ذريته عرضة لنيران الشهوات الملتهبة والخطايا القتالة بدرجة يصعب
معها اقتفاء أثر الصورة الأصلية.

 

عصيان
آدم وسقوطه الأدبى:


سورة البقرة 34،35 ” قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
وكلا منها
رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها
فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلي
حين” أنظر أيضاً سورة طه 122.

 

قال
البيضاوى { (فأخرجهما مما كانا فيه) أى النعيم والكرامة،.. (قلنا اهبطوا) خطاب
لآدم عليه الصلاة والسلام وحواء لقوله سبحانه وتعالى. قال اهبطا منها جميعاً وجمع
الضمير لأنهما أصل الجنس فكأنهما الإنس كلهم، أو هما وإبليس أخرج منها ثانياً
بعدما كان يدخلها للوسوسة
{.

 

جاء
فى تفسير للجلالين ” قلنا اهبطوا إلى
الأرض أى
أنتما بما اشتملتما عليه من ذريتكما (بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من ظلم بعضكم
بعضا.

 


من التفاسير السابقة للنص السابق نجد عدة أمور تنادى بها المسيحية وهى:

 

1-         
عصيان آدم وحواء بالوقوع فى زلة المخالفة لأمر
الله مما توارثه نسلهما.

2-    آدم
وحواء نائبان عن الجنس البشرى بأجمعه وهذا واضح من تفسير المفسرين للقول (قلنا
اهبطوا) وهذا يعنى أن سقوطهما كان سقوطاً للبشرية كلها.

3-    فساد
الطبيعة البشرية عقب سقوط آدم وحواء وهذا واضح من القول (بعضكم لبعض عدو).. ويؤكد
القرآن هذه الحقيقة بعد ذلك بقوله فى سورة يوسف ” إن النفس لأمارة
بالسوء” ويضيف فى سورة التين ” ولقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم ثم
رددناه أسفل سافلين “.

4-    إن
الجميع قد زاغوا ووقعوا فى الخطيئة. فقيل عن آدم فى سورة طه 120 “وعصى آدم
ربه فغوى..” وقيل عن نوح فى سورة نوح ” ربى اغفر لى ولوالدى ولمن دخل
بيتى مؤمناً “.. وقيل عن إبراهيم فى سورة الشعراء على لسانه: “والذى
أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين” كذلك أثبت القرآن على موسى أنه ضل قائلا
فى سورة الشعراء “قال فعلتها إذن وأنا من الضالين”. وشهد عن سقوط داود
العظيم ثم استغفاره لربه وتوبته فى سورة ص “وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه
وخر راكعاً وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب “.

 

مما
سبق يتضح أن الجنس البشرى بأجمعه قد خطىء فى آدم، وقد جاء فى صحيح مسلم والبخارى
الحديث التالى ” ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى.. قيل ولا
أنت يا رسول الله؟! قال ولا أنا؟ إلا أن يتغمدنى الله برحمته”.. وعن أبى
هريرة أنه قال: (سمعت رسول الله “ص” يقول إنى لأستغفر الله وأتوب إليه
فى اليوم سبعين مرة).

 

توارث
البشر لخطية آدم:

يقول
المعتوض:

(لماذا
يتوارث الناس خطية آدم بالذات) والإجابة على ذلك واضحة تماماً فى الكتاب المقدس
“مزمور 51: 5، متى7: 17، رومية 5: 9..الخ” ولذلك سنكتفى أن نورد شهادة
الإسلام لهذا الموضوع.

 

+
جاء فى حديث للبخارى (ج3 ص 152) (إن موسى النبى قال يا آدم أنت أبونا خيبتنا
وأخرجتنا من الجنة) (1)

 

+
جاء فى اليواقيت والجواهر ص 144 (إن الله أخذ على ذريه آدم العهد وهم بعد فى ظهره)
كقول القرآن ” وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم. قالوا بلى شهدنا. ان تقولوا يوم القيامة إن كنا عن هذا غافلين. أو
تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم،أفتهلكنا بما فعل
المبطلون” (2)
(سورة الأعراف 171، 172).

 

وقد
روى فى الأحاديث أن النبى (ص) قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم.. فأخرج من صلبه
كل ذرية دراها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا وقال ألست بربكم قالوا بلى
شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.

 

وعن
ابن عباس قال أيضاً: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند
فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة بنعمان الذى وراء عرفه
فكلمهم الله وأنطقهم وأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً بعد أن ركب
فيهم عقولاً وتكفل لهم بالأرزاق وكتب آجالهم ومصائبهم وغيرها ثم أعادهم فى صلبه.
فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطى الميثاق يومئذ. وقال محمد: أخذوا من ظهره كما
يؤخذ بالمشط من الرأس وأخذ عليهم العهد.

 

وروى
عن أبى هريرة قال النبى: لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل
نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عينى كل إنسان وبيصاً من نور ثم
عرضهم على آدم فقال: أى رب من هؤلاء؟ قال هؤلاء ذريتك. فرأى رجلاً منهم فأعجبه
وبيض ما بين عينيه فقال: يارب من هذا؟ قال داود، قال: رب كم جعلت عمره؟ قال ستين
سنة. قال
يارب زده من عمرى أربعين سنة. قال نبيهم فلما
انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة؟
قال أو لم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذريته ونسى آدم فأكل الشجرة فنسيت
ذريته وخطىء آدم، فخطئت ذريته. أخرجه الترمذى وغيره. وقال
الشيخ
الشعرانى إن المعتزلة زعموا أن معنى الآية المتقدمة هو أنه أخذ بعضهم من ظهر بعض
بالتناسل فى الدنيا إلى يوم القيامة، وأنه ليس هناك أخذ عهد ولا ميثاق حقيقى وأن
المراد بالعهد والميثاق هو ارسال الرسل. ولا يخفى ما فى هذا المذهب من الخطأ
والغلط. وكيف يصح للمعتزلة هذا القول ومعظم الاعتقاد فى إثبات الحشر والنشر مبنى
على هذه المسألة. والذى يظهر لى أنهم إنما أنكروا ذلك فراراً من غموض مسائل هذا
البحث ودقة معانيه، فرضوا بالجهل عوضاً عن العلم، والحق أن الله تعالى أخذ عليهم
العهد فى ظهر آدم حقيقة لأنه على كل شىء قدير. إنتهى كلامه.

 

والقرآن
يعلن صريحاً خطية آدم، فقد جاء فى سورة (طه): ” وعصى آدم ربه فغوى ” قال
المفسرون عصى ربه بأكل الشجرة.

 

وقال
البيضاوى: فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة أو عن المأمور به. أو عن
الرشد حيث اغتر بقول العدو. وقرر علماء الإسلام أن العصيان من الكبائر بدليل قوله
” ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب
مبين” (سورة النساء).

 

وورد
فى سورة طه قوله: “فتاب عليه” والتوبة لا تكون إلا عن ذنب لأنها الندم
على المعصية. (وفى سورة البقرة) قوله: “ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين”. وفى (سورة الأعراف): “قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر
لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” وفى (سورة البقرة) قوله: “فأزلهما
الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه “.

 

وكل
ما قاله علماء الإسلام عن هذه الآيات هو اعتراف بالمعصية ووقوع الخطية، إذ قالوا
إن آدم وقع فى هذه المعصية قبل النبوة وقالوا ان آدم لما أكل من الشجرة اسود جسده
لأن المعصية أثرت فيه، فالسواد علامة المعاصى حتى قالوا نزل الحجر الأسود من الجنة
وهو أشد بياضاً من اللبن،فسودته خطايا بنى آدم.

 

وورد
(فى سورة الأعراف) ” هو الذى خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجاً ليسكن إليها
فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربها لئن أتيتنا
صالحاً لنكونن من الشاكرين “.

 

قال
المفسرون لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقت الشهوة فى نفس آدم فأصاب حواء فحملت من
ساعتها. فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس. وقال البيضاوى: أتاها فى صورة رجل
فقال لها: ما الذى فى بطنك؟ قالت ما أدرى قال أخاف أن يكون بهيمة أو كلباً أو
خنزيراً قالت أنى أخاف بعض ذلك. قال: وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك أم من فيك أو
يشق بطنك فيقتلك؟ فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم، فلم يزالا فى غم.ثم عاد إليها
إبليس فقال لها: إنى من الله بمنزلة، فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك
ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس فى الملائكة الحارث. فذكرت حواء
ذلك لآدم فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما. فلما ولدت سمياه عبد

الحارث.
انتهى.

 

وقال
ابن عباس: لما ولد له ولدأتاه إبليس فقال له إنى سأنصح لك فى شأن ولدك هذا تسميه
عبد الحارث، وكان قبلاً يسمى أولاده عبد الله وعبد الرحمن. فقال آدم أعوذ بالله من
طاعتك انى أطعتك فى أكل الشجرة فأخرجتنى من الجنة، فلن أطيعك. فمات ولده، ثم ولد
له بعد ذلك ولد آخر. فقال أطعنى وإلا مات كما مات الأول، فعصاه فمات ولده، فقال لا
أزال حتى أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث، فأطاعه.

 

فوراثة
الجنس البشرى لخطية آدم بصفته رأسهم الطبيعى ونائبهم الشرعى واضحة أيضاً فى سورة
(البقرة) إذ قيل: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجتك فى الجنة وكلا منها رغداً حيث
شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما
مما كانا فيه. وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعاً
فاما يأتيكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليه ولا هم يحزنون.

 فالمتأمل فى
هذه الكلمات يرى أن خطاب الله لآدم وحواء قبل السقوط فى الغواية كان بصيغة المفرد
عند الكلام مع كل منهما على حدة كقوله: اسكن أنت وزوجك وبصيغة المثنى عند الكلام
مع كليهما كقوله: كلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا.. فتكونا.. فأزلهما.. فأخرجهما
مما كانا فيه.

 

ولكن
بعد السقوط تغيرت الصيغة وتحولت إلى الجمع فقال: وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ولكم.. قلنا اهبطوا منها جميعاً فأما يأتينكم.. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

 

صيغة
الجمع:

فلماذا
صيغة الجمع هذه؟ أليست دليلاً على أن الخطاب أصبح موجهاً إلى النسل جميعه الذى صار
شريكاً ووارثاً لكل النتائج التى ترتبت على سقوط آدم فى الخطية بصفته نائبهم
الشرعى ورأسهم الطبيعى كما ثبت ذلك من الأحاديث وأقوال المفسرين التى أوردناها
هنا؟

 

ولا
يمكن
لقائل أن يقول بأن الله تعالى بقوله اهبطوا كان يخاطب آدم بلغة التعظيم لأنه لا يعقل
أن الإله الأعظم يخاطب خليقته وصنعة يده بالتعظيم لأن الذى يخاطب غيره بالتعظيم
اما يكون صغيراً يخاطب من هو أعظم منه أو عظيماً يخاطب نظيره، فلا آدم فى تلك
الساعة كان نظير الله ولا الله كان أصغر شأناً من آدم حتى أنه تعالى يخاطب آدم
بلغة التعظيم.

 

وإذا
جاز أن يخاطب الله خلائقه بلغة التعظيم فذاك الموقف الذى كان الله يخاطب فيه آدم
لا توافقه لغة التعظيم، إذ كان آدم فى تلك الحالة خاطئاً متعدياً مخالفاً يسمع
الأحكام الصادرة المحكوم بها عليه. فهل يليق بقداسة الله ونزاهته وعدله أن يخاطب
الخاطئ العاصى بلغة التعظيم كأنه يعظم الجريمة ومقترفها؟

 

فهوذا
أمامنا المحاكم فى كل بلاد العالم إذا ما ثبتت أمامها جريمة المجرم وأصدرت حكمها
الصارم بقصاصها العادل على مجرم وكان يحمل أكبر الالقاب، فهل تخاطبه بلغة التعظيم
وتقول له نبلك وشرفك وسعادتك؟ أم تخاطبه بلغة تجرده من كل لقب كنفر ليس بعادى وحسب
بل بصفته محتقراً ومن أكبر المحتقرين؟.

 

الخطية
الموروثة ونتائجها: (*)

والدليل
على أن خطية آدم ونتائجها المترتبة عليها قد ورثها نسله ما نشاهده فى سلوك البشر
إذ تلوثوا بالشرور وتدنسوا بالفجور. وها تاريخ العالم مملوء من كل إثم وزنا وشر
وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً، نمامين مفترين مبغضين
سالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً، غير طائعين للوالدين، بلا فهم ولا عهد ولا
حنو ولا رضى ولا رحمة (رومية 1: 29-31)، لا فرق بين العامة والخاصة بين الأنبياء
والشعب ولا تمييز بين العلماء والجهلاء، إذ استوى الجميع فى ارتكاب الخطايا
المتنوعة.

 

والواقع
يؤيد ذلك. فإن العقاب الذى حل على آدم نراه قد حل على جميع نسله أيضاً:

1-    فكما
أن آدم حكم عليه بأن يطرد من الجنة ويعيش فى الأرض يأكل خبزه بعرق جبينه، هكذا
لايزال أولاده إلى هذا اليوم يأكلون خبزهم بعرق جبينهم.

2-    وكما
أن الأرض لعنت لأجل آدم فأخرجت له شوكاً وحسكاً هكذا لا يزال أولاده يعانون نتائج
لعنة الأرض، فتدمى أيديهم وأرجلهم بهذا الشوك والحسك الذى ينبت لهم بعد عنائهم
وتعبهم فى تفليح الأرض، فيفسد عليهم زرعهم ويكون نتيجة خائبة لمجهودهم.

3-    وكما
حكم على حواء: تكثيراً أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، هكذا بناتها إلى
هذا اليوم ورثن هذا الحكم، إذ مازلن يقاسين آلام الولادة وأوجاع المخاض ويصلن إلى
حد الموت حتى
يلدن.

4-         
وكما حكم على آدم لأنه تراب وإلى تراب يعود،
هكذا ورث أولاده هذا الحكم أيضاً، وهم وهن كل يوم يموتون ويدفنون فى التراب.

5-         
وكذا السلطان الذى أعطى لآدم على الحيوانات صار
لنسله أيضاً.

 

خطايا
الأنبياء:

والدليل
الأكبر على وراثة الجنس البشرى لخطية آدم هو وقوع الأنبياء فى الخطايا الجسام كما
سبقت الإشارة، لأنه لو لم تكن خطية آدم قد سرت إلى عموم نسله وأصبحت طبيعتهم فاسدة
وخاطئة لما كان الأنبياء الذين حملوا إلى الناس وحى الله يسقطون فى الخطية والإثم،
لأنهم أولى الناس بالطهارة والقداسة ممثلين لقداسة، الله الذى أرسلهم.

 

وإليك
ما ورد فى القرآن والأحاديث الإسلامية عن خطايا الأنبياء:

 

خطية
نوح:

لقد
ذكر القرآن خطية نوح عندما دعا على المشركين فقال: ” ولا تزد الظالمين إلا
ضلالا.. وقال لا تزر على الأرض من الكافرين دباراً. ثم قال: ربى اغفر لى ”
(سورة نوح). وقال المفسرون من أئمة الإسلام: إنه لما دعى على الكفار قال رب اغفر
لى يعنى ما صدر من ترك الأفضل.

 

خطية
إبراهيم:

وقد
ذكر القرآن خطية إبراهيم إذ قال. ” فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربى ما أفل
قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين.. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى
هذا أكبر” (سورة الأنعام).

 

وفى
(سورة البقرة) ذكر لإبراهيم خطية من أكبر الخطايا، هى خطية الشك: ” وإذ قال
ابرهيم ربى أرنى كيف تحيى الموتى. قال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن
قلبى”. والشك فى قدرة الله كفر باعتراف جميع الأديان.

 

وورد
فى القرآن أن إبراهيم كذب، كما جاء فى (سورة الصافات) قوله: ” فنظر نظرة فى
النجوم فقالإأنى سقيم” (وفى سورة الانبياء) عندما قال: “بل فعل
كبيرهم”. وقال مفسرو القرآن: لما كسر إبراهيم الأصنام دعاه نمرود الجبار
وأشرف قومه قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال: بل
فعله كبيرهم
هذا،فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وعن أبى هريرة أن رسول الله (ص) قال لم يكذب
إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهم فى ذات الله قوله إنى سقيم وقوله فعله كبيرهم
وقوله لسارة هذه أختى حين أراد الجبار القرب منها (رواه البخارى ومسلم).

 

خطية
موسى النبي:

وكذلك
موسى النبى العظيم قد ذكر له القرآن خطية القتل كما ورد فى (سورة القصص) قوله:
” ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته
وهذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فركزه موسى فقضى عليه، قال
هذا من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين. قال رب إنى ظلمت نفساً فاغفر لي “.

 

(وفى
سورة الشعراء) قال: ” فعلتها إذاً وأنا من الضالين “.

 

(وفى
سورة الأعراف) يقول ” ولما رجع موسى إلى قومه غضبان آسفاً قال يئسما خلفتمونى
من بعدى أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.. قال رب اغفرلى
ولأخى “.

 

خطية
داود النبى:

ولقد
ذكر القرآن خطية داود التى ذكرتها التوراة عندما كان على السطح ورأى امرأة أوريا
فأحضرها واضطجع معها وقتل زوجها أوريا بوضعه فى مقدمة القتال. وجاء النبى إلى داود
موبخاً فضرب له مثل نعجة المسكين التى أخذها الغنى إذ جاء فى (سورة ص) قوله:
“وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا
تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط.
إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب.
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وأن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر
راكعاً وأناب فغفرنا له ذلك “.

 

وروى
البغوى بإسناد الثعلبى عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله(ص) يقول إن داود النبى
حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بنى إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدو
فقرب فلانا بين يدى التابوت، وقد كان التابوت فى ذلك الزمان يستنصر به، ومن قدم
بين يدى التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة.

 

وقال
النسفى فى تفسيره المسمى (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) وقال غيره أيضاً اتفق أن
داود وقعت عينه على أمرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها
وهى أم سليمان، فقيل له إنه مع عظم منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغى لك أن تسأل
رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة للنزول عنها لك. بل كان الواجب عليك مغالبة هواك
وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به..

 

وقال
ابن عباس وغيره، فمكث داود أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه
وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول فى سجوده: رب زل داود زلة أبعد ما بين الشرق
والغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً فى الخلق من بعده.
فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم الذى
هممت به. فقال: قد عرفت أن الله عدل لا يميل.

 

وهذه
القصة المؤلمة والمأساة المحزنة تجدها فى التوراة تبين بكل وضوح سقطة داود فى أشنع
الخطايا وقصاص الله له بالرغم من توبته (أنظر: 2 صم 11، 12).

 

قال
وهب بن منيه: إن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيته ثلاثين سنة لا يرفأ دمعه
ليلاً ولا نهاراً، وكان أصاب الخطية وهو ابن سبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطية على
أربعة أيام، يوم للقضاء بين
بنى إسرائيل، ويوم
لنسائه، ويوم يسبح فى الجبال والفيافى والساحل، ويوم يخلو فى دار له فيها أربعة
آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك. فإذا كان
يوم سياحته يخرج إلى الفيافى ويرفع صوته بالمزامير، فيبكى وتبكى الشجر والرمال
والطين والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجىء إلى الجبال والحجارة
والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية. ثم يجىء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكى
فتبكى معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء.

 

وروى
الأوزاعى عن محمد قال: إن مثل عينى داود كالقربتين ينقطان ماء. ولقد خدت الدموع فى
وجهه كخديد الماء فى الأرض.

 

وقال
وهب بن منيه أيضاً: لما تاب الله تعالى على داود قال يارب غفرت لى، فكيف لى لا
أنسى خطيتى فاستغفر منها وللخاطنين إلى يوم القيامة؟ فرسم الله تعالى خطيئته فى
يده اليمنى فما رفع فيها طعاماً ولا شراباً إلا بكى إذا رآها الخ.

 

وروى
الحسن قال: كان داود بعد الخطية لا يجالس إلا الخاطئين. يقول تعالى إلى داود
الخاطىء ولا يشرب شراباً إلا مزجه بدموع عينيه. وكان يجعل خبز الشعير اليابس فى
قصعة فلا يزال يبكى عليه حتى يبتل بدموع عينيه. وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل
ويقول هذا أكل الخاطئين.

 

وهذه
الأحاديث الإسلامية تتفق مع ما جاء فى المزمور عن شعور داود بخطيته وندامته، إذ
قال يارب لا توبخنى بغضبك ولا تؤدبنى بغيظك.. أعوم فى كل ليلة سريرى وبدموعى أُذوب
فراشى (مز 6: 1، 6) ليست فى عظامى سلامة من جهة خطيتى لأن آثامى قد طمت فوق

رأسى
كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد أنتنت. قاحت حير ضربى من جهة حماقتى.. لأننى أخبر
بإثمى وأغتم من خطيتى (مز 38: 3،4،18) لأن شروراً لا تحصى قد اكتنفتنى حاقت بى
آثامى (مز 40: 12) حسب كثرة رأفتك أمح معاصى. اغسلنى كثيراً من إثمى ومن خطيتى
طهرنى لأنى عارف بمعاصى وخطيتى أمامى دائماً. إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك
صنعت (مز 50: 1-4).

 

خطية
سليمان الحكيم:

وقد
ذكر القرآن أيضاً خطية سليمان الحكيم فقال عنه: ” إذ عرض عليه بالعشى
الصافنات الجياد فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب قال ربى
أغفر لى ” (سورة ص).

 

ومع
أن المسلمين يقولون عن محمد (ص) إنه أفضل المرسلين، فإن القرآن قد ذكر له خطاياه،
وكذلك الأحاديث.

 

فقد
ورد فى (سورة الضحى) عن محمد (ص): ” ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى.
والضلال هو عبادة الأوثان والميل إلى مدحها”. فجاء فى سورة الحج قوله ”
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته، فينسخ
الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم” قال ابن عباس وتبع
المفسرين سواء كانوا متقدمين أو متأخرين. لما رأى محمد (ص) تولى قومه عنه وشق عليه
ما رأى من مباعدتهم عما جاء به من الله، تمنى فى نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب
بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فكان يوماً فى مجلس لقريش فأنزل الله سورة
النجم فقرأها محمد (ص) حتى بلغ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى (ألقى
الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ومعناه) وهو (تلك الغرانيق العلى وان
شفاعتهن لترتجى). فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به. ومضى محمد (ص) فى قراءته فقرأ
السورة كلها وسجد فى آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من فى المسجد من
المشركين. فلم يبق فى المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد. وتفرقت قريش وقد سرهم ما
سمعوا من ذكر آلهتهم، ويقولون قد ذكر محمد (ص) آلهتنا بأحسن الذكر. وقالوا قد
عرفنا أن الله يحيى ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. فإن جعل محمد (ص)
لها نصيباً فنحن معه. فلما أمسى الرسول أتاه جبريل فقال يا محمد (ص) ماذا صنعت؟
لقد تلوت على الناس مالم آتيك به عن الله. فحزن محمد (ص) حزناً شديداً وخاف من
الله تعالى خوفاً كبيراً، فأنزل الله هذه الآية ” وما أرسلنا إلى الخ “.

 

ورد
فى الحديث أن محمداً (ص) قال إنه ليغان على قلبى، فاستغفر الله فى اليوم سبعين مرة
وقوله يغان أى أن الشيطان يغشى قلبه.

 

وجاء
فى (سورة الأحزاب). ” يا أيها النبى اتق الله ولا تطع الكافرين
والمنافقين”. وأيضاً “ووضعنا عنك وزرك الذى أنقض ظهرك” (سورة الم
نشرح) وقوله ” ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر” (سورة الفتح)
وقوله. ” واعلم انه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات”
(سورة محمد) وعن أبى هريرة قال. سمعت الرسول يقول إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى
اليوم سبعين مرة.

 

ولما
كان محمد (ص) شاعراً بأنه كغيره من البشر قال: إن ملاكين شقا بطنه وأخرجا الغل
والحسد منه. قال: جاءنى رجلان، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعنى لحلاوة القفا،
ثم شقا بطني، فكان يختلف بالماء فى طست من ذهب، والآخر يغسل جوفى ثم شق قلبى فقال:
أخرج الغل والحسد منه، فأخرج منه العلقة السوداء، وهى حظ الشيطان، وهى مغمزة لأنها
محل الغل والحسد. وقالوا إنه تكررت هذه العملية نحو خمس مرات، فأن العلقة كانت
مجزأة إلى أجزاء.

 

وكل
هذا يدل دلالة صريحة على أن جميع البشر ولدوا بالخطايا وصوروا بالآثام التى ورثوها
عن أبيهم آدم، وفعلوها بإرادتهم، لا فرق بين إنسان وإنسان إذ الجميع أخطأوا، كما
أخطأ جميع الأنبياء أيضاً، مما دل على أن نسل آدم جميعه ورث الخطية والشر عن آدم.

 

ذرية
آدم وحكم الموت:

والآن
وقد ثبت من الكتاب المقدس والقرآن الكريم أن البشر قاطبة خطاة ورثوا الخطية عن آدم
أبيهم وأن جزاء الخطية الذى وضعه الله لآدم هو الموت.

 

وإذ
قد ثبت ذلك فإننا نتساءل ما هو المراد بالموت؟

معلوم
أن آدم وكل بشرى مولود من آدم هو روح وجسد، والوصية تتعلق بالروح وتختص بها لأن
الجسد الحيوانى لا تتوجه إليه الوصية رأساً، بل عن طريق الروح، فالجسد تابع والروح
متبوع. فالحكم بالموت ينصب أولاً على الجزء المدرك العاقل، ثم على الجسد ثانياً،
أو بعبارة أوضح أن الحكم بالموت صدر على الهيكل الآدمى بما اشتمل، لأنه لو كان
الحكم بالموت على آدم على الجسد فقط للزم أن يموت آدم فى الحال عندما أكل من
الشجرة، لأن كلمة الله لا تسقط ولا توجد قوة فى العالم تستطيع أن تعيق نفاذها. أما
وأن آدم لم يمت حالما أكل بل بقى بعد الأكل والمخالفة مدة 930 سنة، فيكون الأمر أن
آدم عند أكله من الشجرة نفذ فيه حكم الموت روحياً، أعنى انفصلت روحه عن الله الذى
هو روح الأرواح.. وهذا ما يسمى بالموت الروحى، كما أن الموت الجسدى يكون بانفصال
الروح عن الجسد.

 

وهذا
ما أشار إليه القديس بولس الرسول بقوله: ” وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب
والخطايا” (افسس 2: 1،5) وقوله “ونحن أموات بالخطايا أحياناً مع
المسيح” (افسس 2: 5) فهل يا ترى كان بولس وأهل افسس أمواتاً بالجسد ومدفونين
فى الأرض أم كانوا موتى بالروح بسبب الخطايا والذنوب؟.

 

وقد
قال الإمام الفخر الرازى فى هذا الصدد فى تفسيره لقول القرآن الكريم عن السيد
المسيح إنه ” روح الله” قال: هو روح الله لأنه واهب الحياة للعالم فى
أديانهم. وقال الإمام البيضاوى فيها: إنه دعى روح الله لأنه يحيى الأموات وقلوب
البشر.

 

ومعلوم
أن الأديان هى علاقة الروح بالله وأن القلوب هى مركز الإيمان والحياة الروحية من
شعور وعواطف كانت مائتة فأحياها المسيح. وهذا معناه الموت الروحى الذى وقع على آدم
وبنيه.

 

وإذا
كان الله قد حكم على آدم وبنيه فى شخصه بالموت الروحى والجسدى، فإما أن يموت الجنس
البشرى موتاً أبدياً بالروح والجسد وإما أن يسامحهم الله ويمنحهم الغفران.

 

الإنسان
وحاجته إلى الغفران:

وحاجة
الناس إلى الغفران بادية وظاهرة فى الكتب الإسلامية. ولكى تدرك هذه الحقيقة أضع
أمامك ما جاء فى القرآن والأحاديث عن حاجة الإنسان إلى الغفران والخلاص من الخطية،
وأنهما حجر الزاوية الذى تبنى عليه سعادة الإنسان وانشراح صدره، فقد جاء فى (سورة
الانشراح) قوله تعالى لمحمد (ص): ” ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذى
أنقص ظهرك ورفعنا لك ذكرك”. فمن هذا النص ترى أن الله لما شرح صدر محمد(ص)كان
عن طريق رفع خطاياه الثقيلة التى أحنت ظهره. وقد جاء فى الأحاديث أن محمداً(ص)ما
كان يهمه طيلة اليوم إلا غفران خطاياه كما جاء فى حديث البخارى الجزء الرابع ص 66
عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: والله إنى أستغفر الله وأتوب إليه فى
اليوم أكثر من سبعين مرة. وعن ابن مسعود عن النبى(ص)قال إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه
قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. لذلك فإن الاستغفار والشعور بالحاجة إلى الغفران
يفوق كل لذة وسعادة فى الدنيا. وإن الغفران هو الكل فى الكل فى حياة الإنسان
وسعادته.

 

الغفران
وكيفية حصول البشرية عليه:

هل
تحصل عليه بالأعمال، وقد اختلت الطبيعة البشرية بالخطية وفسدت بالآثام، فصار كل ما
يصدر عن البشر من الأعمال فاسداً (*)
عملاً بالمبدأ المنطقى ” المبنى على الفاسد فاسد” “والإناء ينضح ما
فيه”. أما حاول البشر أن يعملوا صلاحاً وأن يصلحوا ما أفسدته الخطية من
طبيعتهم فافرغوا جهد الطاقة وجربوا أصول الفلسفة والتهذيب الأدبى وباشروا أشق
أعمال إنكار الذات، ومع ذلك فلم يقدروا أن يجعلوا
ثمر الشجرة
البشرية جيداً بل زادوا شراً فوق شر وكانوا كما قال السيد المسيح “هل يجتنون
من الشوك عنباً أو من الحسك تيناً” (متى 7: 16) وذلك تبياناً لعجز البشر عن
الصلاح كما قال صاحب المزمور. ” الكل قد زاغوا معاً وفسدوا. ليس من يعمل
صلاحاً، ليس ولا واحد” (مزمور 14: 3).

 

وما
الذبائح العديدة التى نحرها الناس من يهود ووثنيين ومسلمين يومياً إلا دليل عجز
الناس عن القيام بالشرائع الإلهية وعجزهم عن العمل حسب مطاليبها ووقوعهم الدائم فى
الأعمال الشريرة. وما استغفار الأنبياء والناس عموماً ومحمد (ص) ضمنهم إلا دليل
هذا العجز عن الصلاح والأعمال الصالحة.

 

وما
أعمال البشر التى يظنونها صالحة إلا كثوب عدة (إشعياء 64: 6) لأن الشجرة الردية
تخرج ثمراً ردياً.

 

الأعمال
بدون الفداء لا تغفر الخطايا:

وما
الأعمال الصالحة التى كلفنا القيام بها إلا دين على طبيعتنا البشرية أن تؤديه لأن
الإنسان مطالب بعمل الخير ومطالب بالابتعاد عن الشر كل أيام حياته. فإذا عمل الخير
فيكون قد عمل المطلوب منه كعبد. فلا يمكن والحالة هذه أن عمله للخير يكفر عن
سيآته. وهذا واضح وضوح الشمس لكل ذي عينين. فلنفرض أن عبداً رقيقاً اقترف ذنباً
جسيماً أثار غضب سيده واستوجب أشد القصاص فرأى العبد الغضب بادياً والحكم محتوماً.
فقام وتمنطق لفوره وأخذ يؤدى خدمات مطلوبة منه نحو سيده وبيته وأولاده، وكانت
الخدمات شاقة وجليلة وعلى الوجه الأكمل. أيضاً فهل يعتبر عمله هذا كفارة عن الذنب؟
وهل يطمع العبد فى أن ينال عفو سيده وصفحه وغفرانه؟ أم يبقى الذنب هو هو كما صدر
منه ويبقى القصاص هو هو كما حكم به عليه، وينظر إلى خدماته كواجب مفروض عليه لو
قصر فى أدائه زاد فى ذنبه وضاعف قصاصه؟

 

وهل
إذا اقترف مجرم ذنباً وحكم عليه بالإعدام لأجله، ثم قام القاتل المحكوم عليه
بالإعدام بأعمال شاقة ونافعة وخدم القاضى وأهل بيته خدمات جليلة، فهل يكون عمله
هذا داعياً للعفو وإنقاذه من حكم الموت؟!.

 

فإذا
كان هذا هو الحال مع البشر فكم بالحرى الذنب البشرى الذى اقترف ضد الله القدوس
الملك المهاب ذى العزة والجبروت، فهل أفعالنا الصالحة التى نفعلها كواجب علينا من
نحو الله الذى خلقنا ويعولنا كل يوم بعنايته تكفر عن آثامنا؟ أم تبقى خطايانا هى
هى وعقوبتها كما هى ونبقى نحن بالرغم عن أعمالنا الصالحة عبيداً بطالين كما قال
السيد المسيح: إن فعلتم كل البر قولوا نحن عبيد بطالون.

 

والشعور
البشرى وضمير الإنسان يعتقد أن الأعمال الصالحة لا
تغفر
الخطية. ولا تمحوها وأن الناس بحاجة إلى الغفران الإلهى عن طريق آخر غير أعمالهم
الصالحة وإلا فلماذا نرى محمداً نبى المسلمين الذى هو مثلهم الأعلى فى الأعمال
الصالحة لا يرتكن على أعماله ولا يعتبرها وسيلة لغفران خطاياه بل على العكس نراه
كما روى عنه فى الأحاديث بأنه يتعوذ من عذاب القبر ومن عذاب النار؟ (البخارى جزء
1ص 179) و(كتاب الأنوار المحمدية).

 

وقد
قال نبى الإسلام بصريح القول إن الناس لا يدخلون الجنة بأعمالهم ولا هو نفسه
أيضاً، كما جاء فى حديث البخارى قوله: لا يُدخل احد الجنة عملُه. قالوا ولا أنت يا
رسول الله قال ولا أنا إن لم يتغمدنى الله بمغفرة ورحمة (البخارى جزء 4ص 82).

 

وإذا
كان البشر لا يستطيعون الخلاص من خطاياهم ولا النجاة من قصاص الخطية الذى كان بدؤه
الطرد من الجنة وعدم الدخول إليها بواسطة الأعمال الصالحة، فإذن بماذا يحصلون على
الغفران والرحمة؟!.

 

التوبة
بدون الفداء لا تغفر الخطايا:

هل
يستطيعون الحصول على الغفران والرحمة بواسطة التوبة؟ لنبحث هذا على ضوء القرآن
والأحاديث الإسلامية. فلقد جاء فى القرآن ما يثبت فى وضوح أن التوبة لا تمحو
الخطية ولا تزيل آثارها المترتبة عليها، كما ورد فى (سورة البقرة) قوله: ”
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات
فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم. قلنا اهبطوا منها جميعاً فاما يأتيكم منى هدى فمن
تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون “.

 

فمن
هذه النصوص القرآنية نجد أن آدم بعد ما أزله الشيطان وبعد أن حكم الله عليه
بالهبوط من الجنة والطرد إلى الأرض تلقى من ربه كلمات فتاب عليه، وبالرغم من توبة
آدم أيد الله حكم السقوط وثبته بقوله اهبطوا منها جميعاً حتى يأتى الهدى الذى إذا
تبعه الناس أصبحوا فى مأمن من الخوف والحزن، فلو أن التوبة أفادت آدم وخلصته من
الخطية لما كان هناك داع لأن يقول له الله اهبطوا منها جميعاً.

 

وهوذا
الحديث الإسلامى يزيد الأمر وضوحاً؛ فإن نبى الإسلام الذى كان يتوب فى اليوم سبعين
مرة ويستغفر ربه على الدوام ما كان يركن إلى التوبة ولا أعتقد أنها كافية لغفران
خطاياه، بدليل أنه عند الموت بالرغم عن توبته واستغفاره فى الحياة تعوذ من عذاب
القبر، وبدليل أنه طلب إلى المسلمين أن يصلوا عنه ويترحموا عليه بعد موته كما جاء
فى كتاب الأنوار المحمدية فى حديث عن ابن المسعود قال: إن رسول الله (ص) قال: إذا
تشهد أحدكم فى الصلاة فليقل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأرحم محمداً وآل محمد
كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم؛ إنك حميد مجيد (ص424،426).

 

وذلك
لأن محمداً كان يعلم أن الخطية مهما استغفر لأجلها وتاب عنها فلها قصاصها (*) كما ورد فى (حديث البخارى
الجزء الأول ص44) قوله عن محمد إنه قال: إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة
بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن
لهم بدخول الجنة.

 

وهذا
دليل قاطع على أن التوبة كبقية الأعمال الصالحة هى واجب من واجباتنا. فإذا ما حزنا
على خطيتنا وتبنا عنها بالبكاء والندامة وسألنا الله المسامحة والغفران نكون قد
خطونا الخطوة الأولى نحو المصالحة مع الله، وتبقى الخطية وقصاصها موجودين حتى تحصل
الكفارة عنها.

 

ما
هو الحل؟:

وإذ
قد ثبت أن البشر خطاة وبحاجة إلى الغفران الذى لا يمكن الحصول عليه بالأعمال أو
التوبة وأنه لا محالة من القصاص أو الكفارة الكافية، وأن الشرائع الإلهية والبشرية
والطبيعية تقاص من يخطىء ضدها، وأن قصاص
الخطية
والتعدى على شريعة الله لا يزول إلا بطريقة يدبرها الله الحكيم حسب مقتضى صفاته
بحيث لا تندم واحدة من صفاته تعالى عند أى إجراء من إجراءاته الإلهية، فهل يدبر
الله طريقة للغفران؟

 

العدل
والرحمة:

ولما
كان الله موصوفاً بالعدل والرحمة وهما صفتان جوهريتان فى ذاته الإلهية، فإذا غفر
الله الخطية لمجرد رحمته دون قصاص أو تكفير يفى بمطالب عدله كان هذا الغفران
منافياً لعدله. وفى هذه الحالة يستوى الصالح والطالح أمام الله. مع أن البار يضبط
نفسه ويحرمها لذات كثيرة إرضاء لله وشريعته، بينما الخاطىء يستبيح كل شىء

ويتلذذ
بكل شىء ويفعل ما بدا له من موبقات وخطايا بلا خوف ولا مبالاة بالشريعة وواضعها
وفى النهاية يغفر له الله خطاياه بلا قصاص ولا كفارة، وهذا لا يتفق ومبدأ العدالة0
وبالتالى يصبح الخاطىء والخطية غير خاضعين للناموس البتة، والذى لا يخضع لناموس
البتة يكون مطلقاً، والله هو المطلق وحده. فهل يقول عاقل بهذا؟ وإذا سامح الله
الخاطىء بدون أن تستوفى العدالة الإلهية مطالبها بالقصاص أو الكفارة فإن الناس
يستهينون بكل شريعة إلهية وبشرية فى المستقبل ويصبح العالم فوضى وبلا نظام ولا
ترتيب.

 

إن
الحكومات الأرضية تحرص كل الحرص على أن توقع الجزاء العادل على كل معتد لكى تحفظ
كرامة القانون ولا تدع الناس يستهينون بالشرائع.

 

الحكومات
والقوانين والمحاكم الإسلامية:

وحتى
فى الحكومات والقوانين والمحاكم الإسلامية إذا وقف مجرم أمام المحكمة الإسلامية
وبدا عليه الخوف والهلع وأخذ يعترف بجريمته الثابتة ووقف الدفاع يعترف عنه بوقوع
الجريمة إلا أنه يطلب العفو اعتماداً على ما فى قلب القاضى من الرحمة، فهل تقبل
المحاكم الإسلامية هذا الاسترحام وتحكم بالعفو عن المجرم بناء على ميول الرحمة
التى استنجد بها الدفاع دون أن تراعى مطاليب العدالة التى هى أساس الحكم وقاعدته؟
وماذا يكون الحال لو أن القاضى ابتسم فى وجه المجرم وقال له لقد أخذتنى الشفقة على
دموعك وتوبتك، فقد عفوت عنك فأنت حر طليق بلا قصاص على جرمك الفظيع، ولا كفارة
تلزمك؟ فهل لا يرتعد المسلم قبل المسيحى ويرفع صوته قائلاً: يالضيعة العدالة
وانصرام حبل الأمن واستهانة الناس بالقانون! وهل لا تقوم البلاد وتقعد وترفع الصحف
صوتها والمجالس النيابية تقدم الأسئلة والاستجوابات وترفع النيابة النقض حين يرون
المجرم وقد خرج يعيث فى الأرض فساداً ويمعن فى الناس تقتيلاً وفى البلاد إجراماً؟

 

القصاص
ضرورة وإلا:

فإذا
كنا نحن البشر نرى ضرورة القصاص أو الكفارة عن ذنب المذنب خوف ازدياد الشر
والفساد، وغيرة على قوانين وضعناها، فهل لا يرى الله أنه إذا ترك الخاطىء وسامحه
بلا قصاص عاد الناس إلى الخطية يشربونها كالماء الزلال وتصبح الخطية عادة فيهم إذ
تتسلط عليهم لأن القصاص الرادع لم يوقع عليهم، فيقولون فى استهتار واستهانة أن
الله لا يقاصصنا بل يسامحنا كعادته، وما كانت شرائعه إلا مجرد تهديد وتخويف فقط.

 

للتبسيط:

ولنتصور
ولداً حذره أبوه من عمل ما وأنذره بالقصاص إذا خالف، فوقع الولد فى المخالفة. فإذا
علم أبوه بذلك وتوقع الابن القصاص فى خوف وارتعاد، وإذا بالأب يبتسم فى وجهه
قائلاً: لا تخف يا بنى، لا أقاصصك كما أنذرتك لأنى كنت أريد تخويفك فقط. فهل لا
يستخف الولد بكل أوامر أبيه فى المستقبل؟ وهل لا يعيب الناس على هذا الوالد تصرفه
ويقولون كان خيراً له أن يوصيه بلا إنذار من أن يهدده ولا ينفذ ما هدد به، أو على
الأقل كان يطلب إلى أم الولد أن تتدخل فى الأمر وتقوم شفيعة فى ابنها وتطلب أن
يتوقع القصاص عليها أو تتحمل هى نصف القصاص والولد المذنب النصف الآخر، كما فعل
سلوقس ملك لوكرى القديمة الذى وضع قانوناً وجعل قصاص من يخالفه ويتعداه قلع عينيه،
وحدث أن ابن الملك وولى عهده الوحيد هو أول من خالف هذا القانون، فصمم الملك على
تنفيذ حكم القانون على وحيده، فقام الشفعاء ولفتوا نظر الملك إلى خطورة مصير الملك
إذا قلعت عينا ولى العهد. وأخيراً انتهوا إلى نتيجة حفظت قداسة القانون ودوام
الملك فى البيت المالك وهى أن
تقلع عين من عينى ولى
العهد المذنب وعين من عينى أبيه، وبذا حفظت كرامة القانون وقدسه الناس فى خوف
شديد.

 

ومعلوم
أن مبادىء العدل والاحتفاظ بقدسية القانون الوضعى مستمدة من الله مقدس شرائعه.
فإذن يكون من باب أولى أن الله يحافظ على قداسة شريعته بقصاص الخاطىء أو التكفير
عنه.

 

وإذا
سامح الله الخاطىء بلا قصاص،ورحمه بلا كفارة فإن الخاطىء لا يعتبر قيمة هذه الرحمة
الإلهية ولا يقدرها قدرها.

 

ولنتصور
مجرماً ارتكب جريمة فحكمت عليه المحكمة بالإعدام، إلا أن الملك أطلقه حراً بلا
قصاص وعفى عنه0 فهل يتأثر المجرم بهذا العفو الذى صدر بهذه السهولة وبدون أى إجراء
آخر؟ كلا؛ فالمجرم فى هذه الحالة لا يتأثر، لا قليلاً ولا كثيراً، لأنه يرى أن
إطلاقه على هذه الصورة لم يكلف الملك شيئاً أكثر من كلمة أصدرها بالعفو ولذلك لا
يجد فى قلبه داعياً لمحبة الملك أو الشعور بالشكر لجلالته، كما أنه لا يرتدع عن
فعل الإجرام.

 

وإذا
قلنا إن الله لا يمكن أن يعفو عن الخاطىء لمجرد رحمته، فنقول أيضاً والله لا يمكن
أن ينفذ حكم القصاص فى الخاطىء لمجرد العدل، لأنه إذا استوفى الله مطاليب العدل من
الخاطئ بتوقيع القصاص عليه كما تهدده فتصبح الرحمة الإلهية عاطلة0 وإلا فمتى تظهر
هذه الرحمة ومتى تتبين محبة الله وشفقته؟! ألا يقال إن رحمة الله تلاشت وأنه جبار
ومنتقم وليست فيه رحمة ولا حنو على خلائقه؟! وحاشا لله من ذلك.

 

وإذا
عاملنا الله فقط بالعدل والقسوة مجرداً عن الرحمة كان أقل من خلائقه حكمة، لأن علم
التربية دل على أن القصاص يقسى القلب ويجعل الإنسان عديم الشعور ويفقده الشفقة
فيستمر على اقتراف الجرم، لأن قلبه يكون قد تقسى لكثرة القصاص0 وفى هذه الحالة لا
يكون لقصاصه نهاية0 وهذا يتنافى مع رحمة الله التي من شأنها أن تدبر طريقة لخلاص
الخاطىء يتلاقى فيها العدل مع الرحمة.

 

مبدأ
الكفارة:

وفعلاً،
فإن الله قد دبر طريقة لخلاص البشر ومصالحتهم مع الله بواسطة الكفارة المبنية على
المبدأ الإلهى القائل “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة”. وهذا المبدأ تراه
مطبوعاً فى طبيعة الإنسان وراسخاً فى قلبه، لا فرق بين الأسود والأبيض ولا بين
المتمدين والمتوحش، لأن اعتقاد الجميع أن الذبيحة النيابية تكفر عن الخطية ولها
فاعليتها العظمى وتأثيرها الكلى فى نيل غفران الخطية.

 

بل
وترى الكفارة ولزومها موجودة فى جميع أديان البشر قاطبة، لا فرق بين الدين اليهودى
والوثنى والإسلامى والمسيحى، وأن ضمير الإنسان يتطلب الكفارة ويستريح فى تقديمها،
وهو ميل فطرى فى قلب الإنسان نحو الكفارة لترفع عنه الخطية.

 

جاء
فى الجزء الاول من البخارى فى باب الإطعام فى الفدية قال كعب: حملت إلى رسول الله
(ص) والقمل يتناثر على وجهى فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى أو ما كنت أرى
الجهد بك ما أرى. تجد شاة فقلت: لا. قال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل
مسكين نصف صاع.. وقد جاء فى (سورة المائدة) قوله: أو كفارة طعام مسكين.. ذلك كفارة
إيمانكم..فمن صدق به فهو كفارة له.. فكفارته إطعام عشرة مساكين..، وفى سورة القتال
يقول: كفر عنهم سيئاتهم.

 

وروى
ابن ماجه والترمذى والحاكم عن عائشة قالت إن رسول الله قال: ما عمل آدمى من عمل
يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم (*)
وإنه يأتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، أى فتوضع فى ميزان الحسنات
سبعين ضعفاً. كما صرح به فى الحديث المروى عن سيدنا على قال: وإن الدم ليقع من
الله بمكان. أى يشمل الله المضحى به برحمته ورضاه قبل أن تقع من الأرض. فطيبوا بها
نفساً، أى ضحوا بها ونفوسكم راضية غير ضنينة بالثمن ولا مستكرهة دفعه، مخلصة غير
مرائية.

 

وروى
البزار وأبو الشيخ عن أبى سعيد قال: قال رسول الله (ص) يا فاطمة قومى إلى ضحيتك
فاشهديها، فان لك بأول قطرة تقطر من دمها أن يغفر لك ما سلف من ذنوبك إلى الصغائر
التى ليس فيها حق لمسلم. قالت: يا رسول الله ألنا خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين؟
قال: بل لنا وللمسلمين.. وليتخير أضحيته من أجود أصناف النعم وأكثرها امتلاء
بالشحم واللحم. فان ذلك أدعى إلى كثرة المثوبة.. وأفضل الانعام فى الضحية الضأن،
وإن كان الذكر أفضل من الأنثى بشرط أن يتم حولا عربياً، ثم يليه فى الفضل المعز
بشرط أن يدخل فى السنة الثانية بنحو شهرين، ثم يليهما البقر بشرط أن يبلغ ثمان
سنين.

 

ولابد
فى الأضحية أن تكون سليمة الجسم من العيوب المنقصة لها، فلا يصح بالعمياء ولا
بالعوراء ولا بالمريضة مرضاً شديداً تعجز معه عن التصرف كأخواتها. ولا بالجرباء
جرباً ظاهراً ولا بالمجنونة جنوناً مستديماً ولا بالمهزولة هزالاً ظاهراً ولا
بالعرجاء عرجاً يعوقها عن مسايرة مثيلاتها فى السير ولا بمقطوعة جزء من أجزائها
كيد أو رجل أو غير ذلك، ومنه قطع الذنب وكسر سنتين من أسنانها فأكثر ولا بالصماء
ولا صغيرة الأذنين جداً ولا بالبكماء ولا فاقدة الصوت ولا بيابسة الضرع ولا
بمشقوقة الأذن شقاً أكثر من ثلثها.. ثم ليضع ذبيحته على جانبها الأيسر ويستقبل بها
القبلة ويذبح بيده إن كان يمكنه، وهو أفضل، أو يستنيب إن عجز.

 

وفى
سورة الكوثر يقول: ” فصل لربك وانحر”. والنحر، كما يقول الإمام
البيضاوى، هو الضحية يوم العيد (جزء 4ص 197). وفى حديث عن أنس يقول ونحر النبى (ص)
بيده سبع بدن قياماً وضحى بالمدينة كبشين أملحين أقرنين.

 

وقد
كان محمد يقول عندما يقدم ضحاياه: اللهم إنى أذبح هذه عن كل شعبى0 كل الذين يشهدون
لوحدانيتك ولإرساليتى. أللهم هذه عن محمد وعن كل عائلته.

 

والمصلى
أوان عيد الأضحى يقول بعد عبارات التكبير أثناء الوضوء: إلهى اجعل هذه الذبيحة
كفارة عن خطيتى وطهر دينى وابعد الشر عنى..

 

واليهود
كذلك يؤمنون بوجوب الكفارة0 فتوراتهم ملأى بالكلام عن الكفارة والذبائح النيابية.

 

علاقة
الذبائح بالغفران:

ولوحظ
فى جميع أديان العالم على اختلافها أن الخاطئ لابد أن يقدم ذبيحة من ماله الخاص
كفارة بدلاً عن نفسه وحاجته إلى مكفر يكفر عن خطيته، وذلك لشعوره بأنه خاطىء مدنس
روحاً وجسداً بالخطية التى ارتكبها. فإذا قدم ذبيحته بيده تلوثت هذه الذبيحة
بخطيته فتصبح غير مقبولة.

 

فإذا
كان لا يقدم باختياره ولا من ماله ذبيحة فليس هناك إيفاء0 وإذا قدمها باختياره ومن
ماله ولكن كان التقديم بيديه فهى ملوثة بيديه فلا تقبل. وإذا كانت لا تقبل فليس
إيفاء، وإذا كان الإيفاء لا يحدث فليست هنالك شفاعة، لأن الشفاعة لا تحدث إلا بعد
تقديم الذبيحة المقبولة0 ولذلك كان الكاهن بعد أن يسفك دم الذبيحة يأخذ دمها ويدخل
إلى قدس الأقداس للتكفير ولمس الخاطئ بدمها ليطهر من خطية السهو التى صدرت منه.
فالذبيحة المقبولة الطاهرة تقدم أولاً، ثم الشفاعة تعقب الذبيحة، كما نفهم هذا من
شريعة التوراة.

 

ذبيحة
إيليا:

كذلك
إيليا عندما جمع بنى اسرائيل على جبل الكرمل فى أيام الملك آخاب وحضهم ألا يعرجوا
بين عبادة الله وعبادة البعل، أمر عبدة البعل أن يقدموا للبعل ذبيحة وهو يقدم لله
ذبيحة والإله الذى يجيب بنار تلتهم الذبيحة يكون هو الإله الحقيقى. فصرخ أنبياء
البعل للبعل طالبين أن ينزل ناراً علامة لقبول ذبيحتهم، فلم يكن صوت ولا مجيب.
وأما إيليا فصلى إلى الله ليؤمن الشعب، فجاءت النار والتهمت الذبيحة؛ فسجد كل
الشعب وقالوا: الرب هو الله. الرب هو الله.

 

وقد
أشار القرآن إلى حادثة إيليا فقد جاء فى سورة آل عمران 183 ” الذين قالوا إن
الله عهد إلينا إلا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قل قد جاءكم رسل من
قبلى بالبينات وبالذى قلتم. فلم قتلتموهم أن كنتم صادقين؟”.

 

ذبيحة
عيد الأضحى:

وقد
أوصى القرآن المسلمين أن يقدموا الذبائح تقرباً لله وقت فريضة الحج وأن يذكروا اسم
الله قائلين ” الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، أللهم منك وإليك
“.

 

ويعتبر
القرآن أن إقامة هذه الشعائر هى من تقوى الله وتعود بالمنافع الدينية والدنيوية
على مقدمها.

 

قال
القرآن ” وأتموا الحج والعمرة لله. وان احصرتم فما استيسر من الهدى (أى
القربان أو الذبيحة الهدية). ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله. فمن كان منكم
مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدة أو نسك. فإذا آمنتم فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة
إذا رجعتم تلك عشرة كاملة” (سورة البقرة 195).

 

الفدية
بالطعام:

قال
القرآن ” كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً
معدودات. فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه
فدية طعام مسكين” (سورة البقرة 183، 184).

 

ويقول
البيضاوى ” إن الفدية هى نصف صاع من القمح وصاع من عير القمح فى بلاد العراق
أو فى بلاد الحجاز”.

 

ونحن
نقول إن الفدية هى البدل أو العوض: فهل يفدى الله إنساناً من ذنب الخطية؟

أليس
بالأولى أن ننظر إلى الفادى الحقيقى الدى قال ” أنا هو خبز الحياة. من يقبل
إلي فلا يجوع ومن يؤمن بى فلا يعطش أبداً “؟ (يوحنا 6: 35).

 

الكفارة
بأعضاء الجسد:

قال
القرآن ” وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف
والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له” (سورة
المائدة 45).

 

والكفارة
هى التغطية أو الستر. ومعنى هذا أن الذنب لابد له من تغطية أمام قداسة الله وعدله.
فهل تعادل جريمتنا فى حق الله عيناً تفقاً أو أذناً تقطع أو سناً تهشم؟ وهل السن
أو الأذن أو العين التى نتنازل عنها تجعل الله يتنازل عن ذنبى أنا ضده؟. إن الذنب
فى حق الله العظيم لابد له من كفارة إلهية لا يقدر البشر أن يصنعوها.

 

قال
الإنجيل المقدس ” إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الله الآب، يسوع المسيح البار هو
كفارة لخطايانا وليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم” (1يوحنا 2: 1،2).

 

فالله
وحده لا الإنسان هو الذى يصنع الكفارة. قال القرآن ” فاغفر لنا ذنوبنا وكفر
عنا سيئاتنا” (سورة آل عمران 193).

 

وقال
أيضاً ” ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما
حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به. واعف عنا.

واغفر
لنا. وارحمنا” (سورة البقرة 286).

 

عدم
كفاية الذبائح الحيوانية للغفران:

ولكى
نفهم هذه الحقيقة فهماً لا يشوبه شك فى أن تلك الذبائح الحيوانية غير كافية لغفران
الخطية، نلفت النظر إلى ما كان من أمر محمد نفسه. فإنه بالرغم عما قدمه من الضحايا
كل سنة وما نحره من البهائم كفارة عن نفسه وعن نسائه، فإنه عند الموت كان يتعوذ من
عذاب القبر. وقد قال فى صراحة لا تعرف اللبس ولا تحتاج إلى تأويل ما يدل على عدم
نفع هذه الذبائح والضحايا الحيوانية فى غفران الخطية الأصلية الموروثة عن آدم، بل
والتى يقترفها الإنسان بنفسه، كما ورد فى (حديث البخارى جزء 4 ص 82) لا يدخل أحداً
الجنة عمله. قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إن لم يتغمدنى الله بمغفرة
ورحمة.

 

احتياج
العالم للذبيحة الكفارية:

وإذا
كان الأمر كذلك إذن يكون العالم بحاجة إلى شخص يموت عن الناس ويكون موته كافياً
لأن:

1-         
يفى العدل الإلهى حقه.

2-         
يرفع القصاص عن الإنسان الخاطىء المحكوم عليه
بالموت الأبدى، أى قصاص جهنم إذ يخلص الروح والجسد.

3-         
ويخلصه من الخطية وقوتها ونجاستها.

4-         
يخلصه من يد إبليس الذى أسر النفوس وأوقعها تحت
سلطانه.

 

الصفات
التى يجب أن تتوفر فى المخلص
والفادى والمكفر:

أولا:
أن يكون قوياً فوق سلطان الخطية وطاهراً فوق نجاستها، لأنه إذا كان خاطئاً وواقعاً
تحت سلطان الخطية ومات، فموته لا يحسب لغيره ولا يقال إنه مات بالنيابة عن غيره،
بل مات بالأصالة عن نفسه وبسبب خطيته جزاءً وفاقاً0 لذلك لا يمكن أن يفى عن غيره
كقول داود النبى: الأخ لن يفدى الإنسان فداء ولا يعطى الله كفارة عنه(مزامير49:
7). وما مثل موت الخاطئ عن الخطاة إلا كمثل مجرم حكم عليه بالإعدام فتقدم مجرم آخر
سبق فحكم عليه بالإعدام ولكنه فر من وجه العدالة وقال أريد أن أموت عوضاً عن صديق.
فلما لمحه رجال البوليس قبضوا عليه وأمر أولو الأمر بتقديمه إلى حبل المشنقة
تنفيذاً للحكم السابق صدوره عليه0 فهل يعتبر موته بالنيابة عن صديقة أم موته جزاءً
وفاقاً لجرمه؟ وهل ينجو صديقه من الموت لأنه قال أنا أموت بدلا عنك أم يضطر
المنفذون للأحكام أن ينفذوا حكم الإعدام فيه نظير جرمه هو الآخر؟!.

 

وهكذا
لو تقدم شفيع أو فادٍ ليموت عن البشرية وكان خاطئاً وواقعاً تحت سلطان الخطية فلا
يفيد الناس شيئاً بموته، لأنه يكون قد مات عن ذنبه وبسبب خطيته، ويبقى البشر خطاة
كما كانوا يتوقعون قصاصهم هم الآخرون أيضاً.

 

ثانياً:
أن يكون أقوى من إبليس، لأن الخطية التى تسلطت على الإنسان كانت بسبب إبليس الذى
أسر النفوس البشرية واستعبدها تحت سلطانه. فإذا كان هذا الشخص الفادى والمكفر ممن
يخضعون لإبليس ووسوسة إبليس وتأثير إبليس ونخسه، فكيف يستطيع أن يخلص الناس من أسر
إبليس وعبوديته؟ فهل لا يكون موت هذا الفادى عن الناس عبثاً وفداؤه باطلاً إذ يقال
له والحالة هذه: أيها الطبيب إشف نفسك؟

 

وهل
يتقدم عبد رق إلى إخوته العبيد ويقول لهم أنا أحرركم، ثقوا بى! فهل يثق العبيد
رفقاؤه إذا ما رأوه وقد سقط تحت قدمى مولاه خوفاً وعبودية وقد اقتاده مولاه إلى
أشق الأعمال وهو مربوط ضمن الحبل إياه الذى كان يربط به الرقيق قديماً وسار وهو لا
يبدى حراكاً؟!

 

وهذا
هو الحال مع الشخص الذى يتقدم للفداء أو الكفارة وكان ممن يخضعون لتأثير إبليس
وسطوته ونفوذه. لذلك كان الناس فى حاجة إلى مخلص أقوى من إبليس ليربطه ويأخذ
أسراه.

 

ثالثاً:
أن يكون قادراً على القيام بما عجز الإنسان عن إيفائه من مطاليب الناموس والعدالة
الإلهية. وهذا يقتضى أن يكون لشخص هذا الفادى والمكفر قيمة غير محدودة، لأن الخطية
التي اقترفها الإنسان والدين الذى تداينته طبيعتنا البشرية بسبب هذه الخطية هو دين
غير محدود لأن الخطية هى
أهانة لناموس الله ودوس
لوصاياه ومخالفة لأحكام عدله. وبما أن الله غير محدود فالخطية ضد الله غير محدودة؛
ولذلك استوجبت الخطية قصاصاً غير محدود ليكون قادراً على إيفاء الدين الغير محدود.

 

وهذا
ملحوظ فى محاكمنا الدنيوية. فإذا أهين شخص من الأشخاص العاديين فإن أى

إنسان
يستطيع أن يعوض عن هذه الإهانة، لأن ما تحكم به المحاكم من قبيل التعويض يكون
بطبيعة الحال شيئاً ضئيلاً يتناسب مع ضآلة حال المهان، ولذلك يستطيع أى شخص أن
يقوم بالوفاء عوضاً. ولكن إذا كان الشخص المهان أكثر اعتباراً من الرجل العادى
فتوجد صعوبة فى التعويض إذ لا يقوى على إيفائه كل إنسان إلا الناس المقتدرين. ولكن
إذا كان المهان ملكاً عظيم القدر جليل الشأن فإن إهانته لا يعوض عنها إلا من كان
من درجته فى السمو والعظمة والثروة الواسعة التى تتحمل الإيفاء.

 

وهكذا
من يأخذ على عاتقه إيفاء مطاليب العدل الإلهى ويسدد ديون البشر الخطاة التى
تداينوها بالخطية، وجب أن يكون غير محدود، واسع القوى، عظيم الثروة غير محدود
الخير ليستطيع أن يفى ما على الإنسان من دين غير محدود ويكفر عن شر غير محدود.

 

رابعاً:
أن يكون ذا سلطان على الروح والجسد لأن الخلاص المطلوب للإنسان هو خلاص لروحه
وجسده. فكيف يستطيع مخلوق أن يختطف الروح من يد الشيطان إذا كان لا سلطان له على
الروح؟ وكيف يصل إليها وهى فى عالم الأرواح لكى ينقذها فضلاً عن الجسد الذى يفنى
فى التراب ويتلاشى بواسطة الموت؟ فكيف بمخلوق أن ينقذ الجسد من الموت ويقيمه بعد
الفناء؟ لأن الفادى والمخلص لابد أن يأتى فى اليوم الأخير بالروح والجسد معاً
ويقيمهما من الموت الجسدى والروحى، وإلا فما معنى الفداء والخلاص؟

 

لاسيما
وأن الفادى والمكفر عندما يشفع فى المذنبين يضمن عهداً جديداً وحياة جديدة لمن
يشفع فيهم ويخلصهم وفى هذه الحالة يضع يده على الإنسان الذى اشتراه بدمه بعد أن
خضع لعبودية إبليس وذلك ليجعله يعيش بعد ذلك لا لنفسه ولا لابليس بل لله فى طهارة
وقداسة وبر. وهذا يقتضى أن يكون ذا سلطان على الروح والجسد ليخضعهما لتأثيرات
الحياة الابدية ويحفظهما بعد الخلاص فى جو الصلاح والبر والقداسة.

 

خامساً:
أن يكون يكون قادراً على أن يجمع المتفرقين إلى واحد فى شخصه، فذلك لينوب عنهم كما
كان البشر واحداً فى آدم عندما ناب عنهم فى الهلاك ومن ذا الذى يتجمع فى شخصه كل
البشر إلا إذا كان قادراً على الإحاطة بالبشر جميعاً؟ وهذا لا يتوفر لأى مخلوق
كائن ما كان.

 

سادساً:
أن
يكون بشرياً من نوع البشر الخطاة المحكوم عليهم بالموت، وذلك
لأن الخطية صدرت عن الإنسان، والحكم بالموت صدر على الإنسان، فيقتضى أن من يموت عن
الإنسان يكون إنساناً، وإلا إذا مات مخلوق آخر غير الإنسان فيكون حكم الله قد سقط
لأنه حكم على الإنسان قائلاً: يوم تأكل
منها موتاً
تموت. لذلك وجب أن الذى يموت عن الإنسان الخاطئ يجب أن يكون إنساناً أيضاً. ولأن
النيابة يجب أن تكون لشخص له صلة بمن ينوب عنهم، وهذه الصلة إما أن تكون صلة قرابة
أو نسب أو قومية أو إرادية، أعنى نيابة تصدر بإرادة الشخص الذى سيناب عنه. لذلك
وجب أن يكون النائب عن الجنس البشرى فى تقديم الكفارة إنساناً منهم، له ما لهم
وعليه ما عليهم، ليكون رأساً لهم كما كان آدم رأساً للجنس البشرى. ولا يصح أن تؤخذ
رأس من أى مخلوق كان لتكون رأساً للبشر غير رأس بشرية تفكر تفكيرهم وتتفق مع
تركيبهم.

 

سابعاً:
أن يموت هذا الفادى
طوعاً واختيارآ، لأن
آدم قد حكم عليه بالموت. والإيفاء يجب أن يكون بالموت لأنه لا يمكن أن ينقض حكم
الله الذى لا تسقط كلمته سقوطاً.. إذن لا يرفع هذا الحكم عن آدم ونسله إلا بموت
الفادى والمخلص الذى يقوم بهذا الإيفاء. ويجب أن يكون هذا الموت إرادياً طوعاً
واختياراً لأنه إذا قدم الله شخصاً ليموت عن الإنسان وكان هذا الشخص لا يريد أن
يموت كان موته كرهاً وبدون ذنب جناه. هذا ظلم لا ترضاه عدالة الله.

 

ثامناً:
أن يكون حياً ليشفع وينوب عن الأحياء والأموات. فإذا فرض أن أحداً قدم ذاته ومات
ولم يقم من الموت فلا يستطيع أن يشفع فى المذنبين ولا يصح أن يكون الميت نائباً عن
الأحياء والأموات. وكيف يستطيع أن ينقذ الآخرين من الموت وهو لم يستطع أن ينقذ
ذاته من الموت؟ لذلك وجب على من يقدم ذاته ضحية ويموت كفارة عن خطايا البشر أن
يقوم بعد موته ثانية ليشفع بعد تقديم الذبيحة فى المذنبين.

 

أين
هذا الفادى والمكفر؟

فلنبحث
عن هذا الفادى والمكفر عن البشرية الذى تتوافر فيه هذه الشروط وهذه الصفات:

 

هل
تتوفر فى البهائم التى تقدم على المذابح؟ كلا. فإن البهائم ليست قوية ولا فوق
سلطان الخطية. وطهارتها سلبية لكونها لا تعرف الشر ولا الخير ولا هى أقوى من إبليس
بل أضعف منه لأنها واقعة تحت دائرة نفوذه، إذ هى ضمن مقتنيات العالم والعالم كله
قد وضع للشرير، وان إبليس رئيس هذا العالم. وهناك دليل إسلامى يثبت وقوع البهائم
تحت تأثير الشيطان ورد فى حديث البخارى (جزء 2ص 148). قال محمد إذا سمعتم نهيق
الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً. كما أن الحيوانات محدودة
وحقيرة فلا تفى بمطاليب العدل الإلهى الذى أهين بخطية آدم.

 

هل
تتوفر فى الإنسان؟ كلا. فالناس جميعاً أخطأوا وأعوزهم مجد الله كما أوردنا ذلك
فيما سبق. كما أن الإنسان واقع تحت نفوذ الشيطان وتأثيره كما ورد فى حديث البخارى
(جزء 2ص 166).

 

وفى
الجزء ذاته ص 47 يقول عن الشيطان إنه يخطر بين الإنسان وقلبه.. وإن التثاؤب من
الشيطان. وفى ص 36 يقول إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم وإنى خشيت أن يقذف
فى قلوبكم سوءاً.

 

كما
أن الإنسان محدود، فلا يفى المحدود الدين الغير المحدود، كما سبق القول. كما أن
الإنسان لا سلطان له على أرواح البشر وأجسادهم، بدليل عجز الإنسان عن ضبط نفسه
وكبح جماحها.

 

هل
تتوفر فى الملائكة أو الشياطين؟ كلا. لأنها ليست من الجنس البشرى فلا يحسب موتها
موتاً عن الإنسان الساقط. كما أنهم إذا اُرغموا على الموت بالنيابة عنه كان هذا
ظلماً لا ترضاه العدالة. وكذلك هم محدودون كغيرهم، والمحدود لا يفى غير المحدود
حقه.

 

ولما
كان من المحتوم والمعقول والطبيعى أن الذى يفدى الإنسان من الموت الأبدى يكون من
حقه السيادة على الإنسان، ويصبح البشر ملكاً شرعياً له؛ وفى هذه الحالة لا يتيسر
للبشر أن يستردوا حريتهم الأولى ومقامهم الجليل الذى كان لهم قبل السقوط فى الخطية
ويستمرون عبيداً لغير الله لأنهم يصبحون عبيداً لمن فداهم وخلصهم وبما أن العبودية
لا تجوز لغير الله، كان من المحتوم أن لا يكون الفادى مخلوقاً من المخلوقات.

 

الله
لن يترك البشرية:

هل
يترك الله البشر وشأنهم بعد أن سقطوا ويحتم عليهم الموت والهلاك؟ حاشالله أن يجعل
البشر يعترضون على عدالته وحكمة قصده ولا يقولون لماذا جنى الله علينا فخلقنا
ليشقينا ويعذبنا. وكان العدم لنا أفضل من الوجود فى شقاء مقيم وعذاب دائم، لاسيما
وأن الله قد خلق إلى جانب أمنا حواء حية من أحيل حيوانات الأرض ورمى بالشيطان إلى
أرضنا ليدخل إلى الجنة ويغوى حواء وحواء تغوى آدم، وكذا وضع لنا وصية ربما تدفعنا
وتحرضنا للاشتراك مع غواية الشيطان على الأكل والمخالفة، حيث أن الممنوع مرغوب.

 

ولما
كانت هذه البيئة واسطة من وسائط السقوط، وهذه البيئة قد خلقها الله أو بالحرى سمح
لها أن تتكاتف ضد آدم لسقوطه وفى هذا شبه العذر لآدم، كان أيضاً من مقتضيات مراحم
الله أن يعد لخلاص الإنسان – الذى عجز عن الإيفاء- واسطة تتوفر فيها جميع الشروط
الآنفة الذكر التى ضمنها، وأولها أن تكون هذه الواسطة من البشر، وهذه الطبيعة البشرية
التى يعدها للخلاص إما أن يتخدها من طبيعة آدم وإما أن يخلق بشرية جديدة من غير
جنس آدم.

 

فإذا
اتخذ طبيعة من غير جنس آدم فالعدالة لا تقضى على طبيعة غير طبيعة آدم لتوفى ديناً
لم تتداينه وتكفر عن ذنب لم تقترفه، بل اقترفته طبيعة أخرى. ومهما ماتت هذه الطبيعة
البشرية المخلوقة من جديد فلا يمكن أن تفى حق العدالة الإلهية لأن الحكم صادر على
آدم وبنيه، فيجب أن يقع الموت الكفارى على طبيعة من ذات طبيعة آدم لأن الخطية صدرت
عن آدم (1).

 

ولما
كان كل حكيم يقصد من عمله غرضاً ويسعى إلى تحقيقه، هكذا كان لله إله الحكمة غرض فى
خلق آدم، وهو أن يجعله حاصلاً على السعادة الدائمة، بدليل أنه لما خلقه وضعه فى
جنة عدن وأحاطه بكل أسباب الراحة والسعادة.

 

ولما
كانت السعادة يجب أن تكون قائمة فى ذات الإنسان لا عرضاً خارجاً عنه، فإن الله
أراد أن يحقق هذا الغرض فى آدم، ومن آدم وحده. وهذا نراه ظاهراً فى خط سير الله مع
آدم فإن الله لما رأى أن سعادة آدم فى الجنة لا تتوقف على بساقة الأشجار ونضارتها
وجمال أثمارها وفواكهها، ولا فى جريان الأنهار العذبة ولا فى رؤية الحيوانات
المختلفة، لأن هذه كلها خارجة عن آدم وليست جزءاً منه بل على وجود معينة نظيره،
فلم يشأ أن يصنع له حواء من طينة أخرى غير الطينة التى أخذ منها بل أخذها من آدم
ذاته. وهذه هى السعادة عينها التى أراد الله أن يحققها فى آدم ومن آدم ذاته.

 

ولما
كان غرض الله أن يجعل سعادة آدم قائمة فى نفس آدم بحيث أنه لو أستمر قائماً فى حال
البر دون أن يسقط فى الخطية لاستمر قائماً فى السعادة بغير حاجة إلى معونة خارجية.

 

ولما
كان غرض الله فى خلاص آدم من الخطية هو عودته إلى حالته الأولى من السعادة التى
كانت قائمة عليه وفيه دون سند خارجى، كان من المحتوم أن ينهض الإنسان من سقطته
ويصل إلى سعادته بنفسه دون مساعدة خارجية عن جنسه. لأن السعادة فى الحرية. فإذا
أنهضهم من هو خارج عن طبيعتهم لا تسلب حريتهم الأولى ولما استطاعوا أن يستردوا
حريتهم التى كانت قبل السقوط لأنهم يصبحون عبيداً لمن فداهم وحررهم بدلاً عن كونهم
كانوا عبيداً للشيطان. والعبودية لغير الله هى عبودية مهما كان الشخص المستعبد كما
سبق القول.

 

فكان
من المحتوم ألا يقوم الجنس البشرى وينهض من كبوته ويخلص من خطيته بإنسان من غير
جنسه بل ببشرى من طبيعته من لحمه ودمه. ولابد من أن يتخذ الله هذا الفادى والمخلص
من طبيعة آدم ومن نسله. فهل يتخذه من أب وأم نظير جميع الناس أو يتخذه من رجل بدون
امرأة؟ أو من امرأة بغير رجل؟

 

أما
من أب وأم أو من رجل بدون امرأة فهذا أمر لا يتوفر فيه أهم شرط للفادى والمخلص،
وهو أن يكون بلا خطية،لأن جرثومة الحياة البشرية وأصلها محمولة فى زرع الرجل،
والرجل بطبيعته خاطئ وأثيم كقول داود النبى: “هأنذا بالإثم صورت وبالخطية
حبلت بى أمى”. فإذا ولد الفادى بواسطة اجتماع رجل وامرأة كان خاطئاً ومولوداً
بالإثم كما لو أخذ أيضاً من رجل بدون امرأة فيكون خاطئاً أيضاً لأنه صادر عن خاطئ
أثيم.

 

ولما
كانت الخطية والحكم بالموت قد دخلا عن طريق المرأة وأن الكلمة التي ألقاها الشيطان
للغواية والهلاك ألقيت إلى المرأة، وجب أن يكون الوفاء من نوع الدين ومماثلاً له
بمعنى أن يأتى الدواء المخلص من المرأة أيضاً، إذ يلقى الله إليها كلمته فيتمثل
لها بشراً سوياً كما تمثل الشيطان فى الحية.

 

ونظراً
لوجود جدل حول التجسد
الإلهى ولمزيد من
التفاصيل فقد خصصنا لهذا الموضوع باباً مستقلاً بعنوان قضية التجسد الإلهى، فيمكن
الرجوع إليه.

 

الناسوت
بلا خطية:

وإذا
قال قائل: وكيف لا يكون الناسوت المأخوذ من المرأة وحدها بلا خطية، بما أن المرأة
ذاتها من الجبلة الخاطئة المدنسة بالخطية والمختمرة بالشر؟ وهل يؤخذ الفطير من
الخمير؟.

 

نقول:
بما أن جرثومة الحياة ليست من المرأة بل من الرجل، وما المرأة إلا مستودع تتربى
فيه جرثومة الحياة الإنسانية كما تتربى البذرة فى جوف الأرض. والله عندما أراد أن
يجعل ابنه يتجسد فى صورة إنسان، أرسل روحه القدوس ليقوم
مقام الزرع
البشرى، فحل على مريم العذراء وقدس طبيعتها، وحل الإبن الكلمة واتحد باللحم والدم
المقدسين بفعل الروح القدس. وهذا ما قاله الملاك جبرائل عندما بشر مريم: ”
الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك. فلذلك القدوس المولود منك يدعى ابن
الله” (لوقا 1: 35). ويطابق هذا القول ما جاء فى القرآن فى سورة الأنبياء عن
القديسة مريم العذراء قوله: ” فنفخنا فيها من روحنا “.

 

وإذا
كانت الشمس عندما تحل فى الأماكن القذرة الملوثة تطهرها وتنقيها، فكيف بشمس البر
يسوع خالق الكل ومقدَّس الجميع إذا حل فى مريم العذراء لا يقدس فى الحال طبيعتها كما
تتعامل النار مع الحديد وتطهره مما علق به. وقد قرأنا فى الصحف عن الأمريكيين
عندما حرمت حكومتهم الخمر أن الذين أدمنوا الخمر وشربوه إستطاعوا أن يستخرجوا من
الخل خمراً طيبة بطرح مواد كيمائية فى الخل تسلبه حموضته.. أى أن هؤلاء الناس
صنعوا من الخمير فطيراً. فهل لا يستطيع خالق الكيمياء ورب الكيمياء إذا ما انطرح
فى جوف مريم العذراء أن ينتزع من طبيعتها خميرة الشر الموروثة عن آدم ويجعل منها
فطيراً يتناسب مع طبيعته اللاهوتية؟!.

 

كيف
يتحد اللاهوت بالناسوت؟

هل
الطبيعة اللاهوتية تتبادل الذاتية مع الطبيعة اللاهوتية بحيث يصير اللاهوت ناسوتاً
والناسوت لاهوتاً؟ أم يتمازجآ، فينشأ عنهما طبيعة ثالثة ليست بإلهية محضة ولا
بإنسانية محضة؟

 

كلا.
فإن الإله والإنسان الذى يقوم بعمل الكفارة لا يمكن أن يأتى من تحول الطبيعة
الواحدة إلى الطبيعة الأخرى، ولا يمكن أن يكون ثالث الاثنين من اختلاط فاسد.

 

لا
يمكن أن يكون من مجرد اجتماع الطبيعة اللاهوتية والطبيعة البشرية، فيكون الإله
شيئاً والإنسان شيئاً آخر دون اتحاد ذاتى.. يكون الإله ذات الإنسان. وبدون هذه
الوحدة لا يتسنى لإحدي الطبيعتين أن تقوم بالعمل الكفارى المطلوب؛ وذلك لأن
الطبيعة الإلهية لا تقوم بعمل الكفارة والوفاء لأنها ليست ملزمة ولا واجباً عليها.
وكذلك الطبيعة البشرية لا تقدر على القيام به لعدم استطاعتها ذلك.

 

إذن،
يقتضى أن الإله الإنسان المزمع أن يقوم بالعمل الكفارى يكون هو نفسه إلهاً
وإنساناً معاً فى وحدة تامة.

 

وكيف تتحد الطبيعة الإلهية
بالطبيعة البشرية؟

الرد
هو: الروح العاقلة والجسد المادى فى الإنسان الواحد متحدان مع أن الروح ليست بمادة
وليس لها شىء من خواص المادة، إذ هى فاعلة حساسة عاقلة كما أن الجسد مادى وليس له
شىء من خواص الروح، ومع ذلك فإن الاتحاد قائم بينهما بدون اختلاط ولا امتزاج ولا
تغيير، والروح باقية روحاً والجسد باق مادة دون أن تنتقل خواص الواحد إلى الآخر،
وهذا الاتحاد ظاهر فى:

 

أولاً:
كون الإنسان مشتركاً فى صفات جوهرية، أى أن له صفات النفس والجسد معاً، إذ ينسب
إلى الإنسان كل ما ينسب إلى جسده وروحه؛ فيقال عنه إنه طويل أو قصير، مريض أو
صحيح، جميل أو قبيح؛ كما يقال عنه حاذق حكيم صالح محسن عالم، فيصدق على أحد جوهرية
ما يصدق على الآخر.

 

 ثانياً:
نسبة صفات متناقضة إلى الشخص الواحد فنقول مثلاً عن
الإنسان
الواحد إنه ضعيف وقوى، خالد وغير خالد، وإنه فان وباق إلى الأبد وإنه روح وتراب.

 

ثالثاً:
تسميته بأحد جوهرى طبيعته والإخبار عنه مما يصدق على أحد جوهريه، فنسميه نفساً
ناطقة ونقول عنه إنه يجوع ويعطش كالبهائم.

 

رابعاً:
ارتفاع شأن جسد الإنسان بسبب اقترانه بالروح، لأن ما يرفع شأن جسد الإنسان عن
أجساد البهائم هو اتحاده اتحاداً شخصياً بالنفس الناطقة الخالدة.

 

وهكذا
كان اتحاد اللاهوت بالناسوت. وبهذا الاتحاد توفرت الصفات التى ذكرناها وقلنا إنها
يجب أن تتوفر فى الشخص الذى يقوم بعمل الكفارة.

 

السيد
المسيح.. الإله المتجسد:

لذلك
رأينا أن السيد المسيح الإله والإنسان كان فى صورة فريدة.

 

1-
السيد المسيح فوق سلطان الخطية:

كما
قال القديس بولس الرسول: ” لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر
ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات. الذى ليس له اضطرار كل يوم مثل
رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولا عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب لأنه فعل هذا
مرة واحدة إذ قدم نفسه” (عبرانيين 7: 26، 27). “لأنه ليس لنا رئيس كهنة
غير قادر أن يرثى لضعفاتنا بل مجرب فى كل شئ مثلنا بلا خطية” (عبرانيين 4:
15). وكما يقول القديس بطرس الرسول: ” فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً
لنا مثالاً لكى تتبعوا خطواته، الذى لم يفعل خطية ولا وجد فى فمه مكر”
(1بطرس2: 21، 22) وقد شهد القرآن عن بر يسوع المسيح وطهارته (ففى سورة مريم) عندما
بشر جبرائيل الملاك مريم وقال لها: “وإنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً
زكياً” (وفى سورة آل عمران) يقول: “وإنى سميتها مريم وإني أعيذها بك
بذريتها من الشيطان الرجيم”. وفى حديث البخارى يقول أبو هريرة: سمعت رسول
الله (ص) يقول ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس
الشيطان إلا مريم وابنها.

 

2-
السيد
المسيح فوق سلطان الشيطان:

كما
ورد فى الحديث السابق الذى يشهد بأن جميع البشر مسهم الشيطان ولكنه لم يقو على مس
السيد المسيح؛ وكما هو واضح من الأناجيل؛ إذ أخرج الشياطين بقوته؛ فكانوا يخرجون
صارخين مدحورين أمام عظمة جلاله. ولما لقيه لجئون من الشياطين صرخوا قائلين: آه
مالنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت قبل الوقت لتعذبنا؟.. والشياطين طلبوا إليه
قائلين إن كنت تخرجنا فأذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير. فقال لهم: امضوا،
فخرجوا ومضوا (متى 8: 29 – 32).

 

ولما
جدف الفريسيون عليه وقالوا أنه يخرج الشياطين ببعلزبول أجابهم قائلاً: كيف يستطيع
أحد أن يدخل بيت القوى وينهب أمتعته إن لم يربط القوى أولاً وحينئذ ينهب بيته؟ (متى12:
29) وبهذا القول أوضح لنا أنه لو لم يكن أقوى من إبليس وأن قوته فائقة لما استطاع
أن يربط إبليس وينهب أمتعته، أى النفوس التى تسلط عليها بدخوله فى أجسام أصحابها.

 

3-
السيد المسيح له سلطان على الروح والجسد:

إذ
كان بكلمة واحدة يظهر سلطانه على كليهما فلما وقف يوماً ما على قبر لعازر الذى كان
له أربعة أيام وقال: لعازر هلم خارجاً، جاءت الروح فى الحال من عالم الأبدية وقام
الجسد بعد تعفن وفساد. وظهر سلطانه الفائق أيضاً فى دعوته للبشر المتمرغين فى
الشهوات والجهل.. العائشين وسط الفجور والملذات والكبرياء. ومع كون تعاليمه
ومبادئه ضد الشهوات الجسدية والفجور والكبرياء، بل وعلى عكسها ونقيضها، فإن الناس
لبوا دعوته وعاشوا ضد رغباتهم وميولهم الفاسدة عيشة طهر ونقاوة وإنكار ذات وهجر
ملذات وتعريض أموالهم وأرواحهم للدفاع عن دينه ومبادئه.

 

4-
السيد المسيح جمع المتفرقين إلى واحد فى شخصه:

كما
ترى الكتلة المسيحية التى صارت فيه واحداً فى جميع أصقاع العالم كما قال، له
المجد، فى صلاته إلى الآب عن المؤمنين: ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب
في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا (يوحنا 17: 21، 22) وكما قال القديس
بولس الرسول: ليجمع كل شئ فى المسيح، ما فى السموات وما على الأرض (افسس1: 10)
وقال القديس يوحنا الإنجيلى: إنه مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل
ليجمع أبناء الله
المتفرقين إلى واحد
(يوحنا11: 52).

 

5-
السيد المسيح مات طوعاً واختياراً كما قال عن نفسه:


أنا أضع نفسى عن الخراف. ولى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها”. ولما كان
يتكلم عن آلامه وأنه سيصلب ويحتقر ويموت انتهره بطرس قائلاً: حاشاك يارب. فقال له
يسوع: إذهب يا شيطان. أنت معثرة لى.

 

ولا
أدل على موته الإرادى الاختيارى أكثر من أنه وهو عالم بمصيره وما يصيبه فى
أورشليم؛ كما أنبأ تلاميذه، فإنه ذهب بنفسه فى موكب حافل إلى أورشليم ليسلم ذاته
لطالبى نفسه.

 

ولما
جاء اليهود لإلقاء القبض عليه فى البستان سألهم: من تريدون؟ فأجابوه: نريد يسوع.
قال لهم: أنا هو فسقطوا على وجوههم فزعاً ورعباً من جلال هذه الشجاعة التى تتقدم
إلى الموت بلا خوف، وكانت له الفرصة أن يتركهم ساقطين على وجوههم ويفر هارباً
منهم. لكن بالعكس، قال لهم: إن كنتم تريدون القبض علي فدعوا هؤلاء(أى التلاميذ)
وخذونى أنا.

 

وكذلك
سنحت له الفرصة للخلاص من الموت عندما طلب إليه بيلاطس أن يدافع عن نفسه، فصمت ولم
يدافع عن نفسه. وكذلك لما وقف أمام هيرودس عند المحاكمة وطلب منه هيرودس أن يصنع
أمامه آية فلم يجبه إلى طلبه، مع أنه لو صنع معجزة من معجزاته الباهرة لإذهل
هيرودس
وأمر بإطلاقه ولكن يسوع صمم على الموت فداء عن
العالم بمحض إرادته.

 

وبما
أن هذه الصفات قد توفرت فى شخص الرب يسوع فيكون هو المعين من الله للكفارة عن
خطايا كل الناس، كما تنبأ عنه إشعياء ص 53. وكما قال السيد المسيح عن نفسه:
“وكما رفع موسى الحية فى البرية هكذا ينبغى أن يرفع ابن الإنسان لكى لا يهلك
كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا3: 14،15). وقوله “كما
أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (متى
20: 28). وقول القديس يوحنا الرسول: ” وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط
بل لخطايا كل العالم” (1يوحنا 2: 2) وكما أشار يوحنا المعمدان قائلاً “هوذا
حمل الله الذى يرفع خطية العالم” (يوحنا1: 29).

 

ونظراً
لأن موضوع لاهوت السيد المسيح موضع للجدال فقد خصصنا له باباً بعنوان قضية لاهوت
السيد المسيح.

 

الإسلام
وقضية الفداء:

إن
القرآن الكريم يؤكد قضية الفداء.. فقد جاء فى سورة الصافات 108 عن قصة امتحان
إبراهيم فى ابنه ما يلى: ” فلما بلغ معه السعى قال يا بنى إنى أرى فى المنام
أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا آبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من
الصابرين. فلما أسلم وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك
نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه فى الآخرين
سلام على إبراهيم “.

 

قال
الإمام البيضاوى مفسراً { (فديناه بذبح) ما يذبح بدله فيتم به الفعل، (عظيم) عظيم
الجنة أو عظيم القدر لأنه يفدى به الله نبياً ابن نبى } فمن النصوص والتفاسير نجد
الآتى:

 

1-         
الإعلان عن مبدأ الفداء.

2-         
الإعلان عن كيفية إنابة الفدية عن المفدى بها.

3-         
كيفية اعتبار ما تم كأنه تم للمفدى نفسه بالفعل.

4-         
إعلان عن طريقة الفداء، وهى الذبح.. وفى هذا كله
إتفاق مع العقيدة المسيحية.

5-    الإشارة
إلى ما يجب أن تكون عليه الفدية من العظمة والكرامة. وهذا ما تؤكده المسيحية من أن
الفدية وجب أن تكون بلا لوم أو عيب وأن تكون مقدسة لائقة لإتمام المهمة التى قصدت،
وهى وفاء العدل الإلهى للجنس البشرى كما أشرنا سابقاً.

 

الإسلام
يشهد بأن السيد المسيح هو الفادى الوحيد

لأنه
الوحيد المعصوم من الخطأ:

+
تعلم المسيحية أن الفداء كان لابد أن يتم بواسطة السيد المسيح الكلى القداسة
الكامل الطهارة لأن الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله.. ولقد أثبتنا فيما سبق
أن الإسلام يشهد لجميع البشر بالسقوط والخطأ والفساد. والآن نورد

شهادة
القرآن لكمال السيد المسيح وقداسته؛ وهذا هو الشرط الأساسى للفادى والذى يميزه عن
كل البشر.

 

جاء
فى سورة مريم على لسان السيد المسيح، له المجد: ” وجعلنى مباركاً أينما كنت..
لم يجعلنى جباراً شقياً “.

 

وجاء
فى سورة آل عمران: “وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك
وبذريتها من
الشيطان الرجيم “.

قال
الرازى فى تفسير كلمة المسيح: (فى ذلك مذاهب نأتى بمخلص بعضها. منها أنه مسح من
الأوزار والآثام.. ومنها أنه مسحه جبرائيل بجناحيه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له
عن مس الشيطان) عن الرازى مجلد 3 وجه 676).

 

قال
الرازى فى تفسيره (وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين) آل عمران ما يلى:
“إنه وجيه فى الدنيا بسبب أنه مبرأ من العيوب.. وفى الآخره بسبب كثرة ثوابه
وعلو درجته عند الله تعالى “.

 

نكتفى
بهذا المقدار من النصوص القرآنية والأحاديث، ومثيلاتها الكثير، فى (إحياء العلوم
للغزالى الجزء3
وجه 37).

 

+
مما سبق نجد أن الإسلام يصرح بعصمة السيد المسيح عن الخطأ. وهو بذلك كان مصدقاً
لما بين يديه من التوراة والإنجيل. فالسيد المسيح هو ” الذى لم يفعل خطية ولا
وجد فى فمه مكر” (1بطرس2: 22). وهو الذى تحدى خصومه قائلاً ” من منكم
يبكتنى على خطية” (يوحنا8: 46).

 

وبعد
أن أشاد الإسلام بعصمة السيد المسيح نعود إلى تجربة إبراهيم فى ذبح ابنه، والتى
تعلم المسيحية أنها رمز لحقيقة الفداء المزمع أن يتم. ولقد أشار الإسلام إلى عظمة
الفدية، وفى هذا دليل جديد على تصديق الإسلام للعقيدة المسيحية فى الفداء بذبح
عظيم هو يسوع المسيح الذى قدم نفسه فداء للبشرية أجمع.

 

الإسلام
يشهد للسيد المسيح بحق الشفاعة الكفارية:

قال
المفسرون فى تفسير ما جاء بسورة آل عمران ” وجيهاً فى الدنيا والآخرة”
بأنه المقصود بذلك هو الشفاعة، حيث قال الرازى (وجيهاً فى الآخرة بسبت أنه يجعله
شفيع أمته ويقبل شفاعته فيهم) وفى تفسير الجلالين (وجيهاً) ذا جاه، (الدنيا) بسبب
النبوة (والآخرة) بالشفاعة والدرجات العلا.

 

وقال
الزمخشرى فى كشافة الوجاهة فى الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفى الآخرة
الشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة)..

 

والآن
بعد أن تأكدنا أن السيد المسيح هو شفيع البشر فهذا دليل جديد على صدق عقيدة الفداء
والكفارة التى تعلم بها المسيحية، لأن شفاعة المسيح الكفارية تتفق مع عدل الله
ورحمته وتجمع بينهما وحيث أن الإسلام قد خص السيد المسيح وحده بالشفاعة دون سواه،
مع أنها حق من حقوق الله كما جاء فى سورة السجدة ” الله الذى خلق السموات
والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش، ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع
أفلا تتذكرون”. وجاء فى سورة الزمر ” قل لله الشفاعة”. لذلك نجد أن
السيد المسيح وحده هو الذى يستطيع أن يوفى بذبيحته مطلبى العدل والرحمة وليس هناك
من سبيل لإتمام ذلك إلا عن طريق تقديمه لذاته كفارة يستوفى فيها العدل مطالبه وتتم
بها الرحمة لجميع البشر.

 

أضف
إلى ذلك ما جاء فى سورة مريم عن السيد المسيح: ” ولنجعله آية للناس ورحمة
منا” وهذا ما نعتقد به نحن المسيحيين من أنه بفداء السيد المسيح للبشرية أكمل
رحمة الله للناس ورفع عنهم حكم الدينونة والعذاب الأبدى. وعلى ذلك فالسيد المسيح
كان فادياً وكان هو الذبح العظيم والشفيع الكريم والرحمة التي أعطيت للعالمين.

 

لماذا توفرت شروط
الفادى فى المسيح؟

لم
تتوفر هذه الشروط التى ذكرناها فى السيد المسيح إلا لكونه إلها وإنساناً معاً، كما
أنه باتحاد الطبيعتين فى شخصه كانت له القوة على الجمع بين وظائف ثلاث ضرورية لعمل
الخلاص والفداء والكفارة، وهى وظيفة ملك ونبى وكاهن.. الأمر الذى لم يتوفر لملك من
ملوك إسرائيل ولا لنبى من الأنبياء ولا كاهن من كهنتهم إلا لشخص السيد المسيح.

ويسوع
المسيح بهذه الصفات والوظائف التى تجمعت فى شخصه استطاع أن يقوم بعمل الكفارة عن
البشر جميعاً، وقام بإيفاء مطاليب العدل الإلهى وتقديم الترضية لكرامة الله التى
أهانها آدم بخطيته، وكان أيضاً قادراً على عمل المصالحة مع الله والناس.

 

صلب السيد المسيح:

تحن
نؤمن بأن السيد المسيح بعد آلامه الشديدة. عُلق على خشبة الصليب وأسلم روحه
الطاهرة فى يدى الآب قائلاً: “فى يديك أستودع روحى”، ولكن كثيراً من
علماء الإسلام يرون عكس ذلك، معتمدين فى ذلك على ما جاء فى سورة النساء والذى قد
يبدو فيه معنى إنكار صلب السيد المسيح وموته حيث جاء “وقولهم إنا قتلنا عيسى
بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم”. فإن هذه الكلمات التى
يراها البعض ضد الإيمان المسيحى بالصلب هى فى الواقع دليل على الصلب، ولكنها تكذب
اليهود فى قولهم: “إنا قتلنا المسيح”، لأن اليهود لم يقتلوه ولم يصلبوه،
لأنهم لم يكونوا أصحاب السلطة والحكم أيام ظهور السيد المسيح بالجسد. وإنما كانت
السلطة بيد الرومان. لذلك فالرومان هم الذين نفذوا الحكم بصلب السيد المسيح. وقد
خيل لليهود وشبه لهم بأنهم قتلوا السيد المسيح وصلبوه لأنهم كانوا أصحاب الشكاية
ضده، فعندما أجيبت شكواهم تخيلوا بذلك أنهم
القاتلون
والصالبون للسيد المسيح، ولتوضيح ذلك نتصور أن أحد الأشخاص المحترمين طلب من أحد
العظماء (وزير مثلاً) أن يعين له أحد أصدقائه فى وظيفة ما، وفعلاً تم المطلوب.
حينئذ يقال إن هذا الشخص المحترم هو الذى عين الصديق لأنه كان صاحب الطلب عند
الوزير. وهذا ما حدث تماماً مع اليهود، فهم أصحاب الطلب ولكن لم يكن فى مقدورهم
تنفيذه، ولم ينفذوه بل نفذه الرومان، أما اليهود فهم بالحقيقة ما قتلوه وما صلبوه
وإنما شبه لهم.

 

أما
الذين يتصورون أن السيد المسيح لم يصلب وأن الذى حل محله على الصليب هو تلميذه
الخائن يهوذا كما يحدثهم بهذه الخرافة الكتاب المطلق عليه إنجيل برنابا، (*) فهذا وهم كبير للأسباب
الآتية:

 

لقد تمت محاكمة السيد
المسيح خمس مرات:

1-    قبض
عليه يوم الخميس مساءً أمام الجميع، وقال يسوع لمن قبضوا عليه (أنا هو..) وقال
أيضاً “قد قلت لكم إنى أنا هو. فإن كنتم تطلبوننى فدعوا هؤلاء يذهبون”
(يو 18: 6-9) ثم قبض عليه بعد ذلك وذهب إلى رؤساء الكهنة.

2-         
أعيدت محاكته فى الصباح (لو23: 66).

3-         
حوكم للمرة الثالثة أمام بيلاطس، وفيها أقر
السيد المسيح بذاته (يو18: 23-27).

4-         
حوكم للمرة الرابعة أمام هيرودس (لو23: 8-12).

5-         
حوكم للمرة الخامسة أمام بيلاطس، وفيها حكم عليه
بالصلب (لو23: 25).

 

وبالنظر
للمحاكمات الخمس السابقة يتضح بجلاء أنه لا يمكن حدوث خطأ فى شخصية السيد المسيح
المصلوب. كذلك لو كان الشخص الذى حوكم وصلب هو يهوذا أو شخص آخر، فلماذا يقول عن
نفسه أنا هو؟ رلماذا لم يعترض أحد من أقاربه أو أصدقائه أو واحد من الحاضرين ويقول
أن هذا الشخص ليس هو المسيح؟ كما أن وجود يهوذا مع الجنود وتقبيله للسيد المسيح
كعلامة لتسليمه ينفى القول بأن المقبوض عليه هو يهوذا أو أى شخص آخر.

 

إن
القول بأن المصلوب هو يهوذا الإسخريوطى أو شخص آخر فهو فى الحقيقة تجديف صريح على
الله القدوس الذى تحدث عنه الكتاب المقدس، وأيضاً القرآن الكريم بكل جلال وهيبة،
لأن معنى ذلك أن الله خدع البشر بأن غير من شكل يهوذا إلى شكل السيد المسيح
المبارك؛ وبذلك تسبب فى ضلال ملايين من البشر.. وحاشا لله العظيم القدوس هذا الكذب
والإدعاء فهو صادق دائماً بل هر أصدق الصادقين.

 

وهل
يعقل أن يضحى التلاميذ بأرواحهم فداءً لشخص خدعهم ولم يصلب، بل حل مكانه شخص آخر
على الصليب؟!.

 

لو
كان المصلوب شخصاً آخر غير السيد المسيح، فهل يعقل أن يقول الكلمات التى فاه بها
السيد المسيح على الصليب؟ ومن هو الإنسان الذى يجرؤ أن يقول
للمصلوب معه
” اليوم ستكون معى فى الفردوس”؟ وكيف يقول يهوذا الخائن الأثيم لله
القدوس ” يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون”؟ (لو23: 34)
والشئ المعروف أن المصلوبين وهم على عود الصليب كانوا يملأون الدنيا بالسباب
والتجديف، أما وأن المصلوب هو رب المجد يسوع المسيح فقد رددت الأرجاء صدى انتصاره
الساحق على الصليب وهو يقول “قد أكمل” (يو19: 30).

 

لقد
سبق وأنبأ سمعان الشيخ (لو2: 3) السيدة العذراء بأن سيف الألم سيجوز فى نفسها؛ وقد
تحقق ذلك وهى ترى ابنها على الصليب. فلو كان المصلوب شخصاً آخر فلماذا تألمت؟ ألم
تعرف
الأم هل المصلوب هو ابنها أم شخص آخر؟.

 

لقد
تنبأ العهد القديم عن صلب السيد المسيح. وقد تحققت النبوات. أضف إلى هذا أن يهوذا
الإسخريوطى لما رأى أن الذى أسلمه (السيد المسيح) قد أدين، ندم ورد الثلاثين من
الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، ثم مضى وخنق نفسه (مت27: 3).

فكيف
يكون يهوذا مخنوقاً ومصلوباً فى وقت واحد؟ كما أن العهد القديم تنبأ أن يهوذا سوف
يسلم السيد المسيح (مز109: 6-30 ومز41: 9).

 

لقد
صلب قبل السيد المسيح كثيرون، ولكن هذه المرة بصفة خاصة نجد أن الطبيعة أظهرت
ظواهر خارقة لم تحدث قط عند صلب أى إنسان، فكانت كما سجلها القديس متى “من
الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة.. فصرخ يسوع أيضاً بصوت
عظيم وأسلم الروح وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل والأرض
تزلزلت والصخور تشققت” (مت24: 45-54). فهل كل هذه الظواهر كانت لتحدث لو أن
المصلوب هو يهوذا الخائن؟!.

 

ظهورات
السيد المسيح بعد قيامته تؤكد أنه هو المصلوب، حيث احتفظ فى جسده الطاهر بآثار
الصلب وعندما شك توما قال له يسوع: ” هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدى، وهات يدك
وضعها فى جنبى ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجاب توما وقال ربى وإلهى” (يو20:
27-28).

 

وهكذا
باقى الظهورات تؤكد أن السيد المسيح هو الفادى وهو المصلوب من أجل خلاصنا.. رغم أن
التلاميذ كانوا فى حياتهم الأولى يرفضون فكرة الصلب أو سماع أى شئ عنها، كما حدث
عندما تحدث السيد المسيح، له المجد، عن صلبه وموته، فوجدنا بطرس وهو يقول للسيد
المسيح “حاشاك يارب أن تصلب”. إلا أننا فيما بعد نجد التلاميذ يبشرون
بالسيد المسيح المصلوب لأنهم بشروا فقط بما رأوه بعيونهم وما سمعوه بآذانهم.

 

ونظراً
لأن موضوع صلب السيد المسيح مجال جدال ونقاش، فقد خصصنا له باباً خاصاً بعنوان
قضية صلب السيد المسيح.

 

موت
السيد المسيح، له
المجد:

نحن
نؤمن بأن السيد المسيح صلب ومات ودفن فى القبر. ثم قام بعد ثلاثة أيام، وبذلك
اكتمل عمل الفداء. وقد ذكر القرآن الكريم موت السيد المسيح.

 

فقد
جاء فى (سورة آل عمران): ” إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك
من الذين كفروا. وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة “.

 

وجاء
فى (سورة النساء): ” وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه مالهم به من علم إلا
إتباع الظن. وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه “.

وجاء
فى(سورة المائدة): ” وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت
الرقيب عليهم “.

 

من
النصوص السابقة نجد أن الإسلام يصرح بأن السيد المسيح قد توفى ثم رفع إلى السموات
حياً. وهذا هو بعينه ما تنادى به المسيحية. إلا أن البعض يصورون أو يتصورون
الحقيقة بصورة أخرى، فيقلبونها إلى مجاز، مفسرين معنى الموت فى النصوص السابقة
بالنوم.. وهذا الرأى خاطئ، لأن الفعل (توفى) ومشتقاته قد ورد فى القرآن الكريم
خمساً وعشرين مرة، وفى هذه المرات كان يدل على الموت وقبض الروح، إلا فى موضعين
اثنين منها، وكان فيهما قرائن تدل على معنى النوم.. وهما فى (سورة الأنعام) حيث
يقول “وهو الذى يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار” وهنا يعنى النوم
بالقرينة “يتوفاكم بالليل”. والمرة الثانية فى (سورة الزمر) حيث يقول
“الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها”. وهنا يعنى النوم
بالقرينة الواضحة “لم تمت فى منامها). أما ما ورد عن السيد المسيح فليس فيه
ما يشير إلى المجاز مطلقاً. أضف إلى ذلك ما جاء على لسان السيد المسيح فى (سورة
مريم) “السلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً”. وفى هذه الكلمات
نجد ثلاثة مراحل مر بها السيد المسيح بالجسد وهى: الميلاد – الموت – البعث، فلماذا
نصدق الأولى والثالثة وننكر الثانية؟ ومما يجدر بالذكر أن هذه الكلمات وردت فى نفس
السورة عن يحيى (يوحنا المعمدان) حيث جاء “السلام عليه يوم ولد ويوم يموت
ويوم يبعث حياً” ومما لا جدال فيه أن يحيى (يوحنا المعمدان) مات فلماذا نقبل
نفس التعبير عن يحيى بمعنى الموت وعن السيد المسيح بمعنى النوم؟!.

 

وجاء
فى (سورة مريم) قول السيد المسيح ” وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت
حياً”. وهنا نجد إقراراً بموت السيد المسيح، حيث أنه لو كان السيد المسيح قد
رفع إلى السماء دون أن يموت لوجبت عليه الزكاة فى السماء تنفيذاً للوصية الإلهية..
وكيف يزكى فى السماء طالما رفع إليها قبل أن يدوس الموت؟ والمؤمنون هناك فى السماء
لا يحتاجون إلى زكاة.

 

يرى
بعض الإخوة المسلموين أن قبول مبدأ موت الأنبياء وقتلهم شئ غير معقول لأن ذلك يلحق
الإهانة بكرماتهم ويجعلهم فى مكانة لا تليق بالأنبياء. والحقيقة المؤكدة فى الكتاب
المقدس غير ذلك.. بل أن قتل الأنبياء زاد من كرامتهم. وقد شهد القرآن الكريم فى
مواضع كثيرة بذلك.

 


ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده الرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات
وأيدناه بروح القدس. أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم.. ففريقاً
كذبتم وفريقاً تقتلون” (سورة البقرة 37).

 


وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون النبيين بغير حق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون” (سورة آل عمران 112)،
“قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل أن كنتم مؤمنين” (سورة البقرة91)،
“قل قد جاءكم بالبينات وبالذى قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين” (سورة
آل عمران181)، “وقتلهم الأنبياء بغير حق” (آل عمران181).

 

ولقد
صادق الكثير من أئمة الإسلام وأقطاب مفسريه وعلمائه على عقيدة موت السيد المسيح
كما ورد عن ابن عباس وعن محمد بن اسحق، وإنما اختلفوا فى مدة موته. فقال وهب: توفى
المسيح ثلاث ساعات ثم رفع، وقال ابن اسحق: توفى سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه
إليه.. وقال الربيع بن أنس: إن الله تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء..

 

ونظراً
لأن موضوع موت السيد المسيح موضع جدال، فقد خصصنا له باباً بعنوان قضية موت السيد
المسيح.



(1) يقول أحد الكتاب المعترضين فى كتابه ” والاسلام لا يعترف بنظرية الخطيئة الأولى (خطيئة آدم وحواء)
ويرى أن الأطفال مطهرون أنقياء عند ولادتهم ويبقون كذلك حتى يدركوا معنى الخطية.
فإذا أتوها حقت على من يرتكبها كفارتها وأن الخطيئة لا تورث.” ويضيف ”
وإذا ما حكمنا الفكر فى هذه النظرية نجد فى إدانة الجنس البشرى كله
،
لا
جيلاً وحده بل الأجيال، بمعصية اقترفها أبو البشر منذ الأف السنين ذروة الظلم. بل
هى عدوان على شريعة الله وعلى قانون الحق والعدل ” فليرحمنا الله.

 (2)يقول معترض آخر
(والواقع أن اعتبار فلاسفة المسيحية الأطفال عند ولادتهم محملين بالخطيئة والمعصية
هو منتهى الظلم والحقد على البشرية. إن الأنسان الذى يعتقد فى توارث الخطية الأولى
لابد أن يصبح متعصباً غليظ القلب ظالماً) فليرحمنا الله.

(*) يعترض البعض على القول بأن الخطية تتوارث كقول الأستاذ منصور حسين
فى كتابه ” دعوة الحق” ص 206 حيث يقول (لماذا يتوارث الناس خطية آدم
بالذات).

(*) أعمال الإنسان ليست سبب خلاصه بل كفارة السيد المسيح المجانية هى
السبب. ولكن بعد الفداء أصبح كل إنسان ملزماً بالأعمال الصالحة، فالإيمان بدون
أعمال ميت كقول يعقوب الرسول
.

(*) وقد أقر محمد بمبداً
العدل هذا فيما أوردناه من الأحاديث والنصوص القرآنية وأن مبدأ القصاص عن الخطية
مسلم به.

(1) لأن الله قدوس
والخطية مقترفة ضد قداسته وهو الذى وضع لها قصاصها ودينونتها بقوله لآدم حسب ما
جاء فى التوراة : ” يوم تأكل منها موتاً تموت” وحسب ما
جاء فى القرآن قوله : ولا تقربا هذه الشجرة
فتكونا من الظالمين.

فلا يصح إذن غفرانها
بالأعمال أو التوبة بل بواسطة تزيل الدينونة وترفع عن الخاطىء قصاصها بدون مساس
بعدل الله ولا استهانة بقداسته.

(2) إن قصاص الخطية
يتفق مع طبيعة الانسان الادبية لأن الإنسان إذا شعر بخطيته واقتنع بها ولم يجد ما
يكفر عنها انزعج ضميره واضطربت طبيعته الأدبية حتى اذا وجد كفارة عن ذنبه استراح
ضميره واطمأن خاطره كما سيأتى القول

(3) إن قصاص الخطية
موافق أيضاً للشرائع الالهية والبشرية التى تتطلب قصاص المذنب رغم أعماله الصالحة
وتوبته كما تقدم التمثيل عن ذلك لان الشريعة بدون قصاص ليست بشريعة محترمة لان
القصاص ضرورى لكرامتها كما أن العفو بدون كفارة عن الخطية مضيعة للشريعة وملاشاة
لها.

(4) إن القصاص عن الخطأ
يوافق الناموس الطبيعى فإلانسان إذا خالف ناموس الطبيعة جلب على نفسه قصاصاً
يتناسب مع قوة تأثير هذا الناموس الطبيعى الذي خالفه. فالانسان يشعر ويعلم بحاجته
إلى تنفس الهواء فاذا ما حبس نفسه فى صندوق لا ينفذ إليه الهواء يختنق رغم بكائه
وتوبته وندامته واستغفاره.

ومن طرح نفسه فى البحر
وهو لا يعرف أن يعوم فإنه لا محالة مائت رغم ما يظهر من توبة وندامة على ما فعل،
اللهم إلا إذا جاء إنسان آخر وخاطر بنفسه وعرض نفسه لمتاعب حتى ينتشله. وكذلك من
يلمس سلكاً مكهرباً فمهما بكى وتاب فإنه يموت قصاصاً على مخالفته القواعد
الطبيعية.

وهكذا الحال مع الخطية
التى هى التعدى على شريعة الله وناموسه الذى وضع للإنسان. فلا التوبة تخلص من
قصاصها ولا الندامة تعفى من نتائجها لأنها شريعة الله التى وضعها كالشرائع
الطبيعية.

وكما أن القصاص الذى
توقعه الشرائع الطبيعية لا نجاة منه إلا بأدوية خاصة يجب أن تستعمل مع من خالفها
ويجب أن يقبلها أيضاً، هكذا قصاص الخطية التى هى التعدى على شريعة الله لا يزول
إلا بالدواء الناجع والطريقة التى يدبرها الله الحكيم حسب مقتضى صفاته التى لا
يمكن أن يضحى بواحدة منها أو يبطل حكمها ومفعولها لأجل صفة أخرى.

 (*)أنظر
الباب الخاص بعدم فهم الكتاب المقدس
.

 (1)
أنظر
الباب الخاص بقضية التجسد الإلهى
.

(*) أنظر
الباب الخاص بقضية صلب السيد المسيح
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار