اللاهوت المقارن

الإيمان والكنيسة والإنشقاق



الإيمان والكنيسة والإنشقاق

الإيمان
والكنيسة والإنشقاق

أمير
نصر

أستاذ
التاريخ الكنسى بالكلية الإكليريكية

ومنسق
مجموعة الحياة الكنسية بأسقفية الشباب

 

يمثل
الإيمان الحى المُعاش بالمسيح إلهاً وفادياً ومخلصاً كما إستلمناه من الآباء الرسل
الأطهار نقطة أساسية فى حياتنا الروحية،وحياتنا الكنسية.كما يعتبر هذا الإيمان
الحى المقدس نقطة محورية فى كل عمل الكنيسة الرعوى والتعليمىوالليتورجى. وفى نفس
الوقت هو نقطة فاصلة ومحددة فى ماهية هذا الإيمان المستقيم والصحيح والنقى أمام
الهرطقات والتعاليم المنحرفة والغريبة عن هذا الإيمان.

 

من
ناحية أخرى نجد هذا الإيمان السليم والصحيح هو صورة الكنيسة الواحدة المقدسة
الجامعة الرسولية، تلك الكنيسة التى هى جسد المسيح وهو رأسها المقدس كقول القديس
بولس الرسول: ” وأخضع كل شىء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شىء للكنيسة
التى هى جسده ملء الذى يملأ الكل فى الكل.” (اف 1: 22 و23) وأيضاً قوله: “…….
كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة ” (أف 5: 23).

 

ولذلك
حرص القديس بولس على تأكيد حقيقة وأهمية هذا الإيمان الواحد،وتلك الكنيسة الواحدة،
فى تعاليمه من أجل تحقيق الحياة مع المسيح فيقول: ” مجتهدين أن تحفظوا
وحدانية الروح برباط السلام، جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضاً فى رجاء دعوتكم
الواحد، رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة إله وآب واحد للكل الذى على الكل
وبالكل وفى الكل” (أف4: 3 6)

 

ومن
ثم رأى القديس بولس أن عمل الكنيسة هو لبنيان جسد المسيح، و من أجل تحقيق وحدة
الإيمان المقدس والحى بالمسيح يسوع ربنا فيقول: ” وهو أعطى البعض أن يكونوا
رُسلاً، والبعض أنبياء، والبعض مُبشرين، والبعض رُعاة ومُعلمين، لأجل تكميل
القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية
الإيمان، ومعرفة إبن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح ” (أف 4: 1113).

 

كنيستنا
ووحدانية الإيمان والكنيسة

ونحن
حينما ننظر إلى كنيستنا، كنيسة الإسكندرية التى أسسها أبينا القديس العظيم مار
مرقس الرسول على إيمانه الحى المُعاش بالمسيح إلهاً وفادياً ومخلصاً، ونعاين
حياتها، نرى مدى إدراكها ووعيها لهذا المفهوم الأنجيلى فى وحدانية الإيمان ووحدة
الكنيسة،وهذا يظهر جلياًفى كل حياتها الليتورجية، وفى كل تاريخهاالمقدس، وأيضاً فى
كل تعاليم آبائها القديسين.

 

فنرى
كنيستنا مع بداية كل يوم وفى صلاة باكر، تضع كلمات القديس بولس الرسول المعبرة عن
ذلك بداية للصلاة، وهى كما جاءت فى كتاب الأجبية: ” فأسألكم أنا الأسير فى
الرب، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التى دعيتم إليها. بكل تواضع القلب والوداعة، وطول
الأناة محتملين بعضكم بعضاً بالمحبة مسرعين إلى حفظ وحدانية الروح برباط الصلح
الكامل، لكى تكونوا جسداً واحداً، كما دعيتم فى رجاء دعوتكم الواحد، رب واحد إيمان
واحد، معمودية واحدة ” (اف 4: 1 5)….

 

كما
تتلو دائماً فى كل صلواتها الطقسية والتعبدية ” قانون الإيمان ” حيث جاء
فى نهايته “.. وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية،ونعترف بمعمودية واحدة
لمغفرة الخطايا…..”.

 

كما
نجد الأب الكاهن يصلى فى بداية الأواشى قائلاً: ” اجعلنا مستحقين يا سيدنا أن
ننال من قدساتك طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأروحنا، لكى نكون جسداً واحداً وروحاً
واحداً، ونجد نصيباً وميراثاً مع جميع القديسن الذين ارضوك منذ البدء ” ثم
يصلى أوشية السلامة ويقول: ” أذكر يارب سلامة كنيستك الواحدة المقدسة الجامعة
الرسولية ” ويرد الشماس قائلاً ” صلوا من أجل سلامة الواحدة المقدسة
الجامعة الرسولية الأرثوذكسية كنيسة الله “.وهذه الأوشية تقال عدة مرات فى
القداس الإلهى سواء جهاراً أو سراً.

 

أما
تاريخ كنيستنا، كنيسة الإسكندرية، فنشهد مدى تمسكها بذا الإيمان المقدس الحى الذى
ولدت به بواسطة أبيها القديس العظيم مار مرقس الرسول ” أنا ولدتكم فى المسيح
يسوع بالإنجيل ” (1كو4: 15). وكيف حافظت عليه، وصارت حامية له من الهرطقات
والتعاليم المنحرفة، بل هى التى قادت المجامع المسكونية الثلاثة فى نيقية 325 م،وفى
القسطنطينية 381م، وفى أفسس 431م، من أجل حفظ الإيمان وحمايته، وبالتالى هى التى
أبقت للعالم هذا الإيمان الحقيقى السليم والنقى والصحيح بالمسيح إلهنا وفادينا
ومخلصنا.

 

ولننظرإلى
كل من القديس البابا أثناسيوس الرسولى (328 373)،والقديس البابا كيرلس الكبير عمود
الدين(412 444)، لأن تاريخهما وأعمالهما لهو تأكيد على إدراك ووعى كنيستنا تجاه
وحدانية الإيمان والكنيسة.

 

فمثلاً
من مواقف البابا أثناسيوس، أنه وأثناء الصراع مع الأريوسيين، إستشعر مدى الخطر على
وحدانية الإيمان والكنيسة، عندما وضح لقداسته أنه بسبب المسألة الإيمانية غدا
العالم المسيحى منقسماً إلى فريقين: الأول أساقفة الغرب النيقيين الذين يؤيدون
قانون إيمان نيقية ويؤيدهم إمبراطور الغرب قنسطانز، بينما الثانى هم أساقفة الشرق
الذين يؤيدون قانون الإيمان الأريوسى الذى وضعوه ويؤيدهم إمبراطور الشرق قسطنطيوس….
فسعى قداسةالبابا أثناسيوس وهو فى روما أثناء نفيه الثانى لعقد مجمع عام يحضره
أساقفة الغرب النيقيين، وأساقفة الشرق الأريوسيين بهدف إقرار العقيدة المسيحية
والإيمان المسيحى وتأكيد وحدة الكنيسة فى العالم كله، يصرف النظر عن مسألة رفض
الأريوسيين له شخصياً، فكان مجمع سرديكا 343م.

 

أما
القديس البابا كيرلس الكبير فنذكر موقفه الرائع بعدإنتهاء أعمال مجمع أفسس
المسكونى الثالث 431م ضد نسطور، سعى فى كتابة رسائله إلى أساقفة العالم لتأكيد
الإيمان فى طبيعة السيد المسيح الواحدة، وايضاً فى تحقيق السلام والإتفاق مع كنيسة
أنطاكية التى أخذت بالنسطورية، فسعى لدى أسقفها يوحنا الأنطاكى للصلح بعد أن كشف
له كيف زوّر النساطرة رسالة للقديس أثناسيوس لتأييد فكرهم المنحرف، وهى الرسالة
التى تمسك بها الأنطاكيون، مما جعل بولس أسقف حمص ومندوب أنطاكيا فى الحوار مع
البابا كيرلس،يؤيد قرارات مجمع أفسس، وحرم نسطور، والموافقة على تعاليم البابا
كيرلس الصحيحة. وهكذا عادت كنيسة أنطاكية إلى الإيمان السليم، وعادت إلى وحدة
الكنيسة الواحدة.

 

ولكن
وللأسف الشديد لم تحرص بعض الكنائس الأخرى على هذا الإيمان الصحيح الواحد،ولا على
الكنيسة الواحدة!!!!!!!!

 

كنيسة
روما وأحدثته

كان
لكنيسة روما وأسقفها لاون الأول (440 461) الدورالرئيسى والأساسى والمباشر فيما
حدث فى الكنيسة الواحدة من إنشقاقات منذ عام 451م.

 

فهذا
الأسقف الرومانى لاون الأول كان يختلف تماماً فى إيمانه عن كل أسلافه من بابوات
كرسى روما الرسولى، فقد أخذ بالفكر النسطورى المنحرف الذى يفصل الطبيعة الواحدة
لكلمة الله المتجسد إلى إثنين وإلى إبنين، كما وضع هذا الإيمان النسطورى فى كنيسته
لتدخل فى إطار إيمان أخر مختلف عن إيمان الآباء الرسل الذين كرزوا وبشروا فى روما،
وعلى رأسهم القديس العظيم بولس الرسول مؤسس كنيسة روما الحقيقى، وأيضاً مختلف عن
إيمان نيقية الذى أخذت به قبلاً. وللأسف يستمر هذا الوضع حتى اليوم.

 

وأيضا
قام هذا الحبر الرومانى بوضع فى فكر كنيسته مسألة رئاسة روما على الكنائس،
والسيادة على العالم المسيحى،بإعتباره الوحيد الذى يمثل السيد المسيح على الأرض،
وبالتالى الإدعاء بعصمة بابا روما، وقد أخذ كل البابوات من بعده وحتى الآن هذا
المعتقد كجزء من عقيدة الكنيسة هناك، ويسعون بشتى الطرق والوسائل من أجل تحقيقه،حتى
ولو على حساب الإيمان والعقيدة وحياة الكنيسة…. وتعطى الوثيقة التاريخية الهامة
التى تسمى ” المرسوم البابوى ” التى أصدرها البابا جريجورى السابع (1073
1085) صورة واضحة لهذا الفكر فقد جاء فيها ” إذ حسمت بكل عزم أن الكنيسة
الرومانية الكاثوليكية مدينة فى تأسيسها لله وحده، وإن رئيسها دون غيره هو الوحيد
الذى يلقب بالعالمية، وأن له السلطة الكاملة فوق كل الأساقفة….. كما أن الكنيسة
الكاثوليكية معصومة من الخطأ، وأنه بحسب الكتاب المقدس أنها لن تخطىء أبداَ.”

 

وبهذا
وضع هذا الحبرالرومانى إمكانية تغيير عقائد كنيسة روما، وإضافة أخرى وفق أغراض
البابوات هناك، ويرصد لنا التاريخ العقائد التى أدخلت وأضيفت مثل: عقيدة الحبل بلا
دنس، عقيدة المطهر، عقيدة زوائد القديسن، عقيدة صكوك الغفرنات، عقيدة خلاص غير
المؤمنين، عقيدة الزواج بغير المؤمنين،…….الخ إلى جانب تغيير عقيدة إنبثاق
الروح القدس من الآب،إلى إنبثاق الروح القدس من الآب والإبن، فكان هذا على رأس
الأسباب التى بسببها حدث الإنشقاق الثانى والذى يُعرف بالكبير،بين روما والكنائس
البيزنطية فى عام 1045م.

 

أضف
إلى هذا، أن لاون أسقف روما قام بفتح كنيسته للهراطقة والمنشقين والمعارضين، وأعاد
الأساقفة النساطرة المقطوعين إلى شركته.

 

من
ناحية أخرى كان هذا الحبر الرومانى يكن العداوة الشديدة لكرسى الإسكندرية، ويمتلىء
قلبه بالكراهية لبابا الإسكندرية معلم المسكونة، وحامى الإيمان المسيحى من كافة
البدع والهرطقات، وقد بذل كل جهده وطاقته للنيل من البابا الإسكندرية، ومن كرسى
القديس مار مرقس،ومن كنيسة الإسكندرية، وسعى كل من خلفة من البابوات لتحقيق هذا
الغرض على مدى التاريخ!!!!!

 

فهذا
الحبر الرومانى لاون الأول هو الذى تأمر على البابا ديسقوروس بابا الإسكندرية (444
454)، وسعى مع الإمبراطور مركيان (450 457) لعقد مجمعاً لمحاكمة القديس ديسقوروس
وعزله ونفيه، فكان مجمع خلقيدونية المشئوم عام 451م، والذى حدث فيه الإنشقاق الأول
فى الكنيسة الواحدة، وكان لاون سبباً رئيسياً فى هذا الإنشقاق.

 

الطريق
إلى خلقيدونية

كان
أوطاخى رئيس أحد أديرة الرهبان فى القسطنطينية، قد أثار هرطقة جديدة منادياً أن
للسيد المسيح طبيعة واحدة ولكن ممتزجة،أى أن الناسوت تلاشى فى اللاهوت،منافيا بذلك
الإيمان السليم بأن للسيد المسيح طبيعة واحدة فيها كل الصفات اللاهوتية والناسوتية
كاملة بغير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير. وهذا ما علّم به البابا كيرلس الكبير
وشرحه بعد ظهور هرطقة نسطور. فقام بطريرك القسطنطينية فلابيانوس (446 449) بعقد
مجمعين بكنيسته وحرم أوطاخى، وأكدعلى أن للسيد المسيح طبيعتان بعد الإتحاد
(نسطورية).

 

ولما
تصاعدت المشكلة،أمر الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثانى (450) بعقد مجمع أفسس الثانى عام
449م برئاسة البابا ديسقورس، وقد حدثت ثلاثة أمور هامة هى:

 

1
رفع الحرم عن أوطاخى بعد مناقشته،وإقراره بالإيمان السليم كما علّم البابا كيرلس
الكبير، ووقع على وثيقة لإيمانية بذلك ورجوعه عن فكره الأول.

 

2
حرم البطريرك القسطنطينى فلابيانوس بعد إعلانه التمسك بعقيدة الطبيعتين،ورفضه
لعقيدة الطبيعة الواحدة التى تقرها الكنيسة، ورفض أيضاً قرار التبرئة… كذلك حرم
المجمع ستة أساقفة تمسكوا بضلالهم وأصروا على هرطقتهم.

 

3
لم تقرأ رسالة لاون (طومس لاون) التى أرسلها إلى المجمع مع المندوبين عنه، بالرغم
من طلب البابا ديسقوروس منهم مراراَ قراءة هذه الرسالة، ولعلهم لم يرغبوا فى ذلك
لعلمهم بمضمون الرسالة التى تعلن عن إعتقاد لاون بالطبيعتين مثل صديقه فلابيانوس.

 

ووقع
الإمبراطور على القرارات، وإنتهى المجمع وعاد الآباء إلى كراسيهم.ولكن تطورت
الأحداث على عكس ما كان متوقعاً للكنيسة الواحدة.

 

فحدث
فى روما

أن
أعلن لاون الأول عن غضبه ورفضه لقرارات مجمع أفسس الثانى، معتبراً عدم قراءة
رسالته إهانة كبيرة له،ووصف هذا المجمع ب” مجمع اللصوص”. ومن ثم سعى
لعقد مجمع أخر فى روما بستأنف فيه الأحكام الصادرة عن مجمع أفسس،إلا أن كلمحاولاته
باءت بالفشل لرفض الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير عقد مثل هذا المجمع لإقتناعه الشخصى
بنتائج مجمع أفسس الثانى،وإعتماد قراراته إذ أنه حقق هدفه فى تأكيد الإيمان
الأرثوذكسى،وقطع المبتدعين من شركة الكنيسة… ولما أدرك لاون هذا الفشل، فتح
كنيسته للأساقفة النسطوريين الذين حرمتهم المجامع الكنسية، وأعلن تمسكه بكل ما
كتبه فى رسالته المعروفة بطومس لاون.

 

أما
هناك فى الإسكندرية

وعندما
عرف البابا ديسقوروس بأمر لاون الأول وسعيه لعقد مجمع لديه مناهضاً لمجمع أفسس
الثانى،فضلاً عن قبوله للنساطرة فى شركته، وتمسكه بما كتبه سابقاً. عقد قداسته
مجمعاً فى الإسكندرية عام 450م بحضور جميع اساقفة مص، وبعد المناقشات وقراءة رسائل
لاون ومنها رسالته إلى مجمع أفسس (طومس لاون) وجدوا أن لاون الأول يتردى فيما تردى
فيه فلابيانوس وكل النسلطرة حيث يعتقد أن للسيد المسيح طبيعتين بعد الإتحاد
(النسطورية)، وهذا يخالف إيمان الكنيسة الأرثوذكسى. وعليه أصدر مجمع الإسكندرية
برئاسة البابا ديسقوروس القرار الحاسم والحازم بحرم لاون الأول أسقف روما، وقطعه
من شركة الكنيسة وهكذا وضع البابا ديسقوروس بكل أمانته المستقيمة حداً لأسقف روما
المبتدع،والمنحرف عن الإيمان الرسولى، وجاء قرار الحرم ليساويه مع الهراطقة
النسطوريين.

 

ثم
حدث فى القسطنطينية

أن
مات الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثانى فى نفس العام 450م،دون أن يخلف وريث للعرش سوى
أخته بوليكاريا التى نكثت بعهد رهبنتها وتركتها، وتزوجت من القائد العسكرى مركيان
ليصبح هو الإمبراطور الشرقى الجديد، وكان يميل إلى النسطورية، فى حين كانت
بوليكاريا تميل إلى فلابيانوس الأسقف المعزول، ولمعتقده أيضا. فضلا عن كونهما
يكنان الحقد والكراهية للبابا ديسقوروس!!!!!.

 

سر
لاون الأول أسقف روما لهذا التغيير الذى حدث، وأن الفرصة باتت مواتية للإنتقام من
البابا ديسقوروس، بل والقضاء عليه، خاصة بعد قرار الحرم ضده فشعر بمزيد من
الكراهية والرفض لبابا الإسكندرية. فسعى من جديد لدى الإمبراطور مركيان وزوجته،
لعقد مجمع جديد لبحث المشكلة القائمة، وأوصى أن يكون هذا المجمع فى مقر كرسيه
بروما.. وجاء هذا السعى تحقيقاً لرغبة الإمبراطورة بوليكاريا للنيل من البابا
ديوسقورس والحد من نفوذه وقوته، إلى جانب الخوف من خطر إنفصال مصر عن المملكة،
وهكذا تكونت الجبهة النسطورية من الإمبراطور وسلطته المدنية، وأسقف روما ومجموع
الأساقفة المقطوعين عن شركة الكنيسة، ضد بابا الإسكندرية ديسقوروس الأول.

 

وحدث
فى عام 451م بالقسطنطينية

كتب
الإمبراطور إلى أسقف روما يقول له: “إنى مستعد لعقد المجمع فى القسطنطينية،
وإذا كانت مشقة السفر تحول دون حضورك فأنا أقوم مقامك لرئاسة المجمع “.

 

ومن
ثم أرسل الإمبراطور الدعوة لعدد كثير من الأساقفة وكان معظمهم من النساطرة، لحضور
هذا المجمع فى قصره بالقسطنطينية، كما أرسل الدعوة أيضاً إلى البابا ديسقوروس،

 

فجاء
ومعه وفد من الأساقفة المصريين، لحضور هذا المجمع المنعقد برئاسة الإمبراطور نفسه.
وقد دهش قداسته من هذا العدد للأساقفة المجتمعين بلا سبب وبلا مبرر!!

 

وعندما
قيل لقداسة الباباأن هذا المجمع بغرض توضيح الإيمان المسيحى، قال البابا ديسقوروس
بكل جرأته وغيرته: “إن الإيمان لفى غاية الكمال، لا يعوزه شىء من الإيضاح،
وهو مقررومثبت من الآباء أمثال أثناسيوس وكيرلس. فأدرك الحاضرون حينئذ أنهم
سيواجهون صعوبة بالغة فى مواجهة البابا ديوسقورس، وانهم لابد أن يجددوا وسيلة أخرى
للتعامل معه.

 

من
ناحية أخرى وأثناء إنعقاد هذا المجمع الغريب حاول البعض ان يستميل البابا ديسقوروس
ليوافق على رسالة لاون (طومس لاون) التى تثبت عقيدة الطبيعتين للسيد المسيح بعد
الإتحاد (النسطورية) ولكن قداسته رفض بكل شدة الموافقة عليها، بل قام بشرح عقيدة
الكنيسة فى طبيعة المسيح الواحدة، وفند الأخطاء التى فى عقيدة الطبيعتين، مدعماً
كلامه وصحة إيمانه بما كتبه البابا كيرلس الكبير عمود الدين.

 

ولم
يستطيع أحد من الحاضرين أن ينبس بكلمة واحدة، وظلوا صامتين مبهورين من قوة البابا
ديسقوروس الإيمانية وحججه اللاهوتية الحاسمة فى تأكيد الإيمان الأرثوذكسى، بل قيل
أن بعض الأساقفة إقتنعوا برأى قداسته.

 

وعليه
لم يجد الإمبراطور بدا من أن يرفع الجلسة إلى موعد آخر لعله يجد مخرجاً من هذا
المأزق الذى وضع نفسه فيه، ودفعه إلى ذلك أسقف روما لاون الأول.

 

وبحث
الإمبراطور مركيان مع زوجته بوليكاريا، وبعض الأساقفة النسطوريين المقطوعيين،
كيفية التغلب على البابا ديسقوروس. واستقر رأيهم جميعاً على عقد مجمع فى مكان بعيد
عن العاصمة على أن لا يناقشوا المسألة الإيمانية مع قداسته لأنه قوى الحجة، ولن
يتمكنوا منه، ويكتفون بالتركيز فى قضيتين، الأولى هى الإعتراف بطومس لاون،
والثانية أمر الأساقفة المقطوعين…

 

ومعنى
هذا أن الدعوة لعقد مجمع آخر للبابا ديسقوروس هو من أجل محاكمته. والحكم عليه، إن
لم يكن قد إتفقوا مسبقاً على هذا الحكم فى تلك المباحثات التى دخلها الشيطان وعمل
فيها.وهكذا صدرت الأوامر الإمبراطورية بعقد المجمع فى مدينة خلقيدونية.

 

ثم
حدث فى خلقيدونية

فى
مدينة خلقيدونية بأسيا الصغرى بمقاطعة بثينية (حاليا قرية قاضى قوة بتركيا) إنعقد
هذا المجمع بحضور 630 اسقفاً (ذكر بعض المؤرخين أن عدد الأساقفة بلغ 330 أسقفاً)
ومن أشهر الآباء الذين حضروا: البابا ديسقورس، يوبيناليوس أسقف أورشليم، مكسيموس
أسقف أنطاكية، أناطوليوس أسقف القسطنطينية. أما أسقف روما، فقد أرسل ثلاثة نواب
عنه هم: الأسقف باسكاسينوس والأسقف لوشنسيوس والقس بونيفاسيوس.

 

كما
حضر الإمبراطور مركيان وزوجته بوليكاريا، ومعها عدد كبير من أفراد حاشيته والضباط
والجنود، إلى جانب القضاة الذين أختيروا لإدارة جلسات هذا المجمع.

 

جاء
إفتتاح وقائع هذا المجمع فى الثامن من شهر اكتوبر 451م بكلمة الإمبراطور مركيان
التقليدية، التى ناشد فيها الحاضرين على ضرورة حفظ النظام الذى هو غاية هذا المجمع

 

ولكن
تبين منذ الجلسة الأولى، وبعد الكلمة الإفتتاحية مباشرة مدى المؤامرة التى دبرت ضد
البابا ديسقوروس، وأن لهذا المجمع أغراض لابد من تحقيقها… فقد جرت الأحداث على
هذا النحو.

 

أولاً:
وقف الأسقف باسكاسينوس نائب أسقف روما، وأعلن إعتراضه على جلوس البابا ديوسقورس فى
مقدمة الآباء، بدعوى أنه هنا من أجل محاكمته فقال: “معنا أوامر الأقنوم
الطوبانى بابا رومية، يأمر بها أن ديسقوروس لا يكون له جلوس فى هذا المجمع، ولكن
احضروه هنا لكى يرد الجواب عن فعله، ونحن ملزمون بحفظ ذلك. فأمروا أن يخرج وإلا
نخرج نحن.

 

فتصدى
له القضاة سألين ما الذى فعله الباب ديسقوروس ليكون مخالفاً للقوانين. فأجابهم
“لقد عقد مجمع أفسس الثانى بدون إذن من كرسى روما.!!!

 

وإذا
أدرك القضاة أن هذا الإدعاء باطل رفضوا مطلب هذا الاسقف الرومانى، وأفحموه بالرد
قائلين: إن كنت بمقام قاض لا يصح لك أن تدعى كالمشتكى ” وعندئذ لاذ بالصمت

 

ثانياً:
دخل ثيؤدوريت أسقف كروش النسطورى المقطوع من شركة الكنيسة إلى، لينضم إلى المجمع
الحاضرين قائلاً أنه أعيد إلى كرسيه وشركة الكنيسة بأمر من لاون الأول أسقف روما،
فحدث إعتراض من أساقفة الإيمان الأرثوذكسى وفى مقدمتهم أساقفة مصر، ولكن تبين أن
حضوره جاء بأمر من الإمبراطور مركيان، وتأكيداً لقبول أسقف روما لهذا الأسقف
النسطورى فى شركته. والمعروف أن ثيودوريث هذا الأسقف النسطورى فى شركته. والمعروف
أن ثيودوريت هذا كان عدواً للبابا كيرلس الكبير، وكتب ضده إثنى عشر حرماً.

 

ثالثاً:
قدم أوسابيوس أسقف دوريلاوس النسطورى المقطوع من شركة الكنيسة، شكوى ضد البابا
ديسقوروس متهماً قداسته أنه حكم عليه ظلماً مع فلابيانوس اسقف القسطنيطينية فى
مجمع أفسس الثانى. كما وصف البابا انه رفيق أوطاخى، ومفسد للإيمان، وهنا طالب
البابا ديسقوروس بقراءة أعمال وقرارات مجمع افسس الثانى عام 449م. لمعرفة الحقيقة
التى يزيفها الأساقفة النسطوريون. فوافق القضاة.

 

وبعد
قراءة أيضاً رسائل الأمبراطور ثيؤدوسيوس الخاصة بمجمع أفسس قال البابا ديسقوروس
“يتضح مما تلى على مسامعكم ان الملك ثيؤدوسيوس الذى أمر بعقد مجمع افسس
الثانى، لم يكل الأمر وحدى فى رئاسة المجمع بل أشرك معى الأسقفين التقيين
يوبنياليوس: أسقف أورشليم وتلاسيوس أسقف قيصرية كبادوكية، فلماذا ينسب إلى وحدى ما
تم فى أفسس؟ علماً بأننا نحن الثلاثة متساون فى السلطان. وقد وافق جميع الاساقفة
الذين حضروا المجمع على ما إتخذناه من قرارات، ووقعوا عليه بأيديهم (79)

 

ولكن
بعض أساقفة الشرق الذين كانوا حضروا مجمع أفسس الثانى، انكروا موافقتهم على
القرارات التى اقرت فى المجمع، بل أنهم وقعوا رغماً عنهم بقوة السلاح، وعلى
القرارات التى أقرت فى المجمع، بل أنهم وقعوا رغماً عنهم بقوة السلاح وعلى ورقة
بيضاء، كما انهم لم يصادقوا على إعتراف أوطاخى، وأنهم كانوا خائفين من بطش
ديسقوروس ورهبان أوطاخى. تألم البابا ديسقوروس لكذبهم وإدعاءاتهم، وانبهم بشدة
لهذا الإنكار خوفاً من الناس على حساب التمسك بالإيمان الصحيح والعقيدة السليمة.

 

ومن
ثم تأثروا وشعروا بخطئهم الفادح، وقالوا لقداسته “أخطأنا ونطلب الغفران”
فأندهش القضاة، وسألوهم عن سبب إنكارهم وتغيير كلامهم فقالوا ثانية: “أخطأنا
ونطلب الغفران”.

 

رابعاً:
سأل القضاة البابا ديسقوروس عن سبب عدم قراءة رسالة لاون (طومس لاون) أسقف روما…فأجاب
قداسته أنه أمر بقراءة الرسالة مرتين، ولكن أوسابيوس أسقف دوريلاوس النسطورى قال
لم يحدث ذلك، وأتهم البابا بالكذب!! فسأل القضاة يوبنياليوس أسقف أورشليم، وأحد
رؤساء مجمع أفسس الثانى فقال: “لقد أمر ديوسقورس بقراءة الرسالة، وفى نفس
الوقت قدم إلينا كبير كتبة المجمع رسائل الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير، فتليت كلها،
ولم تقدم لنا رسالة لاون ولم يذكرنا بها أحد،وعليه صمت الكل أمام هذا الرد الحاسم.

 

وهكذا
أدرك خصوم البابا ديسقوروس أن الأمر سيفلت من أيديهم نظرأ لحجة البابا القوية،
وأيضاً لدور القضاة فى كشف الكثير من الزيف والخداع من أتباع لاون الأول
وفلابيانوس والنساطرة.

 

ومن
ثم تقرر أن ترفع هذه الجلسة على أن تستأنف الجلسة الثانية بعد خمسة أيام… وهذا
فى حقيقة الأمر لكى ليحبكوا فيها مزيدا من المؤمرات ضد بطل الإيمان الأرثوذكسى
البابا ديسقوروس السكندرى.

 

المؤامرة
على البابا

اتفق
نواب لاون مع الأساقفة المتأمرون على عقد الجلسة الثانية فى اليوم الثالث وقبل
موعد إستئناف أعمال المجمع المتفق عليه بعد خمسة أيام، ولا يحضر هذه الجلسة السرية
القضاة ولا البابا ديسقوروس ولا أساقفة مصر.. ولضمان عدم حضور قداسة البابا
واساقفته وضعوا حراساً على باب مقر إقامته، لمنعه من الخروج إذا حاول ذلك.

 

وبالفعل
عُقدت هذه الجلسة بحضور مندوبى اسقف روما وأساقفة الشرق النساطرة، ولمزيد من
الخداع أرسلوا وفدا لإستدعاء البابا ديوسقورس، فأخبرهم أن الحرس يمنعوه من الخروج.
كما أن لن يحضر إلا بحضور القضاة.

 

الحكم
الجائر

تسابق
الأساقفة المتأمرون على رصد الإتهامات ضد البابا ديسقوروس، وصلت إلى حد الطعن فى
سيرته وأخلاقياته!! ثم أصدروا حكمهم الجائر الزائف فى غيابه، وغياب أساقفة مصر
والقضاة وحتى نواب الملك بحرم وعزل قداسته. وقد جاء فى نصه:

 

“قد
ظهرت الأمور التى صنعها ديسقوروس.. فقد قبل أوطاخى بخلاف ما تأمر به القوانين…
واستخص لذاته الولاية قهرأ ولم يأذن أن تقرأ رسالة لاون المرسلة إلى فلابيانوس…
وقد زاد إثماً على سيئاته الأولى فيما تجاسر وحرم لاون الحبر الأقدس صاحب كرسى
كنيسة رومية.. وقد دعاه المجمع ثلاث دفعات بموجب القوانين الكنائسية فخالف أمره
وأبى السير إليه… فلأجل ذلك لاون الحبر الأقدس بواسطتنا.. قد نزع عنه درجة
الأسقفية وعزله من خدمة الكهنوت، فالآن، هذا المجمع المقدس يحكم فى دعوى ديوسقورس
بمارسمته القوانين!!.

 

كما
أقر هؤلاء المتأمرون وأعترفوا “بطومس لاون” والتأكيد على الإيمان بأن
للسيد المسيح طبيعتين بعد الاتحاد (النسطورية)، وأيضاً أعادوا الأساقفة النسطوريين
المقطوعين الى شركتهم وإلى كراسيهم التى عزلوا منها.

 

بطل
الأرثوذكسية

أرسل
هؤلاء الأساقفة حكمهم وعقيدتهم الخلقيدونية (نسبة إلى مدينة خلقيدون التى أجتمعوا
فيها) المخالفة للإيمان السليم إلى البابا ديوسقورس الذى قام بقراءتها على مسمع من
بعض الأساقفة وإذ وجدها مخالفة لتعليم الكنيسة، كتب على هامش الكتاب المدونه فيه،
ما يظهر فسادها وإنحرافها، كما كتب حرماً لكل من يتجاسر على تغيير العقيدة
الأرثوذكسية الصحيحة أو يتلاعب بقوانين المجامع المسكونيه… ثم أعادها اليهم.

 

فلما
رأى الأساقفة، الخلقيدونيون ما كتبه البابا ديوسقورس من بيان فساد عقيدتهم، وحرم
كل من يأخذ به، أسرعوا إلى الإمبراطور مركيان، وأعلموه بما فعله قداسة البابا،
فاغتاظ وعزم على قتله، ولكنه أدرك خطورة ذلك فعدل عنه، واكتفى باصدار أمراً بنفى
قداسته إلى جزيرة غاغرا بأسيا الصغرى (حالياً كانكريرى بتركيا) وظل قاسته هناك إلى
يوم نياحته عام 454م.

 

أما
الإمبراطور فإعتمد قرارات هذا المجمع الزائف

 

وحدث
الإنقسام

يعتبر
مجمع خلقيدونية الزائف عام 451م هو سبب إنشقاق الكنيسة الواحدة إلى قسمين:

 

الأول:
الكنائس التى ترفض قرارات هذا المجمع، وهى الكنائس اللاخلقيدونية، والتى تعرف
بالكنائس الأرثوذكسية الشرقية وتؤمن بطبيعة المسيح الواحدة بعد الإتحاد لها كل
صفات وخصائص الطبيعتين وأن إتحادهما بغير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير…

 

وهذه
الكنائس هى:

1-
كنيستنا القبطية الأرثوذكسية.

2-
الكنيسة الأنطاكية السريانية.

3-
الكنيسة الأرمنيه فى لبنان واتشمايزين.

4-
الكنيسة الهندية السريانية.

5-الكنيسة
الأثيوبيه.

6-
الكنيسة الإريترية.

 

الثانى:
الكنائس التى توافق على قرارات هذا المجمع، وهى الكنائس الخلقيدونية والتى تعرف
بالكنائس الأرثوذكسية البيزنطية. مع الكنائس التى أستحدثت بعد الإنشقاق فى أوروبا
وأمريكا وأسيا إلى اليوم، والتى سارت فى ركب الكنائس الخلقيدونية وهى:

 

1-
بطريركية القسطنطينية (المسكونية)

2-
الروم الأرثوذكس بالإسكندرية

3-
بطريركية الأرثوذكس بأنطاكية.

4-
بطريركية أورشليم

5-
الكنيسة الروسية.

6-
الكنيسة الرومانية

7-
الكنيسة اليونانية

8-
الكنيسة الصربية

9-
الكنيسة البلغارية

10-
الكنيسة الچورچية

11-
الكنيسة القبرصية

12-
الكنيسة البولندية

13-
الكنيسة التشيكية والسلوفاكية

14-
الكنيسة الآلبانية

15-
الكنيسة الفلندية

16-
الكنيسة فى سيناء (دير سانت كاترين)

17-
الكنيسة اليابانية

18-
الكنيسة الصينية

19-
الكنيسة الأرثوذكسية بأمريكا.

إلى
جانب كنيسة روما حتى عام 1054م… ثم الكنائس الكاثوليكية فى العالم بكل أجناسها
وشعوبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار