علم المسيح

الأم العذراء و الطفل – الإله



الأم العذراء و الطفل – الإله

الأم العذراء و الطفل
– الإله

“ابن
العلي يدعى.. (لوقا 1: 32)

. ألف
ذكرى تنهال على الذهن كلّ مرّة نستعيد فيها الأحداث التي يرويها الإنجيل عن منابت
يسوع الأرضية. فتلك الأسرة الصغيرة الآوية إلى كهف من كهوف البهائم، وتلك الأمّ
الفتية الحانية على صغيرها، تقمّطه وتضجعه، وذلك الطفل الإلهي الراقد فوق حفنة من
تبن المزود، يدفئه الحمار والثور بأنفاسهما

 

. أي
مسيحيّ لا يحمل، حتى يومنا هذا، مثل تلك الصور في ذاك الركن الدفين من وجدانه، حيث
تصمد، في وجه الشك وسورته، بتلك المملكة من السحر والحنان. لقد حلمنا كلّنا بتلك
الليلة الشفافة التي انطلقت فيها جوقة من الملائكة، تسبحّ الله وتعد العالم
بالسلام والرحمة من العلاء..

 

. أجل
ليس من عيد، في المسيحيّة، أوسع شعبيّة من عيد الميلاد. فلقد كتب له دون سواه، أن
يجمع في غمرة واحدة من الحبور، أولئك الذين يستعيدون به ذكرى ميلاد اللّه، وأيضاً
الذين لا يحفلون بمعناه..أمّا الوثائق التي نستمد منها معرفة تلك الأحداث، فهي
زهيدة. فالرسولين مرقس ويوحنّا لم يأتيا على ذكرها في إنجيليهْما، ولا الرسول بولس
في رسائله. وأمّا الرسولين متى ولوقا، فقد خصّاها، وحدهما، ببعض الفصول، على سبيل
التمهيد والتقديم. ويُذهب اليوم إلى أن هذه الأجزاء من كلا الإنجيلين، لا ترقى إلى
مجموعة التعاليم المتضمنة في الكرازة البدائية، بل أضافها الكاتبان استناداً إلى
مصادر خاصة..

 

. ما
هي تلك المصادر؟ هي، ولا شك، تلك الأوساط التي عاش فيها المسيح. فالقديس لوقا قد
صرّح، مرتين، أن مريم “كانت تحفظ جميع هذا الكلام، متفكرة به في قلبها ”
(لوقا 2: 19، 51). وأما الفروق التي وقعت بين روايتي لوقا ومتى، فيعللها أن
الكاتبين قد استقلاّ أحدهما عن الآخر، في تقصي الأحداث واستقاء الأخبار. وعلى كلّ
فليس من شكّ في أن تلك الأحداث لم تكن وليدة المخيلة الشعبية، وذاك الاستنباط
القومي الذي لا يقوى إلاّ أن يهوى سريعاً في السخافة. حسبنا، للتيقنّ من ذلك، أن
نقارن بين مؤديات الإنجيلين القانونيين، ومحتويات الأناجيل المنحولة: فمن جهة، نجد
الاعتدال والترصّن، حتى فَي رواية الأحداث المعجزة، ومن جهة أخرى، نجد التمحلّ
والتزيّد والإسفاف. أجل، نحن لا ننكر أن الأحداث التي تروي طفولة المسيح قد تتشح،
أحيانا، بوشاحٍ من الشعر والمثاليّة. بيد أن ذلك لا يمنع، البتّة، من الاعتقاد
بأنها تنتسب إلى التاريخ انتساباً لا يرقى إليه ريب

 

“مدينة
داود التي تدعى بيت لحم ” (لوقا 2: 4)

. قبل
ظهور يوحنا المعمدان في الأردن بثلاثين سنة، تقريباً، جرى إحصاء في بلاد فلسطين.
والواقع أن اليهود لم يكونوا ليأنسوا كثيراً إلى مثل تلك الإجراءات الإحصائية، حيث
يمسي الإنسان – وهو الكائن الفذّ – رقماًُ يعدّ كالدواب بالمئات والألوف. وكان
موسى قد تعنّت كثيراً في أنُ يخضع لها القبائل اليهودية. أمّا روما فكانت تفرض على
جميع سكان الأقاليم أن يدونوا في سجلاتها الرسمية، بأسمائهم، وحِرفهم، وكميةّ
ثرواتهم. وهكذا كان يسهل عليها وضع قاعدة للضرائب، وتقدير الطاقات العسكرية في
أزمنة الحرب. فمن المحتمل أن تكون روما قد فرضت تلك الفريضة على المملكة اليهودية
الصغيرة التي كانت عائشة في ظلّها، إلاّ إذا افترضنا أن هيرودس، في مسارعته
الدائمة إلى مداهنة السلطة الحامية، قد تبرعّ بتنفيذ القرار في بلده. وكانت عمليّة
الإحصاء، في فلسطين، تستتبع مشكلة خاصة: فالتسجيل لم يكن يتمّ في محلّ الإقامة، بل
في المنشأ الأصلي الذي كانت تنتمي إليه كل أسرة. ولا غرو، فقد كانت التقاليد
العائلية راسخة في إسرائيل، منذ أقدم العصور، وازدادت رسوخاً من بعد الجلاء، من
يوم أخذت الأمّة اليهودية تعمل على صيانة العنصر العبراني، وتحريم الزواج بالأغراب

 

.
” ففي تلك الأيّام صدر أمر من أوغسطس قيصر، بإحصاء جميع المسكونة: فأخذ
الجميع ينطلقون، كل واحد إلى مدينته، لكي يكتتبوا. وصعد يوسف أيضاً من الجليل، من
مدينة الناصرة، إلى اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم – فإنه كان من بيت
داود، ومن عشيرته – لكي يكتتب مع مريم امرأته التي كانت حبلى ” (لوقا 2: 1 –
5)

 

. من
كان هذان الزوجان اللذان نراهما، من خلال رواية الإنجيل، وقد ذهبا في الدروب،
امتثالاً لأوامر القيصر؟ أسرة مترابطة بروابط الزواج المقدس، وبأواصر التعاطف، على
حدّ سواء! وإلاّ فهل كان من الضروري أن تجابه تلك المرأة الفتيّة-وهي في حالها-
وعورة السفر، مع العلم بأن الرجال وحدهم ملتزمون بفريضة الإحصاء، لولا أن الزوجين
قد وَطّنا العزم على التكافل فى تحمّل تلك السخرة؟.. لقد كانا، ولا شك، من الفقراء،
رجلاً وامرأةً من الشعب الكادح، من أولئك المتواضعين الذين لهم من شهامتهم ثروةٌ
دونهَا ثروة مالهم، والذين تجدهم السلطات، دوما، على أهبة الانقياد والخضوع

 

.
أمّا الرجل، فكان عاملاً، نجّاراً، واحداً من أولئك المهَنيين الريفيين الذين
كانوا يولّفون السواد الأعظم من أهل فلسطين، والذين كان لهم من الورع والنظام
والجدّ في العمل، ما مكنّ الأمّة اليهودية، بعد رجوعها من بابل، من أن تتأصل من
جديد في تربة الأجداد. وكان اسم الرجل يوسف. وهو اسم عريق جدّ اً في إسرائيل، سميّ
به، من بين أبناء يعقوب، ذاك الذي سجّل له التاريخ، في مصر، أمجاداً باتت مدوّنة
في الكتاب المقدّس. وأمّا يوسف هذا، فقد حوّط الإنجيل ذكره بالخفاء والتواضع
والصمت، فلا ترى له فيه صورة بارزة، بل ملامح يشتم منها رجل قد بلغ شأواً من
النضوج وتلقن من خبرة الحياة حكمة ورزانة

 

أمّا
الزوجة فكانت، ولا شك، أحدث منه سنا. فقد كانت العادة تقضي بتزويج الفتيات فور
بلوغهن، بينما كان الرجال يتريّثون حتى الخامسة والعشرين وأكثر. والواقع أن الفتاة
اليهودية، منذ سنهّا الرابعة عشرة، كانت تبدو عليها مظاهر المرأة المكتملة. وكان
اسم الزوجة مريم. وهو أيضاً من الأسماء التي كانت شائعة في فلسطين؛ ورّبما رجع
أصله إلى عهد الهجرة إلى مصر. وهو قريب، لغةً، من معنى ” السيّدة ”

 

.
كانا فقيران، بلا أدنى شك! ولكن، هل كانا، يقينا، من نسل داود؟ ليس في الأمر ما
يحمل على الاستغراب، فقد كانت ذرّية داود وسليمان ابنه على جانب من الكثرة، وإن لم
يكن جميع أفرادها قد لزموا المناصب العالية، والمراكًز الوجيهة.. أمّا انتساب يوسف
إلى بيت داود، فقد أثبته اثنان من الإنجيليين: القديس متى، في مستهلّ كتابه (1: 1
–17)، والقديس لوقا، في مطلع أحداث سيرة المسيح العلنية (23: 3-38). ولا شك أن
قضية الانتساب هذه، كانت على جانب من الخطورة، إذ كان شائعاً، في الناس، أن المسيح
سوف يكون من نسلً الملك الأعظم، ” وغصنا من جذع يسّى “، على حدّ ما ورد
في نبوءة أشعياء. فأمّا الفروق التي وقعت بين نصّي متى ولوقا، في إثبات لائحة
النسب، فليس فيها كبير شأن؛ فإنّ جوهر النصّين واحد: وهو إثبات حقيقة ذاك الانتساب،
على ما هنالك من تباين -رّبما كان متعمّداً – في التفاصيل

 

.
وأمّا انتساب مريم إلى ذريّة داود، فهو من التعاليم التقليدية. وقد أشار إليه
القديس بولس – على ما يبدو – في رسالته إلى كنيسة روما (1: 3)، وأثبته آباء
الكنيسة منذ القرن الثاني، ويدعمه أن اليهود كانت لهم عادة شائعة جدا في زفاف
الفتاة إلى أحد أقاربها الأدنيين، وذلك لأسباب شرعية، في أغلب الأحيان..

 

. لقد
توجّها إذن إلى بيت لحم: وهي المدينة التي ورد عنها في الكتاب المقدّس، أنها مسقط
رأس الملك العظيم (1صموئيل 6: 20، 28). فإنه في حقول بيت لحم، وفي إحدى ليالي
الحبّ – ألفَ سنة قبل المسيح – كانت راعوث (راجع سفر راعوث بالعهد القديم)
المؤابية قد استهوت قلب بوعز سيّد تلك الحقول. ومن زواج ذاك السيد الكريم بتلك
الغريبة الفقيرة التي جاءت تلتقط السنابل في أرضه، ولدَ عوبيد، ومنه وُلد يسى ذاك
الجذع المتين الذي كان داود أجمل فروعه

 

.
كانت الشقة بعيدة بين الناصرة وبيت لحم: 150 كيلومتراً تقريبا. وكانت الطرق لم تزل
وعرة، إذ لم تكن روما قد تفرّغت بعد لتعبيدها، بمقتضى أساليبها الخاصة. فكان يجب،
لقطع تلك المسافة، أربعة أيّام كاملة، على ظهر الحمار – تلك الدابّة الشائعة التي
كان أفقر الناس يملكونها. فبعد اجتياز سهل عزر يلون (هو السهل المعروف اليوم بمرج
أم عامر)، كان المسافر يوغل جنوباً، من قرية إلى قرية، يستعيد، في كل منها، ذكرى
الأحداث السالفة، والأبطال العظام الذين حفل بهم تاريخ إسرائيل. ثم كان يفضي إلى
السامرة، فينقبض لمرأى تلك الأرض الطاهرة التي كانت محتفظة بصريح يوسف وبئر يعقوب،
والتي أمست أرض كفر وشقاق. ثم كان ينتهي، أخيرا، إلى بلاد اليهودية، بأرضها
الجافية الحمراء المتموّجة إلى أقصى ما يمدّ إليه النظر.. ولكن، عندما كانت تبرز
أورشليم، فجأة، من منفذ أحد الشعاب، بقمم أبراجها، كان كل إسرائيلي ينعصر قلبه من
التحنان، وتلتمس عيناه الهيكل، وينطلق لسانه بنشيد مزمورٍ من مزامير ”
المراقي “، يصعّد فيه شكره للّه، وفرحه المتوثّب

 

! بعد
مسيرة ساعتين من أورشليم، وبعد الترحّم – في الطريق – على قبر راحيل – تلك الأمّ
الثاكل – كان يُبلْغَ أخيراً إلى بيت لحم..تلك المدينة البيضاء الجاثمة، على علو
80. متر، فوق منحدرات هضبتين توأمتين، ما كان أبهج منظرها، بعد تلك الوعورة
الموحشة التي لم يكن فيها ما يذكّر بالحياة سوى بعض الشجيرات، وبعض البراوق
والشقائق الحمراء

 

هناك،
في الأفق البعيد، كانت الصحراء تمتدّ، تارة أخرى، موغلةً حتى شواطئ البحر الميّت،
محدّبة كأنها ذوب رصاص قد تجمد فجأةً. وأمّا ما حول القرية، فكان كلّه رياض وحقول
شقراء، وزيتون فضّي! لقد كانت خليقة باسمها، قرية بيت لحم، أي: بيت الخبز، بحسب
المدلول الشعبي؛ وكانتُ تعرف أيضاً باسم “أفراتة ” أي ” الكثيرة
الفواكه “. لقد كانت، ولا شك، على عهد المسيح، أصغر منها اليوم؛ بيد أنها لم
تكن حقيرة، بل كانت تعي، حق الوعي، محتدها القديم الحافل بالأمجاد. أو لم يكن ميخا
النبي قد أنبأ، يوماً، بمصيرها السنيّ، حيث قال: ” وأنت يا بيت لحم، أفراتة
وأنت صغيرة بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه
منذ القديم، منذ أيام الأزل ” (ميخا 5: 2)

 

. فهل
كان بالإمكان أن تغرب تلك النبوءة عن ذهن يوسف ومريم، وقد كانا من نسل داود، وعلى
علم، خصوصاً، بالمعجزة الكبرى التي كان جنين مريم مصداقها؟ لقد كان يدعمهما رجاء
عظيم؛ وربما كان يراود قلبيهما أن قيصر لم يوقعّ على قراره، ولم يجيّش موظفّيه
وكتبته، إلاّ لكي يتحقق، على يده، ما كان مكتوباً منذ الأبد. ولا غرابة في ذلك،
فإن نوايا الله تبقى مطويةّ عن البشر، وأكثر الناس سلطاناً إنما هم، بين يدي الله،
آلات طيّعات

 

الأم
– العذراء

. كان
ذلك قد جرى، من قبل سنة، في الناصرة، تلك القرية التائهة ما بين هضاب الجليل
النائي، موطن ذينك المسافرين. وكانت مريم، يوم ذاك، مخطوبة ليوسف. فجاءها ملاك
وقال: ” سلام لك، أيتها الممتلئة نعمة، الربّ معك!. ” فاضطربت مريم
لمرآه، وفكرّت ما عسى أن يكون ذاك السلام. فقال لها الملاك: ” لا تخافي يا
مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت تحبلين، وتلدين ابنا، وتسمّينه يسوع.
هذا يكون عظيما، وابن العليّ يدعى. ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على
بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية “. فأجابت مريم قائلة: ” كيف
يكون هذا، وأنا لست أعرف رجلاً؟ “. فقال الملاك: ” الروح القدس يحل عليك،
وقوة العليّ تظلّلك! فلذلك أيضاً القدّوس المولود منك يدعى ابن الله ” (لوقا
1: 29 – 35)

 

. لقد
حاول الفن أن يمثّل ذاك المشهد الرائع بصور زاهية، وضمن إطارات خلاّبة. إلاّ أن
عالم الآثار قد جاءنا، عن الناصرة، بتفاصيل أقلّ فخامة وأبّهة. فقد كشف لنا عن
مساكن متواضعة جداً أشبه بالكهوف، مكونة، في أغلب الأحيان، من غرفة واحدة، مشطورة
نصفين: نصفٍ للبهائم، ونصف للأسرة؛ أو عن بيوت من لَبنٍِ منخفضة، مربعّة، منثورة
ما بين كرومً الزيتون

 

.!ن
الكنيسة الحديثة المبنية، على اسم ” البشارة “، في الموضع الذي قامت فيه،
على ما يظن، كنيسة قديمة، من عهد قسطنطين تحضن، تحت مذبحها الرئيسي، معبداً أرضيا
ضيقاً، يذهب التقليد إلى أنه الغرفة التي كانت تقيم فيها العذراء، ساعة حضر إليها
الملاك

 

.
وأمّا الكلام الذي توجّه به الملاك إلى مريم فكان من شأنه أن يغمر نفس تلك الفتاة
ذهولاً وتواضعاً. بيد أنه لم يكن بحيث يستغلق عليها استغلاقاً تاماً. فقد كان قلب
كل فتاة يهودية، وإن لم تكن قد أكملت ربيعها الخامس عشر، حافلا بترقب المسيح، كقلب
كل فرد من أفراد تلك الأمّة. وإذا كانت تلك الفتاة من ذرية داود، أفما كان يحق لها
أن تأنس إلى الأمل بأن تكون هي الغصن الذي قد تتفتحّ عليه، ” من أصل يسّى
“، زهرة المنتهى؟ على كلٍ، كان الوعد الذي نطق به الملاك منسجماً، في صيغته،
انسجاماً تاماً وما كان مأنوسا عن فكرة المسيح. فهو لم يبشّر العذراء بالمسيح
المتألم، والضحية المقدسة (ولسوف تنبأ به، فيما بعد، يوم تقدمة يسوع إلى الهيكل)،
بل أعلن لها أن الله سوف يهب ابنها عرش داود، وصولجان بيت يعقوب إلى الأبد. ولذلك،
فقد اكتفت العذراء بطرح سؤال بسيط جدّاً، بديهي

 

.
أجل! لقد كانت البشرى التي جاء بها الملاك من ساميات الغيوب؛ ولكنها كانت لابد
إلىّ أن تحدث مشكلة في مستوى الحياة البشرية، وأوضاعها المألوفة. فقد كانت مريم
مخطوبة ليوسف. ومعلوم أن معنى الخطبة، عند العبرانيين، كان قريباً جدّ اً من مفهوم
الزواج. وكان للخطبة جميع امتيازات الزواج، ماعدا المساكنة. ومن ثمّ، كانت الخطيبة
تخضع لناموس خطيبها سنة قبل الزواج، إذا كانت بكراً، وشهراً، إذا كانت أرملة. وكان،
إذا ولد طفل في فترة الخطبة، يحسب ولداَ شرعياً. لقد كانت الأمانة ” الزوجية
” إذن فريضة صارمة من فرائض الخطبة، والخطيبة الحانثة بعهودها تعتبر زانية،
وأهلاً، إذا وشى بها خطيبها، للعقاب المقرّر في سفر ” التثنية ” (22: 23):
أي الموت

 

.
فلمّا حبلت مريم ” لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى
من الروح القدس، فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يرد أن يشهرها أراد تخليتها. وفيما
هو متفكرّ في هذه الأمور، إذا ظهر له ملاك الرب، في حلم، قائلاً: ” يا يوسف
بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك مريم لأن الذي حبل به فيها إنما هو من الروح
القدس ” (متى ا: 18 – 20) وكما آمنت العذراء بكلام الملاك، آمن يوسف أيضاً
بما أوحي إليه في الحلم..

 

. بعد
ذلك بزمن يسير، كان لا بدّ أن تجري آية أخرى وتؤيّد المعجزة التي أكرِمت بها
العذراء. فالملاك كان قد قال لها، برهاناً على صدق وعده: ” هو ذا أليصابات
نسيبتك هي أيضاً حبلى، بابن في شيخوختها. وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة
عاقراً ” (لوقا 1: 36). فقرّرت مريم أن تتحقق بنفسها الخبر اليقين، وقد بات
له علاقة وثيقة بأمرها. فنهضت لتلك الرحلة الطويلة إلى اليهودية، وبلغت إلى بيت
زكريّا، وسلّمت على أليصابات. ” فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين
في بطنها. وامتلأت أليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم، وقالت: ”
مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك فمن أين لي هذا: أن تأتي أمّ ربي
إليّ! فهو ذا حين صار صوت سلامكِ في أذَنيّ، ارتكض الجنين، بالابتهاج، في بطني.
فطوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب ” (لوقا 1: 40 – ه 4)

 

. في
تلك اللحظة عينها استحوذ روح النبوّة على الزائرة الفتية أيضاً، فانطلقت في نشيد
شكر للعليّ الذي أعلن مجده للناس. وانبعث النشيد، من شفتيها (على نمط تلك التسابيح
الرائعة التي باتت في التقاليد الإسرائيلية لونا مستحبّا) محكم الإيقاع، مبنيا
بحسب أساليب الطباق والموازنة، مجبولاً بالشواهد الكتابية، (فيه، مثلاً، شيء من
النشيد الذي ارتجلته حنّة، أمّ صموئيل، يوم رزقت طفلها (1 صموئيل 2: 1). ونشيد
العذراء هذا، لا تزال الكنيسة، حتى اليوم، تردده في صلواتها الليترجية، للتعبير
عمّا تشعر به في تواضعها السحيق، من الافتخار بالرسالة التي اصطفاها اللّه لهما: (لوقا
1: 46- 55)

“تعظم
نفسي الرب

وتبتهج
روحي بالله مخلّصي

لأنه
نظر إلى اتضاع أمته

فهو
ذا منذ الآن جميع الأجيال تطو بني

! لأن
القدير صنع بي عظائم واسمه قدّوس!

!
ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه

صنع
قوة بذراعه. شتت المستكبرين بفكر قلوبهم

أنزل
الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين

أشبع
الجياع بالخيرات، وصرف الأغنياء فارغين

عضد
إسرائيل فتاه، ليذكر رحمه على كما كلم آباءنا إبراهيم ونسله إلى الأبد

 

.
هكذا، عند مستهلّ الإنجيل، وذينك المشهدين الرائعين: البشارة، والزيارة، تنتصب
العذراء مريم بملامحها المؤثرة. فإن ما يكرمه المسيحيوّن فيها إنما هو ذاك المثال
المزدوج: مثال الطهر السامي، الذي يحنّ إليه، في قرارة نفوسهم، أس ز الناس إمعاناً
في المراغة؛ ثم ذاك الحنان الفائض، الشامل،، الذي تتصف به الأمومة البشرية

 

. إن
تأنس ابن الله لم يكن ليتم إلاّ بموافقة الإنسان، واشتراكه مع اللّه عملاً وإرادة.
بيد أن خلاص البشر موقوف أيضاً على إرادة العلي. ذلك، ولا شك، ما قصد إليه النبيّ،
يوم أنبأ بأن ابن العذراء يدعى عمّانوئيل، (اشعياء 7: 14) وما عناه الملاك أيضا
ساعة أخبر العذراء أن ابنها يدعى يسوع. (متى ا: 2). فإن اسم ” عمّانوئيل
” يعني ” اللّه معنا “، واسم يسوع: ” الله مخلصنا “.
فكلا الاسمين لهما مدلول جليّ: وهو أن ذاك المولد العجيب كان لا بدّ أنُ يخرج
للدنيا مخلصها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار