علم الكتاب المقدس

الأدلة الداخلية للوحي



الأدلة الداخلية للوحي

الأدلة
الداخلية للوحي

كلمة الرب صارت إلى.. فعرفت أنها كلمة الرب (إرميا 32: 6، 8)

يحمل
الكتاب المقدس في ذاته دلالة وحيه، وكل سطوره وكلماته تحمل الدليل على أنه كتاب
الله حتى أننا لا نحتاج إلي أدلة من خارجه لإثبات ذلك. عندما ذهب شاب إلى أحد خدام
الرب وكان قد تأثر بأفكار الملحدين، وطلب منه أن يذكر له اسم كتاب يثبت حقيقة وحي
الكتاب المقدس قال له الخادم “الكتاب المقدس”. أجابه الشاب “عفواً،
إنك لم تفهمني. أريدك أن تذكر لي اسم كتاب يبرهن أن الكتاب المقدس صحيح”.
أجاب الخادم “أنا لم أخطئ فهمك. اقرأ الكتاب المقدس وستجد فيه ضالتك”.

هل
من المعقول أن نوقد مصباحاً لكي نرى الشمس؟ صحيح هناك كثيرون لا يرون في الكتاب
المقدس سمو الوحي الإلهي، لكن هؤلاء شأنهم شأن الأعمى الذي لا يرى النور، فهو ليس
في حاجة إلى براهين لإثبات وجود النور، بل إلي البصر لكي يراه. وإذا طلب أحد منى
برهاناً على حلاوة العسل فليس عندي برهان أقوى من أن أقول له ذقه وأنت تعرف. ونفس
الأمر بالنسبة لكلمة الله.

وفي
هذا الفصل سنقدم بعض الأدلة الداخلية التي تؤكد حقيقة الوحي.

سمو الكتابات عن أفكار الكتبة

عندما
يقرأ الواحد منا كتابات موسى، وهي في أجزاء كثيرة منها غير مستساغة للذهن البشري
الطبيعي، نظراً لاحتوائها على الكثير من الطقوس والشرائع العسرة الفهم، ثم يفتح
الله أذهاننا فنفهم ما تتضمنه تلك الأسفار من معاني روحية غنية، يكون من المتوقع
أن يسأل الواحد نفسه: ترى أكان موسى نفسه يدرك كل الأعماق البعيدة التي تحويها كتاباته؟
أكان يعي تماماً المعاني الروحية الجميلة لتلك الرموز الكثيرة، وللطقوس المتنوعة
والممارسات العديدة والأعياد المختلفة؟ أكان يدري مثلاً الدروس الروحية التي
تتضمنها تفصيلات خيمة الاجتماع ومحتوياتها، تلك التي تحكي لنا في سرد إعجازي عجيب
قصة الفداء كاملة، حتى قال عنها خادم الرب أيرنسيد إنه مستعد أن يثبت وحي الكتاب
من تفصيلات خيمة الاجتماع فقط؟ والإجابة على تلك الأسئلة هي طبعاً بالنفي، فهذه
المعاني لم تظهر إلا بعد مجيء المسيح، وفي نور الإعلان الكامل لأسفار العهد
الجديد.

وهكذا
أيضاً في المزامير؛ أكان داود وهو يسجل عملية الصلب في مزمور22 يفهم كل ما يكتب،
لا سيما إذا عرفنا أن موت الصلب لم يكن معروفاً عند اليهود على عهد داود؟! أكان
يفهم كلمات مزمور16 لا سيما ع10 « لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى
فساداً » (16: 10)؟ إنه هنا لم يكن يتحدث عن نفسه طبعاً، لأن جسده هو رأى
فساداً (أع 13: 36). ثم قوله أيضاً « اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً
لقدميك » (مز 110: 1 مع أع 2: 29 -35). هذه الأقوال وغيرها الكثير لم
تنطبق إلا على المسيح له المجد. وحتى بعد داود بألف سنة، لما سأل الرب الفريسيين
عن معنى الآية الأخيرة لم يعرفوا الإجابة (مت 22: 41-46).

لننتقل
الآن إلى النبوات: قال إشعياء « ها العذراء تحبل وتلد ابناً »
(إش 7: 14) وأيضاً « كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلي طريقه، والرب
وضع عليه إثم جميعنا»(إش 53: 6). إن سؤال الخصي الحبشي في أعمال 8: 34 يمكن تطبيقه
على كل أقوال الأنبياء المشابهة – عن من كانوا يتكلمون؟ عن أنفسهم أم عن واحد آخر؟
– سؤال لا توجد إجابة عليه إلا في تجسد المسيح ابن الله.

يكشف
الرسول بطرس النقاب عن هذا الأمر فيوضح أن الأنبياء أثناء تسجيلهم لنبواتهم كانوا
« باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم إذ سبق
فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها »، ثم يذكر أنهم أثناء بحثهم
الدؤوب هذا جاءهم إعلان « أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه
الأمور »(1 بط 1: 11، 12).

ودانيآل
تجاسر وذكر صراحة أنه لم يفهم ما كتبه « وأنا سمعت وما فهمت. فقلت يا سيدي ما
هي آخر هذه؟ فقال اذهب يا دانيآل لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت
النهاية » (دا 12: 8، 9). وها نحن بعد ألفين وستمائة عام من كتابة هذه
الأمور نقرأ ونفهم. لكن يبقى السؤال المهم أليس تسجيل الأنبياء فى نبواتهم لما هو
فوق مداركهم دليلاً على أنهم لم يكتبوا من عندياتهم بل مسوقين من الروح القدس؟!

الاتساع
غير المحدود لمدلول الكلمة الإلهية

قال
توري: “هذا الكتاب ليس كتاباً ضخماً. فأنا أمسكه بيدي، وأحمله في جيبي، ومع
هذا فإنه يحتوي الحق أكثر من كل الكتب التي كتبها البشر على مدى كل تاريخهم”.
فكيف نفسر ذلك؟ الإجابة إنه ليس كتاب إنسان بل كتاب الله.

وهاك
بعض الأمثلة على ذلك:

1-
أمثلة العهد القديم ورموزه:
يوضح الرسول بولس بالروح القدس أن الأمور التي
حدثت في العهد القديم إنما حدثت مثالاً لنا وكُتِبت لأجل تعليمنا (رو15: 4،1كو10:
11)، ومن هذا نفهم أنه لا توجد حادثة لها معناها البسيط المجرد فقط، بل لها تطبيق
روحي كذلك؛ فرحلة الشعب فى البرية من مصر إلى كنعان، مثلاً، بكل دروسها هي صورة
لسياحتنا حالياً في العالم (1كو 10)، والمن الذي تغذى به الشعب طوال الرحلة
هو رمز لربنا الكريم الذي جاء إلينا من السماء (يو 6)، ورفع موسى للحية النحاسية
في البرية كالعلاج الإلهي من لدغة الحيات هو صورة لموته له المجد فوق الصليب (يو
3: 14-16) وهكذا.

2-
المدلول الروحي للأحداث:
وكما في العهد القديم كذلك في العهد الجديد فإن
الأحداث لها أكثر من مجرد معناها البسيط. فالأناجيل مثلاً عندما ذكرت انشقاق حجاب
الهيكل لحظة موت الرب يسوع، كان لهذا الحادث دلالته الروحية التي ذكرها الرسول
بولس في عبرانيين 10: 19-22 وهي أن الطريق إلى محضر الله قد فُتِح (انظر أيضاً
عب9: 8).

3-
البعد الأدبي للوصايا:
بل إن وصايا الناموس لها أيضاً مدلول أبعد من
المعنى المباشر، كقول بولس « فإنه مكتوب في ناموس موسى لا تكُم ثوراً دارساً»
(1كو9: 9، 10 مع تث25: 4) ثم يقول « ألعل الله تهمه الثيران، أم يقول
مطلقاً من أجلنا؟! إنه من أجلنا مكتوب »، ثم يطبق القول على تسديد القديسين
لأعواز الخدام المادية. وكذلك تحذير الناموس لليهودي من أن يحرث على ثور وحمار
معاً (أي حيوان طاهر مع حيوان نجس) يفسره الرسول بولس بأن لا يكون المؤمن تحت
نير
(أي في شركة) مع غير المؤمنين (تث22: 10 مع 2كو6: 14) وهكذا بالنسبة لباقي
الوصايا.

4-
معاني الأسماء:
كذلك فإن للأسماء في الكتاب المقدس دلالتها الروحية. والرسول
في عبرانيين 7 بنى تعليما مستنداً على معنى اسم ملكي صادق (أي ملك البر) ملك ساليم
(التي تعني سلام)، إذ أنه على أساس البر سيعم السلام في ملكوت ربنا له المجد. وليس
أسماء الأشخاص فقط بل أسماء الأماكن أيضا؛ فلقد اغتسل الرجل المولود أعمى في بركة
سلوام الذي تفسيره مرسل، فنال البصر. ولقد تكررت الإشارة إلى المكان في هذا
الفصل مما يدل على أهميته (يو9: 7،11)، ثم إنه يذكره أولاً بالأرامي ثم يترجمه
لنا، وذلك للفت الانتباه إلي معني اسم المكان؛ إن معناه “مرسل”؛ فمن
يؤمن بأن المسيح مرسل من الله لمأمورية الفداء، يزول عماه الروحي. ويركز كل من
العهد القديم والجديد على أهمية ومدلول الأسماء، فنقرأ مثلاً « لذلك دعا ذلك
الموضع بئر سبع »، وأيضاً « فدعا إبراهيم اسم الموضع يهوه يرأه »
أو « فدعي اسم ذلك المكان الجلجال » (تك21: 31، 22: 14، يش5: 9). وبنفس
الأسلوب لنا أن نبحث في معاني الأسماء فنخرج من هذا بالطعام الروحي.

5-
مدلول الموقع الجغرافي:
بل انه حتى للموقع الجغرافي دلالته. فمثلاً نقرأ
في غلاطية 4: 21-31 مقارنة بين جبل سيناء وبين أورشليم، باعتبار أنهما يمثلان
النظامين القديم والجديد، أو بالحري الناموس والنعمة. وليس الموقع الجغرافي فقط،
بل والطبوغرافي أيضا؛ فالملاك ليُرِي يوحنا المدينة السماوية (الكنيسة الحقيقية)
أخذه بالروح إلى جبل عظيم وعالي، بينما ليريه دينونة الزانية العظيمة (المسيحية
الاسمية) ذهب به بالروح إلى برية. أفليس لهذا من مدلول؟ والرب لينطق بأمثال ملكوت
السماوات ترك البيت وجلس عند البحر، أفليس لهذا أيضا من مدلول لا سيما إذا
فهمنا مدلول البيت (مت10: 6) ومدلول البحر (رؤ17: 15)؟!

6-
مدلول الزمن:
أما دلالة الزمان فواضحة على سبيل المثال في رومية 4.
فاستناداً على أن الوعد بالبركة لإبراهيم أعطى له وهو في الغرلة قبل أن يعطيه الله
علامة الختان أوضح الرسول أن البركة إذاً تشمل الأمم أيضاً، واستناداً على أنها
كانت قبل الناموس (غل 3) أوضح أن التبرير هو بالنعمة وليس بالأعمال!

7-
مدلول الصمت:
يعوزنا الوقت لو أشرنا إلى معاني كل ما ورد في الكتاب
المقدس: الأوزان، والأحجام، والمساحات، والأطوال، والمعادن، والألوان، والأعداد*..
فليس شئ في كتاب الله بلا معنى. على أن الأعجب من هذا أنه حتى إذا صمت الكتاب
فلصمْته معنى. ولنرجع مرة ثانية إلى عبرانيين 7 فنجد أن بولس استناداً إلى عدم ذكر
سفر التكوين شيئاً عن أبوي ملكي صادق ولا عن ذريته، عن مولده أو موته (أنظر تك
17-20) فقد اتُخذ هذا كتعبير عن كهنوت المسيح الفريد السامي (عب7: 1-4)، كما أن
عدم ورود قَسَم في الكهنوت اللاوي يدل على أنه كهنوت مرحلي لا دائم (عب7: 20، 21،
22، 28).

وبالمثل
فإن عدم جود كرسي في خيمة الاجتماع يدل على عدم اكتمال العمل في العهد السابق أو
بالأحرى عدم مقدرة الناموس على كمال التطهير (عب 10: 11، 12).. وهكذا.

وسوف
نشير أيضاً في الفصل التاسع عشر عن مدلول عدم ورود اسم الله في سفر أستير؛ فحتى
هذا له معناه الروحي!

8-
المعنى المجازي:
ثم هناك أقوال أخرى لا تُقبَل بمعناها المباشر قط. فلقد أخطأ
نيقوديموس لما فسر كلام الرب له؛ « ينبغي أن تولدوا من فوق »
(يو 3: 7) تفسيراً حرفياً، وما كان الرب يقصد قط التناسل الجسدي وبالمثل لا
يقصد بولس المعنى الحرفي في أقواله « مع المسيح صُلبت »،..(غل 2: 20، كو
3: 3..). وفى يوحنا4 لم يكن قصد الرب في كلامه معالمرأة السامرية أنه سيعطيها ماءً
حرفياً كما فهمت المرأة للوهلة الأولى، بل كان يقصد به عطية الروح القدس. وفي نفس
الأصحاح لما قال الرب للتلاميذ « أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم »
فإن التلاميذ أخذوا المعنى البسيط وتساءلوا فيما بينهم « ألعل أحداً أتاه
بشيء ليأكل » فكانوا بهذا مخطئين، لأن الرب أوضح بعد ذلك « طعامي أن
أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله».

وكثيراً
ما كان الناس لا يفهمون كلام الرب إذ كانوا يأخذونه بالمعنى السطحي فقط. فلما قال
«انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه» (يو 2: 19)، لم يفهموا أنه كان
يتكلم عن هيكل جسده. ولما قال لتلاميذه « تحرزوا من خمير الفريسيين
والصدوقيين » (مت 16: 5-12) ظنوا أنه يحدثهم عن خمير الخبز مع أن كلام الرب
كان عما يرمز إليه الخمير أينما ورد في الكتاب المقدس، وهو الشر.

عن
تعبيرات كهذه قال كثيرون مرة « هذا الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه؟» فكانت
إجابة الرب « الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة » (يو 6: 60-63).

لا
عجب إذاً أن قام كثيرون من الشراح والمفسرين بكتابة ما لا يُحصى من الكتب لشرح هذا
الكتاب العجيب! لقد مر للآن نحو تسعة عشر قرناً من الزمان على اكتمال الوحي، فيها
قام عشرات الآلاف من ذوي أقوى العقول المفكرة بشرح الكتاب؛ لكنهم لم يصلوا إلى
نهايته بعد! فكثيرون من أذكى الرجال وأنفذهم بصيرة وأوسعهم ثقافة، صرفوا عمرهم في
دراسة الكتاب المقدس، ولا يوجد بينهم واحد فكر أو حلم يوماً أن يقول إنه وصل
إلى قرار الكتاب، فهو دائما يشع نوراً جديداً من بين ثنايا كلماته. قال الرب له
المجد «كل كاتب متعلم في ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت يخرج من كنزه جدداً
وعتقاء» (مت13: 52). فياله من كنز عظيم فيه جديد لا ينتهي، بحيث يمكن لكل كاتب
متعلم، لا أن يكرر ما قاله الأسبقون، بل يخرج الجديد، ثم يخرج القديم أيضاً الذي
لا يعتق أبداً ولا يفقد بريقه قط. نعم ما أكثر ما فهمناه من الكتاب، لكن أكثر منه
ما لم نفهمه بعد، ولا زال في الكلمة من مخبوء الكنوز ما يفوق التصور مما ستكشف عنه
الأبدية. أليس كون الكلمة واسعة بهذا المقدار، حتى ليشعر المرء أمامها أنه مثل طفل
يلهو على رمال شاطئ محيط خضم عظيم، دليلاً على أنها ليست كلمات بشر، إذ أنها تشتمل
على كنوز لا تنفد من حكمة الله. وكما أن الله غير محدود كذلك كلمته «لكل كمال رأيت
حداً، أما وصيتك فواسعة جداً» (مز 119: 96).

أسماء الله في الكتاب

إن
ما يميز أعمال الله عن أعمال البشر، أن الأخيرة عند فحصها بتدقيق تظهر عيوبها
ومساوئها، بينما الأولى متى وُضعت تحت الفحص الدقيق ظهرت روعتها ودقتها. فمثلاً
إذا وضعت زهرة تحت المجهر، يبرز لك من دقة تكوينها وجمال خلقها ما لم تكن تراه من
قبل. ثم إذا وضعت تحت المجهر جسم معدني مشغول فسيبرز لك في الحال تشوهات وخدوش
كثيرة لم تكن لتلحظها بالعين المجردة.

لقد
شن أصحاب النقد الأعلى (انظر الفصل التاسع) هجومهم على كلمة الله ووحدة أسفارها
نظراً لوجود أكثر من اسم لله بها. هذا قاد بعضاً من رجال الله لأن يدرسوا الأمر
بعناية. ولأن الكتاب المقدس هو بالفعل كتاب الله، فلقد ظهر في الحال عظمة وكمال
الوحي في نفس الأمر الذي أعثر الكافرين، وظهرت الحكمة الإلهية العالية التي ساقت
كتبة الوحي جميعاً فى اختيار اسم الله بحسب الفكر الذي يقدمونه.

فمثلاً
اسم الجلالة « إيلوهيم » بالعبري؛ والمترجم بالعربية “الله”،
يحدثنا عن طبيعة الله، عن مطلق لاهوته، عنه كالخالق وعلاقته مع الخليقة والإنسان
بصفة عامة. وأما الاسم “يهوة” المترجم بالعربية “الرب”، فهو
اسمه في علاقته الخصوصية مع الإنسان، اسم العهد مع شعبه في العهد القديم. هذا
الأمر صحيح بالنسبة لكل أسفار الكتاب المقدس المتقدمة منها والمتأخرة، سواء في
العهد القديم أو العهد الجديد.

ولنأخذ
مجرد أمثلة بسيطة لتوضيح هذا الأمر الواسع الشيق. ففي الفصل الأول من سفر التكوين
نجد الاسم إيلوهيم، ويتكرر هذا الاسم هناك 35 مرة، ولا نجد اسماً لله سواه،
لأننا نراه هناك كالخالق العظيم. أما في الفصل الثاني فلا يُذكَر هذا الاسم
على الإطلاق، بل يذكر اسم « يهوة إيلوهيم » أي الرب الإله، لأن في هذا
الفصل نجد الله يدخل في علاقة مع الإنسان. وهذا عين ما نراه أيضاً في تكوين 3. إلا
أن الشيطان في تجربته للمرأة يقول « أحقاً قال الله؟» مع أن الذي كلم
الإنسان هو الرب الإله (أنظر تك 2: 16). فالشيطان لا يريد لفت نظر الإنسان
إلى علاقة الله الخاصة معه، ويسعى جاهداً لإنكارها وإفسادها. وبالأسف سارت المرأة
وراء الشيطان في ردها عليه، إذ قالت له « من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر
الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه». وبتجاهل
المحبة الخاصة التي في قلب الله نحو الإنسان، سقط الإنسان!!

لننتقل
إلى حادثة الطوفان (تك 6-8) فنجد أنه يرد كلا الاسمين (الله والرب)؛ لكن حينما ترد
علاقة الخالق مع الخليقة يذكر “الله” وعندما يتحدث عن عهده – تبارك اسمه
– مع الإنسان يذكر “الرب”. وهناك آية تجمع الاسمين معا تبرز هذه الفكرة
؛ فالحيوانات دخلت الفلك بناء على أمر الله، لكن الرب هو الذي أغلق
على نوح (تك 7: 16).

لنتحول
الآن إلى الأسفار التاريخية، فمثلاً في قضاة 7 نسمع حلماً فسره رجل مدياني بالقول
« دفع الله إلى يد (جدعون)..الخ » – لكن جدعون عندما أبلغ الأمر
إلى بني إسرائيل قال « الرب قد دفع إلي يدكم جيش المديانيين »
(ع14،15)!

نفس
هذه الدقة العجيبة نجدها في 1صموئيل17: 46،47 فى حرب داود مع جليات، عندما قال له
داود « هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك.. فتعلم كل الأرض
أنه يوجد إله لإسرائيل (هنا يرد اسم الله عند الحديث عن شعوب الأرض) وتعلم هذه
الجماعة
كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب (هنا يرد اسم الرب
بالارتباط بجماعة إسرائيل)».

بل
في آية واحدة بصدد دفاع الرب عن الملك يهوشافاط نجد الاسمين معاً بنفس المدلول
السابق؛ الرب فى علاقته مع الملك التقي، والله فى علاقته مع البشر بصفة عامة
« فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا إنه ملك إسرائيل فحاوطوه للقتال،
فصرخ يهوشافاط، وساعده الرب، وحولهم الله عنه » (2أخ18: 31)!!

لكن
لننتقل الآن إلى الأسفار الشعرية. نجد مثلاً أن سفر الأمثال، وموضوعه سلوك الشعب
على الأرض على ضوء أحكامه تعالى، لا يذكر فيه سوى اسم “الرب” (باستثناء
25: 2)، بينما سفر الجامعة الذي كتبه نفس الكاتب، وهو سليمان، لا يُذكر فيه سوى
اسم “الله”، لأنه يحدثنا عن موقف الإنسان الطبيعي بالنسبة لكل ما هو تحت
الشمس، أي خليقة الله.

ثم
لنلقى نظرة أخيرة على أحد الأمثلة الجميلة في الأسفار النبوية. فيرد في سفر يونان
الاسمان، ولكن ليس بطريقة عشوائية. ففي الأصحاح الأول نجد اسم الرب، حتى النوتية
الذين صرخوا في بادئ الأمر إلى آلهتهم الوهمية دون جدوى قد قادهم الرب إلى معرفة
شخصه بواسطة يونان « لأنه أخبرهم » فصلوا إلى الرب، وخافوا من الرب،
وذبحوا له ذبيحة.

وفي
أصحاح 2 لازلنا نقرأ عن الرب؛ فيونان يصلي إليه والرب يخلصه، ويطلب منه أن
يذهب إلى نينوى وينادي لها.

عندئذ
(أصحاح 3) نقرأ عن “الله“. فإن كرازة يونان التى لم تكن إلا
تلويحاً بغضب الله قادت أهل نينوى، المدينة “العظيمة لله” إلى أن يؤمنوا
“بالله”. لقد عرف الله (رو 1: 19، 21) أولئك الذين كانوا “بلا
إله”. وأخذوا مركز المذنبين التائبين إلى الله!!

لم
ينته الأمر عند هذا، بل إن توبة أهل نينوى وعدم توقيع الله القضاء عليهم أغاظ
يونان فصلى إلى الرب طالباً الموت – إنه لا زال، رغم ضعف مستواه الروحي،
نبياً للرب، ولم ينحدر إلى مستوى مجرد إنسان في علاقته بالله. وهنا يظهر اسم جديد
في المشهد؛ إنه « الرب الإله » (4: 6)، فليس مجرد “الله”،
وليس فقط “الرب”، بل الاثنين معاً؛ طبيعته وعلاقته الخاصة. فكان يمكن أن
يقال إن الله أعد يقطينة، لكن كان ينبغي أن يقال إن “الرب الإله” أعد
يقطينة لتكون ظلاً على رأس يونان، لكي يخلصه من غمه!!

ثم
نجد بعد ذلك أن الله أعد دودة، والله أعد ريحاً شرقية – الله باعتباره الخالق
يتصرف، وكصاحب الخليقة يناقش يونان. لكنه يختم السفر بحديث، لا من الله، بل من
الرب مع يونان!!!

التباين مع التوافق!

يعتقد
البعض أن تكوُّن الكتاب المقدس من مجموعة كتابات لأشخاص عديدين يُنقِص من قيمته،
بل ويلاشي صفته ككتاب إلهي. لكن الشخص المفكر عندما يتأمل في الذين كتبوا هذا
الكتاب، وفي ظروفهم المتباينة، مبتدِأً من موسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين،
ومنتهياً بيوحنا صياد السمك في بحر الجليل، والذي كان عديم العلم وعامياً، فإنه
يأخذه العجب حقاً.

لقد
كتب موسى أسفاراً خمسة هي أولى أسفار الكتاب، كما كتب يوحنا أيضاً أسفاراً خمسة هي
آخر أسفار الكتاب. أما موسى فكتب أسفاره في التيه في سيناء وهو محاط برمال البرية،
ويوحنا كتب آخر أسفاره الخمسة (سفر الرؤيا) وهو منفي في جزيرة بطمس محاطاً بمياه
البحر. وبين أول وآخر من كتب مرت نحو 1600 سنة، أي نحو أربعين جيلاً، فيها قام نحو
أربعين كاتباً بكتابة أسفار الكتاب المقدس؛ بعضهم كتب وهو في بلاط القصر في بابل،
والبعض وهو بين المسبيين عند نهر خابور، والبعض الآخر في سجون روما الضيقة
المظلمة!

ثم
لاحِظ، لا تنوع الظروف فقط، بل تنوع الأشخاص أيضاً. فلقد كان بين من كتب: المتعلم
كلوقا الطبيب والأمي كعاموس جاني الجميز، الفيلسوف كبولس والشاعر كداود، القائد
العسكري كيشوع والكاتب الديني كعزرا. كان فيهم العظماء؛ ملك ورئيس وزراء كسليمان
ودانيآل، كما كان فيهم البسطاء؛ عشار ونجار كمتى ويعقوب.

ثم
لاحظ أيضاً تنوع شكل الكتابة، لقد كتبوا عن أمور شتى بحسب الظاهر؛ فواحد كتب
تشريعاً، والآخر كتب تاريخاً، واحد كتب شعراً وآخر كتب قصة، وثالث كتب رسالة. ومع
ذلك فإننا لا نجد فيه تضارباً أو تشويشاً، بل برغم التنوع والتباين الشكلي نجد في
كل هذه الكتابات هدفاً إلهياً واحداً، وفكراً إلهياً متجانساً، وموضوعاً إلهياً
معزياً، وخيطاً فضياً يربط صفحات الكتاب من الأول إلى الآخر.

سيكون
لنا في الفصل القادم عودة إلى الحديث عن وحدة أسفار الكتاب المقدس، لكننا الآن
نريد لفت النظر إلى عدم وجود أدني تضارب أو تناقض بين أجزائه المختلفة. فإن بعضاً
من الذين يأخذون الأمور بسطحية يحسبون أن هناك تعارضاً صارخاً بين العهدين القديم
والجديد أو بالأحرى بين الناموس بطقوسه وأحكامه وبين النعمة بسموها
وتسامحها، وأن ما بناه الأول قد هدمه الثاني. لكن فات أصحابنا هؤلاء أن
الناموس كان « مؤدبنا إلي المسيح » (غل3: 24)، وكان قصد الله منه تشويق
الإنسان لقبول علاج الله في المسيح لمشكلة الخطية بواسطة إشعاره بمقدار قداسة الله
ومقدار نجاسة الإنسان ومذنوبيته، وعدم إمكان تسكين غضب الله إلا علي أساس
الذبيحة!

لكن
أي ذبيحة؟ – قد يظن البعض أنه هنا يبرز التعارض. فالعهد القديم يطلب الذبائح
الحيوانية، والعهد الجديد يؤكد عجزها عن إيفاء مطالب الله. لكن الأمر ليس كذلك لأن
داود في العهد القديم قال « لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها. بمحرقة لا
ترضى » (مز51: 16). ومرة أخرى « بذبيحة وتقدمة لم تسر. أذنيّ فتحت.
محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت هانذا جئت؛ بدرج الكتاب مكتوب عنى »
(مز40: 6،7 أنظر أيضاً 1صم15: 22، مى6: 6-8) فالذبائح الحيوانية ما كانت إلا
رمزاً للذبيحة الكاملة، ذبيحة المسيح.

خذ
مثلاً آخر؛ فلقد كان مكان سُكنى الله فى العهد القديم هو الهيكل الأرضي. الأمر
الذي يتعارض مع مفهوم العهد الجديد. فهل هناك تعارض حقيقي؟ كلا البتة – فمرة أخرى
كان الله يُعلِّم المؤمنين الأبجدية لا الكلمات. فكما أراد أن يعلمهم أهمية
الذبيحة، أراد أن يعلمهم هنا محبته من نحو الإنسان، والقداسة التابعة لسكناه معهم.
لكن سليمان شعر يوم تدشين الهيكل بأن الله أعظم من أن يحده هيكل، ولو كان بيتاً من
ذهب « لأنه هل يسكن الله حقاً على الأرض؟! هوذا السموات وسماء السموات لا
تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذى بنيت » (1مل 27: 8) وهذا عين ما قاله إشعياء
وغيره أيضاً (إش57: 15، 66: 1،2 أنظر أيضا أع17: 24،25).

كانت
فريضة الختان مسألة جوهرية في العهد القديم، ولم تعد كذلك في العهد الجديد (غل6:
15)، فهل غيَّر الله كلامه؟ مطلقاً، فحتى في العهد القديم أفهم الله شعبه أن غرضه
الروحي من ذلك عدم نفع الجسد، الأمر الذي يبينه العهد الجديد بأكثر وضوح (تث10:
16، 30: 6 مع رو2: 25،28، 29، كو2: 11، 13،.. الخ).

نقول
أيضاً هل كانت نعمة الله في العهد القديم أقل مما هي الآن؟ وهل كانت قاصرة علي
اليهود دون سواهم؟ دعنا نتذكر أن إعطاء الناموس للمرة الثانية للشعب لم يكن يخلو
من النعمة (خر32-34). ثم دعنا نتذكر كيف تخطت نعمة الله حدود اليهود في العهد
القديم؛ ولعل سفري راعوث ويونان من أبرز الأمثلة على ذلك. ليس معني ذلك أننا ننكر
أن النعمة المذكورة في العهد الجديد لا يوجد ما يماثلها في العهد القديم، لكن هذا
ليس مرجعه التعارض، بل أن الله كان ينتظر عمل المسيح علي الصليب لكي يعلن هذه
النعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الدهرية (2تي 1:
9،10، 1تي2: 4-7).

ومن
الناحية الأخرى هل غضب الله وقضاؤه المعلن في العهد الجديد أخف وطأة مما هو معلن
في العهد القديم؟ الجواب ولا هذا أيضاً، فإنه لم يظهر إطلاقاً، كما ظهر في
الصليب، كراهية الله للخطية ودينونته عليها. والله الآن، مع أنه متمهل في إجراء
الدينونة، لكنه لم يهمل أن يذكرها كالوجه الآخر من الإنجيل بالنسبة لأولئك الذين
يرفضون الإنجيل. فهو يقول « لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه
الوحيد » ثم يضيف بعدها مباشرة « لكي لا يهلك كل من يؤمن به »
(يو3: 16)، فالهلاك نصيب كل من لا يؤمن بالمسيح. « فكم عقاباً أشرّ (أشر من
الموت تحت لعنة الناموس) تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد
الذي قُدِس به دنساً وازدرى بروح النعمة» (عب10: 29).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار