علم

الأخرويات عند القديس إغريغوريوس أسقف نيصص



الأخرويات عند القديس إغريغوريوس أسقف نيصص

الأخرويات عند القديس
إغريغوريوس أسقف نيصص

 

القديسة ماكرينا في لحظات انتقالها

يقدم لنا
القديس إغريغوريوس في كتاباته خبراته وخبرات أسرته بخصوص الموت، وكيف علّمته أخته
القديسة ماكرينا ألا يُبتلع من الحزن، بل تُمتص أفكاره في السماويات.

في
حديث عن أخته ماكرينا روى لنا عن أخيه نيوكراتيوس الذي خرج للصيد ليزود المسنين
بالطعام، فمات فجأة. صُدمت الأم حتى توقفت عن الكلام عند سماعها بالخبر، وغُشي
عليها من فرط الحزن. يكمل القديس حديثه عن أخته ماكرينا:

[هنا
ظهرت براعة ماكرينا للتغلب على الألم، إذ تمالكت نفسها، وصارت حصنًا لضعف أمها،
فأقامتها من هوة الحزن. كان ثبات ماكرينا وعدم استسلامها بمثابة الحصن للأم،
فدربتها على شجاعة الروح مثلها… حجبت الأم دوافع طبيعتها، وألقت بها جانبًا،
وبهذا تخطت آلامها بإرشاد الابنة ماكرينا وتوجيهها[1].]

وعند
انتقال الأم كان حاضرًا لديها ماكرينا وبطرس، فكان كل ما يشغلها وهي منطلقة إلى
الفردوس أن يتقبل اللَّه من يديها أبناءها كثمرة حبها تهديها له، إذ جاءت كلماتها
الأخيرة: “إليك يا رب أهدي الثمرة الأولى، ماكرينا، والثمرة العاشرة بطرس
لتعزيني[2]“. هذا
هو سرّ تعزيتها الحقة!

وإذ
التقى القديس إغريغوريوس بأخته ماكرينا بعد غيبة ثمان سنوات، وكانت القديسة مريضة
جدًا على سرير الموت، يروي لنا القديس دور أخته الحيّ في حياته حتى في الأنفاس
الأخيرة، وتوجيهها له، وقدرتها على سحب قلبه إلى السماويات وسط آلام الفراق، إذ
يقول:

[عندما
تحدثنا تذكرنا (أخانا) العظيم باسيليوس، فاغتمت نفسي، وسقط وجهي، وانسكبت الدموع
من مقلتيّ. أما هي فكانت بعيدة جدًا عن أن تنكسر نفسها بأحزاننا، حتى أنها استخدمت
ذكر هذا القديس بداية للحديث عن الحكمة العلوية… وتحدثت عن الأمور الخاصة
بالحياة العتيدة
.

كانت
تتحدث بوحي الروح القدس حتى شعرت أن نفسي قد ارتفعت عن المستوى البشري بأقوالها
وإرشادها، ووجدت لها موضعًا في الحجال الإلهي…

بالرغم
من أن الحُمى كانت تحرق كل طاقتها وتقودها إلى الموت، كانت تنعش جسدها بنوع من
الرطوبة التي تقود عقلها إلى التأمل في الأمور العلوية دون أن يعوقها المرض[3].]

القديسة ماكرينا
التي نجحت في أن تنطلق نفسها إلى السماويات كل أيام غربتها كما قادت نفس والدتها
ونفوس أخواتها إلى العلويات، لم يستطع أن يعوقها المرض الشديد عن أن تسحب قلب
أخيها الأسقف إلى السماء وهي في أنفاسها الأخيرة! لقد سجل لنا القديس مشاعره وهي
تنطلق، إذ أدرك مواطنتها السماوية، كما سجل لنا مشاعر الفرح التي غمرتها وهي تعبر
من هذا العالم كغريبة عنه، وقدم لنا ما استطاع أن يسمعه وهي تقدم صلاتها الوداعية،
إذ يقول:

[كنت
مكتئبًا لم أتقبل فكرة تركها هذه الحياة الزائلة، لكن نفسي تهللت بكلماتها التي
فكرْت فيها فوجدتها قد سمت فوق الطبيعة العادية.

لم
تشعر بأي خوف من الرحيل من الحياة.

تحدثتْ
بذكاء عما يجول بخاطرنا من نحوها بخصوص الحياة التي عاشتها منذ البداية حتى النفس
الأخير.

لقد
ظهرت كأنها لا تنتمي إلى عالم البشر.

كانت
كملاكٍ في شكل إنسان… كملاك لا صلة له بالحياة الجسدية التي نعيشها نحن…

كانت
تبدو لي أنها توضح للموجودين الحب الطاهر المعزي للعريس غير المنظور، الذي يحيا في
أعماق نفسها سرًّا.

بدا
عليها شوق قلبها نحو الذهاب إلى الوحيد (ربنا يسوع)، فتسرع لتكون معه حين تتحرر من
قيود الجسد.

كان
ثباتها في المحبوب أكيدًا، ولم يتحول تفكيرها قط نحو مباهج الحياة.

وبعد
أن كاد النهار أن ينتهي، وقرب وقت غروب الشمس، لم تخر عزيمتها لاقترابها الأكيد
نحو النهاية فترى جمال عريسها بأكثر وضوح.

لم
تعد بعد تتحدث معنا نحن الحاضرين، إنما كانت تتحدث مع ذاك الذي كانت تتطلع إليه
بعينين ثابتتين.

حوّلت
وجهها نحو الشرق، وتوقفت عن الحديث معنا، وبدأت تصلي متحدثة مع الرب في الصلاة.
كانت تتضرع إليه بيديها وتتحدث معه بصوت منخفض رقيق، حتى أننا بصعوبة كنا نسمع ما
تقوله.

كانت
صلاتها التي سمعناها هي:

“آه
يا رب، لقد حررتنا من خوف الموت (عب15: 2)، وجعلت نهاية الحياة هي بداية الحياة
الحقيقية بالنسبة لنا.

إنك
تعطي راحة لأجسادنا بالموت، ثم تيقظنا مرة أخرى عند البوق الأخير (1كو52: 15).

تُعيد
التراب الذي خلقتنا منه بيديك إلى الأرض للحفظ.

أنت
الذي سمحت للتراب أن يرجع إلى أصله ستناديه بعد أن تُغيِّره إلى عدم الفساد، وتهبه
المجد عِوض المواد الفانية الحقيرة.

أنت
افتديتنا من اللعنة (غل13: 3)، ومن الخطية، إذ حملتهما على عاتقك.

أنت
سحقت رأس الحيّة (مز13: 74،14)، التي تنشب فينا أنيابها وتنزل بنا إلى هوة عدم
الطاعة.

أنت
حطّمت أبواب الجحيم (مت18: 16)، وغلبت ذاك الذي ملك على الموت (عب14: 2)، وفتحت
لنا طريق الحياة الأبدية. فإنك وهبت الذين يخافونك علامة الصليب ليحطموا العدو،
وقدمت الخلاص لحياتنا.

آه
يا الله الأزلي الذي أحبته نفسي بكل قوة منذ كنت في رحم أمي، ووجهت نفسي إليه (نش7:
1)، وكرّست له نفسي وجسدي منذ طفولتي حتى الآن.

لقد
جاءني ملاك بهي ليقودني إلى موضع الانتعاش حيث ماء الراحة (مز2: 23)، فأكون بقرب
قلب الآب القدوس (لو22: 16).

أنت
الذي كسرت السيف الملتهب المتقلب”.

إذ
قالت هذا رسمت علامة الصليب على عينيها وفمها وقلبها، وبالتدريج جفّ لسانها شيئًا
فشيئًا بسبب الحمى، ولم تعد قادرة على أن تنطق بوضوح، ولم يعد صوتها يخرج ويُسمع،
لكننا عرفنا أنها أكملت الصلاة من حركات يديها وشفتيها[4].]

البتولية والنسك

كلما
أشار القديس إغريغوريوس عن حياة النسك أو البتولية غالبًا ما يربط هذه الحياة
بالحياة الملائكية. تحدث عن تأثير أخته القديسة ماكرينا على والدتهما، فجذبتها
للحياة الملائكية، إذ يقول:

[قادت
ماكرينا أمها في طريق الحكمة، ونقلتها إلى حياة غير دنيوية لتغير ما اعتادت عليه…
أعدتها للاستقرار النفسي في وسط جماعة العذارى…

لقد
تحررن من الاهتمامات البشرية فسموْن فوق الطبيعة البشرية، وتقاربن من الحياة
الروحية الملائكية… يشاركن حياة القوات السمائية[5].]



[1] . حياة ماكرينا 12،13.

[2] . حياة ماكرينا 17.

[3] . حياة ماكرينا 24.

[4] . حياة ماكرينا 29،30.

[5] . حياة ماكرينا 14،15.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار