اللاهوت النظري

إثبات وجود يهوه القدير



إثبات وجود يهوه القدير

إثبات
وجود يهوه القدير

(أولاً)
يعرف
الناس جميعاً وجود كائن سرمدي يتعلّقون به، وهم مسؤولون أمامه. وفي أصل تلك
المعرفة ثلاثة أقوال:

(1)
إنها غريزية.

(2)
إنها نظرية، تعتمد على الاستدلال العقلي.

(3)
إنها ناشئة عن إعلان خارجي وصل إلى كل الأجيال بالتقليد.

ويرجِّح
علماء اللاهوت القول الأول، أنها غريزية، والمعرفة الغريزية هي صفة طبيعية في
المخلوق العاقل، وعكسها المعرفة الاختبارية المبنيّة على الاختبار، والاكتسابية أو
النظرية التي تحتاج للحصول عليها إلى جهدٍ أو فكر.

والمعرفة
الغريزية فلا شك فيها، فالعقل يميّز طبعاً بعض الحقائق دون حاجةٍ إلى براهين
تثبتها أو لشهادة إنسان لتصدّقها. وتُسمى تلك الحقائق أوليات وبديهيات وضروريات.
وليس المعنى أن الطفل يقدر أن يميّز الحقائق عند ولادته، بل أن لديه استعداداً
لذلك في بِنية طبيعته، أي أن المعرفة تصدر من النفس ولا تأتيها من الخارج.
وموضوعنا الآن هو البحث عن غريزية اعتقادنا بوجود الله. ونقدم أولاً الأدلة على أن
معرفة وجود الله عميقة في قلب الجميع:

 

(1)
من شهادة الكتاب، كما في رومية 1: 19-32 وفي كلام الرسول في الشريعة المكتوبة على
قلب الإنسان (رو 2: 12-16 وأع 14: 16، 17 و18: 24-28). نعم، قال الكتاب المقدس إن
الوثنيين كأنهم لا يعرفون الله، وكأنهم بدون إله. غير أن معنى ذلك (كما يتبيَّن من
القرائن) أنهم لا يملكون معرفة صحيحة بالله الحقيقي، أو أنهم ليسوا من شعبه الخاص.

 

(2)
شهادة التاريخ، وهي تدل على أن الإنسان مخلوق متديّن، ذو ميول طبيعية دينية، حتى
أنه لم يوجد شعب في عصر أو مكان بدون ديانة ما، ولا وُجدت لغة في العالم خالية من
اسم الله أو ممَّن هو في مقام الله. وبما أن اللغة تعبّر عن أفكار الإنسان
وإحساساته يكون ذلك دليلاً على أن شعور الإنسان بوجود الله عميق في قلب الجميع.

إن
في الطبيعة البشرية ميلاً طبيعياً للاعتقاد بوجود الله مغروس فيها. ولا ينقض ذلك
أن البعض ينكرون وجود الله، لأن الإنسان يقدر أن يناقض طبيعته إذا أراد، وينكر ما
هو مغروس فيه من الله. والمقصود بضرورة الاعتقاد بوجود الله هو أن العقل البشري
عندما يقدر أن ينظر في الأمور الدينية يعتقد ذلك بطبيعته، كما يعتقد الإنسان بوجود
الشمس عند فتح عينيه لنورها، لأن الله خلق في الإنسان قوى روحية يمكنه بها معرفة
وجود الله دون احتياج لتعليم خارجي في ذلك. والكتاب المقدس يخلو من البراهين
المنظمة على وجود الله، لأن الله لم يحسب البشر محتاجين إليها. ونرى أيضاً من
الكتاب والاختبار أن الشريعة الأخلاقية مكتوبة على قلب الإنسان، وهذا يستلزم
التسليم بمشترعٍ سنَّها ويحكم بموجبها، ولذلك نرى البشر عموماً يشعرون بعلاقتهم
بذلك الكائن العظيم الخالق، وأيضاً بالمسؤولية أمام ذلك المشرّع الذي كتب الشريعة
على القلب. وهذا يستلزم الإقرار بوجود كائن قادر وحاكم عادل، ولا يقول خلاف ذلك
إلا الجاهل (مز 14: 1). قال الشاعر ملتون ما معناه إن مدرسة تعليم الإلحاد هي في
قلب الجاهل وحده، ولا أستاذ في تلك المدرسة سوى الجاهل نفسه! فالقول إن الاعتقاد
بوجود الله غريزي يعني أن البشر لا يحتاجون لتعليم أو تنبيه من خارج في هذا الشأن،
لأن المعرفة الكاملة بالله مغروسة فينا، ولأننا نعرف نسبتنا إليه غاية المعرفة كما
هي موضحة في الكتاب المقدس. أي أن ذلك يشير إلى أصل اعتقاد وجوده، لا إلى كمال
معرفتنا به. نعم إن البراهين على وجوده تستلزم البحث العقلي، ولكنه لزم أولاً عن
ذلك اعتقاد غريزي بوجوده.

 

 ونحن
لا ننكر أن الإنسان الأول حصل على معرفة الله من الله مباشرةً، وتداول البشر تلك
المعرفة بالتقليد جيلاً بعد آخر. غير أن الإعلان بالوحي ضروري لتكميل معرفتنا.
صحيح أن الإنسان يشعر بوجود الله ويسلم بذلك بدون نظر إلى التقاليد، لكن اعتقاده
في صفات الله وأعماله ينشأ عما يتعلمه من أهل جيله وبلاده.

 

فكيف
نقدر أن نعرِّف الله؟

إذا
أراد البشر أن يعرّفوا الله وجب أن يحصروا كلامهم في ما عرفوه من صفاته. وبما أننا
مخلوقون على صورته كانت الوسيلة الوحيدة لذلك هي النظر لطبيعتنا وصفاتنا البشرية.
ولكن صفات الله تختلف، فهي الكمال واللانهائية التي لا تقبل الزيادة ولا النقصان.
وعلى ذلك نقول إن الله روح ذاتٌ عاقلٌ مريدٌ، غير محدود في كمالاته وأزليته، وغير
متغير في وجوده وجميع صفاته.

 

(ثانياً)
هناك
ستة أدلة رئيسية على وجود الله:

(1)
ما بُني على وجود الكون.

(2)
ما بُني على علامات القصد في الكون.

(3)
ما بُني على طبيعة الإنسان الروحية والأخلاقية.

(4)
ما بُني على الكتاب المقدس وتاريخ البشر.

(5)
ما بُني على اعتقاد البشر العام.

(6)
ما بُني على مبادئ عقلية.

 

أما
الدليل على وجود الله فهو المبني على وجود الكون

لا
بد لكل معلول من علة سابقة له، ولكل مخلوق خالق كافٍ لإحداثه. والكون أو العالم
(وهو كل شيء غير الله) معلول مخلوق، فلابد له من خالق وعلَّة سابقة له وكافية
لإحداثه وهي الله.

أما
الاعتقاد بلزوم علة لكل معلول فسببه أن الله غرس هذا فينا، بدليل حكم العقل البشري
فيه. نعم أنكر بعض الكفرة المكابرين ذلك، ومنهم عمانوئيل كانت الفرنسي وهيوم
الإنجليزي (وهو أشهرهم) غير أن تصرفات كلٍّ منهم كانت تكذّب كل يوم اعتقاده، لأنه
كان متى جاع يأكل، ومتى رأى النار خاف منها، وكان يتوقَّى كل خطر وكل ما يؤدي
للموت إثباتاً لوجود علاقة بين علة الموت والموت نفسه.

وإذا
نظرنا لتفاصيل هذا البرهان رأينا عدّة أمور تثبت صدقه: أولها أن كل معلول يستلزم
وجود علة له، كافية لإحداثه. فالكون معلول، أي أنه غير أزلي، ولا هو سبب وجود
نفسه. فإذاً له علة خارجة عنه، كافية لإحداثه. وهذا يستلزم أن للعلة وجوداً
حقيقياً دائماً، أي أنها ليست اسماً بلا مُسمّى، ولا أمراً وهمياً، لأن ما لا وجود
له لا تأثير له. فاللاشيء لا يمكن أن يخلق شيئاً. وللعلة قوة كافية لإحداث المعلول
المنسوب حدوثه إليها. ثم أن العالم موجود حقيقة، ووجوده إما أزلي ناشئ عن نفسه، أو
عن علة خارجية. ولكن لا يمكن إثبات أزليته ولا أنه علة وجود نفسه، وإلا لزم وجوده
السابق لها. فلزم اعتقاد وجود كائن عظيم هو علة العلل وموجد العالم.

وعدم
أزلية العالم واضحة، سواء نظرنا إليه مركباً على ما هو، أو حللناه لعناصره الأصلية
المركب منها. والأدلة على عدم أزليته كثيرة نكتفي باثنتين منها:

 

(1)
العالم على هيئته الحاضرة متغيّر على الدوام، وكل متغيّر حادث. وإلا لزم وجود
سلسلة أزلية من التغييرات، كل حلقة منها غير أزلية، أي لها بداية. وهو محال.

(2)
الحقائق الجيولوجية تبيّن أن العالم على حالته المركبة ليس أزلياً، فقد توالت عليه
تغييرات عظيمة وكثيرة، وتعاقبت عليه سلسلة نُظُم، آخر حلقة فيها هي النظام الحالي.
أما القول بأزلية أصول الكون، أي العناصر المركب منها فيستلزم أن المواد قائمة
بنفسها، وواجبة الوجود، أي مما لا نقدر أن نتصوَّر عدم وجوده، وهو باطل. والمادة
ليست واجبة الوجود، ولا قائمة بنفسها، ولا أزلية. ويعلّمنا الكتاب المقدس أن الكون
على هيئته الحاضرة نُظِّم بيد الخالق القدير

 

وعلى
فرض صحة القول بأزلية العناصر، لا ينتج من ذلك أن الكون نشأ على حالته الحاضرة من
نفسه، لأن العناصر الأصلية بلا حياة وليس لها عقل ولا إرادة ولا قدرة على إيجاد
أمرٍ ما. فإذا سلّمنا بأزليتها بقي لزوم بيان علة كافية لحياة الكون وتركيبه ولعقل
البشر وقواه.

والخلاصة
أن الاستدلال على أن العالم معلول أزلي هو أنه مركب، وكل مركب حادث، ومعروفٌ أن
الكون مركب من عناصر بسيطة، وكل مركب معلول. والعناصر البسيطة إما أزلية أو حادثة.
فالأول باطل لأن الأزلي واجب الوجود، بخلاف العناصر البسيطة التي يمكن تصوُّر
عدمها. وبما أنه لا يُحتمل التصديق أنها أحدثت نفسها لأنها إن كانت علَّةً لنفسها
لزم أن تكون قبل أن تكون، وهو محال. وقد تبرهن فساد القول بأزليتها، فلا بد أنها
معلولة، وأن لها علةً أزلية أو محدثاً أزلياً.

ومهما
تكررت المعلولات لا يمكن أن يكون أحدها العلة الأصلية للباقي. فإذا كانت السلسلة
المركبة من ثلاث حلقات لا يمكن ثبوتها في الهواء من نفسها، فكم بالحري إذا كانت
مركبة من ألوف الحلقات. فإذا لم نجد في أنفسنا سبباً أصلياً لوجودنا ولا في آبائنا
وأجدادنا، فمهما رجعنا إلى الوراء لا نصل إلى العلة الأصلية في نفس السلسلة.
فنلتزم حسب مقتضى العقل أن نسلّم بوجود علة خارجية واجبة الوجود لها قوة كافية
لإحداث العالم وكل ما فيه. وقد اضطر الفلاسفة في كل قرن للتسليم بذلك، فقد أثبت
أفلاطون وأرسطو وجود المحرك الأول من وجود الحركات الظاهرة في العالم.

ويشهد
علم الجيولوجيا أن الأرض معلولة، بدليل:

 

(1)
كل أنواع الحيوان والنبات المعروفة الآن حديثة العهد بالنسبة إلى مدة وجود العالم.

(2)
المواد الحالية من الحياة لا يمكن أن تولّد حياة في نفسها ولا في غيرها، بل الحياة
وحدها تُحدِث الحياة، أي لا حي إلا من حي.

(3)
بعد الفحص الكافي لم يتبرهن أن نوعاً من المخلوقات الحية استحال إلى نوع آخر،
فالأنواع الحية ثابتة لا يتولد منها شيء تختلف حقيقته عن حقيقة نوعه. فلا بد لكل
نبات وحيوان من بداية، وما له بداية هو مخلوق، والمخلوق لا بد له من خالق.

وتشهد
العلوم الحديثة أن عمل بعض القوات الطبيعية لا يصح أن يكون أزلياً كالحرارة مثلاً،
فإنها على خصائصها المشهورة لا يمكن بموجب تلك الأدلة أن تكون أزلية، ولا بد لها
من بداية. فإذا ثبت أن للكون بداية كان السؤال: ما هو سببها، وكيف نشأت؟ والجواب:
هو أن ذلك لا يمكن بيانه بل يستلزم التسليم بعلّة أصلية لتلك البداية. ومهما رجعنا
إلى الوراء في البحث عن تاريخ الموجودات لا نقدر أن نجيب على هذا السؤال، لأنه وإن
صحَّ الرأي السديمي في كيفية تكوين الكون نبقى مفتقرين لمعرفة علة أصلية له، لأنه
لا بد له من بداية، وذلك يستلزم مُبدئاً. ثم إن الحياة لا بد لها أيضاً من مبدئٍ،
لأن المواد الخالية من الحياة لا تولّد حياة، وكذلك العقل بجميع قواه السامية لا
بد له من مبدئٍ. فيلزم وجود خالق هو علة العلل ومبدئ المادة والحياة والعقل.

 

(ثالثاً)
إليك
دليلاً آخر على وجود الله هو المبني على علامات القصد في الكون، لأن المُنتظِم
يستلزم وجود من نظَّمه. والكون منتظم، يظهر فيه حسن النظام والتركيب والقصد في كل
شيء، فيستلزم وجود كائن عاقل قد نظمه وهو الله. أما القصد فيتضمن:

 

(1)
الغاية مما يُعمل. (2) اختيار الوسائط المناسبة لذلك العمل. (3) استعمال تلك
الوسائط لإتمامه.

فيلزم
عن ذلك أن القاصد عاقلٌ مريد قدير. ولا يُنسب حسن النظام للمنتظم ولا للصدفة، بل
لمن نظمه، كما أن بلاغة الكتاب لا تُنسب إلى الكتاب نفسه، ولا للصدفة، بل إلى
مؤلفه الذي قصدها باستعمال عقله وإرادته وقدرته. كذلك الحكمة في تركيب الحيوان
والنبات، لا تُنسب إليهما، ولا إلى الصدفة، بل إلى خالقهما. فيلزم نسبة الحكمة
الظاهرة في الكون كله إلى خارج عنه، ذي علمٍ وإرادة وقدرة. وتلك الحكمة تظهر في
الكون وتنظيمه، أي في النسبة والاتفاق التام بين كل قوانينه، وأيضاً في جعل
الوسائط موافقة لإتمام الغايات العديدة في أجزاء الكون المختلفة.

والاعتقاد
بوجود علامات القصد، التي تدل بالضرورة على قاصد عاقل قادر، لا ينشأ عن الاختبار،
بل هو من أوليات العقل، وهو لا ينحصر فيما يقع تحت نظرنا. فعلامات القصد أينما
وُجدت تدل بالضرورة على القاصد، ولذلك يجب التسليم بوجود قاصد حكيم صنع ما يقع تحت
نظرنا، وأنه قادر أيضاً أن يصنع كل شيء. فيتبيّن أن للعالم خالقاً عاقلاً، كما أن
لكل كتاب مؤلفاً عاقلاً. والدليل على وجوده من علامات القصد في العالم قاطع لا
يمكن إنكاره. فإن نسبة نظام الكون إلى نفسه هي بمثابة نسبة مجموع الأحرف في كتاب
منتظم الطبع إلى نفسه.

وقد
تبيّن أن علامات القصد ظاهرة في الكون بطرق مختلفة، مثل الترتيب المدقق في كل
أنواع المخلوقات، وإجراء كل شيء على قوانين طبيعية فعالة محكمة ومرتبطة معاً
ارتباطاً تاماً، وارتقاء أحوال الخلائق بالتدريج في سلَّم الترتيب والنظام،
وموافقة البنية الآلية لإتمام وظائفها وللنمو والتقدم، وموافقتها عند بلوغ كمالها
للغاية المقصودة من خلقها، وموافقة المخلوقات غير الحية لاحتياجات المخلوقات
الحية، وموافقة كل ما سبق لغايات أخلاقية في ذهن الخالق الذي يستخدم خليقته لتمجيد
اسمه وتنمية مخلوقاته الناطقة في الأخلاقيات والروحيات. فلولا القاصد الحكيم
وتنظيمه للعالم وقواته بالحكمة لعمَّ التشويش الخليقة كلها.

وإليك
أمثلة من أدلة القصد، فنقول إن علامات القصد والحكمة ظاهرة في أمور كثيرة، منها:

 

(1)
علامات القصد في كل عضو من أعضاء الجسد: ولا يوجد في مصنوعات البشر ما يستحق أن
نقارنه بأعضاء جسد الإنسان في الكمال والإتقان والدقة. فإن العين مثلاً أكمل من كل
آلات النظر المصنوعة في مطابقتها لشرائع النور، لأن فيها عصباً منتشراً في شبكيتها
يشعر بالنور والألوان. وهذه الخاصية مقصورة عليه دون كل الأعصاب. ويدخل النور إلى
العين من الحدقة فتضيق إذا كثر وتتَّسع إذا قلَّ. وفعلها هذا عفوي غير خاضع
للإرادة. غير أن مجرد دخول النور من ثقب أو نافذة لا يكفي لرسم صور الأشباح رسماً
واضحاً، بل لا بد من نفوذه في بلّورة محدّبة لتنكسر أشعته وتجتمع في بؤرة. وقد
اجتمع هذان الشرطان في العين. ثم لو كان داخل العين أبيض لانعكست أشعة النور
وتشوّش البصر. فدفعاً لذلك بُطِّنت ببطانة داكنة تُعرف بالمشيمية. وللعين عضلات
مخصوصة تحكمها لترى ما هو قريب وبعيد بسرعة مدهشة. وكل ذلك جزء صغير مما في هذا العضو
من العجائب. ومع أنه كُوِّن في أظلم مكان نراه موافقاً لأحكام النور كل الموافقة.
وهذا يُظهر حكمة الله الفائقة في إعداده الوسائط لنوال الغاية المطلوبة بطريقةٍ
تفوق كل ما في أعمال البشر. وقِس على ذلك سائر أعضاء الجسد.

 

(2)
علامات القصد في أعضاء الطفل عند ولادته: تتوقف حياة الإنسان على الأكسجين الذي
يتنفسه، وبحسب ذلك يولد الطفل مجهزاً بآلة التنفس (مع أنه لم يكن يحتاج إليها قبل
ولادته) استعداداً لحياته بعد الولادة. وهي غاية في الدقة والإتقان ليتنقى بها
الدم ثم يتوزع في كل الأعضاء ليلاً ونهاراً بلا انقطاع. ولا يحتاج الجنين أن يأكل
الطعام، ولكنه حالما يولد يصير محتاجاً إليه. ولذلك تكوَّنت فيه سابقاً كل آلات
الأكل والهضم كالأسنان للمضغ التي تتكون ثم تُخزن في باطن اللثة إلى أن تبرز في
زمن الحاجة إليها، والغدد اللعابية لتسهيل البلع والهضم، والمريء لإيصال الطعام للمعدة،
والسائل المعدي لإتمام الهضم، وكذلك السائل المعوي لإتمام الهضم. وفي المعدة
والأمعاء أوعية لا تُحصى تمتص ما يوافق تغذية الجسد فيُنقل منها إلى الدم الذي
يوزِّعه على كل الجسد، فيأخذ منه كل عضو ما يحتاج إليه بعد تطهيره بالتنفس لنموه
أو تغذيته.

ولا
يحتاج الطفل إلى آلات للمشي والعمل قبل ولادته، ولكن قد تكوَّنت فيه الأعضاء
اللازمة لذلك وهو لم يولد بعد، فخُلقت له العظام واتصل بعضها ببعض بمفاصل من كل
الأنواع لتتحرك وتحرك الجسد حركة مطابقة لشروط الميكانيكيات، وهي متينة وفي غاية
الإتقان. ولو فحصنا سائر الأعضاء كلاً بمفرده لرأينا فيها من الحكمة والإتقان
والنظر في عملها المستقبلي ما يدهش العقول. ولكن ما نراه في أعضاء الجسد أفراداً
ليس إلا جزءاً صغيراً مما نراه فيها إجمالاً.

 

(3)
علامات القصد في العلاقة بين أعضاء الجسد: كل حيوان كامل في ذاته، وكل جزء من جسده
يناسب الأعضاء الأخرى. فآلات السمع والنظر والتنفس والهضم والحركة مرتبة ترتيباً
تتمكن به من إتمام وظيفتها على أفضل منوال. وفي خصائصها من الاختلاف ما يناسب
الاحتياج الخاص لكل جنس ونوع من الحيوان. فالبرّي منها مجهَّز بجهاز يوافق السكنى
في البَر، وكذلك المائي، والهوائي. وإذا تغيَّرت آلة واحدة لغاية خاصة تغيّرت سائر
الآلات لتتوافق مع تلك الغاية. مثلاً إذا أُعدت المعدة لهضم المواد الحيوانية
تجهزت الأسنان والأيدي والمخالب لإمساكها وتمزيقها. وبينها من الاتفاق الكامل ما
يجعل العالِم قادراً أن يعرف من عظْمةٍ واحدةٍ نوع الحيوان وجنسه. فأنواع الطيور
التي تغوص في المياه لها أعناق وسيقان طويلة جداً لتمسك فريستها من تحت الماء.
والتي تسبح على وجه المياه مجهزة بأصابع ملتحمة على هيئة المجداف، وريش غير قابل
للبلل. والتي تطير في الهواء مجهَّزة بعظام فارغة ليكون وزنها خفيفاً، ولها أجنحة
طويلة وعضلات قوية. والتي تتسلق الأشجار لبعضها مخالب وأذناب مناسبة لذلك، وبعضها
مجهزة بمنقار حاد ولسان طويل أعقف للوصول لطعامها من قلب الأشجار. وتنوُّع تلك
الأجهزة الظاهرة في تركيب الحيوان لا تُحصى، وكلها تبين حكمة صانعها، وأنه يلاحظ
احتياج كل نوع من الحيوانات على حدته.

 

(4)
الاستعداد السابق: وهو من أقوى الأدلة على تدبير الخالق، وعالمنا هذا مملوء من
شواهد ذلك، ومنها ما ذكرناه من أنه يجهز للطفل قبل ولادته آلات النظر والسمع
والتنفس والهضم وغيرها لاحتياجه في المستقبل. وأيضاً من ذلك تجهيز الطعام للحيوان
قبل ولادته، ففي الثدييات مثلاً يكبر الثديان قبل الولادة ويتجهز فيهما الحليب،
حتى متى دخل الطفل للعالم يجد طعاماً يناسب غذاءه. وأما في الحيوانات التي تبيض
فإن جرثومة الجنين تُحاط بالمح والبياض فيتغذى وينمو بهما، حتى إذا نفدا بلغ
التكوين الكافي وخرج من البيضة مستعداً لنوال طعامه بطريقة أخرى. وقد كان هذا
التجهيز من تدبير الله، لا من الأم، لأنها لا تعرفه.

 

(5)
موافقة العناصر لاحتياج المخلوقات الحية: نرى علامات القصد في تركيب عالم الجماد
بترتيب يوافق حفظ حياة النبات والحيوان، فإن هاتين المملكتين لا تقدران أن تعيشا
بدون نورٍ وهواء وحرارة وماء وتراب لتقديم القوت الضروري لهما. فمَن أبدع النور
والحرارة ونشرهما في كل العالم وأوجد الشمس مصدرهما؟ ومن جهَّز الهواء بعناصره
بنسبة ثابتة موافقة لحفظ الحياة؟ ومن أحاط أرضنا به وجعل الماء يتحوَّل إلى بخار
ثم يتجمَّع في الغيوم، ثم يُساق بالرياح، ثم يهطل مطراً ويروي وجه الأرض، إلا ذلك
الإله الحكيم القدير وحده؟

فالعين
تحتاج للنور، والرئة للهواء، والجسد للطعام. ولا يوجد الطعام إلا بتراب ونور وهواء
وحرارة وماء. ووجود كل ذلك بموافقة تامة دليل على نظام الكون، وإن منظِّمه واحد
فقط، عاقل عظيم وغير محدود في الفطنة والجودة والقدرة.

 

(6)
تهيئة الأرض للإنسان: فإذا كان الوالد يجهز لأولاده مسكناً وقوتاً وكل ما يحتاجون
إليه مما يبرهن محبته وحكمته، أفلا يكون كذلك للخالق الذي هيَّأ هذا العالم مسكناً
لأولاده بني البشر، وأوجد النور والحرارة والقُوى، وسنَّ قوانين الطبيعة لتتوالى
الفصول وتهطل الأمطار وغيرهما، مما لا يمكن حفظ الحياة بدونه.

 

(7)
الدليل الفلكي: البراهين من النظام الفلكي على وجود موجدٍ عاقلٍ قوي صالح حكيم
كثيرة جداً لا يمكن ذكرها كلها في هذا الكتاب، كما يظهر من التأمل في عظمة هذا
الكون بأجرامه السماوية التي لا تُحصى ولا تُستقصى، ودورانها على نسقٍ واحد قرناً
بعد قرنٍ، وسرعتها وما بين القوتين الدافعة والجاذبة من الموازنة.

ويؤيد
الكتاب المقدس ما تقدم من الأدلة المبنية على علامات القصد بقوله إن السماوات
والأرض تُظهر مجد الله وكماله. وقال بولس لأهل لسترة: «الله الذي خلق السماء
والأرض لم يترك نفسه بلا شاهدٍ، بل يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة، ويملأ
قلوبنا طعاماً وسروراً» (أع 14: 15-17). وبيَّن لأهل أثينا طبيعة الله من أعماله،
ونِسبتنا إليه كذُرّيته (أع 17: 23-31). وقال لأهل روما: «إن أموره غير المنظورة
وقدرته السرمدية ولاهوته مدركة بالمصنوعات» (رو 1: 20 انظر مز 19: 1).

إن
شكل الأرض، وبُعدها عن الشمس، وميلها على خط الاستواء، وغير ذلك من أمورها الفلكية
مرتبة لتكون صالحة لسكن الإنسان، وكذلك نسبة اليابسة إلى البحار وفصل بعضها عن بعض
بالشكل الحالي، وارتفاع الجبال وإعداد خزائن لا تفرغ من أنواع الوقود في قلب الأرض
لاستعمال الإنسان. كل ذلك دليل على وجود من جهَّزه، وأنه عاقل كثير الإحسان.

 

(رابعاً)
هناك
دليل على آخر على وجود الله مبني على وحدة الكون، فكل كائن حي، من الإنسان إلى
أصغر حشرة مخلوق على نظام واحد. فبعد اختراع الميكروسكوب اكتشف العلماء أن أجسام
كل الكائنات الحية تتكون من خلايا، واكتشفوا في الخلية والمورثات أن تركيب الخلية
في أجسام كل المخلوقات الحية تركيب واحد ونظام واحد، ولكن الصفات والخصائص فيها
تختلف وتتنوَّع. ووجدوا في كل خلية حية في جسم كل مخلوق حي نواة تستقر فيها عوامل
الوراثة، وهي المسؤولة عن جميع الصفات والخصائص، وبذلك فإن لكل نوع من المخلوقات
عوامل وراثية مميزة له لا تتكرر في غيره من الأنواع، وتنتقل من الآباء إلى
الأبناء، ومن جيل إلى آخر. إذاً هناك وحدة في نظام خلق المخلوقات الحية جميعاً تدل
على وحدانية الخالق.

ونظام
الخلق في الجماد نظام واحد أيضاً. ومع أن كل مخلوق جماد مكوَّن من عناصر مختلفة،
إلا أنها جميعاً مكوّنة من ذرات. وقد اكتشف العلماء أن نظام خلق الذرة يشبه تماماً
نظام خلق المجموعة الشمسية، المكوَّن من الشمس وكواكبها. فكما أن في وسط الذرة
نواة تدور حولها إليكترونات في مدارات مختلفة، كذلك الشمس تدور حولها كواكب في
مدارات مختلفة، وكأن الذرة مجموعة شمسية مصغّرة!

إن
النظام الشمسي والنظام الذري ونظام المجرات هو نظام خلقٍ واحد، وتصميم إنشائي
واحد. وكل ذلك يدل على جملة حقائق، منها:

(1)
الكل في حركة، وللحركة بداية ونهاية، وهذا ينفي أزلية الكون، ويدل على أن الكون
مخلوق. وما دام مخلوقاً فلا بد له من خالق

(2)
تطابق النظام في خلق الذرة والنجوم والمجرة يدل على أن واحداً خلقها جميعها.

(3)
هناك وحدة في نظام المخلوقات جميعها في الكون كله، ووحدانية نظام الخلق تدل على
وحدانية الخالق.

 

ما
هي الأقوال في مذهب النشوء؟

هي
أقوال على صور مختلفة، بعضها يكرم الخالق ويسلّم بخلقه العالم والحياة على أنواعها
في أرضنا هذه في الأدوار الماضية، ودوام عنايته بكل ذلك. وهناك أقوال غيرها توجه
الإهانات له، إما بعزله عن عرش الكون وإنكار أنه هو الخالق، أو بإنكار عنايته
بالأمور الطبيعية ونسبة كل التنوُّع في الأجناس الحية وكل علامات القصد إلى قوانين
طبيعية يقولون إنها عملت بنفسها بدون فعل الخالق. فإذا كان مذهب النشوء يشرح كيفية
إجراء الله مقاصده في الخليقة، فليس فيه ما يُنقِص قوة البرهان على وجود الله
المبني على علامات القصد في الكون. وإذا كان يحكي عن فواعل طبيعية ليس لله يدٌ
فيها، فهو ينافي البرهان المذكور كل المنافاة، لأن جميع علامات القصد تُنسَب إذ
ذاك إلى الطبيعة المادية لا إلى الله.

 

وأشهر
الأقوال في أصل الموجودات وتنوُّع الأنواع الحية ثلاثة، وهي:

(1)
مذهب الخلْق المباشر: وهو أن لكل نوع ما يميّزه عن غيره، وهذا يبيّن الاختلاف بين
الأنواع، فقد خلقه الله رأساً ثم أخذ في النمو والزيادة بواسطة التناسل الطبيعي.
أي أن الله أوجد المادة أصلاً من لا شيء، ثم أَبدع الحياة النباتية والحيوانية على
أنواعها، ثم صنع الإنسان على صورته، كما جاء في الكتاب المقدس. وعلى ذلك فقد نشأت
جميع الأنواع الحية أولاً من يد الخالق بالتتابع في أثناء الأدوار الماضية
الطويلة. والمقصود هنا بلفظ «نوع» كل حيّ يمتاز عن غيره بعدم إمكان الاختلاط في التوالد
وغيره من الاختلافات النوعية. وهذا المذهب أقرب إلى شهادة الكتاب المقدس على ما
فهمته الكنيسة المسيحية في القرون الماضية. غير أننا لا نعتقد بعصمة الكنيسة في
فهمها العلمي، بل يُحتمل إيضاح هذه المسألة بنور ما اكتُشف وما سيكتشفه الباحثون
من الحقائق الطبيعية وقوانين نموها كلما تقدم البشر في معرفة أسرار الطبيعة
المادية. وعلى ذلك يُنتظر تقدم الأجيال الآتية في إدراك كيفية عمل الله في الخلق
والعناية، مع إثبات أنه هو الخالق والعامل العظيم في كل ذلك.

(2)
مذهب النشوء الإلهي: وينادي بأن الخالق أبدأ في الأصل خلايا حية فيها قوة النمو
والتقدم والتنوُّع لدرجة معلومة، وبقوته الخالقة صدرت منها بالتتابع كل الأنواع
التي وُجدت أثناء مدة وجود العالم. وكل ذلك بحسب شرائع سنَّها لها الخالق حسب
مقاصده وعنايته الدائمة. وبفعل الله تمّ هذا الارتقاء من درجة إلى أخرى في سلَّم
الحياة مع التغييرات النوعية العجيبة. فللخالق يد في العالم الطبيعي في إيجاد
أنواع جديدة خاصةً في إبداء الحياة أولاً في النبات والحيوان، وفي خلق الإنسان
نوعاً جديداً على صورته. وقُصد بمذهب النشوء على هذه الصورة أن يشرح كيف تمم الله
غايته ومقاصده باعتباره خالق العالم ومدبره، لأن الخالق بموجب هذا المذهب أخرج
بقوته الخالقة أنواعاً جديدة من الأنواع الموجودة سابقاً. على أن أصحاب هذا المذهب
لم يبرهنوه حتى الآن بالأدلة الكافية، فلا داعي لقبوله قبل إثباته. ولكن إن صحَّ
أن هذا هو ترتيب الخالق، وأن أعماله تمت بهذه الطريقة، فإننا لا نرى فيه ما ينقِص
قوة الدليل على وجود الله المبني على علامات القصد في الكون، لأن مقاصده وتدابيره
الدقيقة التي تدل على الحكمة والإرادة والقصد السابق ظاهرة في هذا النظام.

وإذا
كانت شرائع الله قد نظمت خلق أصل جسد الإنسان من خلايا حية، وعملت على نموه حتى
يبلغ أشُدَّه، ونظمت أصل أجساد جميع الحيوانات والأشجار والنباتات من بزورها
ونموها، كان كل هذا دليلاً على حكمة الله وقصده في تنظيم الكون.

غير
أن على هذا المذهب اعتراضات علمية لم تُحلّ إلى الآن. أما الذين نادوا به فأرادوا
أن يعللوا كيفية نشوء الأجسام الحية ونموها وتنوعها، مع الاعتقاد أن خلق العالم
الأصلي، وإبداء الحياة، وتنوُّع الأجناس الحية، وتنظيم الشرائع هو كله من عمل
الخالق العظيم الذي يتمجد بعلامات القصد في الكون، سواء كانت على صورة النشوء أم
لا. ولا نرى في هذا المذهب على الكيفية المذكورة (إن تبرهنت) ما يناقض الكتاب
المقدس وأقواله في الخليقة، بل ما يدعو فقط لتفسيره ليوافق حقائق هذا المذهب. وليس
في هذا المذهب على هذه الصورة ما يناقض بالضرورة تعليم الكتاب في أصل الإنسان وخلق
الله له، لأن ذلك يكون من جملة الأعمال الإلهية المباشرة في مجرى الأمور الطبيعية
التي يمكن حدوثها مراتٍ عديدة بحسب الاقتضاء، وبالطريقة التي يستحسنها الخالق،
ولغايات أدنى جداً من خلق الإنسان، كخلق أنواع جديدة مثلاً من أنواع أخرى من
الحيوانات والنباتات لو شاء.

(3)
مذهب النشوء الإلحادي: وهو ينكر تدخل الله في إنشاء الموجودات، وينسب كل تقدُّمٍ في
الكون لقوانين مادية طبيعية تعمل بنفسها مستقلة عن الله. وينكر بعض تابعيه الخالق،
ويسلّم بعضهم بوجوده وبخَلْقه أصول الحياة، ولكنهم ينكرون عنايته بأمور الكون
وتدخله الفعلي الدائم إتماماً لمقاصده في إنشاء الأنواع وفقاً لغاياته، وينسبون كل
تغييرٍ في المخلوقات وتنوُّعٍ في الكائنات الحية إلى عوامل طبيعية قائمة بنفسها،
أو إلى شرائع ليست من الله بل قائمة بذاتها وعاملة أعمال العقل، وإن كانت طبيعية
محضة. ومنهم من حسبوا التنوُّع نتيجة التغيرات الجزئية المتتابعة ببطءٍ في زمان
طويل، ومنهم من نسبوه إلى ميل طبيعي في الأنواع المختلفة الأصلية إلى إنتاج أنواع
أُخرى تختلف عنها، ومنهم من نسبوه إلى قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح،
وأشهرهم دارون الإنجليزي. والفرق العظيم بين هذا المذهب وما قبله هو أنه بموجب
مذهب «النشوء الإلهي» خلق الله الخلايا وسنَّ قوانين نموها وتنوعها، وخلق هو نفسه
مباشرةً عند الاقتضاء أنواعاً جديدة، وكان كل شيء بعنايته وبحسب قصده السابق.
وبموجب «مذهب النشوء الإلحادي» أنكر أصحابه تدخل الله ونسبة القوانين الطبيعية
إليه، وولّوا الطبيعة مكانه، ونسبوا إليها قوات عقلية وأعمالاً مقصودة كأن لها
عقلاً ومشيئة، وقالوا إن كل أنواع النبات والحيوان حتى الإنسان صدرت من الطبيعة لا
من الله. وقد أوجب هذا القول عليهم أن يبيّنوا لنا أصل تلك الخلايا الحية، وممّن
أخذت ما فيها من القوة والحسّ وما لها من قوة التنوع العجيب والنمو والقدرة على
ولادة نظيرها، وخاصةً قوة الارتقاء في سلَّم الحياة من درجة إلى أخرى حتى وصلت
أخيراً إلى درجة الإنسان مع ما فيه من الضمير والعقل والمشيئة والمشابهة لله في
طبيعته الروحية. وواضح أن مذهب النشوء على هذه الصورة لا يعلل علامات القصد في
الكون، والأدلة القاطعة على فعل عقل عظيم حكيم في سياسة العالم الطبيعي، ولا أصل
الحياة، لأن المواد الحية (وإن فرضنا أزليتها) لا تقدر أن توجد الحياة، ولا العقل
والإرادة والضمير، ولا تحصر قوة التوالد في كل نوع على حدته. وبناءً على هذا
المذهب يكون البشر قد تسلسلوا من البهائم، وهي نتيجة سخيفة جداً، بغضّ النظر عن
عدم وجود ما يثبتها، لأن هذا المذهب لم يتبرهن حتى اليوم، بالرغم من البحوث
الطويلة فيه، فهو قول تخميني يرجحه البعض من أهل الإلحاد وينكره البعض الآخر. ولم
يظهر للآن ما يمنع الثقة بصحة القول الأول إن الله خلق الموجودات وأبدأ الحياة على
أنواعها وأوجد التنوّع الغريب بتدخله رأساً عند الاقتضاء (وذلك مع استعدادنا لقبول
مذهب النشوء على صورته الأولى إذا تبرهن بالبراهين الكافية). غير أنه لا يبعد أن
الله في خلقه الأنواع تقدّم من درجة إلى أخرى في سلم الحياة على الترتيب، وهو
التقدم من المواد البسيطة إلى المركبة، ومن الأنواع الدنيا من الحياة إلى العليا.
فيكون التقدم من درجة إلى أخرى في إتمام الله الخليقة أمراً جلياً، وهذا يطابق
شهادة الكتاب والطبيعة معاً.

 

(خامساً)
نذكر
دليلاً آخر على وجود الله مبني على طبيعة الإنسان الروحية والأخلاقية، فتدل نفس
الإنسان على وجود الله وبعض صفاته، كما تدل صورة الشمس في المرآة على وجودها وبعض
صفاتها. وهذا البرهان تابع للبرهانين السابقين، فقد اتضح من الأول لزوم العلة
الأولى العظيمة لكل شيء، وهي الكائن بنفسه منذ الأزل. واتضح من الثاني أن لذلك
الكائن السامي عقلاً وإرادة وقدرة وحكمة. وبمقتضى هذا لا بد أن تكون له صفات أُخرى
مثل القداسة والعدل والصلاح والحق، وهكذا نتدرج في بيان وجود الله ومعرفة صفاته.
غير أنه كما لا نحصل على معرفة كاملة بالشمس من صورتها في المرآة، كذلك لا نحصل
على معرفة كاملة بالله من صورته التي فينا، ولو أننا لا بد نتعلم الكثير من ذلك.

 

لقد
بيَّنا أن طبيعة كل إنسان تشهد له شهادة كافية بوجود الله، كما أنها تؤكد له أن
الله كائن أخلاقي ذو عقل ومشيئة، يعلم ما يحدث، وله سلطان غير محدود، ويقدر أن
يعاقب ويكافئ.

 

أما
الأدلة من طبيعة الإنسان الروحية والأخلاقية على وجود الله فهي:

(1)
وجود العقل في الإنسان: فكل إنسان يعلم بالشعور الباطن أنه عاقل، وأن عقله يختص
بنفسه لا بجسده، وأن النفس والجسد ليسا واحداً بل اثنين، لهما صفات مختلفة. ويتضح
من شعور الإنسان أن جوهره غير المادي العاقل الخالد غير أزلي، أي له بداية. وكل ما
له بداية له مُبدئ. ولا يمكن أن يكون المُبدئ الأصلي للنفس في الإنسان نفساً
سابقة، لأن تلك النفس معلولة أيضاً. ومهما رجعنا إلى الوراء في هذه السلسلة لا نصل
إلى علة أصلية فيها. ولا يمكن أن يكون الجسد أو قوات أخرى طبيعية غير عاقلة علة
النفس، لأنه من أوليات العقل أن العلة لا تكون أدنى من المعلول، فلا يمكن أن يكون
ما ليس له عقل علةً للعاقل. ولذلك نسلّم بأن وجود أرواحنا دليل على من هو أبو
الأرواح، وتشهد عقولنا بوجود ذلك العقل السامي الذي خلقها.

 

(2)
ما يظهر من طبيعة النفس واحتياجها: فالموجودات الحية تحتاج لعدة أشياء، وقد دبَّر
الله لها كل ما تحتاج إليه. فالنبات مثلاً يحتاج لمواد مغذية لينمو، فأعدَّ الله
له جذوراً تمتد لعمق التراب، وأوراقاً تتأثر بالضوء والحرارة وتأخذ الكربون من
الهواء. وبواسطة التراب والهواء والماء والضوء والحرارة تُسدُّ كل احتياجات
النبات. وكذلك نقول في الحيوانات واحتياجاتها، فإن الله جهَّز لها كل ما تحتاج
إليه. ونرى أيضاً الكائنات الحية تصل إلى درجة البلوغ وتتمم المقصود من وجودها
بحسب ما لها من الخواص الطبيعية. أما الإنسان فلا يبلغ كماله في هذه الحياة، وليس
في هذا العالم ما يكفي احتياجاته الروحية، لأن نفسه ذات حاجات وأشواق روحية تطلب
السماويات، بل مشاركة الله ذاته. أليس ذلك دليلاً على أن نفس الإنسان مخلوقة لحياة
أسمى من الحياة الحاضرة، وعلى وجود من يكفي كل احتياجاتها وأشواقها؟ لأنه كما أن
الجوع دليل على وجود ما يكفي لاحتياج الجسد، كذلك جوع النفس يدل على وجود من يكفيه
أي الله.

 

(3)
ما يظهر من طبيعة الإنسان الأخلاقية: فإن الشعور يعلّمنا: (أ) تميِّز نفوسنا
بطبيعتها بين الحلال والحرام، وتقدر أن تحكم بلا واسطة في صفات الأمور الأخلاقية
كما تميّز الحواس ما هو ضمن دائرتها من الأجسام. (ب) الضمير مستقل في حكمه، لا
يخضع للعقل والإرادة. فإذا كان مستقيماً لا يرى الحرام حلالاً والحلال حراماً، حتى
لو حاول العقل أن يقنعه بأن الأسود أبيض! (ج) للضمير سلطان، فلا يقدر الإنسان أن
يتحرر منه. (د) يلزم عن حكم الضمير وجود شريعة أخلاقية سلطانها من فوق، وتحكم بما
هو واجب علينا. (ه) إننا نشعر من وجود الضمير والشريعة الأخلاقية بأننا مسؤولون عن
حالنا وأعمالنا، لا أمام أنفسنا ولا أمام البشر فقط، بل لكائن عظيم هو مصدر
الشريعة وخالق ضميرنا والعارف بكل أحوالنا، الذي يُسرُّ بالصلاح ويكره الشر ويجازي
كل إنسان حسب استحقاقه. فنحن إذاً مفتقرون إليه ومسؤولون أمامه، وهو الله.

 

إننا
نجد نفوسنا في كونٍ عظيم، نحن جزء منه. وتميل عقولنا إلى السؤال: ما هو مصدر هذا
الكون وما هدفه؟ وكيف يُحفظ؟ ومن أين أتينا نحن وإلى أين نمضي؟ ولا يمكن أن نجيب
على ذلك دون أن نسلّم بوجود كائن سرمدي، علة العلل واجب الوجود، عاقل حكيم ذي
إرادة وصفات أخلاقية. والجواب الكافي لهذه المسائل نجده في الآية الأولى من الكتاب
المقدس «في البدء خلق الله السماوات والأرض» (تك 11: 1).

 

(سادساً)
إليك
دليلين آخرين على وجود الله من الكتاب المقدس؛ ومن تاريخ الجنس البشري:

 

**
أولهما، الكتاب المقدس، هو إعلانٌ من السماء، فيه تعاليم إلهية بأدلة قاطعة خاصة
بحياة المسيح وطبيعته وأعماله وتعاليمه، لأن المسيح هو أعظم دليل لقلب المؤمن على
وجود الله، وأيضاً من النبوات ومن المعجزات الواردة في كل الكتاب. فيجب أن نعتبر
الكتاب المقدس دليلاً على وجود الله.

 

وإذا
نظرنا لطبيعتنا الروحية، وبحثنا عن احتياجاتها الحاضرة، رأينا أن الكتاب المقدس
يوافقها تماماً لما حواه مما يكفي كل حاجاتها. فإن فيه إعلان الخالق الآب الجواد
والرحيم، الذي يحفظ خلائقه ويعتني بهم، الذي في يده نسمة كل حي ومعه أمرنا، وشعور
رؤوسنا محصاةٌ عنده. وفيه أيضاً من الأوامر والنواهي ما يوافق أحوالنا، ويمنعنا عن
كل ما يضرّنا ويهين شأننا وشأن خالقنا العظيم، وفيه كل ما هو لخيرنا وسلامنا
وسعادتنا وما يكفينا من الفوائد في التعليم والإرشاد والتعزية والتنشيط وترقية
أفكارنا وتنمية أخلاقنا وإعدادنا للحياة الأبدية. وكل ذلك مما يفوق قدرة البشر
وحكمتهم. ولذلك نعتقد أن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد الذي يرشدنا للحق،
وبواسطة إرشاده ننال السعادة الأبدية. ولا بد أن مصدره عقل سام وكائن عالم بكل
شيء، قدوس وعادل وهو الله العظيم.

 

**
وكل من يدرس تاريخ البشر يرى فيه ما يدعوه للاعتقاد بوجود كائن عظيم ذي سلطان مُطلق،
يدبر كل أمور البشر وأعمالهم على ما يوافق مشيئته ويؤول لإتمام مقاصده الفائقة.
ففيه ما يدل على عناية الله الدائمة، خلافاً لقول الكفرة الذين ينسبون ما في تاريخ
البشر من الأدلة على العناية الإلهية والهدف إلى مجرد الحكمة البشرية، أو الصدفة،
وحكمهم بأن الحوادث تجري مجرى طبيعياً مستقلاً عن سلطة وإدارة شخصٍ ذي مقاصد
سامية. ويؤيد كلامنا أن ما نراه في تاريخ العالم من الخصام والجدال والبحث
والاختراع والعوائق والمشاكل والحرب والانقلابات والبلايا يؤول أخيراً لتقدم البشر
وارتقائهم من جيل لآخر في التمدُّن والمعرفة والبنيان الديني. ألا ترى في ذلك
دليلاً قاطعاً على وجود مرشدٍ حكيمٍ للبشر يقودهم للنجاح، بوسائط خاصة عيَّنها هو
لذلك، وباستخدامه لإتمام مقاصده وسائط أُخرى لو تُركت لنفسها بدون عنايته لأنتجت
غير ذلك. ففي تاريخ البشر دليل على وجود الله وعنايته بأمور العالم.

 

**
وقد اعترض البعض على سياسة الله للكون وعلى عنايته بأمور البشر بأمور كثيرة، منها
أن النواميس الطبيعية غير قابلة للتغيير إلى ما هو أفضل لخير البشر، أو لتخليصهم
من نتائج مخالفتها. وأيضاً كثرة أوجاع الخليقة غير العاقلة، وكثرة الشرور والمصائب
الواقعة على البشر واختلاف نصيبهم، فالبعض يأكلون إلى التخمة، بينما البعض يجوعون
وذلك (حسب الظاهر) بدون نظر إلى استحقاق أخلاقي في الشباعى أو عدم استحقاق في
الجياع!

 

فنجيب:
نعم إن هذه الاعتراضات مشاكل، لكن لا شك أن الله لم يخلق الكون لمجرد سعادة
خلائقه، بل لنمونا في القداسة وفي كل فضيلة إلى أسمى درجة، وأيضاً ليُظهر مجده.
وأن النواميس الطبيعية غير المتغيرة هي مفيدة جداً لتعليمنا ونمونا في الصلاح،
وكذلك الضيقات والآلام التي تصيبنا في هذه الحياة. ولابد أن القصد من خلق الشعور
بالألم في البشر والحيوانات هو لخيرهم، ولو أن الألم والشقاء ناتجان غالباً عن سوء
استعمال الجسد وقدراته. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة على وجه العموم نرى أن القانون
الغالب هو السعادة، وأن الألم والشقاء من العرضيات. فإذا نظرنا إلى موت الحيوانات
وأتعابها نرى أنها تقدم للبشر خدمة أكثر جداً مما يصيبها من الألم.

فلو
صدقنا هذه الاعتراضات لوَجب على الله أن يُبدئ الكون في حالة الكمال، حتى لا تبقى
هناك حاجة للنمو والتقدم والارتقاء، ولا إلى تغيير ما. فمَنْ يقدر أن يجزم أن
إبداء الكون بهذه الصفة خير وأفضل وأكثر حكمةً من النظام الذي اختاره الخالق؟ وكل
من يمعن النظر في هذا الموضوع يرى أن الخليقة القابلة للتقدم على الدوام تبيّن مجد
الخالق وحكمته أكثر مما لو أُبدعت كاملة دفعةً واحدةً. ومما يجعلنا عاجزين عن
الحكم على أعمال الله ومقاصده في العالم قصر عقولنا عن معرفة غاياته والأمجاد التي
يكلل بها الخليقة متى أكمل مقاصده فيها. ولا شك أن الله قد تعمَّد أن خليقته لا
تبلغ الكمال إلا بعد مرور قرون عديدة، فيها يتقدم الكون على الدوام في إتمام ما
قُصد به، وأنه قد قضى أن الألم والشدة والمصائب تكون من أعظم الوسائط لارتقاء
الخلائق في الكمال. وهذا هو فعلاً تأثير الضيقات والبلايا في نمو البشر وتقدمهم في
الفضائل الدينية والأخلاقية.

 

إن
لنا خالقاً عاقلاً رحيماً قادراً على كل شيء، وكل أمور الكون في يده، وقد وعدنا أن
يحوّل ما فيه من الأتعاب والبلايا والآلام لأعظم خير لخلائقه لنموّهم وبنيانهم في
الفضائل العظمى. أما مسألة عدم مساواة أحوال البشر في هذه الحياة فلها حل وراء هذه
الحياة. وبعد ما نسمع الحكم الأخير منه لا نرى سبباً للشك في حكمته وصلاحه.

 

(سابعاً)
هناك
دليل على وجود الله مبني على اعتقاد جميع البشر بذلك، ففي كل زمان ومكان يؤمن
البشر بوجود كائن عظيم هو إما الإله الحق، أو في مقام الإله الحق. وقد تبيَّن
للباحثين في أحوال الوثنيين الدينية عدم وجود أمة أو قبيلة منهم خَلَت من الاعتقاد
بوجود كائن هو عندهم في مقام الله عندنا. وقال العالم الفرنسي ده كاترفاج: «في
بحثي المدقق عن أصناف البشر، مِن أسماها إلى أدناها، لم أجد صنفاً منها أو قبيلة
خالية من الاعتقاد بوجود إله. غير أني وجدت أفراداً لا تعتقد ذلك، ووجدت قليلين من
أهل المذاهب الكفرية الذين نبغوا في أوربا في القرن الثامن عشر، ولا يزال إلى الآن
مَن يحذو حذوهم هناك». وقال الأستاذ روبرت فلنت في كتابه «في المذاهب الكفرية»:
«إن خلاصة ما وصلتُ إليه من البحث عن أحوال البشر الدينية هي أن الدين عام، كأن
الخالق أبدع الكون مملوءاً من علامات وجوده، وأبدع الطبع البشري مائلاً إلى
التسليم بذلك. وأن البشر يميلون وهم في أدنى الأحوال البربرية للتمسك بما له مقام
الديانة والاعتقاد بوجود من هو عندهم في مقام الله عندنا». وقد اعترض البعض أن
الديانة البوذية بدون إله، غير أن ذلك مردود بأن البوذيين يؤلّهون بُوذا، ويجعلونه
في مقام الله عندنا.

ولنا
لإثبات ما سبق شهادة شاهدي عدل، هما الكتاب المقدس والمؤلفون الوثنيون.

 

قال
بولس ما معناه إن الوثنيين عرفوا الله معرفة كافية فلا عذر لأحدٍ منهم (رو 1:
18-32 و2: 12-16 قارن مع أع 14: 16، 17 و18: 24-28).

وقال
شيشرون: «لا حيوان يتصوَّر وجود الله سوى الإنسان، وليس في البشر من قبيلة مهما
سفلت في حال الجهل والتوحش لا تعرف احتياجها إلى إله، وإن قصَّرت عن معرفة صفاته».

 

فإذا
صحَّ أن كل البشر يعتقدون بوجود إله، كان ذلك دليلاً يؤيد وجود الله، ويبيّن أنه
خلق البشر ميّالين للاعتقاد بذلك. والتفسير الذي يقبله العقل هو وجود كائن عظيم
خلق الجنس البشري بهذا الميل الطبيعي للتسليم بوجوده. مما يؤيد وجود الله غاية
التأييد.

 

**
ونختم أدلتنا على وجود الله بدليل نبنيه على مبادئ عقلية، فإن أساس كل معرفة هو
شهادة الشعور، وتتعلّق قوة الدليل على وجود شيء بوضوح تصوُّره في العقل. وبما أن
وجود إلهٍ كاملٍ غير محدود من أوضح وأضبط ما يتصوّره العقل، كان ذلك دليلاً على
وجوده. والعقل يتصور كائناً كاملاً، وبما أن الوجود من لوازم الكمال، يلزم وجود
ذلك الكائن. فالصورة الأولى مبنيّة على وضوح تصوُّر الإنسان إلهاً في عقله،
والثانية على لزوم وجود كائن كامل، وإلا كان غير كامل لأنه ناقص الوجود. ودليل
وجود الله على هاتين الصورتين يؤيد ذلك.

وقال
غيرهم إن قولنا بوجود ما هو محدود وناقص يستلزم وجود ما هو غير محدود وكامل. فإذاً
لابد من وجود كائنٍ يتّصف بهاتين الصفتين، وإلا لزم عدم كمال وجوده لأننا نتصوّر
من هو أكمل منه. وهذه الصورة نظير غيرها من هذا النوع غير قاطعة بل مؤيدة.

 

**
وعليه، فإن كل ما قدمناه في المقالات السبعة أعلاه من الأدلة على وجود الله يستحق
ثقة العقل السليم، وقد أكثر البعض خصوصاً اللاأدريون) من الطعن في الأدلة على وجود
الله والازدراء بها. وتجاسر الملحدون والذين ينفون الوحي على إنكار صدقها
وفائدتها. غير أن جمهوراً كبيراً من أهل الدين والعلم والفلسفة الذين نبغوا في هذا
العصر وغيره من العصور واشتهروا بالذكاء والفصاحة اعتمدوا تلك الأدلة، ورأوا أنها
قاطعة تستحق أن يعوَّل عليها، وأنها كافية لبيان وجود الله لكل مَن أراد الوقوف
على حقيقة هذه المسألة الخطيرة، وأن جميعها معاً برهان كافٍ على وجود الله، مؤلَّف
من أدلة كثيرة، كلٌّ منها صحيح وكافٍ على درجات متفاوتة. نعم إن تلك الأدلة ليست
من المواد التي يمكن أن توزن بميزان البشر، أو أن تتحقق بالامتحانات المادية
المنظورة، بل هي أدلة عقلية مبنيّة على حقائق ظاهرة لعين الإنسان ولعقله، نظير ما
هو محسوس ومُدرَك بالحواس الخمس. فإن العقل السليم متى شعر بوجود الكون، وميَّز ما
فيه من علامات النظام والقصد التي لا تُحصى عدداً، يحكم طبعاً بوجود علة له، وأن
تلك العلة عاقلة وحكيمة وقادرة على إيجاد ما يُرى فيه من الغرائب والبدائع. ولا
يمكن لمن يتأمل الكون وكل غرائبه وما فيه من الكائنات الحية على أنواعها أن يعزو
هذا كله لعمل الطبيعة بدون خالق، فإن إنكاره وجود الخالق يخالف العقل السليم
وشهادة الطبيعة نفسها التي تنادي على الدوام (بلسان حالها) أنها مصنوعة لا صانعة
ومعلولة لا علة، وأن ما حوته من العناصر والحياة وغرائب التركيب والنظام وخواص
النمو والتقدم التدريجي إنما هو صادر من قوة خارجة ومستقلة عنها. ولا شك أن لتلك
الأدلة قوة لا توصف عند كل المؤمنين، وأن كل واحد منهم متيقن ومقتنع ومتمتع بما له
من الأدلة اليقينية على وجوده:

أولاً
– من الكون وما فيه من علامات القصد والقدرة والحكمة؛

ثانياً
– من بنية الإنسان الأخلاقية والروحية ومن شهادة الضمير؛

ثالثا
– من الكتاب المقدس وإعلان اللاهوت في شخص المسيح ابن الله المتجسد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار