المسيحية

ألقاب المسيح في القرآن



ألقاب المسيح في القرآن

ألقاب
المسيح في القرآن

“إنما
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه”
(نساء 170)

الاسم
دليل المسمى.. ومما يزيدنا معرفة لمنزلة المسيح الفريدة في القرآن، ما يضفيه على
عيسى ابن مريم من الألقاب. وإنك لتراه يسبغ عليه من النعوت والصفات، والألقاب
والأسماء ما يجعله وحيداً بين الأنبياء، وسيداً للمرسلين.

نجد
في القرآن ألقاباً نبوية تجعل المسيح “وجيهاً” بين الرسل الذين
خلوا من قبله.

ونجد
في القرآن ألقاباً إلهية – أجل إلهية – ينفرد بها المسيح على سائر الأنبياء
والمرسلين، بل ترفع المسيح من رتبة المخلوق إلى صلة ذاتية خاصة بالخالق.

 

أولاً:
ألقاب المسيح النبوية في القرآن:

“قال
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً”
(مريم 30)

يسمي
القرآن المسيح عادة: “عيسى ابن مريم“.

هو
عيسى“: بالعبرية “إيشوع” (البيضاوي والزمخشري) أو
بالحري العلم الذي به يُعلم.وصحيح الاسم “يشوع” بالعبرانية،
و”يسوع” بالسريانية فمن أين نقله على هذه الصورة “عيسى”؟
الأرجح أنها منقولة ومنحوتة عن الرومية السريانية في صيغة المنادي
“إيسو” فوصلت إلى قلب الجزيرة على هذه الصورة “عيسى”.

ومعروف
عند الشريقيين ما للاسم من مغزى وأمل.

وهو
ابن مريم” نسبة إلى أمه[1].
وينسبه إلى أمه تشريفاً له ولها. وليس في هذه النسبة أية إهانة أو تحقير لأن هذه
الأم قد “اصطفاها الله على نساء العالمين” (آل عمران 42) وينسبه إلى أمه
ليس لأنه مجهول الأب، فتلك إهانة ينتفض لها القرآن ويكفر اليهود الذين يقولون بها
(نساء 157) بل هي شهادة دائمة من القرآن لأمومة مريم البتولية، ولمولد عيسى المعجز
الفريد من بتول لم يمسسها بشر.

ويرد
هذا اللقب “ابن مريم” مسنوداً إلى عيسى كناية له: “وقفينا على
آثارهم بعيسى ابن مريم” (بقرة 87، نساء 170، ماشدة 46) “وآتينا عيسى ابن
مريم البينات” (بقرة 87 و253، مائدة 49)، و”إذ قال الله يا عيسى ابن
مريم” (مائدة 113 و119)؛ وهذا الاسم تصح به نسبة عيسى.

ويرد
اللقب “ابن مريم” مستقلاً بنفسه، كناية علمية على الطريقة السامية: “وجعلنا
ابن مريم وأمه آية” (مؤمنون 51) “ولما ضُرب ابن مريم مثلاً” (زخرف
57) وفي هذه الكناية تشريف، وتفضيل، واستشهاد، وشهادة.

ويدعوه
عبد الله” أي رجل الله، وهي صفة يتصف بها أنبياء الله ورسله.
فهو قال عن نفسه “إني عبد الله” (مريم 30) حينما نطق طفلاً؛ والله يدعوه
عبده “إن هو إلا عبد أنعمنا عليه” (زخرف 58)؛ ويجعل القرآن هذه الصفة
ميزة رسالته. وحسبه فخراً أنه عبد الله “لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً
لله” (نساء 171).

وهو
النبي“: وُلد نبياً بشهادته لما نطق حال ولادته “إني عبد
الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً” (مريم 30)؛ بل نبوته ترتقي إلى ما قبل
الولادة، إذ هو كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه” (نساء 171). وقد انفرد
هذا “النبي” بخوارق شخصه ورسالته.

وهو
الرسول” أيضاً: لا يجعل القرآن عادة فرقاً بين النبي والرسول.
وقالوا أن الرسول هو النبي الذي اختصه الله بشرع جديد، مثل إبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد. إنه رسول الله “إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله” (نساء 170).
إنه “رسول إلى بني إسرائيل” (آل عمران 49) امتازت رسالته بتمام الوحي
فيه “ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل”
(آل عمران 48 و49). فانفردت رسالته بخوارق لا مثيل لها في تاريخ النبوة والرسالة
من إبراءْ، إلى إحياء، إلى خلق (آل عمران 49). واختصت بتأييد الروح القدس، روح
الله (بقرة 78 و53، مائدة 113).

وهو
الغلام الزكي” (مريم 18) جسداً ونفساً؛ وحده وُلد بحال البتولية،
ووحده وُلد بدون مس الشيطان، ووحده عاش “طاهراً بريئاً من الذنوب”
(البيضاوي)، ووحده عاش “لا يصيب من الذنوب كما يصيب سائر بني آدم حتى
الأنبياء منهم” (قتادة)، ووحده لا ينسب إليه إثم على الإطلاق.

وهو
المبارك” أينما كان: حمل هذه البشرى معه منذ مولده “وجعلني
مباركاً أينما كنت” (مريم 31)؛ وظل في كل لحظة، وفي كل موقف من مواقف حياته
“المبارك” أينما كان. فأي نبي خصه الله بمثل هذه البركة في كل دقائق
حياته “أين ما كنت”؟ من لا تتغلب عليه في ساعة من ساعات حياته عوامل
البشرية، ومواطن الضعف، فلا يكون فيها “مباركاً”؟؟ لقد جاء محمد خاتم
النبيين: “وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وإذن
لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً” (إسراء
73) وأيضاً “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر” (فتح)؛ وجاء عن سائر المرسلين:

“وما
أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنى (قرأ) ألفى الشيطان في
أمنيته”! إنما واحد أحد رافقته البركة والنعمة، وتأييد الروح القدس من المهد
إلى اللحد ومن الدنيا إلى الآخرة “وجعلني مباركاً أين ما كنت”، هو عيسى
ابن مريم.

وهو
البتول” دائماً: وُلد من بتول، وعاش بتولاً، وارتفع بتولاً لا
يذكر له القرآن والإنجيل زوجة ولا أولاداً، ولا يُسندان إليه كنيسة ولد، ولا
يلمحان إلى علاقة له بالنساء، ولم يمد عينيه إلى ما متع به الله أزواجاً منهم.
بينما القرآن يزخر بحوادث النساء عند غيره، ولم يكتم في نفسه ما الله مبديه.. وحده
مع يحيي بن زكرنا كان “حصوراً” ارتفع فوق حاجة الرجل إلى امرأة. إنه
البتول.

وهو
المثل” الأعلى: “وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل” (زخرف
58)؛ والقرآن لا يعرض غيره مثلاً[2]. فقد حقق
المثل الأعلى في التقوى والفضيلة والقداسة: “وأوصاني بالصلوة والزكوة مادمت
حياً! وبراً بوالدتي! ولم يجعلني جباراً شقياً!” (مريم 32). ويكفيه فخراً أن
القرآن ينزهه عن كل إثم ومنقصة. فهو المثل الذي لا تشوبه شائبة.

هو
الوجيه في الدنيا والآخرة” (آل عمران 45) قالوا بالإجماع، كما
رأينا، الوجاهة في الدنيا هي النبوءة، وفي الآخرة هي الشفاعة. زاد الرازي هي
براءته من العيوب في الدنيا وكثرة ثوابه في الآخرة، واستجابة دعائه في الدنيا،
وعلو درجته ومنزلته في الآخرة. لا بل أكثر من ذلك، فوصفه بالوجاهة يعني زعامة في
النبوءة، وزعامة في الشفاعة، والتقدم، والدرجات العلى. هو “وجه”
الأنبياء والمرسلين، المقدم في الدنيا عليهم، والمقرب في الآخرة من عرش الجلالة
“فقد ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله” (خاتمة إنجيل مرقس).

وهكذا،
فألقاب المسيح النبوية تظهر المسيح وحده “آية للعالمين” بين الأنبياء
والمرسلين. قبل ظهوره يقول القرآن عنه “قال ربك: هو علي هين: ولنجعله آية
للناس ورحمة منا! وكان أمراً مقضياً” (مريم 21) وبعد ظهوره يقول
“وجعلناها وابنها آية للعالمين” (أنبياء 91) مشكراً الأم في شرف ابنها
فهو آية بشخصه، آية بحياته، آية برسالته. ففي تاريخ النبوة المسيح وحده “آية
الله للعالمين”: وهذه الصفة موجز كل الألقاب.

هذه
الألقاب النبوية تجعل وحدها عيسى ابن مريم نبي الأنبياء في القرآن. وتدل وحدها
دلالة كافية على سمو رسالته وشخصيته اللتين انفرد بهما.

 

ثانياً: ألقاب المسيح الإلهية في القرآن:

“إنما
المسيح، عيسى ابن مرين، رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه”
(نساء 170)

هناك
في القرآن الكريم، بين النعوت والصفات، والأسماء والألقاب التي تكلل هامة المسيح
بمجد لا يُدانى، ثلاثة ألقاب انفرد بها المسيح دون سواه من الأنبياء والمرسلين،
والأولياء والصالحين، والملائكة المقربين: “إنما المسيح، عيسى ابن مريم، رسول
الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه” (نساء 170).

فعيسى
ابن مريم هو مسيح الله.

وعيسى
ابن مريم هو كلمة الله.

وعيسى
ابن مريم هو روح الله.

في
هذه الصفات والألقاب تعريف بالمسيح أبلغ وأسمى من كل تعريف. فهي بحد ذاتها، مهما
كان معناها، تحديد لشخصيته يرفعها فوق الجميع؛ وهي كما فسرها المسلمون تبين عظمة
المسيح الوحيدة في العالمين. وهي في معناها الكامل – على ضوء التوراة والنبيين
والإنجيل حيث اقتبسها القرآن وصدقها وشهد لها – ترفع المسيح فوق المخلوقين إلى صلة
ذاتية خاصة مع الخالق.

ونقر
منذ البدء أن لنا الحق كله بأن نفهم على ضوء التوراة والنبيين والإنجيل ما غمض في
القرآن من النقاط المشتركة لأن القرآن ذاته، في حالة الشك من شهادته أو من فهمها،
يحيلنا إلى الكتاب: “فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرأون
الكتاب من قبلك” (يونس 94).

1
– عيسى ابن مريم هو مسيح الله:

“إذ
قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح”
(آل عمران
45)

عيسى
ابن مريم هو
المسيح “إنما المسيح، عيسى ابن مريم” (نساء
170).

المسيح
هو اسم لعيسى ابن مريم، وليس لقباً فقط: “يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه: اسمه
المسيح” (آل عمران 45).

الملائكة
تبشر بهذا الاسم، وهي تحمله معها من السماء إلى الأرض. والله ذاته يبشر به العذراء،
بواسطة الملائكة: “إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه
المسيح”.

فهو
اسم سماوي إلهي أوحى به الله مباشرة.

وعندما
يوحي الله اسماً يعلق عليه رسالة خاصة: فالاسم دليل الشخصز ومهما كان معنى هذا
الاسم العجيب، فإنه يعني أن (الله مسحه وأرسله) “رحمة وآية للعالمين”.

لقد
سبق الله في التوراة والأنبياء فأخبر عنه، ووصف شخصه ورسالته. ولما جاء القرآن،
وصدق هذا الاسم لعيسى ابن مريم، وشهد للإنجيل والتوراة، دل على أن عيسى ابن مريم
هو مسيح الله المنتظر، موضوع أحلام وآمال البشرية جيلاً بعد جيل؛ ودل دلالة واضحة
علىأنه هو هو حامل الرسالة العظمى التي تنبأ عنها الأنبياء ووصفوها في شخصه.

ولما
أعلن القرآن أن عيسى ابن مريم هو المسيح الموعود به شهد لما قالته التوراة عنه،
وشهد لما قاله الإنجيل عنه. وباعتراف القرآن لعيسى بهذا الاسم أقر بأنه أتم
الرسالة التي علقها كتاب الله على هذا الاسم الجليل.

التوراة
والأنبياء سموا “النبي” الأعظم باسمه “المسيح”. والإنجيل
والقرآن يشهدان أن عيسى ابن مريم هو المسيح أي النبي الموعود به “اسمه
المسيح” (ىل عمران 45).

ولو
فتشت القرآن كله لما وجدت سوى عيسى ابن مريم وحده، بين الأنبياء والمرسلين، قد
انفرد باسم “المسيح”، وانفراده به ميزة خُص بها دون سواه.

وقد
ذهب المفسرون في تفسير هذا الاسم الفخيم، المثقل بنبوات الأنبياء الأولين، مذاهب
شتى. ولكن كلها تنطوي على عظمة شخصية المسيح. وعلى عظمة رسالته اللتين دل عليها
“اسمه المسيح”.

قال
البيضاوي: “المسيح لقبه. وهو من الألقاب المشرفة كالصديق. واصله بالعبرية
“مشيحا” ومعناه المبارك[3]. سمي كذلك:

               
لأنه مُسح بالبركة (ولم يُمسح غيره بالبركة).

               
أو مُسح بما طهره من الذنوب (ولم ينل غيره مسحة
طاهرة مطهرة مثله).

               
أو مسح الأرض ولم يقم في موضع (وهل يستطيع غيره
ذلك)؟

               
أو مسحه جبريل صوناً له من مس الشيطان”
(ولم يُصن أحد غيره بمثل هذه المسحة).

وقال
الرازي: “المسيح: هل هو اسم مشتق او موضوع؟ أصله بالعبرية “مشيحا”
فعربته العرب وغيروا لفظه: وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والأكثرون أنه مشتق[4]
موضوع:

               
قال ابن عباس: إنما سمي مسيحاص لأنه ما كان يمسح
بيده ذا عاهة إلا برئ من مرضه.

               
قال أحمد ابن يحيي: لأنه كان يمسح الأرض أي
يقطعها في المدة القليلة.

               
قال غيره: لأنه كان يمسح رأس اليتامة لله تعالى.

               
لأنه مُسح من الأوزار والآثام.

               
لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به
الأنبياء ولا يُمسح به غيرهم[5].

               
لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن”.

تعود
تفاسير مسحة المسيح إلى معنيين: إنه مُسح من الخطيئة، في ولادته “مسحه
جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مس الشيطان”، وفي حياته كلها
“مُسح بما طهره من الذنوب، مُسح من الأوزار والآثام”. ثم نال مسحة
النبوة الكاملة “مُسح بالبركة. إنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به
الأنبياء”. وذلك من بطن أمه “إنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن”
وفي هذه المسحة من بطن أمه للرسالة الكاملة سر شخصيته وسر عظمته التي يحوم حولها
المفسرون ولا يجرأون على التصريح بها.

 

والمعنى
الكامل لاسم “المسيح” يجب أن نفهمه في القرآن على ضوء الإنجيل والأنبياء
الأولين والتوراة، التي أخذ القرآن عنها (أعلى 18، 19، مريم 15) ويصدقها (بقرة 41
و89 و91و 101).

فموسى
يعتبر المسيح “النبي” خاتمة سلسلة أنبياء الكتاب.

وداود
في زبوره يدعوه: الرب والملك والكاهن. وداود أول من يسميه المسيح.

وإشعياء
يمسي المسيح المنتظر “عمانوئيل أي الله معنا” وينشد متنبئاً في
شأن مولده: “قد وُلد لنا ولد، وأعطي لنا ابن؛ صارت رئاسته على كتفه، ولا حد
لسلامه؛ ويجعى اسمه رسول المشورة العظيمة؛ مشيراً عجيباً؛ إلهاً قوياً؛ سلطاناً؛
رئيس السلام؛ ابا الدهر الآيت؛ ومخارجه منذ الأزل“.

ودانيال
يراه دياناً للعالم آتياً على سحاب السماء في “هيئة ابن الإنسان“.

فلقب
المسيح في الكتاب مثقل بالمعاني النبوية الكثيرة.

وقد
نقل الشهرستاني[6] نظرية
الكتاب كما يقول بها المسيحيون: “كمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء: نبوة
وإمامة وملكية. وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الخصال الثلاث[7]
أو ببعضها. والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له، ولا
قياس له إلى غيره من الأنبياء؛ وهو الذي به غفر زلة آدم عليه السلام. وهو الذي
يحاسب الخلق”.

فمسحة
المسيح التي مسحه الله بها هي “نبوة وإمامة وملكية”. فالمسيح هو النبي
الأعظم والإمام أو الكاهن الأعظم والملك الأعظم. واختصاصه “باسم المسيح”،
لهذه المسحات الثلاث، دليل على كمالها[8] فيه حتى
عُرف بها وعرفت به.

والقرآن
الكريم، على آثار التوراة والأنبياء والإنجيل، إذ يعترف لعيسى ابن مريم، باختصاصه
“باسم المسيح” (أل للتعريف والفردية)، يقر له بكل تلك الخصال. فمسحة
النبوة ومسحة الإمامية أو الكهنوت ومسحة الملكية انتهت إليه واستكملت فيه.

فهو
“مسيح الله” بين الأنبياء والمرسلين من قبل أن يظهر ومن بعد: “إذ
قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح“.

ذلك
هو معنى “المسيح” في القرآن والإنجيل والتوراة.

 

2–
عيسى ابن مريم هو كلمة الله:

“إنما
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم”
(نساء 170)

النصوص:

كل
البشارات في القرآن تبشر بعيسى ابن مريم أنه “كلمة الله”.

الله
يبشر زكريا بيحيي، وعلامة نبوته تصديقه بكلمة الله: “فنادته الملائكة وهو
قائم يصلي في المحراب: إن الله يبشرك بيحيي، مصدقاً بكلمةمن الله، وسيداً وحصوراً
ونبياً من الصالحين” (آل عمران 39). أولى صفات يحيي أنه مصدق بكلمة من الله
أي بعيسى ابن مريم، إنه كلمة “كائنة” من الله (الجلالان).

الله
يبشر مريم مباشرة مبكلمة منه: “إذ قالت الملائكة يا مريم أن الله يبشرك بكلمة
منه
اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين”
(آل عمران 45). أولى صفات مولود مريم وأول ألقابه التي تسمع به مريم هو أنه
“كلمة الله”.

ومريم
صدقت بالمسيح وإنجيله فسميت “الصديقة” (مائدة 78): جاء في سورة التحريم
في قراءة صحيحة: “ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا.
وصدقت بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين (12).

والقرآن
الكريم عندما أراد أن يستجمع أوصال وألقاب المسيح ليعرف به بلقبه بهذا اللقب
العظيم الفريد: “يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا
الحق: إنما المسيح ابن مريم، رسول الله، وكلمته – ألقاها إلى مريم – وروح
منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا “ثلاثة”! انتهوا، خير لكم: إنما
الله إله واحد! سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى
بالله وكيلاً. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون”
(نساء 170 و171).

إن
وجود هذا اللقب الوحيد الذي يخص القرآن به عيسى ابن مريم وحده، يخلق أشكالاً
ومشكلة في القرآن: فالقرائن تدل على أنه يختلف في مفهومه ومدلوله عما يصرح به
القرآن عن عيسى ابن مريم؛ وهو حجر عثرة أيضاً عند المفسرين فهم يخبطون خبط عشواء
في تفسيره: يرون فيه أكثر مما يقرون ولا يجهرون. ولا يُفهم معنى اللقب الكامل إلا
بمقارنته بالإنجيل الذي نُقل عنه وقد سبق إلى تعريف المسيح به.

معناه
في القرآن:

ما
معنى هذا اللقب الفريد في القرآن؟

لا
نجهل أن هذا اللقب السامي لا يحمل في القرآن عامة أدنى معنى للألوهية.
فالقرآن ينكر بوجه عام بنوة المسيح الإلهية من الله، وأن قبل نبوءته ورفعه بها فوق
الجميع[9] (وموقف
القرآن من هذا اللقب خصوصاً يتضح من تعريفه الشهير في الىية 170 من سورة النساء: إنه
كلمة الله!
ولكن ليس لهذا الكلمة صفة الألوهية: صدر الآية ينهى عن هذا الغلو
في الدين: “يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا
الحق”؛ وعجز الآية يعدد ثمانية دلائل تنفي ألوهية هذا الكلمة: 1) أنه رسول من
رسل الله “فآمنوا بالله ورسله” 2) الإقرار بألوهية الكلمة ينتهي إلى
القول “بالثلاثة” ولا تقولوا: ثلاثة، 3) “انتهوا، خير لكم، 4)
“إنما الله إله واحد” فلا يمكن أن يكون الكلمة إلهاً معه، 5) وكيف يكون
الكلمة إلهاً إلا بولادة الله له، “سبحانه أن يكون له ولد”، 6) فكل ما
عدا الله ملك وعبيد لله “له ما في السماوات وما في الأرض”، 7) ولسنا
بحاجة إلى غير الله “وكفى بالله وكيلاً”، 8) فالكلمة عبد الله مثل
الملائكة المقربين، لا إله “لن يستنكف المسيح أن يكون عبداص لله ولا الملائكة
المقربون”.

أما
في الإنجيل فمعنى هذا اللقب الإلهي صريح: مطلع إنجيل يوحنا يكفي برهاناً قاطعاً.
والمشكلة بين الكتابين في هذا: كيف نقل القرآن عن الإنجيل هذا اللقب الإلهي مجرداً
عن ألوهيته؟ والحل الصحيح ليس في نقض الإنجيل أو القرآن بل في التوفيق بينهما ما
أمكن..

معناه
عند المفسرين:

وبين
المفسرين أيضاً تقوم المشكلة على هذا: هل يعني تعبير “الكلمة” اسم شخص
أم مجرد “أمر” إلهي؟

لقد
أجمع القوم على أن “كلمة الله” تعني “أمره”. وقد تعني
“وحيه” أو “كلامه الموحى به”.

جاء في الجلالين عن آل عمران 39 “مصدقاً بكلمة من
الله”: كائنة من الله أي بعيسى أنه روح الله. وسمي كلمة لأنه خُلق
بكلمةكن!” وفي آل عمران 45 يمر على التعبير دون أن يشرحه مما يدل على تحذر.
وفي سورة النساء 170 يمر بالاسم مرور الكرام؛ مكتفياً بالإشارة الأولى: “سُمي
كلمة لأنه خلق بكلمة كن!” – ونقول لماذا وحده سمي بهذا الاسم “كلمة
الله” وقد خُلق البشر كلهم والأنبياء والمرسلون، والملائكة المقربون بكلمة
“كن”، ولم يقل الإنجيل والقرآن والتوراة عن أحد من المخلوقين أن
“اسمه كلمة الله”؟ ثم كيف “روح الله” يكون مجرد أمر؟ أليس في
التفسيرين تناقض وارتباك؟!

وجاء
في البيضاوي: “مصدقاً بكلمة من الله” (ىل عمران 39) أي بعيسى، سُمي بذلك
لأنه وُجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر؛ أو بكتاب
الله”. – ليس المعنى الثاني مقصوداً. ثم أليس كل الأنبياء والصالحين وجدوا
بأمره” تعالى؟ فلماذا لم يسم الإنجيل والقرآن أحداً منهم
“كلمة الله”، واختص عيسى ابن مريم وحده بهذا الاسم؟ وعلى الآية 45 منها
يمر مرور الكرام مع أنه يعدد الأسماء والأحوال التي يصف القرآن بها
“الكلمة” الذي يبشر به الله مريم. كذلك في الآية 170 من النساء. كأنه
يشعر بخطر هذا اللقب فيتحاشى عن سبر معانيه.

وقال
الزمخشري: “مصدقاً بكلمة من الله، مصدقاً بعيسى مؤمناً به؛ قيل هو أول من آمن
به؛ وسمي عيسى كلمة لنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها وهي قوله “كن” من
غير سبب آخر. وقيل مؤمناً بكتاب منه تعالى”: ولكن ليس المعنى الثاني مطلوباً
لأن أوصاف يحيي نبوة عنه للمستقبل وليس إخباراً عن الماضي حتى تعني الكتاب المنزل
قبله. ونجيب الزمخشري وسائر المفسرين الذين قصروا معنى “الكلمة” علىأمره
تعالى “كن” من غير سبب آخر: لماذا آدم لم يسمه القرآن والإنجيل والتوراة
“كلمة” مع أن خلقه أغرب من خلق عيسى كما يذكر “أن مثل عيسى عند
الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن، فيكون!” (آل عمران 59) فآدم أحق
البشر بلقب “كلمة” لأنه أول من وُجد بكلمة “كن” الخلاقة من
غير سبب آخر البتة؟!

وقال
الرازي: “مصدقاً بكلمة من الله” أي كتاب من الله، وهو قول أبي عبيدة؛
واختيار الجمهور أن المراد بكلمة الله هو عيسى. وكان يحيي أول من آمن وصدق بأنه
كلمة الله وروحه. وسمي عيسى كلمة الله من وجوه: 1) أنه خُلق بكلمة الله وهو قوله
“كن” من غير واسطة الآب كما يسمى المخلوق خلقاً وهو بابا مشهور في
اللغة؛ 2) أنه تكلم في الطفولية وأتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه
متكلماً بالغاً عظيماً فسمي كلمة أي كاملاً في الكلام؛ 3) أن الكلمة كما أنها تفيد
المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية كما سمي القرآن
“روحاً”؛ 4) أنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به كما قال “وحقت كلمة
ربك؛ 5) إن الإنسان يسمى فضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم
“كلمة الله وروح الله”. واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول
أهل السنة صفة قديمة قائمة بذات الله”. وأضاف في آل عمران (45): “سمي
كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له بوجوده المعجز أو لأنه أبان كلمة
الله أفضل بيان”؛ وفي النساء 170 يختار منها ما أجمع عليه القوم: “المعنى
أنه وُجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة”.

ونجيب
عليها جميعاً: كل هذه التعريفات تنطبق على سائل اأنبياء، في عرفهم، وخصوصاً على
خاتم النبيين: فلماذا لم يسم القرآن محمداً “كلمة الله”، وهو عندهم
“أول خلق الله”، وخاتم رسل الله وأكملهم في الكلام المعجز، وقرآنه
“روح من أمره” تعالى، وقالوا أنه هو النبي الأمي المكتوب عندهم في
التوراة والإنجيل فبه حقت أكثر منعيسى كلمة الله، وقد جاء رحمة للعالمين كافة فهو
أحق أن يكون “عين كلمة الله”، وقد أبان كلمة الله الأخيرة، خير بيان
وأفضله؟!. فالقرآن يشهد بأن عيسى وحده دون العالمين خُص بهذا اللقب العظيم،
حتى صار اسم علم له. وليس ذلك مجرد اسم علم، بل دلالة على أن كلمة الله هي كلامه،
“وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله” على قول أهل السنة.

وهكذا
فاختيار الجمهور أن “كلمة الله” لقب لعيسى ابن مريم؛ وهذا اللقب يعني
كلام الله الخارجي لا كلام الله الداخلي القائم بذات الله على حد قول أهل السنة.

اجتهادنا:

وعندنا
أن النصوص واضحة تعني اسم شخص لا مجرد أمر إلهي.

فالله
تعالى يبشر زكريا بيحيي ويصفه بأنه أول من يصدق بعيسى أنه “كلمة الله”
(آل عمران 39)؛ ويحيي ليس أول من آمن بكلام الله ولا أفضل من آمن به، بل يحيي أول
من آمن بعيسى أنه “كلمة الله” وهو يصدق بشخص اسمه “كلمة
الله” وليس بمجرد أمر أو صفة. وجاء يحيي ليصدق ويبشر “بكلمة الله”
الشخص المنتظر.

ومريم
آمنت “بكلمة ربها وكتابه” (تحريم 12) والنص هنا يوضح بأن كلمة الرب غير
كتاب الرب. فهي آمنت بعيسى وإنجيله؛ آمنت بابنها النبي وبكتابه.

الملائكة
تبشر مريم بولد وليس بأمر أو بمجرد كلام: “إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله
يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم” (آل عمران 45) ليس أوضح ولا
أصرح: “فالكلمة” المبشر به “اسمه المسيح” ويؤكده “عيسى،
ابن مريم”: ثلاثة أسماء علم مشهورة تصف “الكلمة”.

ومن
يقرأ هذه الآية بإخلاص “غنما المسيح، عيسى، ابن مريم: رسول الله، وكلمته
ألقاها إلى مريم، وروح منه” (نساء 170) لا يستطيع إلا الإقرار بديهياً أن
“الكلمة” اسم شخص لوروده بين الاسمين “رسول الله.. وروح
الله”، فهو مراجف للأسماء المحيطة به، وهو خبر ثان معطوف على رسول الله
وكلاهما خبران للمسيح عيسى ابن مريم؛ “وروح منه” خبر ثالث معطوف على
“كلمته” يوضحه ويؤكده. فكلمته لقب بين ألقاب تعني شخص المسيح، فكيف يكون
مجرد أمر؟!

وإلى
ذلك فإن لفظ “الكلمة” ورد في آل عمران (45) مذكراً “بكلمة اسمه المسيح”
فالهاء في “اسمه” تعود إلى كائن ذكر؛ واما قوله في النساء
“كلمته ألقاها إلى مريم” فأنثها حملاً على اللفظ، لأن معنى التذكير صريح
من الأسماء الثلاثة المحيطة به “رسول الله وكلمته وروح منه”.

فهذا
“الكلمة” الملقى إلى مريم هو “روح من الله” فكيف يكون مجرد
أمر؟ هو “رسول الله” فكيف يكون مجرد كلام؟ هو “المسيح عيسى ابن
مريم” فكيف يكون شيئاً لا شخصاً؟ لا جرم إن الأمر الإلهي خلاق ولكن ليس له
صلة مولود برحم مريم.

“والكلمة”
المبشر به له اسم معروف “اسمه المسيح عيسى ابن مريم” (ىل عمران 45)،
“والكلمة” الملقاة إلى مريم اسم شخص له خمسة ألقاب غيرها تحيط بها
وتوضحها (نساء 170)؛ فوجودها بينها يدل على أنها مثلها اسم علم لعيسى.

“ألقاها”:
فالكلمة الملقاة كائنة قبل أن تلقى إلىمريم وقبل مريم: فهذا الابن الذي سيولد،
موجود قبل أمه!!

“يبشرك
بكلمة منه” مولود مريم كائن قبل مريم وهو “منه” أي من الله لا من
العدم! بل لا يمكن أن يكون من العدم كسائر المخلوقين لأنه “كلمة من
الله”.

“منه”
تدل على صلة المصدر: قال البيضاوي “ذو روح صدر منه” إذن عن طريق الصدور
لا عن طريق الخلق؛ وإلا فما معنى هذه التأكيدات التي خص بها: “كلمته، كلمة
منه، روح منه” إذا كان يتساوى في طريقة وأصل وجوده مع سائر الناس؟

ورسول
الله، المسيح عيسى ابن مريم، امتاز بين الرسل بأنه “كلمة الله وروح
الله” (نساء 170) ولقب روح الله يوضح أن الكلمة شخص لا مجرد كلام. وأن هذا
الشخص “الكلمة” هو “روح الله” أو “روح من الله” على
السواء. وهذان اللقبان يصفان رسول الله المسيح أفضل وأكمل وصف يميزه عن سائر
الأنبياء والمرسلين، بعلاقة مصدرية أقنومية عقلية روحية إلهية.

“فكلمة
الله” المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وروحه، ليس هو إذن كلام الله الخارجي
الذي يخلق به الله أو يأمر به أو يوحي به: بل هو كلام الله الداخلي الجوهري
“القائم بذات الله”.

“صفة
قديمة قائمة بذات الله”:

 لقد
حدد “أهل السنةأن كلمة الله صفة قديمة قائمة بذات الله” (الرازي) فكلام
الله الخارجي مخلوق حتماً إذ يستحيل أن يتجزأ الخالق، وهذا هو كلام الخلق والوحي.
أما كلام الله الذي به يعقل ذاته وبذاته يعقل غيره، فهو غير مخلوق، هو منه وفيه؛
فذاته تعقل ذاتها، لذلك كلام الله الذاتي صفة قديمة قائمة بذات الله. هذا ما فهمه
الراسخون في العلم منهم وإن أبوا تطبيقه على اسم المسيح “كلمة الله”.
لذلك، فإن “كلمة الله”، الاسم العلم لعيسى ابن مريمن كائن من قبل أن
يلقى إلى مريم، إنه “صفة قديمة قائمة بذات الله”. وهدا ما يتضح جلياً من
إنجيل يوحنا حيث ورد هذا اللقب الفخيم علماً للمسيح لأول مرة:

قال
في وصف جوهره: “في البدء كان الكلمة

والكلمة
كان لدى الله

وكان
الكلمة الله؛”

وقال
يصف عمله: “كان ذاك منذ البدء لدى الله.

به
كُون كل شيء: وبدونه لم يكن شيء واحد مما كوِّن.

فيه
كانت الحياة..

أما
النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، فكان آتياً إلى العالم..

وقال
يصف اتصاله بخلقه، بواسطة تجسده منمريم بمعجزة إلهية:

“والكلمة
صار جسداً وسكن في ما بيننا.

وقد
شاهدنا مجده، مجداً من الىب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقاً فإن الناموس قد أعطي
بموسى؛ وأما النعمة والحقيقة فبيسوع المسيح قد حصلا..”

وختم
يصف مصدر معرفة هذه الأسرار الإلهية: سر وجود الكلمة الإلهي، وعمله في الخلق،
وإلقاءه إلى مريم فيتجسد:

“الله
لم يره أحد قط:

الإله،
الابن الوحيد، الذي في حضن الآب هو نفسه قد أخبر” (يوحنا 1: 1-18).

ويبرهن
الإنجيل كله، من أعمال وأقوال عيسى ابن مريم، أن عيسى هو المسيح الكلمة الأزلي
الذي ألقاه الله إلى مريم آية للناس ورحمة منه تعالى. والقرآن يشهد ضمناً بذلك بأخذ
لقب “الكلمة” عن الإنجيل وإسناده إلى المسيح عيسى ابن مريم، وإن هو نفى
ظاهرياً ألوهية المسيح “كلمة الله”، فإنما ينكر لاهوتاً غريباً عن ذات
الله الواحدة، ولا يقصد إلى إنكار لاهوت “كلمة الله” “القائمة بذات
الله”، والتي بها الذات الإلهية تعقل ذاتها: “قل إن كان للرحمن ولد فأنا
أول العابدين” (زخرف 81)! إن في هذه الآية لمفتاح النور الذي يكشف التعارض
القائم بين موقف القرآن الظاهري مننفي ألوهية المسيح وموقفه الحقيقي الناتج من
النصوص التي بها يسمي عيسى ابن مريم “كلمة الله” كاسم علم يوضح سر
شخصيتهز وهكذا يشهد القرآن للإنجيل ويصدقه.

رد
تفسيرهم:

ذاك
هو “القول الحق” الذي فيه يمنزون. قال الأستاذان مصطفىخالدي وعمر فروخ[10]
في الرد على تفسيرنا “النصراني” الذي به نفهم نصوص القرآن عن اسم المسيح
“كلمة الله”: “وفي بعض الأحيان يختار المبشرون موضوعات إسلامية لها
مقابل في النصرانية ثم يموهون الحقائق ويقزون فوق الفروق. إن القرآن الكريم يسمي
المسيح “كلمة الله”. ومعنى ذلك أن الله تعالى ألقى كلمته أي أمره (!)
بأن يولد المسيح على ذلك الوجه المعجز في التاريخ. ولكن المبشرين يأخذون
“كلمة الله” ليفسروها التفسير النصراني. ووجه الخلاف أن كل شيء في هذا
العالم، كما يرى المسلمون، كان بأمر الله “إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول
له كن فيكون” (يس 82)؛ أما النصارى فيعتقدون أن التعبير “كلمة
الله” تعبير خاص بالنصرانية يجب أن يُفهم على أن المقصود به عيسى ابن مريم
وحدهن وأنه دال على الألوهية في المسيح. وللمبشرين أني فهموا ذلك كما يريدون؛ ولكن
ليس لهم ان يقولوا على الإسلام ما لا يعلمون. إن كل موجود وكل حادث في العالم أمر
يُلقى من الله “إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون”. وفي
القرآن آيات كريمات تجعل عيسى كآدم مثلاً، وتجعل آدم يتلقى من ربه
“كلمات” لا كلمة واحدة[11]: “إن
مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون” (آل عمران 59)
“فتلقى آدم من ربه كلمات، فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم” (بقرة 37).

لقد وضعنا أمام القارئ المنصف، مسلماً كان أم مسيحياً،
عناصر القضية كلها ليرى هل نحن في التفسير النصراني “لكلمة الله” الذي
يسمي به القرآن عيسى ابن مريم، نُموه الحقائق ونقفز فوق الفروق، ونقول على الإسلام
ما لا نعلم إرضاءً لشهوة التبشير. بل هو قول الحق، حسب الدرس العلمي النزيهز فنصوص
القرآن الكريم عن “كلمة الله” عيسى ابن مريم أقرب في مبناها ومعناها إلى
انسجام حقيقي خفي بين الإنجيل والقرآن منها إلى تعارض ظاهر يتعلق به الذين لا
يعلمون “وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؟ قل: “إنما
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه”.

 

3
– عيسى ابن مريم هو روح الله:

“إنما
المسيح عيسى ابن مريم.. روح منه” (نساء 170).

“الروح”
في القرآن:

يأخذ
القرآن “الروح” بمعاني عديدة مختلفة:

فمرات
يظهر أن الروح ملاك: “تنزل الملائكة والروح فيها (ليلة القدر) بإذن
ربهم” (قدر 4) ثم “يوم يقوم الملائكة والروح صفاً” (نبأ 138) ثم
“تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” (معارج 4).

ومرات
يظهر أن الروح سيد الملائكة: “ينزل الملائكة بالروح من أمره على من
يشاء” (نحل 2).

ومرات
يجعل الروح من نصيب كل الأنبياء: “يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده
لينذر يوم التلاق” (غافر 15) ومرات يجعل الروح وحياً: “وكذلك أوحينا
إليك روحاً من أمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي
به من نشاء من عبادنا” (شورى 52): فتارة الروح وحي، وتارة الروح واسطة الوحي.

بل
يجعل الروح من نصيب كل المؤمنين يؤيدهم في إيمانهم: “أولئك كتب في قلوبهم
الإيمان وأيدهم بروح منه” (مجادلة 52): فهل الروح هنا ملاك أم قوة من الله أم
عون معنوي؟

والروح،
والروح الأمين، وروح القدس هو جبريل أوحى إلى محمد: “وكذلك أوحينا إليك روحاً
من أمرنا” (شورى 52) “نزل به الروح الأمين على قلبك” (شعراء 193)
“قل نزله روح القدس من ربك بالحق” (نحل 102) “قل من كان عدواً
لجبريل فإنه نزله على قلبك” (بقرة 97). وبما أن القرآن يسمي الروح الذي يوحي
غلى محمد، أي جبريل، فلا سبيل بعد إلى تأويل الروح الأمين أو روح القدس المذكور
هنا بغيره، ولا إلى خلط “روح القدس” الموحي إلى محمد “بروح
القدس” الذي أيد المسيح.

فالروح
الذي أيد المسيح يتصف بالقدس اختصاصاً، وامتيازاً له عن غيره: “وقفينا
علىآثارهم بعيسى ابن مريم وايدناه بروح القدس” (بقرة 87 و253). بهذا الروح
القدس امتازت شخصية المسيح ورسالته بالخوارق الخارقة: “يا عيسى ابن مريم اذكر
نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.. فيعمل معجزات على الأرض ومعجزات من
السماء كإنزال المائدة” (مائدة 113 – 119).

وروح
القدس هذا يتميز عن الروح الذي بشر مريم بعيسى: “فارسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشراً سوياً” (مريم 16) فهذا الروح ملاك من ملائكة البشارة: “إذ
قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح” (آل عمران 45).

وروح
البشارة يتميز عن الروح الملقى أو المنفوخ في مريم: “والتي أحصنت فرجها
فنفخنا فيها من روحنا” (أنبياء 91) “ومريم ابنت عمران التي أحصنت
فرجها فنفخنا فيه من روحنا” (تحريم 12). في هذين النصين قد يكون الروح
نافخاً أو منفوخاً؛ فعلى معنى الفاعل “من روحنا” يعني الملاك النافخ
وعلى معنى المفعول “من روحنا” يعني الروح المنفوخ في مريم أو في فرجها
أي روح عيسى الذي كونه في رحم أمه مريم. وهذا الروح الذي كونه هو روح من الله
ألقاه إلى مريم: “إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله وكلمته – ألقاها إلى
مريم – وروح منه” (نساء 170).

وهكذا
فالروح في القرآن إما شيء وإما شخص؛ و”الشخص الروح” ملاك من اللمئكة
كجبريل الذي يوحي إلى محمد، أو كالملاك الذي يبشر زكريا أو مريم أو ملاك آخر؛
“والروح – الشخص” الذي يؤيد المسيح في رسالته غير الروح الذي منه تكون
عيسى في رحم مريم[12].

 فالمسيح
“روح الله أو روح من الله” غير روح القدس الذي أيده.

والقرآن
بإسناده هذا اللقبل “روح منه” (نساء 170) إلى المسيح يعطي عيسى ابن مريم
اسماً يفوق كل اسم، به تُعرف شخصيته ويحدد معنى اللقب السابق “كلمته ألقاها
إلى مريم” (نساء 170).

“الروح”
عند المفسرين:

فما
معنى قوله “عيسى ابن مريم روح منه تعالى” في الآية الشهيرة؟

قالوا
معناه ما ورد عن آدم “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”
(حجر 19)، “ثم سواه ونفخ فيه من روحه” (سجدة 9)؛ وعن مريم “فنفخنا
فيها من روحنا” (انبياء 91)، “فنفخنا فيه من روحنا” (تحريم 12)
بدليل المبدأ العام “إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن
فيكون” (آل عمران 59). فكما نفخ الروح في آدم نفخ أيضاً في مريم!

وفاتهم
الفرق العظيم والبون الشاسع بين التعبيرين: فعن آدم ومريم فالروح نافخ فيهما، أما
عن المسيح فهو روح منفوخ، ملقى إلى مريم.

في
الأول الروح وآدم أو مريم متميزان، أما في الثاني “فروح منه” والمسيح
شخص واحد على حد التحديد: “إنما المسيح.. روح منه”: فروح منه خبر ثالث
من المبتدأ أي المسيح.

وهب
أن قوله “من روحي” (حجر 29، سجدة 9 وغيرها) تُحمل على المفعول فتعني
الروح المفوخ في آدم أو المنفوخ في مريم فهذا يعني مشاكلة الصدور، ولا يعني
قطعاً مشابهة الروح الصادر من الله.

على أن بين التعبيرين فرقاً ظاهراً “فنفخنا فيه (في
آدم وفي فرجها) من روحنا” ثم “روح منه”: ففي الأول
يكون آدم والمسيح من روح الله؛ وفي الثاني يكون المسيح “روح
الله”.

فكما
أن المسيح هو كلمة الله، فهو أيضاً روح الله؛ والقرآن يجمع بين التعبيرين في شأن
المسيح فهو روح الله الذي ألقاه إلى مريم بنفخة من روحه.

ففي
قوله “من روحه” يعبر عن صدوره من الله؛ وفي قوله “روح منه”
يعبر عما هو في ذاته.

فلفظ
“روح منه” تعريف بالمسيح وبشخصه يدل على مصدره الذي هو الله. فهل الروح
المكونة للمسيح والتي صارت المسيح في مريم هي منسوبة إلى الله نسبة خلق أم نسبة
مصدر؟ نقول: إنها نسبة مصد لأنها تفسير للقب السابق “كلمته وروح
منه”. ولنلاحظ أن القرآن يعطف “روحاً منه” على قوله
“كلمته”: فالاسمان يفسر أحدهما الآخر: فالمسيح هو كلمة الله وروح
الله”: كلمة الله من حيث الأقنوم، وروح الله من حيث الطبيعة.

وبما أن “روحاً منه” خبر من المسيح في الآية 170
المذكورة فلايجوز أن نموه فيه بكل أنواع التعابير التي وردت في القرآن عن الروح إذ
يتغير معنى “الروح” من آية إلى آية، كما رأيت؛ ويدل على المعنى المقصود
النص المحيط به والقرائن اللفظية والمعنوية الداخلة عليه. ففي تحديد المسيح، في
سورة النساء، تعبير مستقل عما سواه: يظهر منه جلياً أن المسيح روح الله، قد صدر
منه، صدور الفكر من العاقل، صدور كلمة الله من الله.

فروح
الله اسم آخر للمسيح غير كلمة الله، وهو معطوف علي لتفسيره، وكلاهما معطوفان على
“رسول الله” لبيان شخصية هذا الرسول الفريدة: فالألقاب الثلاثة تتساند،
ويوضح بعضها بعضاً، ويفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً: “إنما المسيح عيسى
ابن مريم: رسول الله وكلمته وروح منه”.

وفي
تفاسيرهم لهذا اللقب الفريد حيرة وتعظيم: يشعرون أنه يعني صلة خاصة بالله، ولكن لا
يجرؤون على إعلانها:

قال
الجلالان: روح، أي ذو روح (منه) أُضيف إليه تعالى تشريفاً له وليس كما زعمتم ابن
إله أو إلهاً معه أو ثالث ثلاثة: لأن ذا الروح مركب واإله منزه عن التركيب ونسبة
التركيب إليه”. – تفسير مغرض يضعف قوة النص: المسيح روح الله لا ذو روح من
الله فقط! ثم أين الإشارة في النص إلى فلسفة التركيب التي يذكر؟!

وقال
الزمخشري: “قيل له روح الله أو روح منه تعالى لأنه ذو روح وجسد من غير جزء
منذي روح كالنطفة المنفصلة عن الأب الحي؛ وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته
الخالصة”. – أفلا ينفرد المسيح عن البشرية جمعاء بهذا الاختراع الفريد؟ ألا
يدل هذا الاختراع الفريد على شخص وحيد، له علاقة فريدة بالله؟

وقال
البيضاوي: “وروح منه: ذو روح صدر منه تعالى، لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل
والمادة له. وقيل سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب”. – فالروح الذي
يحيي الأموات أو القلوب إحياءً حقيقياً ومعنوياً، وينفرد بعمل يدل عليه اسمه
الفريد، ألا يصدر عن الله صدوراً خاصاً لائقاً به؟ ألا يكون له صلة خاصة بالله دون
سائر المخلوقين الذين ليسوا “روح الله”؟

وقال
الرازي مستجمعاص أنواع تفاسيرهم لهذا اللقب العظيم: “اما قوله روح منه ففيه
وجوه: 1) أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا
إنه روح: فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه
السلام لا جرم وصف بأنه روح. والمراد من قوله “منه” التشريف
والتفضيل؛-2) أنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلكوصف بأنه روح؛-3)
روح منه أي رحمة منه: فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم
إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه؛-4) أن الروح هو النفخ في كلام
العرب فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل، وقوله منه يعني أن
ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله فنفخنا فيها من
روحنا؛-5) قوله روح، أدخل التنكير ليفيد التعظيم. فكان المعنى: روح من الأرواح
الشريفة العالية القدسية. وقوله منه إضافة لدلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف
والتعظيم.

ومن
هذه الوجوه كلها تتضح شخصية المسيح الفريدة التي لا يدانيها نبي أو رسول، ويرفع
المسيح فوق المخلوقين إلى صلة خاصة بالله. فهو روح من الأرواح الشريفة العالية
لاقدسية، ولم يرد عن بشر أنه منها ولو كان خاتم النبيين؛ وقول الرازي هذا أو من
نقل عنه يفترض أن روحاً علوية أي أحد الملائكة المقربيين قد تجسد وظهر في شخص
المسيح؛ ومن يقول بذلك فالأجدر به أن يقول مقالة الإنجيل “إن كلمة الله تجسد
وصار إنساناً”.

وهو
روح من نفخة جبريل: إذا قصدوا جبريل كمصدل للمسيح فهذا قول راء فليس جبريل بخالق
ولا عنده نفخة خلاقة! وإذا قصدوا أنه الواسطة المعجزة فما أتوا بتفسير لشيء إذ أنه
روح الله بمعزل عن جبريل. وعلى كل حال فشرف الواسطة يدل على شرف الغاية.

أما
قوله سمي روحاً لأنه كان رحمة من الله على الخلق: ليس هذا من باب التفسير بل من
باب المقارنة التي لا تفي. ومع ذلك ففيه إقرار بفضل المسيح على الخلق كلهم: ولم
يرد مثل هذا الفضل لأحد من البشر كما ينسب القرآن والمفسرون إلى المسيح.

أما
قوله سمي روحاً لغاية طهارته في مولده فمن باب الاستدلال لا من باب التفسير، وإن
كان فيه إقرار بسمو تكوين المسيح الذي انفرد به.

وقد
قارب المفسرون من فخامة الاسم وعظمته وجلاله بقولهم: سمي روحاً لأنه كان سبباً
لحياة الخلق (الرازي)، لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (البيضاوي) فجعلوه سبب
الحياة الطبيعية والروحية والمعنوية؛ وما ذلك إلا صدى لقول المسيح في الإنجيل
“أنا الطريق والحقيقة والحياة” (يوحنا 10: 25): فهو روح الله الحي
المحيي.

وقد
دلوا على معنى “منه” في التحديدي المذكور بقولهم: “ذور روح صدر
منه” (البيضاوي) أي ذور روح منه تعالى (الجلالان) فالتعبير يحتمل معنى المصدر
الإلهي للمسيح، إذ من أين يصدر “روح الله” إلا من الله؟؟ فالروح الذي
يصدر من الله كيفيتميز عنه؛ وبما أنه ليس في الله انقسام ولا تجزؤ، أليس هو والله
واحداً كذات الله ونورها؟ وهذا أيضاً صدر لتعليم الإنجيل: “قد خرجت من الآب
واتيت إلى العالم.. بهذا نؤمن أنك من الله خرجت” (يوحنا 16: 28، 30).أليس هذا
هو المعنى الكامل الذي قصده القرآن في تعريفه المسيح: إنه كلمة الله وروحه؟ إنه لا
ينطبق علىمجموع الألقاب في الآية 170 إلا هذا المعنى: المسيح روح صدر من الله
ككلمته ونطقه الجوهري؛ وكلمة الله ليست مجرد كلام خارج عن الله بل هو كلامه
الداخلي كروحه.

وهكذا
يلتقي القرآن والإنجيل في تعريف المسيح: “في البدء كان الكلمة والكلمةكان لدى
الله، وكان الكلمة الله.. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” أي
“إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه”:
والحياة والروح بمعنى واحد؛ وبمقارنة التحديديين ينجلي معناهما العميق. إذا لم يكن
التعبير واضحاً كل الوضوح في القرىن فلنستوضحه من الإنجيل لأن القرآن أخذ عنه وهو
يحيلنا إلى الكتاب وأهله في حالة الشك والريب (نح 43، شعراء 193)، بل يأمر محمداً
نفسه أن يستوثق من إيمانه لدى الذين يقرؤون الكتاب من قبله (يونس 94).

 

خاتمة بحث:

تلك
هي الألقاب الإلهية الثلاثة التي بها يُعرف القرآن المسيح في آية النساء 170.

أجل
المسيح هو عيسى، ابن مريم، عبد الله ونبيه ورسوله.

ولكن
فوقذلك هو مسيح الله وكلمة الله وروح الله.

القاب
وأسماء يكمل بعضها بعضاً ويدعم بعضها بعضاً ويفسر بعضها بعضاً في هذا التعريف
الغني بالمعاني. وهذا الألقاب الثلاثة لا تدل على صلة الخلق بين الله وعيسى، بل
تستوعب صلة شخصية عقلية روحية بجوهر الله. فمهما قللوا من دلالتها العميقة فهي
تحتمل وتحمل معنى إلهياً بحد ذاتها كما يرشح من تفاسيرهم. نحن لا نستجلب المعاني،
ولا نفترضها بهذه الأسماء الوحيدة التي انفرد بها المسيح دون العالمين، بل نظهر
ماتستوعبه على نرو الإنجيل الذي نزل من قبل هدى ونوراً. “وكفى بالله شهيداً
ومن عنده علم الكتاب” (رعد 45).

إنه
مسيح الله: مسحه الله “بقوة الروح القدس” (لوقا 1: 35) اي “أيده
بروح القدس” (بقرة 87، 253 ومائدة 113).

إنه
“كلمة الله التي ألقاها في الزمن إلى مريم (نساء 170) لأن الكلمة الذي كان
منذ البدء لدى الله صار جسداً وسكن في ما بيننا” (يو 1: 2، 14).

إنه “روح الله” الصادر “منه” (نساء
170)، فهو شبيه به لأن المصدر والصادر واحد في الله، وهو منه وفيه، لن الله لا
يتجزأ. وروح الله هو “ضياء مجده وصورة جوهره” (عبر 31).

نعلم
جيداص أن القرآن ينكر كل تعدد أو تجزؤ في اللاهوت، ويستنكر كل بنوة من خارج الله،
وكل شرك وغلو في الدين. ونحن نؤيده ونؤمن بقوله. لكنه لا يذكر شيئاً عن حياة
“الحي القيوم” في وحدة ذاته، عن حياته العاقلة ذاتها، وعن حياته المحبة
ذاتها. فجاءت هذه الألقاب الإلهية تلقي ضوءاً عما انحجب عنا.

ومهما
يكن من فهمها الصحيح، فهذه الصفات والنعوت والألقاب والأسماء التي اختص بها القرآن
المسيح ذون سواه من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، تجعل المسيح في صلة
شخصية وحيدة، عقلية وروحية وخاصة مع الله. ومهما قالوا في تفسيرها فهي ترفع المسيح
فوق العالمين، من صفة المخلوقين، إلى هالة اللاهوت.

بهذه الألقاب النبوية، والألقاب الإلهية، جعل القرآن عيسى
ابن مريم مسيح الله وكلمة الله وروح الله (نساء 170) وإذن آية في شخصه: “وجعلنا
ابن مريم – وأمه – آية” (مؤمنون 71).

 

ملحق: هل من تثليث في القرآن؟

لا
جرم أن القرآن ينتفض عند هذا السؤال، ويجيب: “قل هو الله أحد، الله الصمد، لم
يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوءاً أحد!”

بيد
أن القرآن نفي “الاثنين” (نحل 51)، وينفي “الثلاثة” (نساء
170) التي تتعارض مع وحدة الله، ومع وحدة الذات الإلهية، مع وحدة الجوهر الإلهي
الفرد؛ ولا يفكر البتة في حياة “الحي القيوم” الداخلية وتفاعلها
وتسلسلها. إنما هناك آية تدل على أنه إذا كان في الجوهر الإلهي الواحد بنوة لا
تناقضه، فهو يقبل بها: “قل، إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين” (زخرف
81).

وبناء
عليه فهل يرفض القرآن إلهية الكلمة وإلهية الروح إذا كانت ضمن لاهوت الجوهر الإلهي
الواحد؟ هل تُراه يرفضها إذا كان الكلمة الأزلي عبارة عن الفكر الجوهري، ثمرة
القوة العاقلة في الذات الإلهية الواحدة، وكان الروح القدس عبارة عن ثمرة الحب
الجوهري في الذات الإلهية الواحدة؟.. لا نظن. فغن لقب “الكلمة” في
القرآن يحمل معنى إلهياً، لن “الكلمة” الملقى إلى مريم هو شخص له اسمه
الخاص وكائن قبل إلقائه إليها، وهذا الكلمة هو روح منه تعالى، وروح الله، يصدر منه
ويبقى معه في كامل الوحدة الجوهرية (نساء 170).

ولقب
“الروح” الغامض بسبب تنوع مدلوله، إذ يضيف القرآن إلى المخلوق كما يضيفه
إلى الخالق، يتضح ويتحدد مفهومه بإسند القدرة الخالقة إليه: “فإذا سويته
ونفخت فيه من روح فقعوا له ساجدين” (حجر 29) “ثم سواه ونفخ فيه من
روح” “سجدة 6) وهكذا خلق الله آدم بنفخة من هذا الروح الخلاق، كما كون
“المسيح كلمة الله وروحه” في رحم مريم بنفخة أيضاً من هذا الروح السامي
“فنفخنا فيها من روحنا” (أنبياء 91 وتحريم 12)؛ وهذا الروح الخلاق
بنفخته ليس ملاكاً، وليس الروح المنفوخ الحاصل من الفعل بل هو روح مستقل بذاته،
يتمتع بالقدرة على الخلق، وهو الواسطة التي بها يخلق الله ويكون، وبها كون المسيح
في مريم “روحاً من الله”: ففي تكوين عيسى في مريم يظهر ثلاثة أرواح: روح
مبشر هو الملاك، والروح النافخ، وروح الله الملقى إلىمريم بالنفخة المكونة. وقد
جمعها الإنجيل وميزها بقوله: “فأجاب الملاك (الروح المبشر)، وقال لمريم: الروح
القدس يأتي عليك (يقابل الروح النافخ) وقدرة العلي تظللك، ومن أجل ذلك فالقدوس
الذي يولد منك (يقابل الروح الملقى) يُدعى ابن الله” (لوقا 1: 35): فروح
القدس مستقل عن الملاك، وعن روح عيسى المتأنس في مريم. وهكذا فالروح في القرآن
والإنجيل يحمل معنى إلهياً. ومن ثم ففي القرآن تثليث يتالف من الله والكلمة والروح
أو روح القدس؛ ونكون من الكافرين إذا جعلنا هذا التثليث خارجاً عن التوحيد، ونكون
في الصراط المستقيم إذا كان تفسيراً لحياة “الحي القيوم” متفاعلة
متسلسلة، لا إله إلا هو.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار