علم المسيح

أبانا الذي في السماوات



أبانا الذي في السماوات

أبانا الذي في
السماوات..

كان
يسوع يصليّ يوماً؛ في أحد المواضع. فلمّا فرغ، من تلاميذه: ” يا ربّ علمنا أن
نصليّ.. “.قال له واحد

. لو
ألجئنا يوماَ أن. لا نحفظ من الانجيل سوى صفحة واحدة، أفلا يكون مطلع الفصل الحادي
عشر من إنجيل لوقا هو تلك الصفحة التي يجب أن نحرص عليها أ.. فإلى ذاك السؤال الذي
ربما بدا على جانب من السذاجة، أجاب يسوع، فكان جوابه كلمات انطلقت من ذات شفتيه،
فجاءت خلاصة من جوهر تعليمه، وصلاةً هي أروع وأكمل مأ تلفظت به شفاه بشر: الصلاة
الربانيّة، الصلاة، التي نرفعها كل يومً في الليترجية، صلاة أفراحنا وأحزاننا

 

. أمن
الممكن أن يكون يسوع قد أغفل، حتى تلك اللحظة، أن يعلّم الناسَ الصلاة؛ لعمري، إنّ
في سؤال ذاك التلميذ، – بعد جميع توجيهات المسيح وأوامره ومشوراته – ما يدعو إلى
الاستغراب. أفلعلّ السائل كان تلميذاً بسيطاً وأحد حديثي العهد في جماعة المؤمنين؟
أم لعلّ الطلب جاء تعبيراً عن رغبة شائعة في اقتناء نصّ معينّ، يسْتنِد إليه – في
توجيه أشواقهم الروحية- كثيرٌ من الذين يرتبكون في إطلاق العنان لنجواهم القلبية؟..
أماّ نصّ الصلاة الربانيةّ، فنجده مرتين في الانجيل. فالبشير متى قد أثبته في
تضاعيف “خطبة الجبل ” (متى 6: 9-13)، بينما أدرجه البشير لوقا قي أحداث
الحقبة اليهودية، وفي أعقاب زيارة المسيح لمريم ومرثا (لوقا 11: 2-4)؛ ومن
المتعذّر أن نتحقق هل دوّن الإنجيليان نفس الكلمات في قرائن مختلفة، أم هل كرّر
المسيح – وهذا أيضا محتمل – نفسَ الصلاة مرّتين.. فالبشير متىّ قد حشد – على ما
يبدو- في ” خطبة الجبل “، تعاليم لم يلقها المسيح كلهّا في نفس القرائن.
ونلاحظ، من جهة أخرى، أن البشير لوقا كان من شدة العناية بلفت النظر إلى صلوات
المسيح، (3: 21؛ 5: 16؛ 6: 12؛ 9: 18؛ 9: 29؛ 11: 1؛ 22: 32؛ 22: 41؛ 23: 34 – 36)،
بحيث يمكن الركون إلى مؤدياّته التوقيتية بثقة أكثر

 

.
وعلى كلٍ، فإن بين النصّين بعض الفوارق في المبنى. وقد تبنّت الكنيسة رواية متى في
اعتماد النصّ الرسمي، لأن إنجيل لوقا، في روايته، قد أغفل الطلبة الثالثة: ”
لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض “، والشطر الثاثي من الطلبة
السادسة: ” بل نجّنا من الشرير “. ويرى الإخصائيون في اللغات الساميةّ
أن نص الانجيل الثالث (لوقا) هو أقل قرباً إلى الأصل، من نصّ الانجيل الأول. هذا،
وإن تكوين الصلاة من دعاء افتتاحي، وثلاث طلبات مزدوجة، يفضي إلى الرقم السباعي،
وفي ذلكً ما ينسجم وقواعد العروض عند الساميين

 

.
” أبانا الذي في السمارات. ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك؛ لتكن مشيثتك، كما في
السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم؛ واثرك لنا ما علينا، كما نترك
نحنُ أيضاً لمن لنا عليه؛ ولا تدخلنا في تجربة؛ بل نجّنا من الشرّير ”

 

. نود
لو نهتدي إلى الموضع الذي صعدت فيه إلى الله، لأوّل مرة، تلك الصلاة الرائعة. هناك
تقليد قديم، من الجيل الرابع، قد بعث على تشييد كنيسة ” الإليونا “، عند
منحدر جبل الزيتون، تنهيداً لذكرى ” الصلاة الربانّيةّ ” و” حديث
المنتهى ” الذي ألقاه يسوع في الأسبوع الأخير من حياته الأرضية. وقد جدد
الصليبيوّن بناءها. وهي اليوم – بعد أن هدمت ثانية – لا تزال قيد التصميم. وقد
أورد السائح الإيطالي نيقولو دابوُد ْجيبونسي، سنة1345، أنه شاهد أيضاً في جبل
الزيتون، لوحة نقشت فيها الصلاة الربانية، تذكاراً للموضع الذي قيلت فيه. وإنما
هناك منَْ تسًاءل: ألا يجب البحث عن ذاك الموضع، في قرية أفرائيم، حيث قضى المسيح؛
الشهر الأخير منِ حياته؟ (يوحنا 11: 54). فإذا صح ذالك، اكتسبت الصلاة الربانية.معنى
فريداً، وأصبحت شبه ميثاق روحي، ووصاة أخيرة!.. إفراثيم -وتدعى ” الطيبة
” في أيامنا – قرية مستحبّة قائمة فوق مشرف شرقي من أعلى مشارف اليهودية، بين
الكروم وحدائق المشمس. ويقع النظر منها على مشهد رائع من هضاب عارية قد فلحتها
الأخاديد والفجاج، وفجوة وادي الأردن، والبحر الميت عند أقدام الجبال الموآبية.
فإذا كان من شأن الافاق الفسيحة، والشعور الحسي بالأغوار، أن تبعث في الروح لا
أدري أي شبة باللانهاية الإلهية، فأي محيط أحق من هذا المحيط بتلك العبارات
البسيطةً التي يتصل فيها الإنسان بخالقه؟.

 


أبانا الذي في السماوات “: أنت، يا من ليس فقط سيدأً، ولا ملكاً ولا ”
يهوى “، ذاك الإله المرعب المقتس، ولا” إلوهيم، رب الجنود “؛ أنت،
يا من نجرؤ على تسميته باسم ألحنان والثقة، مهما نأى سرّ مجده وتعالى؛

 

.
أنصت، أوّلا، إلى هذه الأمانيّ الثلاث التي نوجهها إليك: فإننا نعالم يقيناً أن كل
عبادة هي لك، وأن ألإقرار بضعفنا لا بدّ أن يمهد السبيل لسؤلنا. فنحن نوجه إليك الثناء
قبل كل كلام

 

.
” ليأت ملكوتك! ” لأنه عادل، ولأنه ملك الأب، ولأنه، من ثم، أرحم من
مَلك الناس؛ أو – بعبارة أخرى، كان يؤثرها القديس غوريغوريس النيصي، لأنها تعرب عن
جوهر الكون إذا خضع لله – ” ليحلّ الروح القدس علينا، فنعيش أنقياء! ”

 

.
” لتكن مشيئتك” لكي نكتشف في السرّاء والضرّاء، وفي جميع صروف الحياة،
مقاصدك الخفية ونرضى؛ بقلب مغتبط، بما تجود به يداك، وعرف أن في نتذوّق حبّك، حتى
وإن كان لا بدّ أن نرشفه، -كالمسيح في بستان الزيتون من شفاه الكؤوس المرّة

 

.
” كما في السماء، كذلك على الأرض ” – قد قرّر المجمع الريدانتيني، في
كتاب ” التعليم المسيحي “، أن تسُند هذه الكلمات إلى الطلبتين السابقتين،
فتعُرب عن رغبتنا في أن يستقر ملك الله. وتتم مشئته، ليس فقط في الدهر المستقبل
وفي عالم ما فوق الطبيعة، بل في الزمان الحاضر أيضاً، وفي الواقع الأرضي، فيتحقق
مجد الله، منذ اليوم

 

ثم
إليك، من بعد ذلك، هذه الطلبات الثلاث التي تعنينا، نحن البشر أبناءك؛ فلقد
كوّنتنا من جسدٍ وروح خالدة، وكلاهما بحاجة إليك.

 

.
” خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم “، ذاك الخبز الذي يأتينا من القمحة
النابتة، ثم ذاك الذي قيل عنه ” إنه خبز الحياة “، لأن الذين يقتاتون به
لن يجوعوا أبدا

 

.
” واغفر لنا خطايانا “، أو ” واترك لنا ما علينا “. (ولكلا
العبارتين نفس الهدف). وإذا اتفق لنا أن نؤثر العبارة الثانية الواردة في انجيل
متى، فلأنها تذكرنا بأن المال إنما هو أنكى ما يشدنا إلى الأرض، ويتصلّب به القلب.
بيد أننا نعلم يقيناً أنك لن تصفح إلاّ بمقدار ما نصفح عن الآخرين، وبمقدار ما
نترُك للاخرين سوف تترْك لنا في يوم الدين

 

.
” لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشر “، أو – كما ألمع إليه الآباءُ
القديسون: ” لا تسمح أن نواجه تجربة تفوق قوانا “. وقد أشار بولس إلى
ذلك، باسمك اللهمّ: ” إنه بوسع كل إنسان أن يقاوم الشرّ المحدق بنا، ويجالد
” الشرّير” الذي يتربصّ بنا.. وإنما في هذا الصراع الذي عليه تتوقّف
المصائر، أنجد، أيها الآب، ضعفنا، وارحمنا ”

 

. تلك
هي الصلاة التي بات يردّدها الملايين من المسيحيين، منذ حوالي ألفي سنة. وهي على
جانب رائع من البساطة، وعلى تباين كبير والصلوات الطويلة المعقدّة التي ألِف
الفريسيوّن تردادها. وهي – على اقتضابها – تتوجّه توّا إلى الجوهر، وتضمّ، في
طلباتها الست، منهاجاً روحياً يصادف فيه الإنسان كل حاجته. ولا بدع، فهي حافلة
بالمعاني، وجميع ألفاظها سديدة، وصياغتها مكتنزة لا يمكن تبديل أي عنصر من عناصرها
إلا وتتشوّه معنىً وإيقاعاً. وهي إنسانية لأن الإنسان يكتشف فيها ذاته كاملة: وليس
فقط الروح التي تفرغ إلى الله بالثناء والتعظيم، بل أيضاً ذاك الجسد الفاني الذي
يحيا ويجوع. وهي أخوية، لأنها صلاة الشركة والتضامن، يستطيع كل فرد أن يستوعب
معانيها، وكل جماعة أن تتحد في تلاوتها؛ فهي صلاة الوحدة المسيحية، التي نفَت
” الأنا “، واستأثرت بال ” نحن “!.. وقد جاء في كتاب ”
الديداكي “، أي كتاب ” تعليم الرسل ” – وهو سفْر قديم جداً يرقى
إلى حوالى سنة 150 – أن المسيحين الأوّلين كانوا يتلونها ثلاث مرّات كل يوم. وأمّا
اليوم فالكنيسة تعمد إلى تلاوتها، سرّاً أو جهراً، في جميع صلواتها الليترجية.
فإذا انضمت إليها تلك الصلاة الأخرى، التي استوحتها القرون الوسطى من تحية جبرائيل
للعنراء، باتت أجمل وأبسط وأكمل ما يستطيع المسيحيّ أن يعرب به عن إيمانه. ”
ولن يستطيع إنسان – على حدّ قول بيغي – أن يمحو من شفاهنا الكليلة آثار ”
أبانا ” أو ” السلام ”

 

ولقد
وعد المسيح أصفياءه، يوما، عند شاطىء بحر الجليل، ومرّة أخرى، في اليهودية، أنّ كل
صلاة تستجاب، إذا صدرت عن قلب صادق وإيمان ثابت. ” إسألوا فتعطوا؛ أطلبوا
فتجدوا، إقرعوا فيفتح لكم.” (متى 7: 7). فهل تستطيع الصلاة – إذا أردناها
فعّالة لا تنبو عن الهدف – أن تلجأ إلى عبارة أروع من هذه الطلبات السبع التي
يتجلىّ، من خلال بساطتها القانعة، أجمل ما ينطوي عليه قلب الإنسان؟

 

“..
لعازر؛ هلم خارجاً ” (يوحنا 11: 43)

.!نقضت
الحقبة اليهودية، وبانقضائها أشرفت حياة يسوع على النهاية. وكان قد ذهب إلى ”
بيرية ” –لا شك، في مطلع كانون الثاني سنة 30- تلك البقعة التي انطلق فيها
صوت المعمدان، من قبل سنتين، مؤذناً بالبشرى. ونستطيع أن نستخلص من مؤدّيات
الأناجيل الأربعة (يوحنا 10: 40 – 42؛ مرقس 10: 1؛ متى 19: 1-2؛ لوقا 13: 31-33)،
ان المسيح بعد ان أقام في بيت عنيا، أو في ضواحي العاصمة، يمم شطر البقاع المنخفضة،
وربمّا توجّه أيضاً إلى نجاد شرقيّ الأردن، وطوّف في أنحائها زهاء اثني عشر شهراً،
ثم ارتدّ إلى أور!شليم عن طريق أريحا. ولم تكن تلك التنقّلات – هنا كما فيَ الجليل
– لتقطع عليه نشاطه. ومن المحتمل أن يكون المسيح قد أعلن في ” بيرية ”
وصيته الشهيرة: ” أدخلوا من الباب الضيق! “، وضرب للناس مثل ”
المدعوين ” الذين تخلّفوا عن العشاء، فلبثوا في الظلمة الخارجيةّ ” حيث
البكاء وصريف الأسنان! “.. لقد كان عائداَ إذن إلى أورشليم، يدعوه – ولا شك –
داعي الفصح، وإنما يحفزه أيضاً واجب أخفى وألزم، إذ ” لا يليق أن يهلك نبيّ
خارج أورشليم ” (لوقا 13: 33)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار