علم المسيح

وقام من بين الأموات في اليوم الثالث



وقام من بين الأموات في اليوم الثالث

وقام من بين
الأموات في اليوم الثالث

.
ابتدأت مرحلة جديدة في حياة المسيح. لقد اجتاز الموت كما يجتاز نفق مظلم، ثم
انبعث، مع إطلالة الفصح، في غمرة الضياء. ولسوف يبقى أربعين يوماً ماكثاً بالأرض
ثانية، يعايش أوفياءه، ويتعهدهم، كما في الأمس، بالتعليم والهداية. ولا بد من
الإقرار بأن هذه الحقيقة التي تعتبرها المسيحية من أركانها، والتي أقرها رسمياً
قانون الرسل وقانون نيقية، تجابه ما اعتاد العقل البشري أن يحسبه ممكناً أو
محتملاً. فمن أنكر علي المعجز محله في نظام الأشياء، فعقيدة القيامة، في نظره، لا
أقل من معثرة، ولا أكثر من خرافة. وأما الذي أيقن أن معرفة الكون في علله الأخيرة
ليست من نطاق “الكيف” و”اللماذا”، فالقيامة، في اعتقاده، آية
الآيات، تلخص وتبرر الأسرار التي تكتنف حياتنا

 

. إن
سيرة يسوع في حياته الثانية تستند إلي نصوص كثيرة من العهد الجديد. فنحن نجد
أحداثها متضمنة في الأناجيل الأربعة، ومدعمة بمجموعة رسائل الرسول بولس ورسالة
بطرس الأولي، وأعمال الرسل، فضلاً عن طائفة كبيرة من مخلفات الأدب الآبائي،
والأسفار المنحولة. وهبنا لم نعتمد، في ذلك، سوي الإنجيليين، نري ما يوجب الارتياب
بهذا الجزء من شهادتهم، وهو لا يقل ضمانة عن سائر أجزاء كتبهم. وإنه، لعمري، نهج
غريب أن نقبل بجميع النصوص حتى موت المسيح، ونأباها من بعد القيامة، لا لسبب إلا
لأن الأحداث المروية تزعزع أنماطنا الذهنية

 

. إلا
أن هناك اعتباراً لا بد من ذكره، وهو علي جانب من الخطورة. فالإنجيليون الأربعة إذ
سجلوا أحداث ما بعد القيامة، إنما فعلوا ذلك بكثير من الاقتضاب. فالإنجيليون
المؤتلفون قد اجتزءوا بصفحة أو صفحتين. والبشير يوحنا بثمان صفحات أو تسع. فهناك
إذن تفاوت ظاهر بين خطورة الحدث وانقباض القصة التي ترويه وتعلق عليه.. ومع ذلك،
فحسبنا أن نقف علي كتابات الرسول بولس، لكي تثبت لنا المكانة العظيمة التي احتلتها
عقيدة القيامة، منذ ذلك العهد، في المسيحية الأولي

 

بيد
أن الأمر يبدو أقل غرابة إذا أخذنا بالملاحظة التالية: فالأحداث التي تخللت تلك
الأيام الأربعين كانت – كما سنراه – شبيهة كل الشبه بتلك التي وقعت في حياته العادية
بل نلاحظ أيضاَ أن بعضاَ منها – كالصيد المعجز، مثلاً – باتت كأنها تكرار أحداث
سابقة. فسيرة المسيح، بعد قيامته، تبدو كأنها امتداد لحياته المتقدمة، والواقع
أنها لم تستغرق إلا أربعين يوماً. فإذا راجعنا رسالة المسيح في الجليل أو في
اليهودية، اتضح لنا أن فترات الأربعين يوماً لا تستوعب من الإنجيل – بالتعديل –
محلاً أعظم. لا بل إن هناك فترات (تموز إلي تشرين الأول سنة 28، وآب إلي أيلول سنة
29، وشباط سنة 30) أقل منها تبسطاً وتفصيلاً. وهذا الزهد الأدبي في الأناجيل
القانونية الأربعة هو دليل صحتها. وأما الأناجيل المنحولة، “كإنجيل
برثلماوس” مثلاً و”رسالة الرسل” (وهي أسفار طريفة من حوالي سنة
160) فهي تغرق في التزويق وتمعن في التعليق، فتصور يسوع، مثلاً، في جدال مع
تلاميذه في صحة القيامة وغرضها وكيفيتها، أولم يبشر المسيح علي تلاميذه يوماً أن: “فليكن
كلامكم نعم نعم ولا لا! “، والواقع أنهم قاوموا شيطان المخيلة: وهل من شيطان
أكثر منه إغراء لأهل القلم؟

 

.
ولكن النصوص الأربعة المتصلة بفترة القيامة لا تتطابق. أجل، إنه لا يوجد بينها أي
تناقض ولا أي تباين جوهري، ومع ذلك فإنه من المتعذر أن نتبين فيها أي ترادف أو
تراكب. ولا بد من أن نتذكر هنا أن الإنجيليين ما كانوا من جهابذة التاريخ: فلقد
قصدوا بكتبهم تفقيه المؤمنين وتهذيبهم. وما توخوا قط تصنيف وثائق كاملة جامعة.
ولأن القيامة، من الناحية الدفاعية، حدث جذمي، فقد آثر كل من الإنجيليين أن يسرد
من الأحداث ما بدا له أقوي حجة وأعمق وقعاً. ومن الممكن أيضاً أن يكونوا قد
استخدموا، لهذه الحقبة، مصادر مختلفة. ولكن ذلك لا يضعف ما توحي به تلك النصوص
الأربعة من شعور عميق بالحقيقة، وما تبعثه في النفس من يقين بأن يسوع حقاً قد قام،
وأنه فعلاً قد عاش، ثانية، أربعين يوماً علي الأرض، وأن التلاميذ، حقيقة، قد
أبصروه ولمسوه طوال تلك المدة من حياته المحدثة

 

! كتب
رينان: “لا يثبت إلا الحقيقة، وكل ما يخدم الحقيقة يحفظ كذخيرة زهيدة، ولكن
مكفولة، ولا شئ يتلف من كنزها الصغير. وأما الضلال فهو، بالعكس، يتداعي. إن الضلال
لا يعول عليه، وأما بناء الحقيقة، وإن زهيداً، فهو من صلب ويرتفع دائماً.. “،
ربما بدا واهناً، في أساساته، البناء الصغير الذي تقوم عليه عقيدة القيامة. ولكن
ها قد انقضي علي قيامه ألفا سنة، وأدمغة الملايين من البشر راضية به، علي ما يتصدي
له من محاجات تهجمية: فهذا أيضاً له وزنه

 

.
والله أدري بما اختلق من افتراضات كثيرة ومتنوعة للإجهاز عليه! منها ما يتاخم
المهزلة. ففي الحقبة التي شاعت فيها طريقة المقارنات الدينية (بتأثير من فريزر
وسملون ريناخ) لم يتورع بعض علماء الأسطورة من القول بأن المسيح ما كان سوي إله
شمسي، وقيامته سوي تلميح إلي ذاك النير في ظاهرات طلوعه وغروبه عند الأفق. وساقوا
برهاناً علي ذلك، إيثار الأحد (وهو نهار الشمس) للاحتفاء بتجدد ظهوره! قد يكون
البرهان، ولا ريب، أقوي دلالة لو كتب الإنجيل في بلاد الجليد حيث يدوم الليل ستة
أشهر ويعقبه النهار بعودة مفاجئة

 

!
ومما تحيلوا فيه، أولاً، نفي الأحداث التي جرت فجر الأحد: انفتاح القبر، واختفاء
الجسد. أو ليس من المحتمل أن يكون يسوع قد أغمي عليه فقط، وهو علي الصليب، وأن
يكون ذاك الإغماء قد أوهم الناس بموته السريع، وأن يكون قد خرج من القبر بعد أن
ثابت إليه حواسه؟.. إننا نتصور بعسر أن يكون مثل هذا الافتراض قد استرعي النظر!
فموت يسوع واقع لم يثبته فقط الإنجيليون الأربعة، بل أعمال الرسل أيضاً (2: 25 –
32، 13: 26 – 30)، والرسول بولس، أكثر من مرة، في رسائله (كورنثوس 15: 3 – 5،
كولوسي 2: 11 – 12 و3: 3)، وبولس من أصل يهودي فريسي يعرف من أين تؤكل الكتف!..
ذاك الرجل الذي عذب وجلد، وظل علي الصليب ثلاث ساعات نهكت قواه، أليس من الطبيعي
أن يكون قد فارق الحياة!؟ أو لم تكن الطعنة بالحربة كافية لأن تجهز عليه؟ وعلي
افتراض المستحيل – أي ذاك الإغماء المزعوم – فإن مائة رطل من الطيب – 32 كيلو –
موضوعة عليه، ومن حوله، كان لابد أن تؤدي إلي اختناقه!.. وقد وضع رينان حداً
للجدل، بقوله: “إن أثبت ضمانة يملكها المؤرخ في قضية من هذا النوع، إنما هي
حقد خصوم يسوع وتحفظهم”! أجل، لقد كان لرؤساء الكهنة أكثر من مصلحة في التيقن
من موته

 

.
فلنفرضه إذن مات ودفن: أفما كان بوسع التلاميذ أن يفلحوا في اختطاف الجثة؟ لقد ورد
في إنجيل متي أن اليهود قد اختلقوا فوراً تلك الأسطورة. فإن رؤساء الكهنة والشيوخ
حالما أوقفهم الحراس علي حقيقة الأمر العجاب، “تفاوضوا وأعطوا الجند مالاً
كثيراً، قائلين: “قولوا إن تلاميذه جاءوا ليلاً وسرقوه، ونحن نيام، وإذا نما
ذلك إلي الوالي فنحن نرضيه ونجعلكم في مأمن”، فأخذوا المال وفعلوا بحسب ما
تلقنوا، فشاع هذا القول عند اليهود حتى اليوم” (متي 28: 12 – 14)

 

هل
راجعت تلك الإشاعة؟ يميل البعض إلي الأخذ بذلك، منذ أن نشرت، سنة 1930، كتابة
منقوشة باليونانية، عثر عليها – علي ما يظن – في الناصرة، وترجع، علي ما يبدو، إلي
عهد طيباريوس: وهي براءة من الإمبراطور تنزل عقوبة الموت بمقتحمي القبور
“الذين يدحرجون الأحجار”، ولعل الإشاعة التي روجتها السلطات اليهودية قد
بلغت إلي أذني بيلاطس، فالتمس من روما تعليمات في شأن تلك “الجنايات”
إذا تكررت. إشاعة مختلفة! ولا نري بأي رشاقة تمكن التلاميذ من أن يحملوا الجسد من
غير أن يوقظوا الحراس (1).

 

.
هناك من أقلعوا عن الجدل في نظرية سرقة الجسد فأنكروا واقع القيامة إنكاراً
شاملاً. فمنذ الأجيال الأولي من تاريخ المسيحية قام سلقيس (وهو محجاج مناهض
للمسيحية) يساند النظرية القائلة بأن قصة القيامة محض وهم تولد في مخيلة امرأة
متهوسة: المجدلية. (وقد ألمع رينان إلي ذلك، بعد قرون كثيرة)، من البديهي أننا إذا
تتبعنا مثل هذا النهج، لم يبق لنا في التفاصيل المعينة أي شأن. فإذا كان الحديث
كله من نسج الخيال، فقد بات بإمكان التلاميذ أن يتوهموا، بكل نزاهة، إنهم وجدوا
القبر خالياً، ويتصوروا أنهم شاهدوا المسيح حياً. ويمسي هدف النقاد، والحالة هذه،
أن يدرجوا حدث القيامة بجملته في نطاق ذاك العالم الخرافي ذي الحدود المبهمة، حيث
يختلط الواقع بالوهم، ويفقد روح التحليل حقوقه

 

! ليس
من أساس لأي من تلك المحاولات “التعليلية”. أفلعلهم يريدون التعريض
بظاهرات التوهم الجماعي؟ قد يحدث، ولا شك، مثل تلك الظاهرات. ونعرف أمثلة كثيرة
خيل فيها إلي جمهور من الناس، عن سلامة راهنة في النية، أنهم شاهدوا، حقيقة، ما لم
يكن بحقيقة. (فالكنيسة تقف موقف التحفظ الشديد من تلك الظاهرات، وتخضع أخبار تلك
“الرؤي” لفحص صارم)، بيد أن ما يميز التوهم الجماعي إنما هو اشتراك جميع
الحاضرين فيه، وانجرافهم جميعاً في تيار اليقين.. ولكن، ما الذي نقع عليه في أخبار
“القيامة”؟ شهود يمارون في التصديق، ويتقلبون في الشك: لم يكن الرسل من
المتهوسين ولا من أصحاب الرؤى! ولم يكن باستطاعة إيمانهم أن يختلق موضوعه، ومثل
توما وحده كاف للدلالة علي ذلك

 

.
وأما أن يذهب إلي أن القضية قضية “مشاهدات” صوفية، فذلك أيضاَ مما ينافي
النصوص. وقد كتب لوازي – مصيباً – وهو ليس ممن يتهمون باستساغة التعاليل الخارقة:
“لم يكن غرض الرسل والرسول بولس التحدث عن مشاعر ذاتية، فإنهم يتكلمون عن
حضور المسيح حضوراً واقعياً خارجياً محسوساً، وليس عن حضور مثالي، ولا، بأولي حجة،
عن حضور خيالي”

 

.
“قام من بين الأموات!”: آية من قانون الإيمان يجب أن تؤخذ بمعناها
الحرفي، ليس فقط في نظر المؤمن، بل في نظر المؤرخ أيضاً. ومهما بدا لنا مذهلاً،
فيسوع قد خرج من القبر، وعاش أربعين يوماً عيشة ثانية. وذلك واقع تاريخي، مثل سائر
أحداث السيرة، بل يمكن تاريخه: فيسوع قد خرج من القبر، وبدأ مرحلة وجوده الجديدة،
في “اليوم الثالث” – علي حد تعبير قانون الرسل – أي في اليوم الثالث بعد
موته

 

..
وهذا الإيضاح يورده الإنجيل بصورة لا جدل فيها. فقد ورد في الروايات الأربع أن
القيامة قد حدثت في “اليوم الأول من الأسبوع”. فالسبت – عند اليهود – هو
خاتمة الأسبوع، كاليوم السابع الذي استراح فيه الله بعد الخلق. ومن ثم فالأحد هو –
بلا مراء – مطلع الأسبوع. فالقيامة قد تمت إذن في اليوم الثالث بعد الوفاة، وفي
ذلك ما ينسجم وما أنبأ به يسوع نفسه، بحسب رواية القديس متي (16: 21، 20: 19)،
والبشير لوقا (9: 22، 18: 33)، وأما البشير مرقس، فمع أنه أثبت هو أيضاً نفس
العبارة “اليوم الثالث”، فقد عمد مرتين إلي استعمال عبارة أخري:
“وبعد ثلاثة أيام” (8: 31، 10: 34)، ويعلل ذلك عادة اليهود في إدخال
اليوم الأول واليوم الأخير في قياس المدة.. ولكن ألا يومئ هذا الرقم إلي الاعتقاد
المأخوذ عن تعليم الرابيين، بأن الروح كانت تحوم، متوجعة، في جوار الجسد الذي
فارقته، فلا تغادره نهائياً إلا في اليوم الثالث؟ لقد ذهب بعضهم إلي هذا التساؤل.
أو لم تقل مرثا – أخت لعازر – ليسوع: إنه لم يبق ثمة من أمل لأن أخاها كان قد مضي
عليه في القبر أربعة أيام؟

 

لقد
قضي يونان ثلاثة أيام في جوف الحوت، كذلك ابن البشر أيضاَ في مطاوي الأرض، وتلك هي
“آية يونان” التي كان قد أنبأ بها يسوع نفسه. لقد رد الوحش فريسته،
والموت طريدته!.. وسري الخبر سريعاً، غدوة الصبح، بين جماعات المؤمنين الواجمين
المكتئبين.. وبعد فترة من الزمن، يوم قررت الكنيسة أن تميز فصحها من فصح إسرائيل.
اختارت “يوم القيامة” لإقامة شعائر العيد: فيوم الأحد، عندنا، إنما هو
ذكري القيامة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار