عيسى ابن مريم آية في يوم الدين
عيسى
ابن مريم آية في يوم الدين
“وإنه
لعلم للساعة” (زخرف 61)
تتعدد
الميزات التي انفرد بها المسيح بين الأنبياء والمرسلين حسب شهادة القرآن الكريم.
وها هو يسند إلى المسيح دوراً عظيماً في آخر العالم، ويوم الدين، لم يسنده إلى
غيره.
أولاً:
عيسى ابن مريم “علم” للساعة
نقرأ
في سورة الزخرف: “ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون. وقالوا: آلهتنا
خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون. أن هو إلا عبد أنعمنا عليه
وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون. وإنه
لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون: هذا صراط مستقيم”.
قرأنا
“علم للساعة” وبعضهم يقرأ “علم للساعة”. قال الزمخشري
“وإنه لعلم للساعة أي شرط من أشراطها يعلم بها فسمي الشرط علماً لحصول العلم
به. وقرأ ابن عباس “لعلم” وهو العلامة. وقري “للعلم”. وقرا بي
“وإنه لذكر للساعة” على تسمية ما يذكر به ذكراً كما سمى ما يعلم به
علماً. وعن الحسن: “أن الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة”؛ كذلك
البيضاوي.
لا
يمكن أن يعود الضمير في “وانه” إلى القرآن إذ لا ذكر له في المقطع كله.
وسياق الحديث كله، من قبل ومن بعد، يعود إلى موضوع واحد لا ريب فيه”عيسى
قال
الجلالان: “وإنه (عيسى) لعلم للساعة (تعلم بنزوله). وقوله عن عيسى أنه
“علم” للساعة أي علامة لها يعرف دنوها من مجيئه وظهوره ثانية، أو
“علم” للساعة أي معرفة لها بظهوره كشرط من اشراطها، قولان يتقاربان.
هذه
الآية إخبار عن دور المسيح قبل يوم الدين، حين تحين “الساعة” الآذنة
بحلول الدينونة. ومعلوم أن لفظ “الساعة” مرادف ليوم الدين. وقد ورد
الخبر عقب جواب جدلي عن شخصية المسيح. قال لهم: “وسئل من أرسلنا من قبلك من
رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟” (45). فأجابوه: “النصارى أهل
الكتاب وهم يعبدون عيسى ويزعمون أنه ابن الله، والملائكة أولى بذلك. وقالوا: “آلهتنا
خير أم هو؟” – ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك بنو قريش منه يصدون ويضجون
فرحاً، ظناً منهم أنهم حاجوه. فجاء الجواب الشافي: “إن هو الا عبد أنعمنا
عليه، وجعلناه مثلاً لبني اسرائيل”. وأضاف إليه قوله: “وأنه لعلم
للساعة” أي علامة ودليل على قرب اليوم الآخر. فهو يجعل ظهور المسيح ثانية على
الأرض شرطاً من أشراط حلول يوم الدين، وذكراً ومعرفة له، وعلامة تدل على وقوعه.
وفي
هذا التعليم تصريح عن مجيء المسيح ثانية في آخر الأزمان. وفيه صدى لمقالة الإنجيل
واعتقاد النصارى: “كذلك المسيح سيظهر ثانية لا ليكفر الخطيئة بل لخلاص الذين
ينتظرونه” (عب 28: 9).
ومن
هنا انتشرت رواية “المهدي” ذاك الإمام الذي يظهر في آتيات الأيام ويرد
الدين الحنيف إلى أصله. ومن تتبع معزى الرواية وجد أن عمل المسيح الموصوف والمهدي
المذكور واحد. قالوا في المهدي (وهو اسم بلا مسمى) ما قيل عن المسيح.
وهذا
أيضاً دور فريد اختص به القرآن عيسى ابن مريم دون سائر الأنبياء والمرسلين؛ وفيه
ميزة خارقة: ميزة ظهور المسيح “علماً” للساعة، وخارقة رجوع المسيح إلى
العالم ثانية في آخر الأزمان، مما لم يقل مثله عن نبي أو رسول. ولم يقل القرآن عن
ابراهيم أو موسى أو محمد أنهم سيظهرون أيضاً قبل يوم الدين للدعوة الأخيرة إلى
الله التي لا دعوة بعدها.
وفي
هذا التعليم أيضاً تصريح ضمني بأن عيسى ابن مريم سيكون فعلاً خاتمة الانبياء
والمرسلين إذ لا رسول ولا نبي معه أو بعده في يوم الدين عند قرب “الساعة”.
ففي
قوله “وأنه لعلم للساعة” قد جعل عيسى ابن مريم آية للعالمين منذ ظهوره
إلى يوم الدين!.
ثانياً:
عيسى ابن مريم “وجيه” وشفيع في يوم الدين
الشفاعة
توسط النبي بين الخالق والمخلوق في يوم الدين لينقذ من يتوسط له من النار، فيغفر
له الله خطايا حياته على الأرض ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار (مؤمن 7 و8).
وإذ
تفحصنا القرآن فهل نراه يجيز الشفاعة في يوم الدين؟ أنه في مواضع ينفيها (في
البقرة): “من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة..واتقوا يوماً..ولا
تقبل منها شفاعة..ولا تنفعها شفاعة”. ويهاجم العرب على اتخاذهم آلهتهم شفعاء
عند الله حيث يقولون “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى” (زمر 3)،
فيجيب: “أم اتخذوا من دون الله شفعاء؟ قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا
يعقلون! قل الله الشفاعة جميعاً: له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون” (43
– 44). ويحصر الشفاعة في الخالق وحده: “الله الذي خلق السماوات والأرض وما
بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا
تذكرون” ((سجدة 4). فالشفاعة في القرآن من حقوق الله المحفوظة له دون سواه.
وفي
مواضع يثبتها في معرض النفي – إذ يرتضي بالشفاعة ويأذن بها – لمن شهد بالحق.
“ولا يشفعون إلا لمن ارتضى” (انبياء) “من ذا الذي يشفع عنده إلا
بإذنه (بقرة) “ما من شفيع إلا من بعد إذنه” (يونس) “يومئذ لا تنفع
الشفاعة إلا من اذن له الرحمن (طه) “ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن
له” (سبأ) “ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد
بالحق” (زخرف).
فكأنه
نفى الشفاعة التي يدعون لآلهتم، واعترف بها للملائكة المقربين: الذين يحملون العرش
ومن حوله يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا: “ربنا وسعت
كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم؛ ربنا
وادخلهم جنات عدن التي وعدتهم” (المؤمن 7 و8). في هذه الآية تعريف بالشفاعة
واعتراف بها.
ولا
يذكر القرآن شفاعة لأحد من الأنبياء. ومحمد خاتم النبيين يحرمه القرآن حتى حق
الشفاعة في الدنيا: “استغفر لهم أو لا تستغفر لهم: إن تستغفر سبعين مرة فلن
يغفر الله لهم! ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين”
(توبة 81): يبين له حسم المغفرة بآية: “استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم”
(الجلالان) يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم (البيضاوي)، بل يعد
القرآن استغفار محمد لهم عبثاً. ويحرمه حق الشفاعة في الآخرة بقوله: “أفمن حق
عليه كلمة العذاب: أفأنت تنقذ من في النار؟!” (زمر 19) كررت الهمزة في الجزاء
لتأكيد الانكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير لذلك وللدلالة على أن من
حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه لامتناع الخلق فيه (البيضاوي).
وابراهيم
جد الأنبياء يطلب أن يغفر الله له خطيئته يوم الدين: “رب العالمين..الذي
خلقني فهو يهدين..والذي يميتني ثم يحيين..والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين..رب
واجعلني من ورثة جنة النعيم..ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون”
(77 – 90). فمن كان بحاجة إلى شفاعة لا يقدر أن يشفع في غيره، من يطمع في أن يغفر
الله له خطيئته يوم الدين، لا يقدر أن ينقذ من في النار.
ومع
ذلك فيظهر أن القرآن قد أعطى عيسى ابن مريم حق الشفاعة في الآخرة حيث يقول: “إن
الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن
المقربين” (آل عمران 45): أنه وجيه في الآخرة أيضاً، وأنه من المقربين.
أجمع
المفسرون على أن وجاهة الآخرة هي الشفاعة. قال البيضاوي: “الوجاهة في الدنيا
النبوة، وفي الآخرة الشفاعة”؛ وقال الجلالان: “وجيهاً أي ذا جاه في
الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العلى”؛ وقال الزمخشري: “الوجاهة
في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في
الجنة”؛ وقال الرازي: “الوجاهة في الدنيا هي النبوة، أو استجابة دعائه
أو براءته من العيوب، وفي الآخرة بالشفاعة أو علو درجته ومنزلته أو كثرة
ثوابه”.
وفي
قوله “ومن المقربين” رفع لمنزلة المسيح حتى الملائكة المقربين، وتمثيل
لشفاعته كما يستغفرون هم للذين آمنوا (المؤمن 7 و8)؛ وقيل هو اشارة إلى علو درجته
في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة (الزمخشري والبيضاوي). وقيل: جعل ذلك
كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم (الرازي) فالقربى من الله في الجنة
دالة على الله ومقام شفاعة واستغفار للمخلوقين.
فعيسى
ابن مريم له في الآخرة دنو من الله، وتقرب منه تعالى، وحظوة لديه، ووجاهة عنده،
ودالة عليه: وكل ذلك لا يعني الشفاعة كما يفسرون؟
ومهما
يكن من معنى هذه الآية فهي تدل على كل حال أن للمسيح عند الله في الآخرة ميزة
الوجاهة على الناس والأنبياء، التي كانت له على الأرض. وقد رأينا أنه انفرد بهذه
الوجاهة في الدنيا، فكذلك ينفرد بها في السماء على العالمين والمرسلين. والقرآن لا
يذكر لنبي مهما سما شيئاً من ذلك.
وهكذا
يصادق القرآن قول الكتاب: “إن المسيح لم يدخل إلى أقداس صنعتها الأيدي رموزاً
للحقيقة بل دخل إلى السماء بعينها ليتراءى الآن أمام الله من أجلنا (عب 25: 9)؛
وأيضاً: فإنه بعد أن قرب عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس عن يمين الله إلى الأبد..فمن
ثم يقدر أن يخلص على الدوام الذين يتقربون به إلى الله إذ هو حي كل حين ليشفع
فيهم” (25: 7) فالقرآن بعد الانجيل يشهد أن المسيح حي في السماء يشفع في
العالمين؛ ومن ثم فعيسى ابن مريم آية في الدنيا والأخرة للعالمين.