سلسلة كيف أتوب
تابع سلسلة كيف أتوب – ثانياً: أساس دعوة التوبة، أو الأساس الذي يُبنى عليه التوبة
تابــــــع سلسلة كيف أتـــــوب – الجزء السادس
التوبة ربيع الإنسان وتجديده المستمر
ثانياً: أساس الدعوة للتوبة
أن للتوبة أساس راسخ تقوم عليه وتُبنى وبدونه تستحيل على وجه الإطلاق، لأن الله لا يدعو الإنسان ليتوب بمجرد نداء ودعوة للأخلاق الحميدة أو على أساس أنه يهرب من الدينونة، أو لأجل أن يكون في المجتمع إنسان سوي لينال مدحاً من أحد، أو لأن الله سيستفيد من بره شيئاً أو حتى من توبته، لأن الإنسان لا يقدر أن يضيف أو ينتقص من الله شيئاً قط، بل أساس التوبة والدعوة قائمة على الآتي:
[1] محبة الله الشديدة للإنسان
[2] طول أناة الله
[3] غفران الخطايا المجاني
• [1] محبة الله الشديدة، الثابتة والفائقة:
من خلال الكتاب المقدس وخبرة المسيرة مع الله من خلال التاريخ، نجد التذوق الإنساني لمحبة الله الفائقة بصورة تفوق كل وصف وشرح، لأن الله لم يشرح بالكلام محبته، بل جعلها في حيز الخبرة، لذلك لن يعي أحد محبة الله أن لم يدخل في مجالها التطبيقي في حياته الشخصية على مستوى الواقع المُعاش، لأن الله لم يحبنا بمجرد كلام نظري فكري يُشبع العقل، بل قدم محبته لنا ظاهره في حياتنا اليومية:
[ لُحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك، بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدي أرحمك قال وليك الرب… فأن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني (نعمتي) فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب ] (إشعياء 54: 7 – 8 و 10)
فمنذ بداية الكتاب المقدس فقد وضع ملامح المحبة ظاهرة في الخلق ومن بعده السقوط والوعد بالخلاص، وتتميم الخلاص كالتدبير، لأن السقوط لم يمنع مراحم الله أو زعزع محبته الشديدة للإنسان، والهدف الأساسي من هذا كله هو إقامة حياة شركة قاعدة أساسها الحب، لذلك يا إخوتي لا يفهم الكثيرين الكتاب المقدس ويتعثروا في تاريخ معاملة الله مع الإنسان ويدخلون في متاهات غريبة متشابكة وقد يعثرون في الكتاب المقدس ويدخلوا في متاهات علم أو فكر أو فلسفة أو إعجاز، أو قضايا متفرعة تفرغه من مضمونه وقصده، وقد يفهموا الله خطأ ويدخلوا في جدل عقيم، قد يحاول البعض الخروج منه بمحاولة إنقاذ كلمة الله من شبهات تطلق عليها من غير الفاهمين وغير عارفي الله من جهة اللمس والخبرة والحياة، فيتورطون معهم في زيادة العُزلة عن الله الحي وعدم الفهم اللاهوتي الروحي للدخول في شركة، وللأسف أن أقل من أقل القليلين الذين يصلون للطريق الإلهي السليم وسط هذا التزاحم الذي يرتبكون فيه حينما يبدئوا في الدخول للكتاب المقدس، حتى حينما يسمعون دعوة الله أو نداء التوبة لا يتعرفون عليها إلا في ضوء أعمال وأشكال مختلفة لا يقصدها الله، وذلك كله لأنهم لم يصلوا لميناء الحب الهادئ الذي يجتاح النفس كسيل جارف ليأسرها ويشدها للالتصاق بالله حياتها…
عموماً منذ بداية السقوط نرى إشفاق الله الشديد على حبيبه الإنسان الذي خسر نفسه حينما طعنها بأوجاع الموت، لأنه خرج خارج وصية المحب ولم يعد يرى نفسه أنه حبيبه الخاص، فخسر التحرك نحوه وتسرب الفساد لنفسه حتى أنه أصبح غير قادر على رؤية وجه النور، فانحصر في الظلمة وشعر ببرودة الموت تجتاح كيانه كله الذي بدأ يميل نحو الفناء لأن النعمة رُفعت عنه بسبب اتخاذه للموت حليفاً لهُ، ولكن شكراً لله الذي عدل محبته لم يسمح أن صورته تضيع أو تزول من حبيبه الإنسان، فأعطاه الوعد لخلاص نفسه ونجاته لا بإنسان ولا برئيس ملائكة بل بواسطة ذاته أي هو بنفسه وبذاته يصير مخلصه الصالح، وذلك ليكون خلاصه مضموناً والله بنفسه يكون هو حياته…
عموماً حينما نرى كيف وصف الله محبته للإنسان، فأننا نجده أنه وضعها في رتبه أعلى وأقوى وأرفع من طبيعة الأمومة نفسها التي زرعها في صميم طبيعة المرأة: [ هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها ؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك ] (إشعياء 49: 15)
فعدل محبة الله الفائقة يؤكد على أنه يستحيل على وجه الإطلاق أن ينسى حبيبه الإنسان، ومن هذه المحبة تنطلق الدعوة، دعوة شخصية لكل خاطي ميت معجون بشهوات مختلفة يعيش في فساد تحت سلطان الموت، مثل إنسان يحيا تحت الأرض في مجاري المخلفات ذات الرائحة النتنة المحملة بكل الميكروبات والجراثيم، ومن كثرة مدة طول حياته في وسطها وبكونه لم يتعرف على ضوء النهار ولا الجو النقي، فأنه يصبح غريب عنه ويظن أن حياته هكذا طبيعية جداً، وكل ما هو فيه هو شركة طبيعية في الحياة الإنسانية في كل بقاع العالم، ولكن حينما يرى شعاع الشمس يأتي من منفذ بعيد فأنه يتعجب ويندهش جداً ويعرف أول مرة أن هناك حياة أُخرى أجمل وأسمى من الحياة التي يحيها وظل محروماً منها زمان هذا مقدراه وهو قابع في مكانه راضياً بحياته غير متمرداً عليها أو يسعى لغيرها، وهكذا بالمثل تأتي دعوة الله وسط عتمة ظلمة الإنسان، بمحبة شديدة فائقة، لذلك يقول في هوشع وهو يصف محبته للبشر العُصاة ويكشف عن عمق شخصيته المُحبة قائلاً:
[ كنت أجذبهم بحبال البشر، برُبط المحبة… وشعبي جانحون إلى الارتداد عني… قد انقلب عليَّ قلبي اضطرمت مراحمي جميعاً ] (هوشع 11: 4و 8)
ولو اردنا أن نستوعب معنى هذه الآية حسب قصد الله، علينا أن نركز فيما قاله الرسول: [ ونحن بعد خُطاة مات المسيح لأجلنا ] (رومية 5: 8)؛ [ الذي أحبني وأسلم نفسه (للموت) من أجلي ] (غلاطية 2: 20)
المعنى واضح بالطبع، أن الله لم ينتظر أن يتغير الإنسان حسب القول الدارج والشهير [ لما ابقى كويس أروح لله وأُصلي، لكي يقبلني واقدر على الحياة معه ]
فالله أظهر محبته لنا – أنا وأنت عزيزي القارئ – ونحن في عمق خطايانا وآثامنا، فهو يُقدم محبته لنا بإصرار ونحن جانحون إلى الارتداد عنه، وفي عمق ظلمتنا يشع علينا بشعاع نوره الخاص ليكشف لنا عن الحياة الجديدة التي ليس فيها موت بل كلها فرح في الروح القدس، يجذبنا ويشدنا إليه دائماً غير منتظر منا عمل ولا شيء قط، سوى أن نلبي الدعوة ونأتي إليه كما نحن وهو من يغسلنا ويطهرنا ويُغيرنا ويجدد نفوسنا…
ويقول العلاَّمة ديونيسيوس الأريوباغي: [ أليس حقاً أن المسيح يتقرب، بود شديد، من الذين يحيدون عنه، ويحاول معهم متوسلاً إليهم أن لا يستهينوا بحبه، وإن لم يُظهروا إلا النفور والتصامم عن سماع مُناداته، ألا يظل هو نفسه محامياً وشفيعاً عنهم ]
حقاً ما أعظم محبة الله، فأن كنت ترى نفسك خاطي مسكين متورط في كل أنواع الشرّ وتشعر في نفسك أنك ميت مرذول وليس من مشفق أو مُعين، فاعلم أنك محط أنظار الله، وشغله الشاغل، أنت موضوع محبته واهتمامه البالغ، فهو لا يرتاح ولا يهدأ إلى أن يوصل لك شعاع نوره الخاص ليردك إليه، واعلم يقيناً أن كلامنا كله هو لك، والدعوة دعوتك، وغير مطلوب منك شيئاً آخر سوى أن تصغي للدعوة وتلبيها وتقول: آمين أنا لك ولن أكون لغيرك، لا أُريد أن أحيا منحصراً في ذاتي وداخل دائرة شهواتي التي أتعبتني وخزلتني، بل أُريدك أنت لأنك أنت حياتي…
فلننصت يا إخوتي لصوت الروح ولا نقسي قلبنا بل نطيع من القلب دعوتنا المقدسة والمفرحة للقلب جداً حينما نصغي ونُطيعها؛ فما المانع لديك الآن يا من تخاف أن تقترب من الله أو تخشى من أن يرفضك من أجل كثرة آثامك وتقول [[ انا لا أنفع وغير قادر، أنا ضعيف لا أستطيع شيئاً أنا في فجور عظيم لا يدركه أحد قط، مستحقاً للموت ]]، فيا أخي الحبيب أليس لنا رئيس كهنة قادر أن يترفق بضعفتنا (عبرانيين 4: 15)، وهو يتغاضى عن كل سيئاتنا ويرأف بنا، إذ كُتب عنه [ لا يُخاصم ولا يصيح ] (متى 12: 19)، لأنه [ وديع ومتواضع القلب ] (متى 11: 24) !!!
أم أنك لا تدرك أنه كلما كنت تشعر – عن صدق – أنك فاجر بل وفاجر جداً وبدرجة في منتهى العمق والتأصل في حياة الشرّ والفساد، كلما كانت لك النعمة قوية بل وقوية جداً: [ حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً ] (رومية 5: 20)
أفأنت فاجر فعلاً وغير مستحق غير الموت، وترى أنك فاسد فساد أشد من هم في القبور وأن كل خطاة الأرض هم أفضل حالاً منك، إذاً فأن لك مسيح القيامة والحياة الذي يُقيم الميت الذي أنتن، ويمس العِظام النخرة، إذ هو بنفسه بحر غسيل الدنسين، والآن:
أفلا تدري أن التهذيب للجهال، لا أن يُعاقبوا ويطردوا خارجاً
أفلا تدري أن الأعمى يُأخذ بيده للسير في الطريق السوي، لا أن يُلكز أو يُلكم
أفلا تدري أن المريض له الطبيب الذي يعالجه، ويستحيل أن يرفضه لأن هذا عمله
فأن كنت جاهل فالرب حكمتك وسرّ معرفتك
وأن كنت أعمى فالرب نورك الذي يفتح عين الأعمى لتستنير بنوره الخاص
وأن كنت مريضاً فهو طبيبك الخاص الصالح الذي يشفي كل من تسلط عليه إبليس
وأن كنت فقير في الروح فهو يجول يصنع خيراً يُشبع الجياع خيرات أبدية لا تزول
وأن كنت ميت مرذول وعفونة حياتك تخنق كل من يعرفها، ملؤها فساد تفيض موتاً، فأن الرب قيامتك وفرح حياتك الجديدة
• والآن فما هي حجتك أمام محبة الله المقدمة لك !!!
• [2] طول أناة الله ولطفه:
طبعاً طول أناة الله وصبره على الإنسان يأتي من لطفه الذي ينبع محبته، لذلك وضعنا محبة الله في الصدارة، وتحدثنا عنها أولاً بكونها هي المصدر الرئيسي لدعوة التوبة، لأن من فعل عملها (أي المحبة) هو طول الأناة وغفران الخطايا، فالأساس هو محبة الله ومنها طول الأناة ولطفه:
[ لا يتباطأ الرب عن وعده كما يحسب قوم التباطؤ، لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أُناس، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة ] (2 بطرس 3: 9)
[ أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة ] (رومية 2: 4)
فلطف الله ليس مثل الإنسان لأنه هو لطف أبوته الحانية على حبيبه الإنسان، لأن الله بطبيعة أبوته كما كشفها لنا الكتاب المقدس تظهر في أصل الكلمة إذ تأتي بمعنى πραΰς [ لطيف، ودود، وديع، يُراعي شعور الآخرين، حليم، مترفق ]، وهذه كلها صفات تصدر من المحبة، وهذه تختلف عن القسوة والصرامة التي نتوقعها من الأعداء، لذلك فأن الله لم يكن يوماً عدواً للإنسان قط حتى لو عاداه الإنسان ورفضه، لذلك نجده بمحبته الأبوية الفائقة يشفق ويتحنن عليه ويطيل أناته جداً بصبر يفوق كل إدراكاتنا نحن البشر، لذلك يُلاطفنا ويتودد إلينا بالمحبة حتى نتوب ونرجع إليه فيُشفينا، لذلك يُعلن لنا مسرته قائلاً: [ هل مسرة أُسرّ بموت الشرير يقول السيد الرب إلا برجوعه عن طرقه فيحيا ] (حزقيال 18: 23)
ولنصغي للمكتوب جيداً جداً: [ فقال صموئيل للشعب لا تخافوا إنكم قد فعلتم كل هذا الشر، ولكن لا تحيدوا عن الرب، بل اعبدوا الرب بكل قلوبكم. ولا تحيدوا لأن ذلك وراء الأباطيل التي لا تفيد ولا تنقذ لأنها باطلة. لأنه لا يترك الرب شعبه من أجل اسمه العظيم لأنه قد شاء الرب أن يجعلكم له شعباً ] (1 صموئيل 12: 20 – 22)
ولذلك وعلى هذا الأساس المُرنم يُصلي قائلاً: [ ارحمني يا رب لأنني إليك أصرخ اليوم كله. فرح نفس عبدك لأنني إليك يا رب أرفع نفسي. لأنك أنت يا رب صالح وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليك ] (مزمور 86: 3 – 5)
[ ولأنك رب الجميع وجبروتك مصدر كل عدل، فأنت تترفق بالجميع، وتُظهر جبروتك للذين يؤمنون بكمال قدرتك، وأما الذين يعرفونها فتُشجعهم على إعلان ما يعرفونه، وبما أنت عليه من القدرة تحكم بالإنصاف، وتؤدبنا بمُنتهى العطف، وتُمارس جبروتك ساعة تشاء. وبعملك هذا عَلَّمْتَ شعبك أن من كان صالحاً فلا بُدَّ أن يكون رَحوماً، ومنحت ابنائك رجاءً كبيراً بإعطائهم فرصة للتوبة عن خطاياهم ] (حكمة 12: 16 – 19)
ونجد قمة استعلان لطف الله يظهر في العهد الجديد: [ لأننا كنا نحن أيضاً قبلاً أغبياء غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين في الخبث والحسد، ممقوتين مبغضين بعضنا بعضاً. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه. لا بأعمال في برّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية ] (تيطس 3: 3 – 7)
فلطف الله الظاهر في شخص ربنا يسوع هو الذي جذبنا إليه، كالتدبير، لأنه لم يُكلمنا من فوق كمستعلي بل في تواضع مذهل أخلى نفسه آخذاً شكل العبد لكي يلاطفنا وهو قريب منا وواحد معنا، لأن من يسعى أن يُصلح أخطاء الضعف البشري، ينبغي أن يحمل هذا الضعف عينه على منكبيه، ويتحمل ثقله لا أن يتخلص منه، لأننا نقرأ في الإنجيل بشارة الخلاص الحي، أن الراعي حمل الخروف الضعيف التائه ولم يطرحه عنه بعيداً [ وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا يقبل خطاة ويأكل معهم. فكلمهم بهذا المثل قائلاً: أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحداً منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده. وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم: أفرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال. أقول لكم أنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة ] (لوقا 15: 1 – 7) !!!
فهل وجدنا أُم تتأفف من طفلها المتسخ، أما أنها تحمله بيديها بكل لُطف وحنان فائق وتقبل أن تتسخ بنفس ذات الوسخ الذي له، وتأخذه لتحممه ولا تتذمر من رائحته الكريهة بل تحتملها، بل تفرح جداً لأنها تحممه وتمسح بكائه وتنتظر بسمته التي تفرح قلبها جداً، وأي أُم يا تُرى لا تحتمل طفلها في مرضه حتى أنها تعتبر نفسها رخيصة في عينيها، إذ أنها لا تبالي أن تقبل منه العدوى، بل تتمنى أن تحمل مرضه عنه وهو يظل صحيحاً مُعافاً !!!
لذلك نجد أن الرب يسوع وهو الطبيب الحقيقي القادر أن يُقيم من الموت، عنده محبة تفوق كل إدراكنا، فهو بشفقة المحبة الحانية وفي تواضع قلب ووداعة شديدة بكل لطف جذب إليه العشارين والخطاة وكل المرضى بأبشع أنواع الخطايا والآثام، بل وحتى المرضى بالجسد، فهو أساساً أتى إلينا بتواضع على الأرض وفي وداعة أخلى ذاته من مجده الفائق واتخذ جسدنا الضعيف مسكناً خاصاً له واقترب إلينا بودٍ شديد وجمع كل أحاسيسنا ليُركزها في شخصه ليجذبنا إليه، فقد أتى بلطف ووداعة وجعل لاهوته مستتر وراء حجاب الناسوت لكي لا يرعبنا من عظمة بهاء مجد لاهوته التي لا تستطيع الملائكة أن تنظر إليه قط، وبهذا التواضع العجيب بوداعة وتواضع القلب قال للجميع: [ تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم ] (متى 11: 28)
وهكذا نجد أن الرب يسوع يُريح ولا يُتعب أحد، يرفع الثقل ولا يضع ثقل على أحد، يُشفي ولا يُمرض أحد، بلطف يجذب أعظم الخطاة شراً ولا يلكم أو ينبُذ أحد قط، ولا يمنعنا من الدخول أو يطردنا إذا أتينا إليه خُطاة أو فجار أو حتى جهلة ملتمسين رحمته، وقد اختار تلاميذ وأعطاهم تعليم قائلاً [ أحملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم ] (متى 11: 29)، وحتى بذلك يصيروا مشابهين له، لطفاء، يدعون نفس ذات الدعوة عينها مجسدين محبة الله ورحمته للجميع، داعين كل الناس إليه بلا تمييز، لكي يجمعوا في النهاية شعب الله معاً المدعوين للحياة في شخصه العظيم القدوس، ولا يشتتوهم أو يرفضوهم أو يعيروهم.
ومن هُنا يتضح لنا أن الذين يظنون أنهم ينبغي عليهم أن يتعاملوا بخشونة وشدة مع المُخطئين أو للمخالفين الرأي ويرفضوهم ويعنفوهم، لأنهم يعتبرونهم عميان لا يدركون الحق ولا يعرفونه، أو أنهم مرضى وأموات بالخطايا والذنوب، أو أنهم أذنبوا وجرموا بشدة، عوض أن يعاملونهم بلطف ووداعة، أو يشفقون عليهم لأنهم مرضى أو عُميان لا يبصرون، فهؤلاء لا يُحسبون من بين تلاميذ المسيح الرب، لأن مثل هؤلاء الذين يدَّعون أنهم يطلبون رحمة الله عليهم وتحننه ويلتمسون غفرانه لخطاياهم، لا يرحمون الآخرين ولا يطلبون لأجلهم الغفران بل يقيموا عليهم الحد لا بالسيف بل بالكلام، طلبين أن يُحرموا ولا يكون لهم نصيب معهم في الغفران لأنهم يرونهم لا يستحقون، وبذلك يكونوا منعوا عن أنفسهم غفران الله وإحسانه ويجلبون عليهم غضب الله ورفضهم من محضره تاركاً إياهم ليموتوا في خطاياهم الكبرى وهي عدم الغفران للآخر، وتصير الصلاة الربانية شاهداً عليهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يغفروا للآخرين ويريدون أن يدخلوا الله معهم في دينونة هؤلاء المرضى، لذلك صارت خطيتهم أعظم وحرمانهم من قوة غفران الله وسلامة أكيدة لأنهم لم يستطيعوا أن يرحموا أو يشفقوا على إخوتهم الذين أحبهم الرب ومات لأجلهم أيضاً، لذلك يقول الكتاب:
[ والنهاية كونوا جميعاً متحدي الرأي بحس واحد ذوي محبة أخوية مشفقين، لطفاء ] (1بطرس 3: 8)
[ وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين، متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح ] (أفسس 4: 32)
عموماً يقول الرب على لسان إرميا النبي: [ فَاذْهَبْ وَأَعْلِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ نَحْوَ الشِّمَالِ وَقُلْ: ارْجِعِي أَيَّتُهَا الْخَائِنَةُ إِسْرَائِيلُ، فَأَكُفَّ غَضَبِي عَنْكُمْ لأَنِّي رَحِيمٌ، وَلَنْ أَسْخَطَ عَلَيْكُمْ إِلَى الأَبَدِ ] (إرميا 3: 12 ترجمة تفسيرية)
يقول القديس أغسطينوس تعليقاً على الآية السابقة: [ أنظر كيف ينصحك الله ويحثك لكي تتوب عن خطاياك فتخلُّص. أنظر كم يدعو المستحقين للموت أن يأتوا للحياة. أي رقة وأي شفقة حتى أنه لا يرفض الخُطاة حين يرجعون، بل أنه يستمر في أن يدعوهم أبناء، رغم أنهم فقدوا أبوة الله لهم بسبب خطاياهم، كما شهد الله نفسه بحزن وأسى ونوح قائلاً: “رذل السيد كل مقتدري في وسطي دعا علي جماعة لحطم شباني، داس السيد العذراء بنت يهوذا معصرة ((بَدَّدَ الرَّبُّ جَمِيعَ جَبَابِرَتِي فِي وَسَطِي، وَأَلَّبَ عَلَيَّ حَشْداً مِنْ أَعْدَائِي لِيَسْحَقُوا شُبَّانِي، دَاسَ الرَّبُّ الْعَذْرَاءَ بِنْتَ صِهْيَوْنَ كَمَا يُدَاسُ الْعِنَبُ فِي الْمِعْصَرَةِ)) ] (مراثي 1: 15)
فأننا نتعلم من هذه الكلمات أن الله يحبك ويُريد لك الحياة لا الهلاك، ولكنك تحتقره وترذله، ذاك الذي يقول: “هل أُسرّ بموت الشرير يقول السيد الرب إلا برجوعه عن طُرقهُ فيحيا” (حزقيال 18: 23) فأنت ترغب في الموت عن طريق الخطايا التي تسقط فيها، ولكنه يُريد لك الحياة عن طريق التوبة ]
• [3] غفران الخطايا: