الموحدون والحنفاء ومدّعو النبوة قبل الإسلام
الموحدون
والحنفاء ومدّعو النبوة قبل الإسلام
(الشعر
ديوان العرب)
هذه
المقولة هي أصدق ما قيل عن عرب ما قبل الإسلام, والقراءة المتأنية للشعر الجاهلي
تكشف لنا النقاب عن الموروث التشريعي والعقائدي لعرب الجزيرة قبل بعث النبي,
فَلَوْلاَ
كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ
الْفَسَاِد فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ (سورة هود
11: 116),
هذا
قول القرآن الكريم وهو يدفعنا لمعرفة (أولو البقية الذين ينهون عن الفساد),
ولمعرفة هؤلاء لا بد لنا من القراءة المتمهلة للشعر الجاهلي؟ وخاصة الديني منه
ولعل ما بقي لنا من آثار الشعراء الموحدين قبل الإسلام كافٍ للوقوف على هذا الكم
الهائل من الشعر الذي كتب قبل بعث النبي, ونحن قد لا نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور
طه حسين في موقفه من الشعر الجاهلي بوجه عام والديني منه بشكل خاص؟ فالتراث العربي
لم يترك لنا شيئاً نرجع له عن عرب ما قبل الإسلام سوى أشعارهم وما كتبه عنهم بعض
المؤرخين كهيرودتس وغيره؟ لذلك سنحاول إعادة قراءة الشعر الجاهلي, وبالرغم من أننا
لا نركن إلى القول بصحة كل ما هو مكتوب من الشعر الديني قبل الإسلام فإننا أيضاً
لا نوافق على المذهب القائل بانتحاله كله: لذلك سوف لا نعتمد كل المصادر أو
نتجاهلها؟ بل سنحاول الاعتماد على أوثقها مع التأكد من توثيقه عند أهل التاريخ
لأنهم المعنيون ببحثنا هذا,
الموحدون
والحنفاء:
لم
يحظ التاريخ العربي كله بجماعة من الغامضين مثل ما كان من شأن الحنفاء فالأشعار
المنسوبة لهم لا يمكننا الجزم بصحة نسبتها إليهم بل لا يمكننا- في وجود هذا الكم
من الشعر- إلا الارتياب في هذا الشعر, هذا بالإضافة إلى تضارب الأخبار في شأن
كينونة بعض هؤلاء النفر من العرب؟ فلم يتفق رواة التاريخ في أمر من أمور المحودين
أو الحنفاء العرب؟ فتارة يضعون ورقة بن نوفل؟ وقُس بن ساعدة؟ وأمية بن أبي الصلت؟
وزيد بن عمرو في عداد الحنفاء الذين هجروا أصنام العرب واتبعوا دين إبراهيم؟ وتارة
يذكرون أنهم ممن تنصر من العرب, ولذلك فنحن لا نعرف على وجه الدقة- طبقاً لما
لدينا من مصادر- إذا كان أمية وزيد وقُس وورقة من المحودين أم الحنفاء أم النصارى,
ولعل هذا هو سبب ذكرنا لهم باقتضاب بين نصارى العرب قبل الإسلام؟ وبتفصيل في هذا
لفصل لأننا لا نرى أنهم كانوا نصارى؟ بل الأرجح لدينا أنهم تأثروا بنصارى ويهود
الجزيرة وإن لم يقتنعوا بديانتهم, وعلى كل الأحوال سوف نتناول لاحقاً أشهر من عُرف
منهم فيما قبل الإسلام,
زيد
بن عمرو بن نفيل:
كان
زيد ممن تحنف قبل بعث النبي وكانت له آراؤه في عبادة الأصنام والذبح لها وفي كثير
من أفعال العرب؟ ومما يُروى عنه أنه كان لا يذبح للأنصاب؟ ولا يأكل الميتة والدم
ويحيي الموؤودة ويحرم الخمر والخنزير (بلوغ الأرب للبغدادي ج 2 ف, زيد بن عمرو),
وقد
روى ابن دريد: أن زيداً أدرك أيام الرسول؟ ثم قال: وكان النبي قبل الوحي قد حبب
إليه الانفراد؟ فكان يخلو في شعاب مكة؟ قال: فرأيت زيد بن عمرو في بعض المشاعب؟
وكان قد تفرد أيضاً؟ فجلست إليه وقربت إليه طعاماً فيه لحم؟ فقال: يا ابن أخي إني
لا آكل من هذه الذبائح (المفصل 6: 473), وكان زيد يعيب على قريش ذبائحهم؟ ويقول: إني
لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذُكر اسم الله عليه (التفصيل 6: 474),
وقد أورد أهل الأخبار شعراً كثيراً لزيد ومعظمه- إن لم يكن كله- شعر ديني حتى كان
قابي قوس أو أدنى من الشعر الإسلامي, وسبب عدم قبولنا لأغلب الشعر المنسوب لزيد هو
نص هذا الشعر ذاته الذي يصرخ بانتحاله, وأفضل ما نفعله في هذا المقام هوإيراد بعض
من هذا الشعر المنسوب لزيد لكي نرى روحه الإسلامية:
فتقوى
الله ربكم احفظوها– متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى
الأبرار دارهم الجنان– وللكفار حامية سعير
وخزي
في الحياة وإن يموتوا– يلاقوا ما تضيق به الصدور
(السيرة
النبوية- لابن هشام- ف, ذكر زيد بن عمرو),
قُس
بن ساعدة:
سبق
وقلنا: إن قس كان خطيب العرب وحكيمهم- في وقته- وعُد من الأوائل في أمور كثيرة؟
فهو أول من قال أما بعد؟ وهو أول من آمن بالبعث والحساب من أهل الجاهلية؟ وأول من
كتب إلى فلان بن فلان؟ وأول من قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر (بلوع
الأرب 2: 246- السيرة الحلبية 1: 318), ولقس أشعار كثيرة تتمحور كلها حول البعث
والحساب واليوم الآخر كقوله:
يا
ناعي الموت والملحود في جَدَتٍ– عليهم من بقايا ثوبهم خِرقُ
دُعهم
فإن لهم يوماً يُصاح بهم– فهم إذا انبهوا من نومهم أَرِقوا
حتى
يعودوا بحال عير حالهمُ– خَلقاً جديداً كما من قبله خُلِقوا
منهم
عراة ومنهم في ثيابهمُ– منها الجديد ومنها المُنهَجُ الخَلَقُ
(السيرة
النبوية- ابن كثير- 1: 151),
ويذكر
ابن كثير أن قُس هو أول رجل تأله من العرب ووحد؟ وأقرّ وتعبّد؟ وأيقن بالبعث
والحساب؟ حذّر سوء المآب؟ وذكر النشور وندب بالأشعار؟ وفكر في الأقدار؟ وأنبأ عن
السماء والنماء؟ وذكر النجوم وكشف الماء؟ ووصف البحار؟ وعرف الآثار وخطب راكباً؟
ووعظ دائباً؟ وحذّر من الكرب ومن شدة الغضب؟ ورسّل الرسائل؟ وذطر كل هائل؟ وأرغم
في خطبه؟ وبيّن في كتبه؟ وخوّف الدهر؟ وحذّر الأزر؟ وعظّم الأمر؟ وجنّب الكفر؟
وشوّق إلى الحنيفية؟ ودعا إلى اللاهوتية (السيرة النبوية- ابن كثير- 1: 146), وهذا
الذي ذكره ابن كثير يوضح مدى أهمية دعوة قُس؟ إذا ما وُضع في الحسبان الخبر الذي
ذكرناه قبلاً حول سؤال النبي عن خطبة قُس في سوق عُكاظ, فقُس شأنه شأن أغلب
الحنفاء؟ لم يكتفي بمجرد اقتناعه بفكر ما؟ بل كان يدعو له بلا كلل مستغلاً في ذلك
أهم ملتقى عربي وهو سوق عكاظ، وهو من القليلين الذين لم تُهاجم دعوتهم بعد
الإسلام؟ بل قال عنه النبي: رحم الله قُساً؟ إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده
(مروج الذهب- المسعودي- المكتبة الإسلامية- بيروت- د 1 ص 70), وهو أيضاً من
القليلين الذين لا نجد عنهم ما يثير الغموض حول دعوتهم قبل الإسلام؟ حيث أننا نجد
صعوبة تصديق كل ما كُتب عنه أو إنكاره؟ ولا نجد إلا تساؤلات كثيرة تحيط به
وبدعوته,
أمية
بن أبي الصلت:
على
العكس من معظم الحنفاء قبل الإسلام نجد أمية يتمتع بصيت واسع دونهم؟ فما ذُكر عنه
في كتب التاريخ أشياء أكثر من أن يحويها هذا الكتاب؟ وهذه الكثرة هي أول الدوافع
عندنا للشك في أغلب هذه الأخبار؟ وعندي أن أغلب هذه الأخبار منحولة على أمية
وبالتحديد في فترة الحجاج بن يوسف الثقفي؟ فالحجاج وأمية كلاهما ثقفي؟ وهذا في حد
ذاته كاف لدفع أصحاب المنافع المادية إلى انتحال أخبار كثيرة عن أمية للرفع من شأن
ثقيف؟ مثل ما يروى حول معرفة أمية للغة الطيور والحيوانات (السيرة النبوية- ابن
كثير- 1: 136), ومن ذلك قوله:
إله
العالمين وكل أرض– ورب الراسيات من الجبال
بناها
وابتنى سبعاً شداداً– بلا عمد يرين ولا رجال
وسواها
وزينها بنور– من الشمس المضيئة والهلال
ومن
شهب تلألأ في دجاها– مراميها أشد من النضال
(شعراء
النصرانية- ص 226),
ورغم
البصمة الإسلامية الواضحة في أغلب شِعر أمية إلا أن هناك من أشعارهما تتضح فيه
الروح العربية؟ حيث يستخدم فيه ألفاظ لم تكن تستخدم إلا في شعره مثل قوله:
ملائكة
لا يفترون عبادة– كروبية منهم ركوع وسجد
فساجدهم
لا يرفع الدهر– رأسه يعظم رباً فوق ويمدَّد
وراكعهم
يحنو له الدهر خاش– عاً يردد آلاء الإله ويحمد
ومنهم
مُلفٍّ في الجناحين رأسه– يكاد لذكرى ربه يتفصّد
(شعراء
النصراتية- ص 227)
هذا
الوصف للملائكة غير مستخدم في الشعر المكتوب بعد الإسلام؟ حيث أنه وصف يعتمد بشكل
أساسي على ما جاء في التوراة حول الكروبيم- الملائكة- وهو ما لا نجده في شعر ما
بعد الإسلام, ومما يذكر عن أمية أنه كان يرى في نفسه نبي العرب القادم حيث يقول: إني
لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أنني هو؟ وكنت أتحدث بذلك (السيرة
الحلبية- 1: 301), ورغم أن معظم شعر أمية ديني الصبغة إلا أنه لم يُسلم قبل موته؟
بل أجمع أهل السيرة على موته كافراً بالإسلام؟ وقد ذكرنا قول النبي عن أمية كاد
ليُسلِم- (صحيح مسلم 5: 110),
أنبياء
أضاعهم أقوامهم:
1-
سويد بن الصامت:
لم
تذكر كتب التاريخ شيئاً كثيراً عن سويد؟ اللهم إلا بعض السطور التي كُتبت عنه في
كتب متفرقة, والغريب في هذا الأمر أن ما ذكر عنه يشير إلى تميزه عن معظم من ادعوا
النبوة قبل الإسلام؟ فسويد من القليلين الذين تسميهم العرب الكامل لشرفه وعلو
مكانته (المفصل- 8: 166), وهو من قامت بسبب قتله حرب يوم بُعاث وهي من أشهر الحروب
التي قامت بين الأوس والخزرج (طبقات ابن سعد- 3: 552), ويذكر ابن هشام عرض النبي
نفسه على سويد فيقول: قدم سويد مكة حاجاً أو معتمراً؟ وكان سويد إنما يسميه قومه
فيهم؟ لجلده وشعره وشرفه ونسبه,,, فتصدى له رسول الله حين سمع به؟ فدعاه الى الله
وإلى الإسلام, فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي فقال له الرسول: وما الذي
معك قال: مجلة لقمان- يعني حكمة لقمان- فقال له رسول الله: اعرضها علي فعرضها
عليه؟ فقال له: إن هذا الكلام حسن؟ والذي معي أفضل من هذا؟ قرآن أنزله الله تعالى
علي هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله القرآن؟ ودعاه إلى الإسلام؟ فلم يبعد منه؟
وقال: إن هذا لقول حسن ثم انصرف عنه؟ فقدم المدينة على قومه؟ فلم يلبث أن قتلته
الخزرج؟ فإذا كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم وكان قتله يوم
بعاث (السيرة النبوية-ابن هشام- 2: 19؟ 20),
إذن
فسويد لم يكن شاعراً أو شريفاً فقط؟ بل كان أيضاً داعية لدعوة جديدة في الجزيرة؟
وكانت دعواه تستند إلى مجلة لقمان- التي لا نعرف عنها أكثر من اسمها- وهي دعوة
مختلفة عن دعوة مسيلمة باليمامة؟ أو دعوة الأسود العنسي بثقيف؟ فالنبي لم يهاجمها
ولم يقل بوثنيتها؟ بل على العكس لم يزد النبي على قوله: إن هذا الكلام حسن فهل
كانت دعوة سويد توحيدية؟ وهل كانت مجلة لقمان تحوي منهج هذه الدعوة؟ وهل تأثرت هذه
الدعوة بأكبر تجمع يهودي في الجزيرة؟ وهو الذي كان موجوداً في المدينة موطن سويد؟
كل هذه التساؤلات لا يمكننا- طبقاً لما هو مكتوب عن سويد في كتب التاريخ الإسلامي-
أن نجيب عنها؟ وأيضاً لا يمكننا تركها دون وضع الكثير من علامات الاستفهام والتعجب
من موقف كُتاب التاريخ من سويد وغيره من الموحدين العرب قبل الإسلام,
2-
خالد بن سنان العبسي:
كان
مقراً بتوحيد الربوبية والألوهية؟ ناهجاً منهج الملة الحنيفية؟ وكثير من الناس ذهب
إلى أنه كان نبياً؟ وجاء في الحديث: ذاك نبي ضيعه قومه ويذكر البغدادي خبر قدوم
ابنة خالد إلى النبي فسمعته يقرأ قل هو الله أحد فقالت: كان أبي يقرأ هذا (بلوغ
الأرب للبغدادي 2: 278), ويذكر المسعودي: أن ناراً ظهرت في العرب؟ فافتتنوا بها؟
وكانت تنتقل؟ كادت العرب تتمجس وتغلب عليها المجوسية؟ فأخذ خالد بن سنان هراوة وشد
عليها وهو يقول: بدا بدا؟ كلٌّ هدى؟ مؤدٍّ إلى الله الأعلى؟ لأدخلنها وهي تتلظى؟
ولأخرجن منها وثيابي تتندى فأطفأها, فلما حضرت خالد الوفاة قال لإخوته: إذا دفنت
فإنه ستجيئ عانة من حمير يَفْذُمُها عيرٌ أبتر؟ فيضرب قبري بحافره؟ فإذا رأيتم ذلك
فانبشوا عني فإنني سأخرج إليكم؟ فأخبركم بجميع ما هو كائن فلما مات ودفنوه رأوا ما
قال؟ فأرادوا أن يخرجوه؟ فكره ذلك بعضهم وقالوا: نخاف أن تسبنا العرب بأنا نبشنا
ميتاً لنا (مروج الذهب- 1: 67), ويذكر ابن كثير عن ابن عباس؟ قال: جاءت بنت خالد
بن سنان إلى النبي؟ فبسط لها ثوبه وقال بنت نبي ضيعه قومه (السيرة النبوية- ابن
كثير- 1: 104), ومن غير المعروف لنا أي شي أكثر مما ذكرناه عن خالد؟ ولا عن نبوته
التي أضاعها قومه؟ حيث لا تحوي كتب التراث الإسلامي أي شيء عنه؟ وكما أضاعه قومه
نبوته؟ أضاع أهل التأريخ ما يتعلق بسيرته,
الخلاصة:
كانت
الجزيرة العربية تذخر بالكثير من الديانات والدعوات التوحيدية قبل الإسلام؟ وهذه
الديانات كان لها دور كبير في تشكيل الموروث التشريعي لعرب ما قبل الإسلام؟ ابتداء
من شرائع العرب المتأثرة بالديانات الكتابية كالقصاص والقسامة ورجم الزناة؟ انتهاء
بما كان معمولاً به في ديانات غير كتابية كالصابئة من صلب لقاطع الطريق وقطع يد
السارق؟ وتحديد دية القتل, وكل أو معظم هذه الشرائع اتفق مع ما جاء به الإسلام؟
وذلك إما لوحدة المصدر بين الإسلام والديانات السماوية؟ أو لموافقة الإسلام على
هذه الشرائع عملاً بالقاعدة القائلة: شرع من قبلنا ما شرع لنا؟ ما لم نؤمر فيه
بشيء، وكما رأينا في الفصول السابقة أن بعض الشرائع التي وافق عليها الإسلام ما
تزال باقية حتى اليوم مثل قول العرب في: تحريم زواج الأمهات؟ والبنات؟ والخالات؟
والعمات؟ وخِطبة المرأة لوليها؟ والطلاق ثلاثاً؟ وتحريم الأشهر الحرُم والبلد
الحرام مكة؟ والقصاص؟ ورجم الزناة وحكمهم بأن الولد للفراش؟ وقسمة الغنائم؟ وقطع
يد السارق اليمنى,,, وسنرى في الفصول القادمة أن هناك أموراً أخرى وافق الإسلام
عليها؟ أو- إن شئنا الدقة- تركها للناس ليروا ما يناسبهم من أحكام على أن لا يكون
فيما يروه خروجاً عن الإسلام؟ كأن يحلّوا حراماً؟ أو يحرموا حلالاً,