الفصل العاشر
الفصل
العاشر
رحلة المسيح
إلى الشمال وقيصرية فيلبُّس
كان
المسيح لا يزال يتحيَّن الفرص للجلوس مع التلاميذ العائدين من الإرسالية، ليعدّهم
لعواصف المستقبل الوشيكة، وإذ رأى أنه من الصعب الحصول على هذا الغرض في المنطقة
المحيطة، قرَّر أن يتجه نحو الشمال خارج حدود إسرائيل. وقد ألحَّت عليه ظروف أخرى
للقيام بتلك الرحلة، فهيرودس كان قد سمع بأعمال المسيح وأبدى رغبة في أن يراه. وإن
كانت اتجاهاته غير معروفة، ولكن من المؤكَّد أنها لم تكن روحية، لهذا تحاشاها
المسيح. أمَّا حاكم المنطقة التي سيذهب إليها فكان فيلبُّس رئيس ربع. وكانت الرحلة
صوب بانياس أو قيصرية فيلبُّس، ولكنه اتجه أولاً إلى بيت صيدا يولياس على الساحل
الشمالي الغربي لبحيرة طبرية. وهنا جاءوا إليه بأعمى فأراد المسيح أن يُجري شفاءه
بعيداً عن المدينة والازدحام. وفي هذه المرَّة أجرى المسيح عليه عملية تفتيح عينيه
على مراحل، وأمره أن لا يقول لأحد حتى يتسنَّى له البعد عن التجمُّع (مر 8: 22–26).
64- اعتراف
بطرس بالمسيح
عندما
اختلى المسيح بتلاميذه بالقرب من مدينة قيصرية فيلبُّس سألهم عن ماذا يقول الناس
عني: “فأجابوا يوحنا المعمدان. وآخرون إيليا. وآخرون واحد من الأنبياء. فقال
لهم: وأنتم مَنْ تقولون إني أنا. فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح. فانتهرهم كي لا
يقولوا لأحد عنه” (مر 8: 27-30). ولكن في إنجيل ق. متى يضيف على هذه الآية
تطويب بطرس، إذ نال هذا الاستعلان من الآب السماوي هكذا: “فأجاب يسوع وقال
له: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحماً ودماً لم يُعْلِنْ لك، لكن أبي الذي في
السموات. وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب
الجحيم لن تقوى عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون
مربوطاً في السموات. وكل ما تحلُّه على الأرض يكون محلولاً في السموات. حينئذ أوصى
تلاميذه أن لا يقولوا لأحد” (مت 16: 17-20). وهنا جاء الوعد للكنيسة أن أبواب
الجحيم لن تقوى عليها بمعنى مملكة الموت وسلطان الشيطان، وهذا يعني أن كنيسة
المختارين الشركاء في الحياة الإلهية لا يعود للموت سلطان عليهم، وهم لا يخافون
الموت. أمَّا اسم بطرس أنه الصخرة فهو الاسم الجديد الذي منحه المسيح لسمعان يوم
دعاه باسم كيفا أي “رجل الصخرة”. أمَّا بخصوص مفاتيح ملكوت
السموات والحل والربط فقد أُعيد النطق بها في (مت 18: 18) لكل الرسل معاً:
“الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء”
وأيضاً: “مَنْ غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو
23: 20). على نمط ما كان يعمل المسيح بالنسبة للمرضى فيشفون. والقصد منها أن
يزيلوا من أفكار الناس وقلوبهم الإحساس بالخطية ورعبها، أي يُعِدُّوا ويُسهِّلوا
الطريق إلى الملكوت. وقد كرَّرها ق. بولس بأسلوب آخر: “لأننا رائحة المسيح
الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك
رائحة حياة لحياة. ومن هو كفؤٌ لهذه الأمور.” (2كو 2: 15و16)
بعدها رفع المسيح عينيه إلى السماء وقال: “أحمدك أيها
الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه (هذه الحكمة) عن الحكماء والفهماء وأعلنتها
للأطفال (التلاميذ وأبناء الملكوت).” (مت 25: 11)
ثم
أعلن عمَّا قد صار له: “كل شيء قد دُفع إليَّ من أبي، وليس أحد يعرف الابن
إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومَنْ أراد الابن أن يُعلن له”
(مت 27: 11). بالمعنى الذي فهمه ق. بولس وكشفه: “المذَّخر فيه جميع كنوز
الحكمة والعلم.” (كو 3: 2)
أمَّا
منع التلاميذ من أن يذيعوا سر المسيَّا، فذلك خوفاً من أن يُفهم ذلك على المستوى
السياسي عند اليهود ويكون له الأثر السيئ على الرسالة كُلِّها. وحتى يمنع المسيح
تسرُّب مثل هذه الأفكار عن مسيانيته بالنسبة لتلاميذه، ابتدأ منذ هذه اللحظة يكشف لهم عن آلامه وموته المزمع أن يكون،
بمعنى أنه مسيَّا الروح لخلاص الروح، وليس مسيَّا المُلك والحرب والسلطان الأرضي.
ولكن
لمَّا لم يحتمل بطرس فكرة آلام المسيح وصلبه، ابتدر المسيح بنصيحته الفاشلة:
“فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره (ينتهر المسيح!) قائلاً: حاشاك يا رب! لا
يكون لك هذا” (مت 22: 16)! وهذا الفكر أزعج المسيح مما جعله يوبِّخه:
“فالتفت (المسيح) وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم
بما لله لكن بما للناس” (مت 23: 16). فهذا التوبيخ العلني يضع تكريم المسيح
لبطرس في السابق على أساس غير شخصي، بل بمقتضى صورة الإيمان الصحيح الذي استعلنه
من الآب، فيصبح هذا الاستعلان والإيمان هو مصدر الطوبى وليس شخص بطرس، الذي أصابه
هنا انتهار عنيف على مستوى الشيطان. وهنا في الحال حوَّل المسيح عثرة بطرس (التي
فيها ظهر أن اهتمامه بأمور الناس هو الذي جعله يعطي هذه النصيحة الفاشلة للمسيح)
إلى توعية جديدة لإنكار الذات، حتى لا يرى الإنسان فيما ينفعه بشريًّا، بل فيما
يخص الله والإيمان والحياة الأبدية: “إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه
ويحمل صليبه ويتبعني، فإن مَنْ أراد أن يخلِّص نفسه يهلكها، ومَنْ يهلك نفسه من
أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي
الإنسان فداءً عن نفسه؟” (مت 16: 24–26). وهذا الشرط الهام جداً
لصلاحية السير وراء المسيح تكرَّر في كل الأناجيل (مر 8: 34و35، لو 9: 23و24، يو
12: 25و26).
65- أهمية
الوداعة للخدَّام
“كونوا
حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”
على
أثر سماع المسيح لتقرير الرسل عن إرساليتهم وما قابلهم من صعوبات، بدأ المسيح يضع
لهم أساس السلوك للخادم. وأول ما شدَّد عليه المسيح: الوداعة. خاصة وأن الخادم لا
يملك ولا حق له أن يملك أي سلاح للدفاع عن نفسه. فالدفاع بالنسبة للخادم هو إبراز
حُسْن النية مع الإعلان عن المحبة والوداعة: “ها أنا أرسلكم كغنم (أو حملان)
في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام” (مت 16: 10). بمعنى أن
يكون لهم براءة الحمل أو الطفل ونقاوة القلب التي تمثلها الحمامة، كما يكون لهم
حكمة التدبير للأمور التي تمثلها الحية الحريصة على حياتها: “أيها الإخوة، لا
تكونوا أولاداً في أذهانكم، بل كونوا أولاداً في الشر، أمَّا في الأذهان فكونوا
كاملين” (1كو 20: 14). هنا لا يتجاوز المسيح عمل الروح القدس إلى الإمكانيات
الجسدية، بل يعطي مع الروح القدس السلوك الذي يتوافق مع الروح القدس، فروح الله
وديع وهادئ! فسلطان الخدمة لا يعمل إلاَّ في القلوب الوديعة، ولا يكون له قوة أو فعل
إلاَّ مع الأذهان الحكيمة الكاملة بشبه الله. فالقلب القاسي والفكر المتشدِّد
المتهوِّر إذا استخدم سلطان الروح قتل وخرَّب وأعثر الناس وهيَّج الشيطان
والرئاسات: “أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم؟” (لو 54: 9).
فالوداعة والحكمة هما شرط أساسي للعمل بسلطان المسيح والروح.
كذلك
فلينتبه القارئ والخادم أن” حكمة الحية” لا تجوز ولا يُعمل بها
إلاَّ مع” وداعة الحمام”، فإذا لم تمتلك الوداعة في القلب فإن
الحكمة تعمل لحساب الحية وليس الحمام. فحكمة الحية بالنسبة للحيَّة هي اتقاء شر
الإيذاء من الآخرين وحسب، أمَّا الوداعة بشبه الحمام فهي كسب ودّ الآخرين ومحبتهم
واستماعهم لتعليم الملكوت. ومنطق هذه النصيحة من المسيح شديد الواقعية والأهمية،
لأن فيها مضادة شنيعة، فذهاب الحَمَل ليخدم وسط الذئاب معناه أنه مأكول حتماً،
ولكن مع الوداعة ونقاوة القلب تتدخَّل حكمة الروح وتدبير النعمة، فإن الذئاب تفقد
وحشيتها: “إذا أرضت الربَّ طرقُ إنسان (الوداعة) جعل أعداءه أيضاً
يسالمونه” (أم 7: 16)، وهذا هو منطق المضادة المحلولة أو المستجابة عند
المسيح والروح. فالحمل يذهب للذئاب حاملاً روح المسيح وحبه ليغيِّر الذئاب إلى
حملان، لأن المقصود من الذئاب هو الروح الوحشية التي يتقمَّصها بعض الناس.
66- لا
تطرحوا درركم قدَّام الخنازير
ومع
الحكمة والوداعة اللازمَيْن للخدمة والخدام، يأتي بالضرورة الاحتراس من التعليم
والوعظ بالإلهيات والأمور المقدَّسة أمام القوم المستهزئين الذين يعيشون لبطونهم
وشهواتهم، هذه مثَّلها المسيح بإلقاء الدُّرر أمام الخنازير أو المقدَّسات للكلاب:
+”
لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدَّام الخنازير، لئلاَّ تدوسها
بأرجلها وتلتفت فتمزِّقكم” (مت 6: 7)
فالمعارف
الروحية الثمينة وأسرار الملكوت ومقدَّساته لا تُقدَّم إلاَّ لمن يقيِّمونها حق
قيمتها، فيتقبَّلونها بخشوع وتقوى وخضوع. ولكن إن كانوا قوماً مستهزئين ماديين
شهوانيين فإنهم يستهينون بأمور القداسة والملكوت، بل ويهاجمون القائلين بها
ويسخِّفون من معانيها وحقائقها ويحتقرونها هي وقائلها. لذلك لا ينبغي التسرُّع في
التعليم لقوم إلاَّ بعد التأكُّد من مستواهم الإيماني: “وأية مدينة أو قرية
دخلتموها فافحصوا مَنْ فيها مستحق” (مت 11: 10). وهذه الوصية هي امتداد
للوصية السابقة: كونوا حكماء وودعاء، فالحكمة من ضمن مهامها قياس قامة السامع
ليُعطى له ما يوافقه. فالشجاعة والغيرة في الخدمة بالإنجيل واجبة، ولكن لابد أن
يتحكَّم فيها الحكمة والتدبير الحسن. ومعروف أن الصليب هو عثرة للجهلاء.