الفصل الخامس
الفصل الخامس
الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية
توطئَة
رأينا في الفصول السابقة أن الله هو الإله الأوحد، الآب الضابط الكل،
الذي بفيض من محبته خلق السماء والأرض وكل ما فيها من جماد ونبات وحيوان، وجعل من
الانسان قمة الخلائق. ورأينا كذلك أن الكائنات كلها تستقي من الله وجودها وكيانها.
إلاّ أنّ الله كليّ الصلاح، أما في سائر الكائنات فنجد جنباً إلى جنب الخير والشرّ.
فمن أين الشر إذاً، إنْ كان الله ينبوع الخير والصلاح؟
يمكننا تعريف الشرّ بقولنا انه خلل في الكائنات. والشرّ على نوعين،
طبيعي وأدبي. فالشرّ الطبيعي هو الذي يحدث من دون إرادة الانسان، كالمرض والموت
والكوارث الطبيعية التي تسبّب للانسان الأذى والضرر، كما لزلازل والفيضانات
والأوبئة.. أما الشرّ الأدبي فهو الخلل الذي يحدثه الانسان بملء ارادته في نفسه
وفي الآخرين؛ وهذه هي الخطيئة على مختلف أنواعها.
لا ريب في أنه بإمكاننا تفسير الشرّ الأدبي، أي الخطيئة، بالعودة إلى
حرية الانسان. فعندما يقتل إنسان أخاه، أو يظلمه، أو يستعبده، أو يستغلّه كأداة
لتحقيق مآربه الأنانية، لا يخطر على بال أحد أن يتّهم الله ويعزو إليه مسؤولية ذلك،
فالانسان هو المسؤول عما يحدث في العالم من جرائم ومظالم.
ولكنّ الشرّ الطبيعي، الذي يقع من دون إرادة الانسان، فيُحدث خللاً في
جسمه أو في نفسه، ويسبّب له المرض والألم أو يقوده إلى الموت، مَن المسؤول عنه؟
واذا كان الانسان يخطأ، أفليس لأنه من طبيعته يميل إلى الخطيئة؟ وإن كان باستطاعة
الانسان أن يقتل أخاه، أفليس لأن الانسان من طبيعته مائت؟ وطبيعته هذه من خلقها؟
أليس الله؟ فلماذا إذاً الإله الكلي الصلاح خلق في طبيعة الانسان الميل إلى الشرّ؟
ولماذا الإله الكلي المحبة وضع في طبيعة الانسان إمكان الألم وحتميّة الموت؟
القِسم الأول
تفسيرات خاطئة
لقد أعطيت، على مرّ العصور، وفي مختلف الأديان، تفسيرات للشرّ لم تعد
مقبولة اليوم.
1-
تفسير ميثولوجي في الأديان التي تعتقد بتعدّد الآلهة
كان الاعتقاد السائد عند اليونانيين والبابليين أنّ الخير هو من صنع
الإله الأعظم، وأنّ الشرّ هو من عمل الآلهة الأدنين. وتلك هي الأسطورة التي نقرأها
في كتاب طيمَاوس لأفلاطون: ان الله الكليّ الصلاح قد أراد أن يكون كلّ ما في الكون
صالحاً على مثاله، فكوّن هو نفسه الآلهة الأدنين، وأزال عنها كل شرّ، ومنحها
الخلود، ووكل إليها مهمّة صنع سائر المخلوقات، فجبلتها مزيجاً من روح وجسد، من
خلود وموت، من خير وشرّ؛ ونشأ هكذا أصل كل الشرور. وإنّ هذه الأسطورة إذ تنزّه
الإله الأعظم عن خلق الشرّ، وتلقي المسؤولية على الآلهة الأدنين، تجد حلاً لمعضلة
الشرّ.
2-
تفسير الغنوصيّين والمانويّين: الشرّ في المادة
لتفسير وجود الشرّ يقول الغنوصيون -وهم بدعة ظهرت في القرون المسيحية
الأولى- ان المادة انبثقت من الله ولكن على مراحل متعدّدة. وفي كل انبثاق كان
الخير يتقلّص والشرّ يزيد، إلى أن انبثقت المادة الحالية التي هي شرّ كلّها.
أما المانويون -وهم أتباع الفيلسوف الفارسي ماني، الذي توفي في فارس
سنة 273 بعد المسيح- فلا يعتقدون بوجود إله واحد خالق للكون، بل بوجود مبدأين
أزليين وغير مخلوقين، النور والظلمة، أحدهما صالح والآخر شرير. فالنور هو إله
الخير، والظلمة إله الشرّ. أما المادة فهي ظلمة، أي شرّ. وفي أساطيرهم انه حدث
يوماً أن أشرق إله الخير بنوره على المادة المظلمة، فأرادت أن ترتفع إلى مستواه،
فصدّها، وخلق الانسان الأول لمساعدته على مقاومتها. إلا أن الظلمة كانت أقوى من
الانسان، فسجنته في المادة. ومن هذا الانسان المقهور وُلدَت الانسانية الحالية
التي لا تستطيع التحرّر من قيود المادة إلا بالمعرفة الحقيقية.
ان ما يجمع بين الغنوصيّين والمانويّين، في تفسير الشرّ، هو أنهم يرون
الشرّ كلّه في المادة. أمّا الله فلا وجود للشرّ فيه، لأنه روح محض؛ فهو إذاً
الخير والصلاح في ذاته.
3-
تفسير الشرّ بالعودة إلى العناية الإلهية:
الشرّ الجزئي يقود إلى الخير العام
يقول أفلوطين إنّ في العالم “نفساً شاملة” هي عناية الله
التي تنتشر من تلقاء ذاتها في العالم وتقوده إلى الخير، لذلك لا وجود للشرّفي
العالم. أما ما نعتبره شرًّا، من زاويتنا الضيقة، فهو في الحقيقة خير ضروري للنظام
العام ضرورةَ الجلاَّد في الدولة.
وهذا التفسير قد تأثّر به بعض آباء الكنيسة، كالقديس أوغوسطينوس الذي
يرى أنّ العناية الالهية تنظّم كل شيء بحكمة، وانّ كل شرّ ينتابنا، علينا أن نقبله
بفرح لأنه يقودنا إلى الخير العام.
هذا التفسير نجده أيضاً في القرن الثامن عشر عند الفيلسوف الألماني
لايبنيتز الذي يتصوّر الله مهندساً يبني قصراً جميلاً لمجده الخاص. ويقول انه يجب
علينا، لتفسير معضلة الشرّ، ألاّ ننظر إلى قباحة بعض التفاصيل بل إلى روعة البناء
بجملته. وأكثر من ذلك، فان قباحة تلك التفاصيل تزيد روعة البناء وتضاعف إعجابنا
بحكمة الله الذي يستخدم الشرّ ليخرج منه الخير الأعظم. لذلك، وان كانت هناك عدّة
عوالم ممكنة، فالعالم الذي خلقه الله هو أفضلها.
إن تفسير الشرّ بالرجوع إلى العناية الإلهية لا يزال التفسير السائد
مختلف الأوساط المسيحية التي تؤمن بصلاح الله ولا تريد أن تعزو إليه أيّ شرّ.
فتقول إن الله يَعلم خيرنا أكثر منّا، فاذا سمح بالشرّ، فما ذلك إلا ليقودنا إلى
الخير. وقد نسمع، لدى موت شاب في ريعان العمر، أن الله قد أراد له هذا الموت
المبكِّر لأنه يعلم بعلمه السابق أنّه لو بقي على قيد الحياة لعاش في الألم والشرّ.
فموته هو في نظرنا شرّ؛ أما في نظر الله الذي يعلم كل شيء علماً سابقاً، فإنما هو
خير.
وفي نظرة مماثلة يرى البعض أن الشرور الطبيعية، من أمراض وأوبئة
وفيضانات وزلازل، إنما هي “ضربات” يرسلها الله للبشر عقاباً على خطاياهم.
لذلك نسمع بعض الناس يتذمّرون وينتقدون الله قائلين: ماذا فعلت من إثم لكي يعاقبني
الله؟ أيّ ذنب اقترفت ليميت الله ولدي؟
وفي هذه النظرة يصبح الإنسان هو نفسه مسؤولاً عن الشرّ، حتى عن الشرّ
الطبيعي: فالشرّ هو عقاب الخطيئة. وهذا يقودنا إلى التفسير التقليدي في المسيحية: الشرّ
هو نتيجة الخطيئة الأصلية.
القِسم الثَاني
هل يكون الشرّ نتيجة الخطيئة الاصلية؟
1-
الخطيئة الأصليّة في كتابات القديس أوغوسطينوس
هناك تفسير للشرّ بدأ في المسيحية في القرن الخامس مع القديس
أوغوسطينوس، وساد الفكر المسيحي الغربي طوال قرون عديدة، وتأثرت به عقليتنا
الشرقية، في حين كان في البداية غريباً عن تفكير آباء الكنيسة الشرقية القدامى.
يقول القديس أوغوسطينوس ان آدم هو، كما يروي سفر التكوين، أول إنسان
خلقه الله على الأرض. وهذا الانسان قد ارتكب الخطيئة الأولى التي يروي الفصل
الثالث من سفر التكوين أحداثها. وبسبب وضعه المميّز في الفردوس ومسؤوليته الشاملة
كجدّ للبشرية كلها، فقد انتقلت الخطيئة بالوراثة منه إلى جميع الناس. وفي رأي
أوغوسطينوس أن الهوة الجنسيّة ليست من صُلب الطبيعة البشرية، أي ان الله لم يضعها
في الانسان عندما خلقه، بل هي نتيجة خطيئة آدم وحواء. وبما أنها نتجت من الخطيئة
فهي تقود حتماً إلى الخطيئة. لذلك كل انسان يولد إنما هو ثمرة الشهوة وبالتالي
ثمرة الخطيئة. بخطيئة آدم لم تصبح البشرية خاطئة وحسب، بل فوق ذلك أصبحت تولّد
أُناساً خاطئين. فآدم هو الأصل الذي كان الجنس البشري بجملته حاضراً فيه عندما
ارتكب خطيئته. فخطيئته هي الأصل والسبب لجميع الخطايا التي ارتكبها البشر على مدى
التاريخ. لذلك يدعو أوغوسطينوس خطيئة آدم “الخطيئة الأصلية”.
لا يمكننا فهم تفسير أوغوسطينوس هذا إلا إذا وضعناه في إطاره التاريخي.
فهذا التفسير ليس إلا جواباً على تعاليم المبتدع بيلاجيوس، الذي كان يدَّعي أن
طبيعة الانسان ليست خاطئة ولا فاسدة، وأنّ كل إنسان بالتالي يستطيع الحصول على
الخلاص ودخولَ الملكوت بأعماله البشرية، دون أي حاجة إلى فداء المسيح. فالمسيح لم
يفتدِ الناس، بل كان لهم مجرّد معلّم ومثال. لا ريب في أن تعاليم بيلاجيوس هذه
تقتلع سرّ الفداء من جذوره، إذ تزيل عن المسيح كل وساطة في الخلاص؛ لذلك ثار عليها
أوغوسطينوس؛ إلا أن تفسيره للخطيئة الأصلية كان متطرّفاً إذ حمّل آدم وحده مسؤولية
كل ميل إلى الخطيئة في الانسان.
وتبع معظم اللاهوتيين الغربيين نهج أوغوسطينوس وأضافوا إليه، فلم
يكتفوا بتحميل آدم مسؤولية الميل إلى الخطيئة وحسب، بل حمّلوه فوق ذلك مسؤولية
المرض والموت وسائر الشرور الطبيعية التي اعتبروها أيضاً من نتائج الخطيئة الأصلية.
ماذا يقول لنا الكتاب المقدّس عن خطيئة آدم هذه؟
2-
الخطيئة الأصلية في سفر التكوين
ان رواية خطيئة آدم وحواء في الفردوس متعلقة بالرواية الثانية للخلق،
التي نجدها في الفصل الثاني منّ سفر التكوين. فبعد رواية خلق الانسان، يقول الكاتب:
“وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقاً، وجعل هناك الانسان الذي جبله.
وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة حسنة المنظر وطيّبة المأكل، وشجرة الحياة في
وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر.. وأمر الرب الإله الانسان قائلاً: من جميع
شجر الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فانك يوم تأكل منها
تموت موتاً” (2: 8، 9، 16، 17).
ثم يتابع الكاتب في الفصل الثالث رواية الخطيئة:
التجربة
“وكانت الحيّة أحْيَل جميع حيوان البرية الذي صنعه الرب الإله،
فقالت للمرأة: أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنّة؟ فقالت المرأة للحيّة:
من ثمر شجر الجنّة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنّة، فقال الله لا تأكلا
منه ولا تمسّاه كي لا تموتا. فقالت الحيّة للمرأة: لن تموتا! إنما الله عالم أنكما
في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ. ورأت المرأة
أن الشجرة طيبة للمأكل وشهيّة للعيون، وان الشجرة منية للعقل،
السقوط في التجربة
“فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت بعلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت
أعينهما فعلِما أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا لهما منه مآزر.
قصاص الله
“فسمعا صوت الرب الإله وهو متمشٍّ في الجنّة عند نسيم النهار،
فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في ما بين شجر الجنّة. فنادى الرب الإله آدم
وقال له: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأني عريان فاختبأت. قال: فمَن
أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عن أن تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة
التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ماذا فعلت؟
فقالت المرأة: الحية أغوتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: اذ صنعت هذا فأنت
ملعونة من بين البهائم وجميع وحش البرية، على صدرك تسلكين وترابًا تأكلين طول أيام
حياتك، وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين
عقبه. وقال للمرأة: لأكثرنّ مشقات حملك، بالألم تلدين البنين والى بعلك تنقاد
أشواقك وهو يسود عليك. وقال لآدم: اذ سمعت لصوت امرأتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك
قائلاً لا تأكل منها، فملعونة الارض بسببك، بمشقة تأكل منها طول أيام حياتك،
وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الصحراء. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود الى
الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب والى التراب تعود.
الطرد من الفردوس
“وسمّى آدم امرأته حوّاء لأنها أُمّ كلّ حيّ. وصنع الرب الإله
لآم وامرأته أقمصة من جلد وكساهما. وقال الرب الإله: هوذا آدم قد صار كواحد منا
يعرف الخير والشر، والآن لعلّه يمدّ يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً فيحيا إلى
الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليحرث الأرض التي أُخذ منها. فطرد آدم وأقام
شرقي جنة عدن الكروبين وبريق سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة”.
(تك 3)
أ) فن أدبي خاص
إن أول ما يسترعي انتباهنا، لدى قراءتنا تلك الرواية، هو أنها تجعل
الحية تنطق وتقود الانسان إلى الخطيئة. والغريب في الأمر أيضاً أن أحداثها تدور
حول شجرة في وسط الجنة يدعوها الكاتب “شجرة معرفة الخير والشرّ”، يأكل
منها الانسان، خلافاً لوصية الله. وكذلك تتكلم الرواية عن شجرة أخرى هي شجرة
الحياة، لا يستطيع الانسان الوصول إليها، ويطرده الله من الجنة قبل أن يأكل منها.
ونحن نعلم أن الحية لا تتكلم، وأنه لا وجود لشجرة معرفة الخير والشرّ، ولا لشجرة
الحياة.
من هنا نستخلص أن الرواية ليست رواية لحدث تاريخي جرى مرة في بدء
الخليقة، إنما هي رواية رمزية تعليمية هدفها تفسير واقع الخطيئة، الذي يختبره
الانسان في ذاته وفي الآخرين. كل إنسان يسأل: ما هي الخطيئة؟ ما هي علاقتها بالله؟
ما هي نتائجها؟ للإجابة على تلك الأسئلة يلجأ الكاتب المقدس إلى فنّ أدبي معروف في
الأدب العبري وفي مختلف الآداب القديمة والحديثة، وهو فن “الأمثال”.
وهذا الفن الأدبي هو الذي سيلجأ إليه يسوع في تعليمه. ومن أشهر أمثاله مَثَل الإبن
الشاطر، وهو نقيض حكاية آدم وحواء. فبينما يخرج آدم وحواء من الجنة، أي من الحياة
مع الله، يعود الإبن الشاطر إلى بيت أبيه بعد أن اختبر أن لا حياة له إلا بالقرب
من الله. وكأن يسوع يشير في هذا المَثَل إلى أن مسؤولية مغادرة الجنة والابتعاد عن
الله تقع كلها على عاتق الانسان الذي بملء إرادته غادر البيت الأبوي. أما الله فلا
يزال ذلك الأب المحبّ الرحيم الذي ينتظر عودة أبنائه إليه ليغفر لهم ويُعيد إليهم
الحياة.
وتحت تأثير الأدب الأسطوري القديم، أدخل الكاتب على فمن الأمثال عناصر
من فمن “الأسطورة”، فأعطى الحية دوراً هاماً في روايته. فالأدب المصري
كان يتصوّر الحية تعترض سبيل الإلهة الشمس لمنعها من الظهور؛ والحية عند
الكنعانيين كانت رمزاً للجنس في بعض العبادات؛ وفي أسطورة جلجامش البابلية تلعب
الحية دوراً مماثلاً للدور الذي تلعبه في قصة آدم وحواء، فهي التي تسرق من البطل
جلجامش “نبتة الحياة” التي استطاع الحصول عليها بعد عناء كثير.
لا شك في ان اختيار الكاتب المقدس للحية قد تأثّر بالآداب المجاورة.
ولكن تعليمه عن الخطيئة وأسبابها مخالف لتعاليم الأديان القديمة. فبينما يرى
البابليون أن الآلهة هم الذين خلقوا البشر خطأة وأشراراً، يعتبر سفر التكوين أن
الخطيئة ليست من طبيعة الانسان، بل بدأت بتجربة من الخارج في مقدوره أن يرفضها.
فهو إذاً المسؤول عن الخطايا التي يرتكبها.
ب) الخطيئة رفض الله
لتعريف الخطيئة يتكلّم سفر التكوين بأسلوب روائي، في حين يتكلّم سفر
تثنية الاشتراع بأسلوب تشريعي. يقول الله للشعب على لسان موسى:
“إن هذه الوصية التي أنا آمرك بها اليوم ليست فوق طاقتك ولا
بعيدة منك. لا هي في السماء فتقول مَن يصعد لنا إلى السماء فيتناولها ويسمعنا
إياها فنعمل بها. ولا هي في عبر البحر فتقول مَن يقطع لنا هذا البر فيتناولها
ويسمعنا إياها فنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جداً في فيك وفي قلبك لتعمل بها.
أنظر اني قد جعلت اليوم بين يديك الحياة والخير والموت والشرّ.. وان زاغ قلبك ولم
تسمع وملت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها، فقد أنبأتكم اليوم أنكم يكون تهلكون هلاكاً،
ولا تطول مدّتكم في الأرض التي أنتم عابرون الاردن لتدخلوها وتمتلكوها. وقد أشهدت
عليكم اليوم السماء والأرض بأني قد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة،
فاختر الحياة لكي نحيا أنت وذريتك” (تثنية 30: 11- 20).
نرى في هذا النص التشريعي العبارات نفسها التي ترد في حكاية آدم وحواء.
“فالحياة والموت”، و”الخير والشرّ” هي بين أيدي الانسان. فان
سمع وصية الله حصل على الحياة، وإلا نال الموت واللعنة وهلك هلاكاً.
ان “شجرة معرفة الخير والشرّ” التي يتكلم عنها سفر التكوين
لا تعني مجرد التمييز بين الخير والشرّ، فهذا من ميزات الانسان العاقل، بل بالأحرى
السلطة على تقرير ما هو خير وما هو شرّ، وهذا أمر محفوظ لله الذي يعلّم الانسان ما
هو خير وما هو شرّ في ما يعطيه من وصايا.
فخطيئة الانسان إذاً تقوم على التمرّد على الله ورفض وصاياه. وهنا لا
بدّ من الاشارة إلى أنه لا تناقض بين وصايا الله وخير الانسان. فالله لا يوصي إلا
بما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة. لذلك مخالفة وصايا الله هي في الوقت
نفسه مخالفة ما يقود الانسان إلى الخير ويمنحه الحياة.
ج) نتائج الخطيئة
أما النتائج التي تقود إليها الخطيئة فيعبّر عنها الكاتب في ثلاثة
تصاوير:
الخجل من العري
“فانفتحت أعينهما فعلما أنهما عريانان، فخاطا من ورق التين وصنعا
لهما منه مآزر”. ان الابتعاد عن الله لا يقود الانسان إلى المعرفة والحكمة،
كما قالت الحية: “تنفتح أعينكما وقصيران كآلهة عارفي الخير والشرّ”، بل
يقوده إلى اكتشاف عريه. والعري هنا يعني ضعف الانسان وعجزه. ثم ان كلمة عريان في
العبرية (عيروم) قريبة من كلمة محتال (عاروم)، وقد قيل في أول الرواية إن الحية
“أحيل جميع حيوان البرية”؛ فالانسان الذي يسمع كلمة الشرير المحتال يصبح
على مثاله شريراً محتالاً. وإنّ الخجل من العري هو أخيراً تعبير واقعي عن سيطرة
الشهوة على الانسان. فالنتيجة الأولى التي تقود إليها الخطيئة هي أنها تجعل
الانسان خجلاً من نفسه، عاجزاً إزاء شهوته، محتالاً وشريراً إزاء الآخرين
التعب والمشقّة
قال الرب للمرأة: لأكثرنَّ مشقّات حملك، بالألم تلدين البنين وإلى
بعلك تنقاد أشواقك وهو يسود عليك. وقال لآدم.. ملعونة الأرض بسببك، بمشقّة تأكل
منها طول أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تُنبت لك، وتأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل
خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها”. إنّ النتيجة الثانية التي تقود
إليها الخطيئة هي الخلل في العلاقات بين الانسان ونفسه، وبين الانسان والآخرين،
وبين الانسان وعمله. وقد رأى الكاتب أمثلة عن هذا الخلل في الألم الذي يرافق
الولادة، والتعب الذي يرافق العمل، وعدم الانسجام في العلاقات بين الرجل والمرأة.
فقدان الحياة مع الله
“أخرج الرب الإله الانسان من جنّة عدن ليحرث الأرض التي أخذ
منها”: إنّ “جنة عدن”، أو “جنة النعيم”، هي صورة لحياة
الانسان مع الله، والخروج من الجنة تعبير عن فقدان الانسان صداقة الله. لقد رفض
الانسان شريعة الله التي تحدّد له “الخير والشر”، وأراد أن يكون هو إله
نفسه وشريعة نفسه، فقطع العلاقة الشخصية التي كانت تربطه بالله. فلا عجب من ثمَّ
أن يشعر بأنه قد أصبح بعيداً عن الله، وبأن الله قد أصبح عنه غريباً.
3-
الخطيئة الأصلية في العهد الجديد
لا نجد في العهد الجديد روايات خاصة عن الخطيئة الأصلية: إنما هناك
مقطعان من رسالة القديس بولس إلى الرومانيين، يقارن الأول منها بين الخطيئة التي
دخلت إلى العالم مع آدم والنعمة التي حصل عليها البشر بالمسيح، ويصف الثاني حالة
الانسان الخاطئ الذي تسيطر عليه الخطيئة.
أ) روم 5: 12- 19
ان الفصل الخامس هو القسم الرئيسي من الرسالة إلى الرومانيين، فيه
يبيّن بولس الرسول أن برّ الله ونعمته قد ظهرا للناس في موت يسوع وقيامته. ثم
يقارن بين آدم والمسيح، فيقول: “كما انه بانسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم،
وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، لأن جميعهم قد خطئوا.. كما
انه بزَلَّة واحدة كان القضاء على جميع الناس، كذلك ببرّ واحد يكون لجميع الناس
تبرير الحياة. لأنه كما جُعل الكثيرون خطأة بمعصية انسان واحد، كذلك بطاعة واحد
يُجعَل الكثيرون أبراراً”.
يظهر أن بولس يرى في آدم أول انسان خلقه الله، بينما رواية سفر
التكوين ترى في آدم رمزاً لكل إنسان. ينطلق بولس من تفسير معاصريه اليهود الذين
كانوا يعتبرون لفظة “آدم” اسم علم لأول انسان على الأرض، ويبني برهانه
عليه فيقول: كما انه بانسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم، كذلك بانسان واحد دخل
البرّ إلى العالم. ثم يردف قائلاً: “لأن جميعهم قد خطئوا”. ان هذه
العبارة قد نقلها آباء الكنيسة اللاتينية إلى: “ففيه (أي في آدم) جميعهم قد
خطئوا”. واستناداً إلى هذه الترجمة فسَّروا نتائج الخطيئة الأصلية بقولهم إن
جميع الناس قد خطئوا في شخص آدم. فآدم يصبح في هذا التفسير المسؤول الوحيد عن دخول
الخطيئة إلى العالم.
أما آباء الكنيسة اليونانية فرأوا أن خطيئة آدم كانت الخطيئة الأولى،
وأنّ الجميع خطئوا بعد الانسان الأول. فالخطيئة الأصلية مكوّنة إذاً، في نظرهم،
ليس من خطيئة آدم وحسب، بل أيضاً من خطايا جميع الناس.
لذلك بينما ينظر أوغوسطينوس وآباء الكنيسة اللاتينية إلى الخطيئة في
أصلها التاريخي، فيتكلمون عن “خطيئة أصلية” اقترفها آدم وانتقلت منه
بالوراثة إلى جميع البشر، ينظر آباء الكنيسة اليونانية إلى الخطيئة في واقعها الانساني
الشامل. وفي هذه النظرة تصبح مسؤولية الخطيئة مسؤولية شخصية يتحمّلها جميع الناس
كما تحمّلها الانسان الأول.
وهذا الاختلاف في النظرة إلى الخطيئة الأصلية يبدو واضحاً عندما
يتكلّم الآباء عن معمودية الأطفال. فالنظرة الأولى ترى أن المعمودية ضرورية
للأطفال لتنزع عنهم الخطيئة الأصلية التي ورثوها عن آدم؛ أما النظرة الثانية
فتؤيّد معمودية الأطفال، لا لنزع الخطيئة عنهم، بل لإدخالهم في حياة النعمة.
وبينما يتساءل ترتوليانوس: لماذا نعمِّد الأطفال، إذا كانوا أبراراً وبلا خطيئة؟
يجيب القدسي كبريانوس: ولِمَ لا نعمِّدهم؟ إنهم بلا خطيئة، لذلك تستطيع النعمة أن
تعمل فيهم بدون عائق. وهذا أيضاً رأي القديس يوحنا الذهبي الفم: “وإن كان
الأطفال بلا خطايا، فإننا نعمِّدهم ليزداد فيهم البرّ والقداسة ويصبحوا هياكل
للروح القدس”.
ب) روم 7: 7- 25
في القسم الذي يضمّ الفصول السادس والسابع والثامن، يبيّن بولس كيف
يستطيع المسيحي، بالإيمان والمعمودية، الدخول شخصيّاً في الخلاص الذي يقدّمه
المسيح لجميع البشر. ففي المعموديّة يحرّر الروح القدس الانسان من عبودية الخطيئة.
ولإظهار جمال تلك الحالة الجديدة، يصف بولس بكل دقّة حالة الضياع والعبودية التي
يقع فيها الخاطئ. وهذا الوصف نجده من الآية 14 إلى الآية 25، وكلّها تدور حول
العبارة التالية: “اني لا أعرف ما أفعل. فما أُريده لا أفعله، وما أكرهه إياه
أفعل” (7: 15). والآية 21 تعود فتوضح الأمر: “أريد أن أفعل الخير، وإذا
الشرّ حاضر لديّ”. ففي الانسان نزعتان: نزعة إلى الخير تحمله على أن
“يسرّ بناموس الله” (7: 22)، ونزعة نحو الشرّ تجعله “أسيراً لناموس
الخطيئة الذي في أعضائه” (7: 17).
تلك الحالة اليائسة التي تجعل بولس يصرخ: “يا لي من إنسان شقيّ.
مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟” (7: 24)، لا أحد يستطيع أن ينقذنا منها إلا
المسيح. لذلك يختم بولس وصفه بقوله: “الشكر لله بيسوع المسيح ربنا” (7: 25).
ولكن تلك الحالة ما هو سببها؟ وكيف يصل إليها الانسان؟ على هذا السؤال
يجيب بولس في الآيات 7- 13:
“ماذا نقول؟ أوَ يكون الناموس خطيئة؟ كلا، وحاشا. بيد أني ما
عرفت الخطيئة إلا بالناموس. فاني ما كنت عرفت الشهوة لو لم يقل الناموس: لا تشتهِ.
فاذ اتخذت الخطيئة بالوصية سبيلاً، فعلتْ فيَّ كل شهوة، لأن الخطيئة بدون الناموس
ميتة. أجل لقد كنت عائشاً من قبل إذ لم يكن ناموس، ولكن لما جاءت الوصية عاشت
الخطيئة، فمتّ أنا. والوصية التي لي للحياة وُجدَت هي نفسها للموت. لأن الخطيئة قد
اتخذت بالوصية سبيلاً فأغوتني وقتلتني بها. فالناموس إذاً مقدّس والوصية مقدّسة
وعادلة وصالحة. فما هو صالح إذاً صار لي موتاً؟ كلا، وحاشا. بل هي الخطيئة، لكي
تظهر خطيئة، عملت فيَّ بالصلاة موتاً، حتى تصير الخطيئة بالوصية خاطئة
للغاية”.
يدور هذا النص حول عمل الخطيئة في الانسان. وبشكل فلسفي وتحليلي، يعطي
بولس هذا العمل التفسير نفسه الذي يعطيه سفر التكوين بشكل روائي وأُسطوري في قصة
آدم وحواء. وفي كلا النصَّين نجد العناصر ذاتها: حياة الانسان قبل الخطيئة،
التجربة والسقوط فيها، نتائج الخطيئة وانكشاف خداع التجربة.
فموضوع الحديث هو الانسان عامةً، ممثّلاً، في تحليل بولس، بضمير
المتكلم: “عرفتُ.. كنتُ.. متُّ..”، وفي سفر التكوين بشخصين رمزيين
يدعوهما الكاتب المقدس باللغة العبرية آدم (أي الانسان) وحواء (أي التي تعطي
الحياة). ففي كلا النصين ليس المقصود شخص بولس، ولا أول رجل وأول امرأة ظهرا في
التاريخ، بل كل إنسان يعيش على هذه الأرض ويسقط في الخطيئة. وإنّ بولس، بقوله
“لقد كنت عائشاً من قبل، إذ لم يكن ناموس”، يعيد إلى الأذهان حالة آدم
وحواء اللذين، قبل الخطيئة، كانا في جنة نعيم، أي في الحياة الحقيقية، ويعيد
بالتالي حالة الإنسان قبل الخطيئة.
أما المجرّب فهو في كلا النصّين عامل شرّير خارج عن إرادة الانسان،
يرمز إليه شخص الحيّة في سفر التكوين، والخطيئة المشخّصة عند بولس.
وهذا المجرّب يلجأ في كلا النصّين إلى الاسلوب نفسه: يستخدم الوصية
لإغواء الانسان واجتذابه إلى الشرّ. فالوصية، في سفر التكوين، هي: “أمّا شجرة
معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها. فانك يوم تأكل منها تموت موتاً”؛ وفي
تحليل بولس فهي: “لا تشتهِ”. وهذه الوصية هي، كما يقول بولس،
“مقدّسة وعادلة وصالحة”، لكنّ المجرّب يصوّرها للانسان كأنها وصية ظالمة،
فيُدخل في قلبه الشك وفي نفسه الشهوة. وهذا ما صنعته الحية إذ أدخلت في قلب آدم
وحواء الشك في صدق نيّة الله: “أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟..
إنما الله عالِم أنكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير
والشرّ”؛ كما أدخلت في نفسيهما الشهوة: “ورأت المرأة أن الشجرة طيبة
للمأكل وشهية للعيون وان الشجرة منية للعقل”. وهذا أيضاً ما يعنيه بولس بقوله:
“الخطيئة (أي المجرّب) اتخذت بالوصية سبيلاً، وفعلت فيَّ كل شهوة.. فأغوتني
وقتلتني بها”.
وأمّا الرحلة التي تلي التجربة فهي أيضاً نفسها في كلا النصّين: يسقط
الانسان في التجربة، ويكتشف انه قد خُدع و”اغوي”، وان وصية الله كانت في
الواقع “مقدسة وعادلة وصالحة”. يقول بولس: “ان الخطيئة قد أغوتني
وقتلتني”. وحواء تقول: “ان الحية قد أغوتني فأكلت”. آدم وحواء، بعد
سقوطهما، طُردا من الجنة، وتحقق كلام الله: “إن أكلت من شجرة معرفة الخير
والشرّ تموت موتاً”. المقصود هنا هو أولاً الموت الروحي، أي الابتعاد عن الله
والضياع. وبولس أيضاً يتكلم عن الموت الذي ينتج من الخطيئة: “هي الخطيئة، لكي
تظهر خطيئة، عملت فيَّ بالصلاح (أي عن طريق الوصية الصالحة) موتاً؛ ثم يردف: “حتى
تصير الخطيئة، بالوصية، خاطئة للغاية”. فالموت الروحي الذي يسقط فيه الانسان
الخاطئ يكشف خداع التجربة، ويظهر حقيقة الخطيئة التي لا تقود إلى التألّه، كما
ادّعت الحية بقولها لآدم وحواء “تصيران كآلهة”، بل تقود إلى الموت
والعبودية والضياع، فيصبح الانسان “مبيعاً للخطيئة وتحت سلطان الخطيئة”،
وهذه هي العبودية، و”لا يعود يعرف ما يفعل”، وهذا هو الضياع. وتلك
الحالة يصفها بولس في الآيات التي بدأنا بتفسيرها (14- 25).
4- تساؤلات حول
الخطيئة الأصلية
بعد هذا التفسير لرواية الخطيئة الأصلية كما وردت في سفر التكوين وفي
رسالة بولس إلى الرومانيين، سنعرض الآن بعض الأسئلة التي يطرحها المؤمنون وغير
المؤمنين حول هذه الخطيئة، ثم نحاول تحديدها.
أ) هل آدم اسم علم لشخص عاش في التاريخ؟
تتكلّم رواية سفر التكوين عن خطيئة آدم وحواء، ويقارن بولس الرسول بين
خطيئة آدم وقداسة المسيح. وفي رأي البعض أنّ لفظة “آدم” هي اسم علم لشخص
عاش في زمن محدد من التاريخ، وارتكب خطيئة كبرى أحدثت خللاً في الكون والانسان،
وجرّت على البشر العذاب والموت، وقد كما نوا قبل خطيئة آدم غير خاضعين لهما، بينما
يرى البعض الآخر انّه لا وجود لآدم وحواء في التاريخ، وانّ قصتهما هي أسطورة
خيالية، ويستنتجون من ذلك أنّه لا وجود للخطيئة الأصلية: ليس إلا خطايا شخصية
يرتكبها الناس بشكل فردي، وكل إنسان هو مسؤول عن خطيئته.
كلا الرأيين، في نظرنا، على خطإ، لأنهما لا ينظران النظرة الصحيحة إلى
الخطيئة الأصلية.
فالرأي الأول على خطإ، لأن آدم ليس اسم علم لشخص محدد عاش في بدء
التاريخ؛ فكلمة “آدم” لفظة عبرية تعني “الانسان”، كما ان حواء
تعني “التي تعطي الحياة”؛ لذلك آدم وحواء هما رمز لكل انسان، وقصة
خطيئتهما هي قصة خطيئة كل إنسان.
إن كاتب سفر التكوين يتحدّث من الفصل الرابع حتى الفصل الحادي عشر عن
الفساد والقتل والعنف ومختلف الجرائم والمظالم التي اجتاحت البشرية حتى كارثة
الطوفان. ثم يسأل: مَن المسؤول عن تلك المظالم؟ هل يريد الله كل هذا الشر؟ ويجيب
على السؤال، في الثلاثة الفصول الأولى، بقوله إن الله قد خلق كل شيء صالحاً، وإنّ
البشر هم الذين يجنون على أنفسهم باختيارهم الشرّ بدل الخير والموت بدل الحياة.
وهذا الاختيار يقوم به الناس على مدى التاريخ منذ الانسان الأول. ومهما تنوّعت
خطاياهم فهي كلها إنكار لله ورفض لتعاليمه ووصاياه.
لذلك يجب التمييز بين جوهر الجواب الذي يعطيه سفر التكوين، والأسلوب
الذي جاء فيه هذا الجواب. فقصة آدم وحواء هي قصة أسطورية، إلا أن تعليمها تعليم
إلهي. لهن خلال هذا “المَثَل” يكشف لنا الكتاب المقدس عن حقيقة دينية
ثابتة، وهي ان الانسان لم يُخلَق خاطئاً وانّ الخطيئة ليست من صلب طبيعته البشرية.
ان الله قد وضع أمامه “الحياة والموت والخير والشرّ”، ومنحه الحرية
والارادة. فالانسان هو مسؤول عن خطيئته.
والرأي الثاني على خطإٍ كذلك لأنه لا يميّز بين الخطيئة الشخصية التي
يرتكبها كل انسان، ووضع العالم الخاطئ الذي يوجد فيه الانسان منذ ولادته. فإذا
رفضنا أن تكون لفظتا “آدم” و”حواء” إسمَي علم لشخصين عاشا في
بدء التاريخ، إلا أنه لا بدّ من الاعتراف بأن الانسان قد بدأ يوماً. متى بدأ؟ وكيف
بدأ؟ هذا من شأن العلم، لا من شأن الدين، البحث عنه. ولا بدّ لنا من الاعتراف بأن
هذا الانسان، في جميع العصور وعلى مدى التاريخ، قد خطئ، فلا يمكننا إنكار خطيئته.
ثم ان الانسان ليس فرداً عائشاً وحده في جزيرة؛ انه عضو في مجتمع؛
والأعضاء في الجسد الواحد يتأثر بعضها ببعض. اني لست مسؤولاً إلا عن الخطايا التي
أرتكبها أنا نفسي، ولكن الخطايا التي أرتكبها تؤثّر في غيري. والخطايا التي
ارتكبها البشر على مدى الأجيال خلقت في العالم وضعاً خاطئاً مناقضاً لإرادة الله.
وعندما أُولَد أنا، إنما أُولَد في عالم خاطئ هو بحاجة إلى خلاص الله ونعمته.
“الجميع قد خطئوا، يقول بولس الرسول، وأعوزهم مجد الله” (روم 3: 23).
فالخطايا التي يرتكبها كل إنسان هي خطايا شخصية، أما الوضع الذي يولد فيه فإنما هو
وضع عالم خاطئ.
ب) أسئلة خاطئة
من ردّنا على الرأي الأول نستنتج أن هناك أسئلة خاطئة لا تزال تُطرَح
اليوم، كل مرة يؤتى على ذكر الخطيئة الأصلية. ماذا كانت خطيئة آدم وحواء في
الفردوس، أخطيئة زنى أم خطيئة من نوع آخر؟ كم من السنين عاش آدم وحواء في الفردوس
قبل الخطيئة الأصلية؟ أين كان الفردوس؟ هل كان آدم وحواء معرَّضين للعذاب والموت
قبل الخطيئة الأصلية؟
ان جميع تلك الأسئلة نعتبرها اليوم أسئلة خاطئة، لأنها تُطرح من نقطة
انطلاق خاطئة هي أن آدم وحواء هما إسما علم للشخصين اللذين عاشا في بدء التاريخ
وارتكبا خطيئة كبرى. عندئذٍ لا بدّ من التساؤل: ماذا كانت خطيئتهما؟ وكم من الزمن
عاشا قبل الخطيئة؟ وكيف يرضى الله أن يخلق إنساناً لا يتعذّب ولا يموت، ثم يحكم
عليه بالعذاب والموت لأجل خطيئة واحدة ارتكبها؟ والأسئلة تزداد إلحاحاً وإحراجاً
بعد ان اكتشف العلم أن الانسان لم تكتمل إنسانيته إلا على مدى ملايين من السنين.
ففي أي مرحلة من التطور الانساني ارتكب تلك الخطيئة الكبرى التي جرّت الويلات على
البشرية جمعاء؟
ان هذه الأسئلة كلّها تسقط، إذا فهمنا رواية سفر التكوين على حقيقتها:
انها ليست رواية لحدث تاريخي محدّد جرى في زمن معيّن من التاريخ، بل رواية رمزية
تروي ما يجري للانسان -لكل إنسان، منذ الانسان الأول- عندما يرفض الله ويرفض
وصاياه. ومن خلال تلك الرواية يدو الله إله القداسة والمحبة والصلاح، الذي لا يريد
أن يعيش الانسان في الخطيئة ويسبّب لنفسه الهلاك، بل أن يرجع إليه ويجد فيه الحياة
والخلاص.
لذلك لا يمكننا القول إن آدم وحواء قد عاشا فترة من الزمن قبل الخطيئة
الأصلية، ولا إنهما، بخطيئتهما، سبَّبا لذريّتهما المرض والعذاب والموت، وقلبا
نظام الكون بأسره. إن ما ينتاب الانسان من أمراض وأوجاع، والموت المحتّم الذي يسير
إليه جميع البشر، لا يمكن أن يكون نتيجة لخطيئة انسان واحد عاش في فجر التاريخ؛
فكل هذه الشرور الطبيعية هي من صلب طبيعة الانسان المحدودة. والتطور الذي أظهر
العلمُ أنه شمل العالمَ والانسان، لا يمكن أن يتمّ دون وجود الموت الذي يفسح
المجال أمام التغيّر والتقدّم.
فالتفسير التقليدي الذي يرى في الموت عاقبة الخطيئة لا يصحّ إلا
جزئياً، أي بالنسبة إلى الموت الروحي. فالخطيئة تبعد الانسان عن الله. لذلك ما
ينتج من الخطيئة إنما هو الموت الروحي والقلق الوجودي. وهذا أوّل ما يريد سفر
التكوين وبولس الرسول تأكيده. أما الموت الجسدي فهو أمر متعلق بطبيعة الانسان
المحدودة، وهو، للمؤمن بقيامة المسيح، انتقال من حياة مائتة إلى حياة خالدة مع
الله.
ج) الخطيئة الأصلية حالة تضامن مع خطيئة العالم
اذا قلنا إنّ الخطيئة الأصلية لا يمكن أن تكون فقط خطيئة أول رجل وأول
امرأة ظهرا على الأرض، فكيف اذاً نحدّدها؟ ان عبارة “الخطيئة الأصلية”
لم تستعمل في اللاهوت إلا ابتداءً من القديس اوغوسطينوس. إنّ العهد الجديد يتكلم
عن “خطيئة العالم”: فالمسيح هو، حسب قول يوحنا الانجيلي، “حمل الله
الذي يرى خطيئة العالم” (1: 29)؛ وبولس يصف، في الفصول الثلاثة الأولى من
رسالته إلى الرومانيين، كيف شملت الخطيئة جميع الناس، يهوداً ويونانيين، ويختم
بقوله: “ان اليهود واليونانيين جميعاً هم تحت سلطان الخطيئة. إذ ليس من فرق،
فالجميع قد خطئوا وأعوزهم مجد الله”. ثم يردف: “والجميع بنعمته يُبرّرون
مجاناً، بالفداء الذي بالمسيح يسوع، الذي سبق الله فأقامه أداة تكفير بالايمان
بدمه، لإظهار برّه -بعد أن تغاضى عن الخطايا السالفة في عهد صبره الالهي- لإظهار
برّه، اذاً، في الزمان الحاضر بإعلانه بارّاً ومبرّراً من آمن بيسوع” (روم 3:
9، 23- 26).
انّ الخطايا السالفة التي صبر عليها الله، هي التي يندّد بها اشعيا
النبيّ بقوله في مطلع نبوءته: “استمعي أيتها السماوات وأنصتي أيتها الأرض،
فان الربّ قد تكلم: اني ربّيت بنين ورفعتهم، لكنهم قد تمرّدوا عليّ. عرف الثور
قانيه والحمار معلف صاحبه، لكنّ اسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم. ويل للأمة
الخاطئة، الشعب الموقَّر بالإثم، ذرية المجرمين، البنين الفجّار” (اشعيا 1: 2-
4).
لقد جاء المسيح ليفتدي من الخطيئة هذا “الشعب الموقَّر بالإثم،
ذرية المجرمين، البنين الفجّار”. ولتعريف الخطيئة الأصلية يجب أن نقارن، مع
بولس الرسول، بين حالة البشرية الخاطئة، لأن “الجميع قد خطئوا”، والفداء
الذي حصلت عليه البشرية بالمسيح يسوع، لأن “الجميع يبرّرون مجاناً بالفداء
الذي بالمسيح يسوع”. فلا يمكننا إذاً أن نفهم الخطيئة الأصلية إلا بالمقارنة
مع الفداء بالمسيح. فالخطيئة الأصلية هي حالة التضامن مع خطيئة العالم، أي مع جميع
الذين خطئوا عبر التاريخ منذ الانسان الأول؛ والفداء بالمسيح يدخلنا في حالة جديدة
هي حالة النعمة والبرّ.
ليست الخطيئة الأصلية إذاً خطيئة انسان واحد عاش في بدء التاريخ،
ويرثها كل انسان يولد من ذريته؛ وإلاّ لكان كل انسان يسأل: ما ذنبي أنا لكي
يعاقبني الله على خطيئة ارتكبها الانسان الأول؟ إنما الخطيئة الأصلية حالة نتجت من
خطايا جميع البشر الذين عاشوا عبر التاريخ منذ الانسان الأول. فالبشرية خاطئة،
وهذا واقع لا يمكننا إنكاره، وإنّ الحروب الكثيرة التي نسجت تاريخ البشر بجرائمها
ومظالمها أفصح دليل عليه. فعندما يولد الانسان، يولد ضمن تلك البشرية الخاطئة، أي
في حالة تضامن معها، وهذا أيضاً واقع لا يمكننا تجاهله. إلا أن هذا التضامن ليس
أمراً محتوماً على الانسان البقاء فيه، فالمسيح قد افتدانا وبرّرنا، وهو يدعونا
إلى الانتقال من حالة التضامن مع البشرية الخاطئة إلى حالة التضامن معه. وتلك
الدعوة يلبّيها الانسان بقبوله المعمودية؛ فالذين يعتمدون للمسيح يجدّدون في
ذواتهم موت المسيح وقيامته: “فكما ان المسيح بموته قد مات للخطيئة إلى الأبد،
وبحياته يحيا لله، كذلك أنتم أيضاً، احسبوا أنفسكم أمواتاً للخطيئة، أحياء لله في
المسيح يسوع” (روم 6: 10، 11).
القِسم الثَالث
هل من تفسير للشر؟
نعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه في مستهلّ بحثنا: إذا كان الله
ينبوع الصلاح والخير، فمِن أين الشر؟ إذا لم يكن الشر عمل إرادة إله شرير، كما
بينّا في القسم الأول، ولا نتيجة خطيئة الانسان الأول، كما أظهرنا في القسم الثاني،
فمن أين يأتي؟
قلنا ان الشر على نوعين، طبيعي وأدبي. والانسان معرّض لكلا الشرّين؛
فهو من طبيعته خاضع للمرض والموت، ومن طبيعته معرّض للخطيئة، إذ انه ليس إلهاً بل
خليقة. فالشرّ الطبيعي ناتج من كون الانسان خليقة محدودة، والشرّ الأدبي من كونه
خليقة حرّة.
1- الشرّ الطبيعي
أ) حدود الطبيعة البشرية: الخلق ليس ولادة ولا انبثاقاً
لماذا لم يخلق الله طبيعة غير معرَّضة للمرض والموت؟ ذلك مستحيل، لأنه
لو وُجدت تلك الطبيعة، لما كانت طبيعة مخلوقة، بل طبيعة إلهية غير منفصلة عن طبيعة
الله، ولما كان بالتالي وُجد خلق، بل كان الله وحده في ذاته الالهية. فالفرق جوهري
بين الولادة والخلق. نؤمن، نحن المسيحيين، ان كلمةَ الله مولودٌ من الآب منذ الأزل،
لذلك فهو واحد مع الآب في الجوهر؛ وكذلك نؤمن أن الروح القدس منبثق من الآب قبل كل
الدهور، لذلك هو أيضاً واحد مع الآب في الجوهر. فالتمييز بين الأقانيم الالهية لا
ينتج منه اختلاف في الطبيعة. أما الخلائق فليست مولودة ولا منبثقة من جوهر الله،
بل هي مخلوقة، لذلك فهي مختلفة عن الله اختلافاً جوهرياً.
إنّ الله لا حدود لكيانه ولا نهاية لذاته؛ انه منذ الأزل وإلى الأبد.
أما الخلائق فمحدودة في الزمان والمكان وخاضعة للمرض والموت. وكما ان كمال الله هو
فيه صفة جوهرية وأمر متعلق بجوهره، كذلك نقص الخلائق هو فيها أمر جوهري أي مرتبط
بجوهرها. ومن هذا النقص ينتج ضعف الانسان ومرضه وموته.
ب) الإلحاد هو رفض الانسان أن يكون انساناً
هذا الاختلاف بين طبيعة الانسان وطبيعة الله قد يبدو لنا أمراً جائراً،
فنثور عليه، ونرفض إلهاً يخلقنا محدودين ومعرّضين للمرض والموت، بينما هو كامل
أزليّ. وقد يقود هذا الرفض إلى الإلحاد؛ فكثيرون من الملحدين يرفضون وجود الله
لأنهم لا يستطيعون التوفيق بين صلاح الله ووجود الشرّ في العالم.
ان هذا الإلحاد هو في الواقع رفض الانسان أن يكون انساناً، أي خليقة
محدودة في طبيعتها. إن في أعماق الانسان رغبة في الارتفاع إلى مستوى الله، ترمز
إليها “شجرة معرفة الخير والشرّ” و”شجرة الحياة”: “تصيران
كآلهة عارفي الخير والشرّ”. وإنّ الخطيئة تكمن في محاولة الانسان تحقيق تلك
الرغبة خارجاً عن الله، عندئذٍ يرفض الانسان حدود طبيعته وارتباطه بالله.
ج) بالتجسد شارك الله بطبيعة الانسان ليرفعها إليه
إنّ ما لم يستطع الانسان تحقيقه خارجاً عن الله قد حقّقه الله نفسه،
إذ أخذ جسداً بشرياً في شخص يسوع المسيح. ويسوع، في حياته، عمل على إزالة الشرّ،
وفي موته وقيامته انتصر على الموت وأقام معه الانسان المائت إلى حياة الله.
يسوع لم يُعطِ تفسيراً للشرّ بل عمل على إزالته
يروي يوحنا، في الفصل التاسع من انجيله، أن يسوع “فيمَا كان
مجتازاً رأى رجلاً أعمى منذ مولده. فسأله تلاميذه قائلين: يا معلّم، مَن خطئ، هذا
الرجل أم أبواه، حتى وُلد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا خطى ولا أبواه، وإنما لتُظهر
أعمال الله فيه. فما دام النهار ينبغي أن نعمل أعمال من أرسلني. فسيأتي الليل حيث
لا يستطيع أحد عملاً. ما دمت في العالم فأنا نور العالم”. ثم طلى بالطين
عينَي الأعمى وأرسله يغتسل في بركة سلوام. فمضى واغتسل ورجع وهو يبصر بجلاء.
ان سؤال التلاميذ يسوع يطرح معضلة وجود الشرّ الطبيعي في العالم.
لماذا وُلد هذا الرجل أعمى؟ هل مرضه نتيجة خطيئة أبويه؟ ويمكننا أن نطرح السؤال
بشكل عام: هل المرض والموت وسائر الشرور الطبيعية هي نتيجة خطيئة أبوينا الأوّلين؟
على هذا السؤال يردّ يسوع بالنفي: الشرّ الطبيعي ليس نتيجة خطيئة الانسان ولا
خطيئة الجدَّين الأولين. ولكنّ يسوع لا يعطي جواباً نظرياً، إنما جوابه عملي،
وكأنه يقول إنّ الجواب الوحيد على مشكلة الشرّ هو العمل على إزالته: “يجب أن تظهر
أعمال الله فيه”. وأعمال الله هي شفاء المرض، وهذا ما صنع يسوع إذ “كان
يجول في جميع المدن والقرى، يعلِّم في المجامع، ويكرز بانجيل الملكوت، ويشفي كل
مرض وكل سقم” (متى 9: 35).
قيامة يسوع هي الجواب الأخير على وجود الشرّ الطبيعي
ان يسوع، في شفائه المرضى، عمل على إزالة المرض، وفي آلامه وموته
وقيامته انتصر على الألم والموت. لذلك، وإن لم نستطع إيجاد تفسير نظري للشرّ
الطبيعي في العالم، إلا أنه يمكننا التوفيق بين صلاح الله ووجود العذاب والموت،
لأننا نؤمن أن يسوع بقيامته انتصر على العذاب والموت.
إنّ مَن لا يمسّه الألم والعذاب قد أصبح مثلنا قابلاً للألم والعذاب،
ليزيل بألمه وعذابه ألمنا وعذابنا؛ إنّ مَن لا يعرف الموت قد دخل في عالمنا المائت
ليقضي على الموت الذي، بدون الله، يقضي علينا؛ إنّ مَن لا حدّ لكيانه قد اتخذ
طبيعتنا المحدودة ليرفعها إلى الاتحاد بكيانه غير المحدود. انّ الموت لا يقطع
علاقة الانسان بالله، بل هو الطريق الذي لا بدّ للانسان أن يسلكه لتتحوّل طبيعته
من طبيعة مائتة محدودة إلى طبيعة تشارك الله في حياته الخالدة وكيانه اللامحدود.
إنّ الانسان كحبّة الحنطة التي، إن لم تمت، تبقى وحدها، معزولة في حدودها الضيّقة،
وأمّا إن ماتت فتأتي بثمر كثير وتدخل في لا نهاية الله.
ان آمال الانسان بالخلود تبدو وهماً وخيالاً، إن لم ترتكز على قيامة
المسيح. لذلك يرى بولس الرسول في قيامة المسيح أمانة لقيامة الأموات: “إن كان
الأموات لا يقومون، المسيح أيضاً لم يقم. وإن كان المسيح لم يقم، فإيمانكم باطل
وأنتم بعد في خطاياكم؛ ومن ثمَّ فالذين رقدوا في المسيح قد هلكوا. ان كان رجاؤنا
في المسيح في هذه الحياة فقط، فنحن أشقى الناس أجمعين. ولكن لا، فإنّ المسيح قد
قام من بين الأموات، باكورة للراقدين. لأف، بما ان الموت كان بانسان، فبانسان أيضاً
قيامة الأموات. فكما انه في آدم يموت الجميع، كذلك أيضاً في المسيح سيحيا
الجميع” (1 كور 15: 16- 22).
التألّه بواسطة المسيح الإله
وهكذا لا يستطيع الانسان أن يفهم نفسه ويفهم الكون إلا على ضوء تجسّد
المسيح وحياته وموته وقيامته. فالشر الطبيعي الذي يختبره الانسان في نفسه وفي
الكون ليس نهاية كل شيء. فقد أخذ كلمةُ الله طبيعة البشر ليؤلّهها. وهذا التألُّه
بواسطة المسيح الإله قد تحدّث عنه آباء الكنيسة الشرقية بطريقة رائعة، وفيه وحده
يمكن الانسان أن يتحمّل لغز الشرّ وسرّه. يقول القديس كيرلس الاسكندري: “لقد
صار الإله انساناً لكي يصير الانسان إلهاً”؛ والقديس اثناسيوس: “لقد
أصبح الكلمة جسداً لكي نستطيع نحن أيضاً، بما نناله من روحه، أن نتألّه”؛
واكليمنضوس الاسكندري: “ان كلمة الله قد صار انساناً لكي نتعلّم من الانسان
كيف يستطيع الانسان أن يصير إلهاً”؛ وغريغوريوس النزينزي: “فلنصرْ آلهة
به، بما انه، لأجلنا، صار إنساناً”.
2- الشرّ الأدبي
أ) في الحرية إمكان الخطيئة
اذا كان الشرّ الطبيعي ناتجاً من طبيعة الانسان المحدودة، فالشرّ
الأدبي ناتج من سوء استعمال الانسان حريته. إن الله لم يخلق الانسان خاطئاً، بل
خلقه حراً. وفي الحرية يكن إمكان الخطيئة؛ ولكن في الحرية أيضاً يكمن إمكان
التألُّه. فالله لا يستطيع أن يصنع الانسان إلهاً على رغمه، لذلك على الانسان أن
يشارك في بلوغ كماله في الله. تلك هي الحرية.
الحرية ليست مجرد إمكان الاختيار بين الخير والشرّ، بل هي بالأحرى
إمكان الإسهام في بناء الذات. إنّ مَن يختار الشرّ يظن نفسه حراً، إلا أنه في
الواقع مستعبد للشرّ، بحسب قول يسوع: “كل من يعمل الخطيئة هو عبد
للخطيئة” (يو 8: 34). وإنّما جاء المسيح ليحرّرنا من تلك العبودية: “فان
حرّركم الابن، كنتم في الحقيقة أحراراً” (يو 8: 36).
ب) في المسيح الانتصار على الخطيئة
“حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة” (روم 5: 20)؛ “وأما
النعمة والحق فبيسوع المسيح قد حصلا” (يو 1: 17).
يسأل يوحنا الدمشقي: “لماذا خلق الله الكون، مع علمه أن الشرّ
سوف يحدث فيه؟”. ويجيب: “لو كان الله قد امتنع عن خلق الكون والانسان
بسبب ما سيحدث فيهما، لكان أظهر أنه أضعف من الشرّ”.
لقد خلق الله الانسان حراً؛ وفي هذه الحرية إمكان السقوط في الخطيئة؛
إلا أن الله لم يكتفِ بخلق الانسان، بل أرسل إليه ابنه يسوع المسيح مخلصاً وفادياً،
لينتصر على الشرّ والخطيئة، ويكون هو نفسه القوة التي بها يستطيع الانسان أن
يتغلّب بملء حريته على الشرّ والخطيئة.
فالمسيح يكشف للانسان انه لن يستطيع تحقيق ذاته برفض الله والتنكّر
لوصاياه، بل بالاتحاد به وبتتميم وصاياه. إنّ حياة المسيح كلها كانت حياة اتحاد
بالله: “إن طعامي هو أن أعمل مشيئة الذي أرسلني” (يو 4: 34)؛ ولقد قبل الموت
تتميماً لتلك المشيئة الالهية: “يا أبتاه، إن شئت فأجِزْ عني هذه الكأس. ولكن،
لا تكن مشيئتي بل مشيئتك” (لوقا 22: 42)؛ وصلاته الأخيرة إلى الآب: “يا
أبتاه، في يديك أستودع روحي” (لوقا 23: 46)، قالها وهو على الصليب، وفي قلبه
ملء الثقة والايمان بأن الله لا يزال أباه حتى في الموت، وانه من الموت سيبعث
الحياة.
لقد قضى المسيح على الشرّ والخطيئة دون القضاء على حرية الانسان، وذلك
بتجديد الانسان من الداخل، وتصحيح نظرته إلى الله، بحيث يرى فيه الخير الأعظم
ويحبه ويتّحد به بملء حريته. وهكذا افتدى المسيح الانسان وقوَّمَ ما في الطبيعة
البشرية المحدودة من ضعف وميل إلى الخطيئة والشرّ.
ان خطيئة آدم الأول، الانسان القديم، تكمن في نظرته الخاطئة إلى ما
يعطي الحياة وما يجلب الموت، إذ قد ظن أنه بالاتحاد بالله يجد الموت، وبمقاومته
يحصل على الحياة.
أما يسوع، آدم الثاني والانسان الجديد، فقد قبل الموت في الاتحاد
بالله ووجد الحياة في القيامة، ولاشى هكذا خطيئة آدم الأول، وجدّده من الداخل،
مظهراً وجه الله الحقيقي، مبيّناً السبيل الوحيد الذي لا بدّ للانسان أن يسلكه إذا
أراد تحقيق ذاته، ومن خلال الموت الذي هو للانسان حجر عثرة وسب شك، بيّن للانسان
أن الله هو أبداً الاب الذي يعطي الحياة.
خلاصة
هل يجد القارئ في ما قلناه تفسيراً لوجود الشرّ في العالم؟ ربما لا.
غير ان الشرّ، على ضوء المسيح وحياته وموته وقيامته، لا يعود ذلك اللغز الخانق
الذي يقود إلى اليأس. فنحن المسيحيين نؤمن أن الشرّ، في مختلف مظاهره، في الموت
الذي هو نتيجة طبيعة الانسان المحدودة، وفي الخطيئة التي هي نتيجة إرادته الضعيفة،
لم يعد ذلك السيّد المتسلّط الذي يستعبد الانسان. ففي المسيح الذي سحق الموت
وانتصر على الخطيئة وحرّرنا من عبودية الشرّ، انكشف لنا عجز الشرّ، وأصبح في
مقدورنا، باتحادنا بالمسيح، السيطرة على الموت والانتصار على الخطيئة، بحسب قول
بولس الرسول في كلامه عن القيامة: “متى لبس هذا الجسد الفاسد عدم الفساد،
ولبس هذا الجسد المائت عدم الموت، فحينئذٍ يتم القول الذي كتب: “لقد ابتُلع
الموت في الغلبة. أين غلبتكَ أيها الموت؟ أين شوكتك أيها الموت؟”. ان شوكة
الموت هي الخطيئة، وقوة الخطيئة هي الناموس. ولكن الشكر لله الذي يؤتينا الغلبة
بربنا يسوع المسيح” (1 كور 15: 54- 57).
ولئن بقي الشرّ سراً، إلا أنه لم يعد عائقاً لنا ولإيماننا بالله الآب
الضابط الكل الخالق كل شيء؛ بل إنه، على العكس، يعطي الانسان كرامة أوفر، إذ يتيح
له أن يسهم مع الله في إكمال عمل الخلق، ويسهم مع المسيح في تجسيد الفداء في ذاته
وفي الآخرين وفي الكون كله، حتى يزول الشرّ وتزول الخطيئة “ويصير الله كلاً
في الكلّ” (1 كور 15: 28).