الفصل الحادى عشر
الفصل
الحادى عشر
خطية
داود
قال
المعترض الغير مؤمن: زعموا في حق داود أنه اقترن بزوجة أوريا الحثي وحمل منها
بولد، وأهلك زوجها بالمكر كما في 2 صموئيل 11 , وأنذَرَه ناثان بموت ابنه، كما في
12: 14 ,
وللرد
نقول: تشهد نصوص التوراة بتقوى داود وبطهارة قلبه ومسامحته أعداءه, فقد وقع شاول
ألدُّ أعدائه مرتين في يده وسامحه حتى شهد له عدوه بأنه أبرُّ منه, مع كل ذلك وقع
داود في الخطية، فاشتهى امرأة أوريا وزنى بها، وعرَّض زوجها في ميدان القتال لسلاح
العدو فقتله، فأرسل الله إليه النبي ناثان ليوبخه على هذا العمل الوخيم، وحكى له
قصة نعجة الرجل الفقير، فغضب داود وقال لناثان: حي هو الرب، إنه يُقتل الرجل
الفاعل ذلك، ويردّ النعجة أربعة أضعاف، لأنه فعل هذا الأمر، ولأنه لم يشفق , فقال
ناثان لداود: أنت هو الرجل! قتلت أوريا الحثي بالسيف وأخذت امرأته! والآن لا يفارق
السيف بيتك إلى الأبد، وهأنذا أقيم عليك الشر وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن
لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين الشمس، لأنك أنت فعلت بالسر، وأنا أفعل هذا الأمر
قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس , فاستغفر داود عن ذنبه، فأخبره ناثان: الرب قد نقل
عنك خطيئتك, لا تموت , وضرب الرب الولد الذي ولده فمات (2 صموئيل 12),
وورد
في سورة ص 38: 21-25: وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود
ففزع منهم، قالوا لا تخف, خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط،
وأهدنا إلى سواء الصراط, إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال
أكفِلْنيها وعزَّني في الخطاب, قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً
من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم,
وظن داود أنما فتنَّاه، فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً وأناب، فغفرنا له ذلك ,
أقوال
المسلمين في خطية داود:
قال
المفسرون: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو
فيه لعبادة ربه، ويوم يخلو فيه لنسائه, وكان له تسع وتسعون امرأة, وكان فيما يقرأ
من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من
الكتب قال: يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما
أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم, فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلايا لم
تُبتل بها, ابتُلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتُلي إسحاق بذهاب بصره، وابتُلي يعقوب
بحزنه على يوسف، وإنك لم تُبتل من ذلك بشيء, قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم
به، وأعطني مثل ما أعطيتهم, فأُوحي إليه: إنك مبتلي فاحترس, فمكث بعد ذلك ما شاء
الله أن يمكث، إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه
وهو قائم يصلي، فمدَّ يده ليأخذه، فتنحَّى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوّة، فذهب
ليأخذه، فطار من الكوّة، فنظر أين يقع، فيبعث في أثره, فأبصر امرأة تغتسل على سطح
لها، من أجمل الناس خلقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به،
فزاده ذلك فيها رغبة، فسأل عنها، فأُخبر أن لها زوجاً، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا,
فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث أهريا إلى عدو كذا وكذا, فبعثه، ففُتح له, وكتب
إليه بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن أبعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأساً, فبعثه
ففُتح له أيضاً, فكتب إلى داود بذلك, فكتب إليه أن أبعثه عدو كذا وكذا، فبعثه
فقُتل المرة الثالثة، وتزوج امرأته,
فلما
دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين، فطلبا أن
يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا، فتسوَّرا عليه
المحراب، فما شعر وهو يصلي إذ هو بهما بين يديه جالسين، ففزع منهما، فقالا: لا تخف
(إنما نحن) خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تُشطط يقول: لا تخف
واهدنا إلى سواء الصراط , إلى عدل القضاء, فقال: قُّصَا عليَّ قصتكما, فقال
أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فهو يريد أن يأخذ نعجتي،
فيكمل بها نعاجه مئة, فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعاً وتسعين نعجة ولأخي
هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مئة, قال: وهو كاره؟
قال: وهو كاره؟ قال: إذاً لا ندعك وذاك, قال: ما أنت على ذلك بقادر, قال: فإن ذهبت
تروم ذلك أو تريد، ضربنا منك هذا وهذا وهذا، وفسر أسباط طرف الأنف، وأصل الأنف
والجبهة, قال: يا داود أنت أحق أن يُضرب منك هذا وهذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون
امرأة، ولم يكن لأهريا إلا واحدة، فلم تزل به تعرّضه للقتل حتى قتلته، وتزوجت
امرأته, فنظر فلم ير شيئاً، فعرف ما قد وقع فيه، وما قد ابتُلي به، فخرَّ ساجداً
يبكي أربعين يوماً لا يرفع رأسه (الطبري في تفسير سورة ص 21-25),
وروى
البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول إن داود النبي حين
نظر الى المرأة أوصى صاحب البعث فقال: ‘إذا حضر العدو فقرِّب فلاناً بين يدي
التابوت`, وكان التابوت في ذلك الزمان يُستنصر به، ومن قُدم بين يدي التابوت لم
يرجع حتى يُقتل أو يُهزم عنه الجيش، فقُتل زوج المرأة (الكشاف في تفسير سورة ص
21-25),
وقال
الزمخشري أيضاً في تفسيره (الكشاف عند تفسير سورة ص): اتفق أن داود وقعت عينه إلى
امرأة أوريا فأحبها، فسأله النزول له عنها فاستحى أن يرّده ففعل، فتزوجها وهي أم
سليمان، فقيل له إنه مع عِظم منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلًا
ليس له إلا إمرأة واحدة النزول عنها لك، بل كان الواجب مغالبة هواك وقهر نفسك
والصبر على ما امتُحنت به , قال ابن عباس وغيره: ان داود لما دخل عليه المَلَكان
فقضى على نفسه، تحوَّلا في صورتهما وعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه, فعلم
داود أنهما قصداه، فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على
رأسه، وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده: ‘رب، زلَّ داود زلة أبعد ما بين
المشرق والمغرب, رب، إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق
من بعده`, فجاءه جبريل من بعد أربعين ليلة فقال: ‘يا داود، إن الله تعالى قد غفر
لك الهمَّ الذي همَمْت به`, فقال: ‘قد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا
جاء يوم القيامة فقال: ‘ربي دمي الذي عند داود؟`, فقال: جبريل: ‘ما سألتُ ربك عن
ذلك، وإن شئتَ لأفعلن`, قال: ‘نعم`, فعرج جبريل، وسجد داود ما شاء الله تعالى, ثم
نزل جبريل فقال: ‘سألتُ الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود إن الله
تعالى يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هَبْ لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا
رب, فيقول الله تعالى: فان لك في الجنة ما شئت ما اشتهيت عوضاً عن دمك` ,
ومع
ما في هذه الأقوال من غرابة، إلا أنها تدل على وقوع داود في الخطايا, وقد تواترت
هذه القصة في أيام الصحابة، واتخذها الأراذل مسوّغاً لشهواتهم، فزجرهم عليٌّ عن
التحدث بها, ولم يكن زجره إنكاراً لحقيقتها بل لصرف الناس عن الاشتغال بالمثالب,
وقال علي: مَنْ حدَّثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدتُه مائة وستين، وهي حد
الفرية على الأنبياء , ورُوي أنه حدث عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق
فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يُلتمس
خلافها، وأعظم بأن يُقال غير ذلك, وإن كانت على ما ذكرت وكفَّ الله عنها سَتْرًا
على نبيه، فما ينبغي إظهارها عليه , فقال عمر: لسَمَاعي هذا الكلام أحب إليَّ مما
طلعت عليه الشمس ,
وقالوا
إن القصة التي أتت في القرآن جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح، لكونها
أبلغ في التوبيخ, ولكن هذه القصة مذكورة في التوراة ببساطة الحق, وأعرب داود عن
توبته في المزمور الحادي والخمسين فاعترف بخطيئته وتاب وندم,
قال
المعترض الغير مؤمن: قال الشيخ السنوسي بعد أن أنكر قصة داود إن في كتب بني
إسرائيل تخليطاً عظيماً لا يليق أن يُلتفت إليه ,
وللرد
نقول: لقد أعمى التعصب الشيخ السنوسي فلم يذكر ما ورد في القرآن عن داود في التسعة
وتسعين نعجة، وهو مأخوذ بالحرف الواحد من التوراة, فإنه لما سقط داود في الخطيئة
أتاه النبي ناثان ووبخه، وضرب له هذا المثل كما تقدم