الفصل الثالث
الفصل الثالث
ما أسباب الشعور بالذات؟
4- ما هي أسباب الشعور بالذات؟
هناك أسباب عديدة فى محاربة الإنسان بالذات:
منها المواهب، كالفن مثلاً بكافة أنواعه.
وبخاصة من وصلوا إلى درجة عالية في هذا الشأن.
ومن أمثلة ذلك أن أحد الفنانين العباقرة في ايطاليا، أرسل إليه أحد المعجبين
خطاباً. ولم يكتب اسم الفنان على الظرف، وأكتفى بعبارة (إلى أعظم فناني إيطاليا).
فأوصلوا الخطاب إلى هذا الفنان، ولكنه لم يستلمه قائلاً: إنه ليس لي. لو كان مرسله
يقصدني، لكتب (إلى أعظم فنان في العالم)..!!
إنها المواهب التي يستخدمها البعض ليس فقط في
الشعور بالذات وعظمتها، إنما قد تصل به إلى الغرور أيضاً..
غير أننا نقول إنه ليس كل أصحاب المواهب محاربين
بالشعور بالذات. فما أجمل أن يجمع البعض بين المواهب والأتضاع.
مثال ذلك بولس الرسول الذي كانت له مواهب عديدة
جداً. ولكنه مع ذلك كان يقول “أنا.. من أنا؟! ولكنها نعمة الله العاملة
معي” (1كو1: 10) كذلك نذكر القديسين الذين كانت لهم مواهب فائقة للطبيعة مثل
إقامة الموتى أو صنع باقي المعجزات، ولم يفقدوا تواضعهم، ولم يقل واحد منهم كلمة
(أنا).
يضاف إلى المواهب في المحاربة بالذات باقي
المقدرات.
كأن تكون لأحد الأشخاص مقدرة في أمر من الأمور
لا تتوافر لغيره. أو يصل إلى درجة البطولة في رياضة ما، أو إلى درجة النبوغ في علم
من العلوم. ويصل في كل ذلك إلى مستوى مذهل وهذا التفوق، وهذه المقدرة، قد تكون
سبباً في الشعور بالذات..
وقد يتسبب الشعور بالذات من جهة الأصل أو الغنى
أو المركز:
كالشخص الذي من أصل رفيع، من أسرة نبيلة لها
أمجاد في التاريخ. فيتباهى بهذا الأصل، ويشعر أنه يتميز به على غيره..
وبنفس الأسلوب قد يشعر الإنسان بذاته عن طريق
الغنى، إن وصل فيه إلى درجة يستطيع بها أن يظهر في المجتمع، وأن يفعل بالمال ما
يريد، وأن يكسب به أصحاباً واتباعاً ومريدين..
وأيضاً قد يشعر الشخص بذاته عن طريق مركزه، إن
علا هذا المركز، وجلب له سلطة واحتراماً ونفوذاً. فشعوره بعلو مركزه يسبب له
شعوراً بالذات، التى يمكنها أن تأمر، وغيرها يطيع..
وقد يشعر الإنسان بذاته، بسبب الذكاء، وبسبب النجاح.
يشعر الإنسان بذاته، إن كان يفهم ما لا يفهمه
الغير، ويستطيع أن يستنتج ما لا يقدرون على استنتاجه. ويمكنه أن يجد حلولاً
لمشكلات يعجزون أمامها. ويكون لماحاً وسريع البديهة، بينما يقف غيره حيرى لا
يدركون.. فيشعر في كل هذا أنه في مستوى أعلى بكثير من غيره.
كذلك النجاح يعطي شعوراً بالذات، وبخاصة إن كان
نجاحاً مستمراً “كل ما يصنعه ينجح فيه” (مز1).. وطبعاً ليس جميع الناس
هكذا. فيوسف الصديق كان ناجحاً في كل شئ (تك39) ولم يحاب الذات، بل كان الله هو
الذي ينجحه في كل ما يفعله.
كذلك قد يكون سبب للشعور بالذات، هو القوة عند
الرجل، والجمال عند المرأة.
داود كان يشعر بقوته، حينما هدد نابال الكرملي
أنه لن يبقى له إلى الصباح بائلاً بحائط (1صم 25). وهكذا نرى أن الشعور بالذات
بسبب القوة، قد يقود أحياناً إلى الإنتقام.
أيضاً شمشون الجبار، ألم يكن يشعر بذاته بسبب
قوته..؟
وكذلك دليلة، ألم تكن تشعر بذاتها بسبب جمالها،
الذي جعلها تسيطر على هذا الجبار وتغريه أن يبوح لها بسر قوته..!
يمكن أيذاً أن يشعر الإنسان بذاته، بسبب مديح
الناس له.
وقع في هذا الفخ هيرودس الملك، حينما قال له
الشعب المتملق “ليس هذا صوت إنسان. بل هذا صوت إله” (أع12). فضربه ملاك
الرب فأكله الدود ومات، لأنه لم يعط مجداً لله.. (أع12: 23).
وربما بمديح الناس المستمر، قد يشعر الإنسان أن
ذاته معصومة وأنه فوق مستوى الوقوع في الخطأ. ويكون باستمرار “باراً في عينى
نفسه” وحكيماً في عينى نفسه. وهذا مرض من أمراض الشعور بالذات.
تفادياً لهذا الشعور بالذات، كان الله يسمح لبعض
القديسين بضعفات:
وهكذا نرى أن القديس العظيم بولس الرسول الذي
استحق أن يختطف إلى السماء الثالثة إلى الفردوس ويسمع كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ
لإنسان أن يتكلم بها (2كو 12: 4).. نراه يقول “ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات،
أعطيت شوكه في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع (2كو 12: 7). وبقيت معه هذه
الشوكة، على الرغم من أنه تضرع ثلاث مرات لتفارقة!!
ولأنه لاقى تمجيداً كثيراً من الناس، نراه
يقول.. للموازة مع الذات – “بمجد وهوان. بصيت حسن وصيت ردئ” (2كو 6: 8).
وهكذا دخل هذا القديس العظيم في تجرة الهوان
والصيت الردئ، حتى لا يشعر بذاته في خدمته، هو وأصحابه في الخدمة..
مثال آخر غير القديس بولس الرسول، هو يعقوب أبو
الآباء:
لقد نال البركة والبكورية. وقيل له “كن
سيداً لأخوتك، وليسجد لك بنو أمك” (تك27). نال البركة من أبيه اسحق. والبركة
والمواعيد من الله نفسه (تك28). وجاهد مع الله والناس وغلب (تك32). وأخذ من الله
اسماً جديداً..
ومع ذلك كان لابد من توازن، حتى لا يقع في
الشعور بالذات. فسمح الله أن يظل يعقوب خائفاً ومرعوباً من أخيه عيسو. وسمح أن
يخدعه خاله لابان أكثر من مرة، بل أن يخدعه بنوه مشكلة مع شعوب الأرض في قتلهم
شكيم وأهله. وسمح له بضيقات كثيرة حتى قال لفرعون “أيام غربتي على الأرض
قليله وردية”.
ولما باركه الرب وجاهد مع الله والناس وغلبن
ضربه الله على حق فخده، فصار يخمع عليه كل أيامه، حتى يشعر بضعفه، فلا يرتفع..
أبونا إبراهيم أبو الآباء والأنبياء عامله الله
بنفس التوازن.
فعلى الرغم من أنه كان من أعظم رجال الإيمان.
وبالإيمان ذهب ليقدم ابنه محرقه لله (تك22). وفي طاعته لله أيضاً ترك أهله وعشيرته
وبين أبيه، ومضى وهو لا يعلم إلى أين يذهب (تك12). ومع أنه نال من الله مواعيد
عظيمة. وقال له “أباركك وأبارك مباركيك، وتكون بركة.. وبنسلك تتبارك جميع
قبائل الأرض” (تك 12).
إلا أن الله استبقى عن إبراهيم ضعفاً وهو الخوف.
فخاف عندما نزل إلى مصر، وقال عن سارة إنها أخته
حتى لا يقتلوه بسببها. وخاف نفس الخوف حينما نزل إلى جرار، وقال عن سارة أيضاً
انها أخته، فأخذها أبيمالك الملك. وأنقذها الله منه. وهذا الخو كان دافعاً لأبينا
إبراهيم، حتى لا يشعر بذاته، هذا الذي أنتصر في حرب الملوك، وأنقذ لوط وسبى سادوم
(تك14).
نفس الوضع أيضاً مع القديس بطرس الرسول.
هذا الذي طوبه الرب حينما قال “أنت هو المسيح
ابن الله الحي” (مت16: 16 – 19). بطرس الذي وصل به الشعور بالذات إلى الحدّ
الذي شعر فيه بأنه أقوى من جيمع التلاميذ في محبة الرب والإخلاص له قائلاً له:
“إن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك أبداً” (مت26: 33) (مر14: 29)
“يارب إني مستعد حتى إلى السجن وإلى الموت” (لو 22: 33).
بطرس هذا سمح له الله بالتجربة التي أنكره فيها
ثلاث مرات. وهكذا “خرج خارجاً وبكى بكاءً مراً” (مت 26: 75). وبعد
القيامة أخرجه الرب أيضاً من دائرة الشعور بالذات. ونداه باسمه العلماني ثلاث مرات
قائلاً له “يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟!” (يو21: 17).
“فحزن بطرس لأنه قاله له ثالثة أتحبني؟” (يو21: 17) أما عبارة
“أكثر من هؤلاء” فلكي يذكره بقوله “إن شك فيك الجميع، فأنا لا
أشك”. وقد ظل إنكار بطرس منخاساً في قلبه، كلما حاربه العدو بالأنا والشعور
بالذات. حتى ساعة صلبه طلب أن يُصلب منكساً..
هذا التوازن بين الشعوب بالذات وواجبات الأتضاع،
أقامه الله أيضاً في حياة سلميان الحكيم.
سليمان الذي أختاره الله نفسه ليبني هيكله،
والذي ظهر له مرتين أحداهما في جبعون، والأخرى في أورشليم. والذي منحه حكمه من
عنده، حتى لم يكن مثله في حكمته في الأرض كلها، وحتى أتت ملكة سبأ من أقاصى الأرض
لتسمع حكمة سليمان. وهو أيضاً الذي منحه الرب جلالاً ملوكياً لم يكن لأحد مثله
(1مل 3 – 8).
سليمان هذا الذي نال من الغنى ومتعة العالم ما
لم ينله ملك من قبل، والذي قال “فعظمت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في
أورشليم” والذي غرس لنفسه فراديس وجنات، والذي “أتخذ لنفسه مغنين
ومغنيات، وكل تنعمات البشر سيدة وسيدات”. وقال في ذلك كله “ومهما اشتهته
عيناي، لم أمسكه عنهما” (جا2).
سليمان العظيم هذا، سمح له الله بنقطة ضعف، وهي
محبته للنساء وخضوعه لتأثيرهن، فأفقدته حكمته وكماله.
هذا السماح كان بتخلي النعمة عنه قليلاً بسبب
أندماجه في متعة الجسد. وهكذا قيل عنه “وكان في أيام شيخوخة سليمان أن نساءه
أملن قلبه وراء آلهه أخرى. ولم يعد قلبه كاملاً أمام الله مثل داود أبيه..”
(1مل11). واستحق سليمان عقوبة من الله. غير أنه استفاد من تأديب الله له وتاب..
فليخفف كل إنسان من الشعور بالذات. وليتذكر قول
الرب “من أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته”..
5- جمهرة الخطايا التي تَلِدها الذات
· مشكلة الإنسان الأولى والكبرى، إن لم تكن
مشكلته الوحيدة، هي الذات. فإذا استعرضنا الخطايا التي تأتي من الذات، نجد أنها كل
الخطايا تقريباً..
لذلك فالإنسان المنتصر داخلياً على ذاته، هو
إنسان منتصر على طول الخط. والإنسان المهزوم من نفسه، يمكن أن ينهزم أمام أي شئ.
لذلك ما أجمل قول القديس يوحنا ذهبي الفم “لا يستطيع أحد أن يؤذي إنساناً، ما
لم يؤذي هذا الإنسان نفسه”. أي أن الإنسان إن لم يضر نفسه، فلا يستطيع أحد أن
يضره. فالضرر الروحي لا يأتيه من الخارج، بقدر ما يأتيه من الداخل من ذاته..
وصدق مار اسحق حينما قال “إن الذي يصطلح مع
نفسه، تصطلح معه السماء والأرض. وعبارة “يصطلح مع نفسه” تعني أنه لا
يكون خصماً لها، يبعدها عن الله وعن الخير..
· من الخطايا المشهورة، محاولة تكبير الذات.
وتكبير الذات يكون على نوعين: إما تكبيرها في
شخصها. وإما تكبير بصفة مقارنة، من حيث مقارنتها بالغير، فتكون أكبر من غيرها
وأفضل وأقوى وأعظم، أو أجمل أو أذكى..
وقد وقع الشيطان في الأمرين معاً. فمن جهة تكبير
ذاته من جهة شخصها، قال “أصعد إلى السموات.. أصعد إلى فوق مرتفعات
السحاب” ومن الناحية المقارنة قال “أرفع كرسي فوق كواكب الله.. أصير مثل
العليّ” (أش 14: 13، 14).
وبنفس الأسلوب، حارب الشيطان الإنسان الأول،
بتكبير الذات بقوله لأدم وحواء “تصيران مثل الله، عارفين الخير والشر”
(تك 3: 5). وسقط الإنسان أيضاً باللذة التي أراد أن يوفرها للذات، إذ رأى ”
أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر” (تك 3:
6)..
· إذن من الخطايا التي تُحارب بها الذات، اللذة.
واللذة تحارب الجسد والحواس بالشهوة. وفي ذلك
قال القديس يوحنا الرسول “شهوة الجسد، وشهوة العين، وتعظم المعيشة.. والعالم
يمضي وشهوته معه” (1يو 2: 16، 17). وهنا أضاف إلى شهوات الجسد، التي تلذ بها
الذات، شهوة النفس هي تعظم المعيشة.
الإنسان المحب لذاته، يسعى إلى منحها اللذة بكل
صورها: في الحس، في اللمس، في النظر، في الأكل والشرب، في ملاذ الجسد..
· إنه يكون باستمرار متمركزاً حول ذاته.
ذاته هي كل شئ في نظره. رغباته أولاً، ومصالحه
أولاً ورأيه. ويبلغ من أهتمامه بذاته، أنه لا يهتم بأحد. وفي وصوله إلى ما يريد قد
يصطدم بغيره، أو يسئ إلى غيره. لا مانع من أن يقف ضد الكل، ليحقق ما تريده ذاته.
تركيزه في ذاته يعميه عن كل شئ!
· وفي محبته لذاته، قد يمدح ذاته كثيراً
ويمجدها.
إنه يتحدث عن نفسه. ولا يكون حديثه كاملاً ولا
عادلاً. فهو لا يتحدث إلا عن محاسنها وأمجادها وانتصاراتها. ويخفي ما فيها من
عيوب. وإن أظهر فيه أحد بعض هذه العيوب، يحاول أن يبررها ويدافع عنها..
هذا الإنسان الذي يمدح ذاته، كثيراً ما يكون
حساساً جداً.
فهو حساس مثلاً من جهة كرامته ومن جهة حقوقه.
أقل شئ يتعبه أو يجرحه. أقل نصيحة أو عتاب أو لوم، يخدش شعوره.. ولا يحتمله وما
أكثر ما يشعر أنه مظلوم أو مغبون الحق، وأن الناس لا تعطيه الاهتمام الكافي أو
الاحترام اللائق به.
لهذا فهو يشكو في أحيان عديدة، ويتذمر.. لأن
(الأنا) لم تأخذ المجال الذي يريده لها. ولهذا يكون سهل الاصطدام والاحتكاك.
أو قد يلجأ إلى الانطواء على ذاته، يتأمل
محاسنها فيما بينه وبين نفسه دون أن ينجرح من الآخرين، هارباً من هذا المجتمع الذي
لا يوفيه حقه، ولا يحقق له ذاته. أو على العكس قد يتداخل في كل شئ، ظاناً أنه بذلك
يعطي ذاته فرصة للظهور..!
· إنه يحب نفسه محبة غير حكيمة وغير سليمة.
ينبطق عليه قول السيد الرب “من وجد نفسه
يضيعها”.
ففيما هو يريد أن يبني نفسه، نراه يهدمها. وفيما
يريد أن يعظمها، يحطمها!! وهو في كل ذلك يريد أن يبني نفسه من الخارج بمظهرية
خاطئة، بينما يقول المزمور ” كل مجد ابنه الملك من داخل.. “
وهو في شعوره بذاته، وثقته الزائدة بها، يعتمد
دائماً على نفسه.
في كل ما يصادفه من مشاكل أو صعاب، يعتمد فقط
على زراعه البشري، على جهاده وذكائه ومقدراته الخاصة وحسن تصرفه. بينما الإنسان
الروحي يعتمد على النعمة التي تأتيه من فوق، على عمل الروح فيه. وفي كل شئ يلجأ
إلى الصلاة، ليشرك الله معه.
يقول الكتاب ” الرب يقاتل عنكم، وأنتم
تصمتون” (خر 14: 14).
وما معنى عبارة (تصمتون). سوى أنكم لا تعتمدون
على ذواتكم.. الإنسان المعتمد على ذاته، يكثر العمل. أما المعتمد على الله، فهو
يكثر الصلاة. المعتمد على ذاته إذا نجح فإنه يفتخر. أما المعتمد على الله. فإنه
إذا نجح، يشكر الله ويمجده.
المعتمد على ذاته ينسى الله، ويستخدم مقدراته
وإمكانياته وحيله وسياساته وأساليبه وقوته..! أما المعتمد على الله، فيجعل الله
الكل في الكل.ويرى أن مقدراته هو: إن لم يعمل الله فيها، فليست شيئاً.. لأنه
“إن لم يبني الرب البيت، فباطلاً هو تعب البناءون” (مز 127: 1). وقد قال
السيد الرب “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئاً” (يو 15: 5).
· الإنسان المعتد بذاته، هو بعيد كل البعد عن
الطاعة والمشورة. ذلك لأنه لا يطيع إلا فكره، ولا يثق إلا برأيه.
وهو في كل ذلك لا يعتمد على نفسه. فهو حكيم في
عيني ذاته. يرى أنه يعرف كل شئ. فلماذا يلجأ إلى الآباء الروحيين؟! ولماذا
يستشير؟! أي شئ جديد سيأخذه منهم؟! وإن جلس إلى أب له في الأعتراف، فإنما لكي يأخذ
منه مجرد الموافقة على ما قد قرره في ذهنه! وإن أشار عليه الأب بشئ، فإنه يجادله
كثيراً، ولا يقبل منه رأياً بسهولة. وكذلك في علاقته مع أبيه بالجسد وسائر الكبار!
· لذلك فالإنسان المعتد بذاته، يكون صلب الرأي
عنيداً..
وما أسهل أن يختلف مع الآخرين. ويعتبر كل من
يخالفه في الرأي لابد أن يكون على خطأ. وهو إن دخل مع أحد في نقاش، ليس من السهل
عليه أن يقتنع. وهكذا كان الهراطقة والمبتدعون في تاريخ الكنيسة: كم قدم لهم
الآباء من شروحات واقناعات، ولكنهم أصروا على رأيهم. لأن الذات عندهم ما كان يمكنها
أن تتراجع!!
· بل أن المعتد بذاته، يكون عنيداً حتى في
علاقته مع الله نفسه. وهكذا لا يستطيع أن يحيا حياة التسليم.
إنه يريد من الله أن ينفذ له كل ما يطلبه وكل ما
يعتقد أنه الخير لنفسه. ومن الصعب عليه أن يقول للرب “لتكن مشيئتك”
ولهذا فهو كما يتذمر على الناس، يتذمر أيضاً على الله!! وكما يشكو من معاملة الناس
له، كذلك يشكو أيضاً من معاملة الله له، سواء من جهة استجابة صلواته، أو من جهة
نوعية الحياة التي يختارها الرب له. ذلك لأنه باستمرار يسلك حسب هواه..
· الإنسان المعتد بذاته، لا يمكن أن يكون
متواضعاً.
ذلك لأنه أول مبدأ في التواضع هو إنكار الذات.
أما الذي تحاربه الذات (الأنا)، فإنه يبحث باستمرار عن كرامته وشخصيته وما يريده
لذاته من حقوق ومن سلطه وعلو. إن كان له مجد، يكون دائم لافتخار بمجده، وإن لم يكن
له، يسعى دائماً إلى كل ألوان المجد.
· المعتد بذاته يكون باستمرار باراً في عينيّ
نفسه.
إنه لا يدين نفسه أبداً. ولا يعترف بأنه أخطأ،
سواء كان اعترافاً أمام الله أو أمام الناس، أو حتى فيما بينه وبين نفسه. وإن كان
الخطأ الذي وقع فيه واضحاً، يحاول أن يحوّل المسئولية في ذلك إلى غيره، كما فعل كل
من أدم وحواء (تك 3) أو يبرر ذاته من جهة الظروف المحيطة، الضاغطة!
إن رسب في امتحان، يعلل ذلك بصعوبة الامتحان، أو
بصعوبة التصحيح. أو أنه يلوم الله الذي لم يساعده، بل قد تخلى عنه! أما إن نجح
فإنه ينسب ذلك إلى ذاته، إلى مجهوده وذكائه..
المحارب بالأنا يميل أن يأخذ أكثر مما يعطي. ويحسب
لأنه يبني ذاته بتوالي الأخذ، بسياسة الجمع والتكويم.
مثال ذلك الرجل الغني الغبي، الذي أخصبت كورته
وازداد غناه فقال: أهدم مخازني وأبني أعظم منها.وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي.
وأقول لنفسي: يا نفسي لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة. استريحي وكلي واشربي
وافرحي (لو 12: 16 – 19).
إنه لم يفكر في أبديته، بل في تمتع ذاته على
الأرض. وكانت النتيجة أنه خسر الأبدية والأرض أيضاً. وتلقب بالغني الغبي..
· وهكذا ممكن أن الاهتمام بالذات يؤدي إلى
البخل.
الذي يحب أن تزيد أمواله لكي تتمتع بها الذات،
يصبح صعباً عليه أن يعطي. وقد ضرب لنا الرب مثال الشاب الغني الذي مضى حزيناً،
لأنه كان ذا أموال كثيرة (مت 19: 22). وأيضاً قصة ذلك الغني الذي لم يعط لعازر
المسكين من الفتات الساقط من مائدته (لو 16: 21).
هؤلاء الأغنياء يرون أن العطاء ينقص مالهم الذي
تتمتع به الذات.
· لذلك بسبب (الذات) لا يدفعون العشور ولا
البكور.
فالمحارب بالذات لا يقول فقط (أنا)، إنما يقول
أيضاً: مالي وممتلكاتي ومشروعاتي. ويفتخر بأن ماله يزيد يوماً بعد يوم. بينما إن
دفع العشور ينقصه! وكذلك دفع البكور.. وفي هذا يقول الوحي الإلهي ” سلبتموني،
يقول الرب” (ملا 4). وقد قال السيد الرب “مغبوط هو العطاء أكثر من
الأخذ” (أع 20: 35). لأن في العطاء محبة الغير وليس محبة الذات. كما حدث مع
الأرملة التي دفعت من أعوازها.. (لو 21: 21).
ومن جهة العطاء، تذكر العطاء بصفة عامة، وليس
العطاء فقط من المال.. يمكن العطاء من جهة الوقت والجهد والمشاعر.
فالمحارب (بالأنا)، يبخل في إعطاء جزء من وقته
وجهده لغيره. ففي اهتمامه بذاته، يريد أن يكون كل الوقت من أجل هذه الذات بعكس
السامري الصالح الذي مرّ على رجل جريح في الطريق: فأهتم به، وأعطاه من وقته وجهده
وماله لكي يشفى (لو 11: 3 – 35).