الفصل التاسع
الفصل التاسع
34- تأملات في أهمية القيامة: الحياة والخلود
مبارك هو الله الذي منحنا الوجود إذ لم تكن،
وميزنا عن باقى الكائنات بالعقل والنطق.
وأعطانا الله الحياة. وهى سر يغوص الناس في
أعماقه، ولا يصلون إلى مكنوناته.
وأعطى الله الحياة لكائنات حية عديدة جداً تعيش
معنا على هذا الكوكب، من طيور وحيوانات وحشرات وهوام وأسماك، كل منها له طبيعته..
ولكن الحياة في الإنسان تميزت بميزة أسمى من كل تلك الكائنات.. تميزت بالروح التي
تختلف عن أنفس الحيوانات..
فتلك الكائنات الحية معنا حياة. أما نحن فلنا
حياة، وحياة أخرى. إذ أعطانا الله حين خلقنا أرواحاً خالدة..
الخلود عطية عجيبة وعميقة جداً، منحها الله
للبشرية. فكان إذن من أهم عطاياه لنا: الوجود، والحياة، والخلود. مع سمو في كل من
هذه الأمور الثلاثة، نتفوق فيها على كل المخلوقات الأرضية. يضيف لها الله مجموعة
من المواهب والقدرات، تتنوع من إنسان لآخر، حسبما قسم الله لكل واحد كما شاءت
مواهبه الإلهية (1 كو 12: 11).
خروج الحياة من الإنسان سر لا ندريه. ورجوع
الحياة إليه سر أعظم..
كل ما ندريه عن خروج الحياة من الإنسان هو بعض
مظاهر خارجية، مثل توقف المخ، وتوقف القلب، وتوقف النفس، وتوقف النبض، وتوقف
الحرارة، وتوقف الحس، وبالتالى توقف كل أجهزة الجسد.
أما خروج الروح من الجسد، فهو سر. كيف يحدث،
ومتى؟ وما تحيط به من مشاعر وأحاسيس، أو من مناظر. وما يتبع ذلك، ومسيرة الروح..
كل هذه أسرار.. حتى الذين عادوا إلى الحياة، وأقامهم الأنبياء في العهد القديم، أو
أقامهم السيد المسيح له المجد، لم يخبرونا بما حدث لهم، وكيف خرجت منهم الحياة،
وكيف عادت إليهم، وكيف كانوا بين الحالين؟!.. كل ذلك بقى سراً مختوماً عليه بسبعة
ختوم.
كل ما نستطيعه، هو أن نشكر الله، لأنه وعد أن
يعطينا حياة أخرى..
إنها حياة بعد الموت، ننالها في القيامة العامة،
التي تقوم فيها جميع البشر. ترجع الأرواح إلى اجسادها فتقوم، لتقف في يوم الدينونة
العظيم، الذي فيه يجازى الله كل نفس بما عملت. وينال كل واحد منا حسبما صنع بالجسد
كان أم شراً (2 كو 5: 10).
ولكن كيف تعود الأرواح إلى الأجساد؟ هنا نقف
بالإيمان أمام قدرة الله القادر على كل شئ.
الله الذي خلق الكون كله من العدم، أتكون
القيامة صعبة عليه؟ حاشا..
القيامة تعطينا إذن فكرة عن قدرة الله.
الله القوى المتناهى في قوته، الذي يستطيع أن
يعيد هذه الأجسام مرة أخرى بعد أن تتحلل وبعد أن نتحول إلى تراب..
ويعيدها في نوع من التجلى، أجساداً روحانية،
سماوية، نورانية (1 كو 15: 49). لا يدركها الموت فيما بعد، ولا يدركها تعب، ولا
مرض.
فالله وعد الإنسان بالخلود، وليس بالخلود لجزء
منه فقط هو الروح، بل الخلود للإنسان كله، روحا ًوجسداً.
فلو أن الروح فقط أتيح لها الخلود والنعيم
الأبدى، إذن لا يمكن أن نقول إن الإنسان كله قد تنعم بالحياة الدائمة، وإنما جزء
منه فقط، وهو الروح. فبالضرورة إذن لابد أن يقوم الجسد من الموت، وتتحد به الروح،
لتكون إنساناً كاملاً تصير له الحياة الدائمة.
35- الجسد والروح معاً
القيامة عقيدة أساسية في جميع الأديان.
ولولاها ما يثبت دين إطلاقاً. فنحن نؤمن بقيامة
الجسد من الموت وبالحياة الأخرى والنعيم الأبدى وعقوبة الأشرار.
إن قيامة الأجساد ضرورة تستلزمها عدالة الله:
فالإنسان مخلوق عاقل ذو إرادة. وبالتالى هو
مخلوق مسئول عن أعماله. وسيقف أمام الله، لينال ثواباً أو عقاياً عما فعل خلال
حياته بالجسد على هذه الأرض. فهل يعقل أن يقع هذا الجزاء على الروح فقط، أم يقع
على الإنسان كله بروحه وجسده؟
إن الروح والجسد اللذين اشتراكاً معاً في العمل،
تقتضى العدالة الإلهية أن يتحملا الجزاء معاً، أو أن يتنعماً بالمكافأة معاً.
الجسد هو الجهاز التنفيذى للروح أو للنفس أو
للعقل. الروح تميل إلى عمل الخير، والجسد هو الذي يقوم بعمل الخير، يجرى ويتعب
ويشقى ويسهر ويحتمل. أفلا تكون له مكافأة عن كل ما اشترك فيه من خير مع الروح؟ أم
تتنعم الروح وحدها في الأبدية، وكل تعب الجسد يضيع هباء؟! وهل يتفق هذا مع عدل
الله الكلى العدالة؟!
ونفس الوضع نذكره أيضاً عن عمل الشر الذي يشترك
فيه الجسد مع الروح. بل قد يكون له في الشر النصيب الأوفر.
فالجسد الذي ينهمك في الملاذ العالمية، من أكل
وشرب وسكر ومخدرات وزنى ورقص وعبث ومجون، ويلذذ حواسه باللهو.. هل بعد هذا كله،
تدفع الروح الثمن وحدها في الأبدية، ولا يلحق بالجسد شئ من العذاب أو من
المجازاة؟! كلا، فهذا لا يتفق مطلقاً مع العدل الإلهى، الذي لابد أن يجازى الإنسان
كله روحاً وجسداً.. إذن لابد أن يقوم الجسد ليشترك في المجازاة، ويكون الحساب
لكليهما معاً.
لأنهما أشتركا في العمل معاً، سواء بدأت الروح،
وأكمل الجسد. أو أشتهى الجسد واستسلمت الروح له، واشتركت معه في شهواته.
إن الجسد ينفذ ما تريده الروح، ويبر أيضاً عن
مشاعرها.
ولنأخذ الجندي في الميدان مثالاً لنا.
الجندى تدفعه روحه إلى أعمال البسالة والبذل
والفداء، وتشتعل روحه بمحبة وطنه ومواطنيه. ولكن الجسد هو الذي يتحمل العبء كله،
ويدفع الثمن كله. الجسد هو الذي يتعب ويسهر ويحارب، وهو الذي يجرح ويتمزق وتسيل
دماؤه. فهل بعد كل هذا تتمتع الروح وحدها، والجسد لا يشترك معها في المكافأة؟!
وكأنه لم ينل أرضاً ولا سماء؟! إن العدل الإلهى لا يوافق إطلاقاً على هذا. إذن
لابد أن يقوم الجسد من الموت، ليشترك مع الروح في أفراحها.
ولنضرب مثلاً واحداً للشركة بين الروح والجسد،
وهو العين:
الروح تحب أن تشفق، ويظهر الحب والإشفاق في نظرة
العين. والروح تغضب أو تميل إلى الانتقام. وترى العين نظرة الغضب أو نظرة الانتقام.
الروح تتجه إلى الله بالصلاة، وترى في العين نظرة الابتهال، أو تغرورق العين
بالدموع من تأثر الروح..
الروح الوديعة المتضعة يشترك معها الجسد بنظرات
وديعة متضعة. والروح المتكبرة المتغطرسة المتعالية، يشترك معها الجسد أيضاً بنظرات
التكبر والغطرسة والتعالى.
وكما تشترك العين، تشترك أيضاً كل ملامح الوجه،
كما تشترك دقات القلب ومراكز المخ، وأعضاء أخرى من الجسد..
هذه أمثلة من الشركة بين الروح والجسد.
وفى مجال الجد والإجتهاد، نرى هذا أيضاً. ويوضح
هذا قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجساد
إذن تكون المكافأة في الأبدية للروح الكبيرة
التي أرادت الخير وصممت على عمله، وأيضاً للجسد الذي حمل عبء وجاهد واحتمل وصبر،
حتى حقق حقق للروح رغبتها. وهكذا كما اشترك معها في العمل، ينبغى أن يقوم ليشترك
معها في الجزاء وفى حمل المسئولية.. فالمجازاة هي للإنسان كله..
ونحن على الأرض نكافئ الجسد، ونعتبر هذا أيضاً
مكافأة في نفس الوقت للروح التي لا نراها
ألسنا نمجد أجساد الشهداء والأبرار، ونجعل
مقابرهم مزاراً، ونضع عليها الورود والأزهار والأطياب، ونصلى هناك من أجلهم..؟ ولا
نعتبر هذا كله مجرد إكرام للجسد أو للعظام أو للرفات أو للتراب، وإنما للإنسان كله.
لأننا فيما نفعل هذا، إنما نكرم روحه أيضاً..
وإن كان الإنسان لا يستحق الإكرام، ينسحب
الأهمال على جسده وعلى روحه معاً. فالمجرمون الذين يحكم عليهم بالأعدام أو بالسجن،
تنال أجسادهم جزاءها. وفى نفس الوقت يلحق بأرواحهم سوء السمعة، وتتأثر أرواحهم بما
يحدث لأجسادهم.
فإن كانت عدالتنا الأرضية تفعل هكذا، فكم بالحرى
عدالة الله..
عدالة الله تشمل الإنسان كله، روحاً وجسداً،
لذلك لابد أن يقوم الجسد الذي عاش على الأرض مشتركاً مع الروح في أعمالها. وليس في
مجرد الأعمال فقط، بل حتى في الأفكار والمشاعر.
فإن الجسد ينفعل بحالة الروح، بفكرها ومشاعرها
ونياتها.
الروح تقدم المهابة أو الخشوع فينحني الجسد
تلقائيا. الروح تحزن فتبكى العين، ويظهر الحزن على ملامح الوجه وفى حركات الجسد.
الروح تفرح، فتظهر الابتسامة على الوجه.. الروح تخاف فيرتعش الجسد، ويظهر الخوف في
ملامحه. الروح تخجل، فيعرق الإنسان، أو يبدو الخجل في ملامحه..
إنها شركة في كل شئ، ليس من العدل أن تتحملها
الروح وحدها أو الجسد وحده إنما يتحملها الإثنان معاً، وهذا هو الذي يحدث في القيامة.
كذلك من العدالة أن تقوم الأجساد لتنال تعويضاً
عما كان ينقصها.
فالعميان مثلاً والمعوقون أصحاب العاهات،
والمشوهون، وكل الذين لم تنل أجسادهم حظاً من الجمال أو الصحة أو القوة.. من
العادلة أن تقوم أجسادهم في اليوم الأخير، وتقوم بلا عيب، حتى يعوضها الله عما
قاسته على الأرض من نقص وألم.
كذلك الذين عاشوا على الأرض في فقر وعوز، وفى
جوع ومرض، كان له تأثيره على أجسادهم، يحتاجون أن تقوم أجسادهم في حياة أخرى لا
تشعر فيها أجسادهم بما كان لها على الأرض من ألم..
36- كرامة الإنسان
إننا نفرح بالقيامة، ونراها لازمة وضرورية
وممكنة. ونراها تعبيراً عن محبة الله للبشر، وتعبيراً أيضاً عن عدله.
القيامة أيضاً تعطينا فكرة عن محبة الله للبشرية،
الله الذي أحبنا حتى أنعم علينا بالخلود، كما
أحبنا من قبل وأنعم علينا بالوجود. الله المحب منح البشرية هذا الخلود العجيب،
فيحيون إلى الأبد في نعيم دائم.
القيامة أعطت الإنسان قيمة معينة، أعطت لحياته
قيمة.
فلو كانت حياة الإنسان تنتهى عند القبر، لأصبح
مخلوقاً فانياً زائلاً، مثله مثل الحيوان تماماً، ومثل باقى الكائنات التي لها
مجرد حياة أرضية فقط.
ما هي إذن الميزة التي لهذا الكائن البشرى
العاقل الناطق، الذي وهبه الله من العلم موهبة التفكير والاختراع، والذى سلطه على
كل الكائنات الأرضية الأخرى..! هل يعقل أن هذا الإنسان العجيب، يؤول جسده إلى مصير
كمصير بهيمة أو حشرة أو بعض الهوام؟! إن العقل لا يمكنه أن يصدق هذا..
إذن قيامة الجسد تتمشى عقلياً مع كرامة الإنسان.
الإنسان الذي يتميز على جميع المخلوقات ذوات
الأجساد، والذى يستطيع بما وهبه الله أن يسيطر عليها جميعاً، وأن يقوم لها بواجب
الرعاية والاهتمام إذ أراد. فكرامة الجسد هذا المخلوق العاقل، لابد أن تتميز عن
مصير باقى أجساد الكائنات غير العاقلة غير الناطقة.
وهذه الميزة تظهر في قيامة الجسد وتجليه.
لذلك نشكر الله لأنه بالقيامة أعطى لحياتنا
امتداداً كبيراً إلى غير نهاية، حيث يعيش الإنسان في حياة أخرى لا تنتهى إلى الأبد.
عندما خلق الله الإنسان خلقه حياً، ذا نفس حية،
ولم يكن تحت سلطان الموت.
إذن الموت دخيل على العالم، والحياة هي الطبيعة
الأصلية للإنسان.
وبالقيامة يرد الله الإنسان إلى رتبته الأولى،
إلى الحياة التي خلق بها ولأجلها.
37- فوائد أخرى للقيامة
بالقيامة تتثبت المبادئ الروحية، ويصبح الإنسان
صاحب رسالة وصاحب قيم.
لأنه مع القيامة توجد المسئولية وتوجد الدينونة،
والإنسان يقوم من الموت لكى يقف أمام منبر الله العادل ليعطى حساباً عن كل ما فعله
بالجسد إن خيراً وإن شراً. يعطى حساباً ليس فقط عن أعماله، وإنما أيضاً عن أعماله
ونياته وحواسه ومشاعره الباطنية.
ومادام الإنسان سيقوم وسيعطى حساباً عن كل شئ،
ينبغى إذن له أن يحيا حياة التدقيق والحرص، حياة البر والقداسة التي يقف فيها بلا
خجل ولا خزي ولا خوف أمام الله، وأمام الناس في اليوم الأخير.
لو لم تكن قيامة لساد الفساد العالم، ولأنتشر
الظلم، ولأكل الناس بعضهم بعضاً.
لو لم تكن هناك قيامة للأجساد، وحياة أخرى،
لانتشر الفساد والأبيقورية التي تقول “لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت”،
ولتهالك الإنسان على ملاذ الدنيا وعلى المادة. لكن بالقيامة أصبحت هناك قيم، وهناك
مبادئ، وهناك أهداف روحية يحيا الإنسان لها، وهناك الحياة الآخرة التي يسعى
الإنسان إليها بهدف واسع كبير غير الأهداف القصيرة المؤقتة التي يعيش لها الناس.
وبالقيامة دخلت إلى الإنسان مشاعر الشجاعة
والجرأة وعدم الخوف.
وأصبح الإنسان لا يخاف الموت، وهكذا على رجاء
القيامة تقدم الشهداء إلى الموت غير هيابين إنهم يعرفون أن الموت ليس نهاية حياتهم،
ويرون أن بعد الموت باباً واسعاً لحياة لا تنتهى.
على رجاء القيامة عاش الناس على هذا الرجاء في
فكرهم السماء، وفى فكرهم النعيم الأبدى، وفى فكرهم سعادة تفوق سعادة الدنيا، وهى
ما عبر عنها الكتاب بقوله “ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر
على قلب بشر ما أعده الله لمحبى اسمه القدوس”.
إن الناس كلما يودعون راحلاً عن الدنيا يودعونه
على رجاء القيامة، باعتبار أنهم سيرونه هناك.
بل إن القيامة أعطت رجاء أوسع من هذا، ليس فقط
في تلاقى الأحباء والأقرباء، وإنما في تلاقى الأجيال كلها.
حيث يلتقي الناس هناك في السماء مع أبينا آدم
وأبينا نوح والأنبياء، ومع جميع الأبرار في جميع العصور. ستلقى الأجيال كلها هناك
في القيامة ولولا القيامة ما كان مثل هذا اللقاء ممكناً، ولعاش الناس في جيل محدود،
وفى زمن محدود لا يتعدونه.
ومن هنا رأينا أناساً يعيشون حياة الزهد والنسك
والتجرد من الماديات في العالم، لأنهم يعرفون تماماً أن وراء هذا النسك والزهد
توجد مكافأة أبدية تعوض كل شئ.
38- الاستعداد
ولكن ولكن هذه القيامة يا أخوتى هي فرح للأبرار،
وهى خوف ورهبة للمخطئين والأشرار الذين يخافون من القيامة لأنها تفتح باباً أبدياً
فى عقاب الله.
لذلك إذ نتذكر القيامة، وإذ نتذكر هذا العمر
الطويل غير المتناهى الذي ينتظرنا في الأبدية، نستعد لهذه الحياة بحياة البر وحياة
الإيمان، لكى نستحق هذا الخلود السعيد. لأنه لن يدخل في نعيم الله الأبدى إلا
المؤمنون الذين عاشوا بالحب، وعاشوا بالسلام، وعاشوا في خير، ينشرون الخير أينما
وجدوا، وأينما حلوا ويبحثون عن سعادة غيرهم أكثر من سعادتهم الشخصية.هؤلاء
الأنقياء الأبرياء، الأبرار هم الذين يعيشون في النعيم الأبدى.
علينا أن نحيا في هذا البر ما دامت لنا أنفاس
تتردد فينا، ولنبذل كل طاقاتنا لكى نسعد الأجيال التي نعيش فيها، ولكى نتمثل
بالسيد المسيح الذي قيل عنه “كان يجول يصنع خيراً”.