اللاهوت العقيدي

البَابُ الخامِس



البَابُ الخامِس

البَابُ
الخامِس

سِرُّ
التّوبَة وَالمُصَالَحة

مُقدّمَة

سرّ
التوبة هو من بين أسرار الكنيسة السبعة السرّ الذي يطرح حوله الانسان المعاصر أكثر
الأسئلة. فالخطيئة، التي هي موضوع سر التوبة، أصبحت لديه في ذاتها موضوع تساؤل.
فالكلام على وصايا يفرضها إله موجود في عالم آخر ويقع من يخالفها في الخطيئة
ويتعرّض للعقاب الأبدي يبدو للبعض كلاماً أسطورياً. فالوصايا في نظرهم هي من صنع
البشر وهم المسؤولون عن تطويرها مع الزمن. فيما يؤكّد البعض الآخر أنّ العلوم
الانسانية، ولاسيّما علم النفس التحليلي وعلم الاجتماع، قد كشفت أن لا وجود
للخطيئة الشخصية. فجُلّ ما هنالك هو تعرّض الانسان لعقد نفسية يمكن التحرّر منها
بواسطة العلاج النفسي، أو وجوده في أوضاع تاريخية متخلّفة سوف تتمكّن البشرية
يوماً من تغييرها فيزول الشرّ من العالم ويعمّ الخير والصلاح وتنتشر القيم
الأخلاقية في المسكونة كلها.

والذين
يؤمنون بالله ويعتقدون بضرورة التوبة يتساءلون: لماذا لا يكتفي الخاطئ بالتوبة إلى
الله؟ لماذا ترغم الكنيسة المؤمنين على الإقرار بخطاياهم أمام كاهن هو أيضاً مثلهم
معرّض للخطيئة؟ ويضيف البعض منهم: ما هو مفعول سر التوبة؟ أليست الخطايا هي عينها
التي يقترفها الانسان؟ فما الفائدة من أن يعترف بها وهو على يقين من أنه سيعود
إليها بعد الاعتراف؟

سنحاول
الإجابة على هذه الأسئلة انطلاقاً من نظرة شاملة للانسان الذي يعمل على بناء ذاته
وبناء العالم في التضامن مع إخوته البشر في انفتاح على الله القدوس الذي ظهر لنا
في شخص ابنه وكلمته يسوع المسيح. إنّ رسالة السيّد المسيح التي دُوّنت في الإنجيل
المقدس منذ ألفي سنة هي رسالة لكل الأجيال والعصور. فماذا تتضمّن تلك الرسالة
بالنسبة إلى الخطيئة في حياة الانسان؟ وكيف تستطيع الكنيسة اليوم أن تعلن تلك
الرسالة في احتفالها سرّ التوبة؟

ففي
قسم أوّل نبحث في وضع الإنسان الخاطئ إزاء ذاته وإزاء الآخرين وإزاء القه، للوصول
إلى تعريف بالخطيئة يلائم في آنٍ معاً تطلّبات الإنسان المعاصر والوحي الإلهي الذي
ظهر لنا في شخص السيد المسيح.

وفي
قسمٍ ثانٍ نبحث في التوبة ومغفرة الخطايا في رسالة الأنبياء وفي حياة السيد المسيح.
ثم نوضح معنى التوبة في الأخلاقية المسيحية، بالمقارنة مع مضمون التوبة في
الأخلاقية الطبيعية. ثم ننتقل إلى دراسة سر التوبة في تاريخ الكنيسة وفي اللاهوت
المسيحي. فنوضح العناصر التي يتضمّنها وما تنطوي عليه تلك العناصر من أبعاد
لاهوتية، ونبيِّن كيف يعيد هذا السرّ الانسان التائب إلى حياة الثالوث الأقدس وإلى
كنف الكنيسة المعترفة أبداً بمحبة الله وبالمغفرة التي لا يزال يسبغها على أبنائه.

 

الفصل
الأول مِن الشعُور بالذنْب إلىَ وَعي الخطيئَة

“أريد
أن أفعل الخير، وإذا الشرّ حاضر لديّ” (رو 7: 21). هكذا يعبِّر الرسول عن
اختبار يقوم به كلّ إنسان في حياته، وهو اختبار التناقض بين ما يريده من الخير وما
يصطدم به من الشرّ. وهذا التناقض بين الخير والشرّ في حياة الإنسان وأعماله يكوّن
ما تدعوه مختلف الفلسفات والأديان “الأخلاق”. فما الذي يميّز نظرة
الأخلاقية المسيحية إلى الخير والشرّ؟ وكيف يمكننا التعريف بالخطيئة في اللاهوت
المسيحي؟

1-
الشعور بالذنب

إنّ
التناقض بين الخير الذي يتوجّب على الإنسان فعله والشرّ الذي يُقدم على صنعه في
الواقع يولّد في نفسه “الشعور بالذنب”. هذا الشعور بالذنب يعود، حسب
علماء النفس، إلى الطفولة الأولى، حيث ينشأ بين الطفل ووالديه رباط عاطفي.
فالعناية التي يتلقّاها الطفل من والديه تجعله يشعر بمحبتهما له ويثق بهما، ويحاول
التمثّل بهما والانصياع لكلّ الأوامر والنواهي التي تصدر عنهما بشأن مسلكه. وهذه
الإرشادات والأوامر والنواهي تشكّل في نفسه طبقة من الواجبات دعاها علماء النفس
“الأنا الفوقي”. فالشعور بالذنب ينشأ من خوف الطفل ألاّ تكون أعماله كما
يجب أن تكون في نظر والدَيه، فيفقد رضاهما ومحبتهما االذين بدونهما لا يستطيع
القيام بأيّ عمل.

وهذا
الاختبار الذي يبدأ به الطفل علاقته مع الآخرين عن طريق والديه يستمرّ في ما يفرضه
عليه المجتمع عامة من “واجبات”، و”قواعد أخلاقية” يشعر بضرورة
الانصياع لها، وإن لم يكن في قرارة نفسه مقتنعاً منها. فينقاد لها خوفاً من أن
يفقد احترام الآخرين وتقديرهم له، ويفقد في آن معاً الاحترام والتقدير اللذين
يكنّهما لنفسه. فإنّه منذ طفولته قد تعلّم أن يتمثّل بالآخرين ويقبل قيمهم
وإرشاداتهم.

فالذنب
يقوم إذّاك في مجرّد التعدّي على هذه القيم والإخلال بهذه “الواجبات”،
بصرف النظر عمّا يرافق هذا التعدّي “المادّي” على الواجب من نيّة صالحة
أو سيئة، وبصرف النظر عمّا إذا كان الشخص الذي قام بهذا العمل “المخالف
للواجب” قد قام به عن تصميم وإرادة أم عن ضعف، بملء حريته أم مكرهاً.

وفي
هذه الحالة يشعر الانسان بأنّه مذنب، لا لأنّه سلك مسلكاً يناقض هدفه واعتقاداته،
بل لأنّه قام بعمل يناقض “الواجب” المفروض عليه في المجتمع الذي يعيش
فيه. فكأنّ القلق ينتابه من أنّه تجاوز بعمله المناقض “للواجب” حدوداً
رسمتها قوى سرّية غير مرئيّة، وتعرّض بالفعل عينه للعقاب الذي سوف تنزله به تلك
القوى السرّية.

إنّ
الشعور بالذنب يظهر في مجالات متعدّدة حيث يسم سلوك الانسان بالاضطراب والقلق،
نذكر منها الوسواس ووخز الضمير والتبرير الذاتي وطقوس التطهير الجماعية. وتجدر
الاشارة إلى أنّ هذه المجالات التي يبرز فيها الشعور بالذنب تبقى جانبية بالنسبة
إلى ما كان السبب الحقيقي لنشأته والذي يجب البحث فيه ومعالجته. لذلك عِوَض أن
تزيل القلق الذي يعيش فيه الإنسان المذنب، تزيده رسوخاً وامتداداً.

فالوسواس
هو التركيز على أمور طفيفة يحمّلها المذنب قيمة ذنب باهظ، ويستعيض بها عن شعور
بالذنب لا يقوى على تحمّله.

أما
وخز الضمير فهو شعور بالذنب يحمل الانسان على العودة دوماً إلى ماضيه لاتّهام ذاته
والحكم على أعماله. ويختلف هذا الشعور عن الندامة والتوبة اللتين يقبل بهما
الانسان مسؤولية ماضيه ويعترف بالذنب الذي سقط فيه، وينطلق في مسيرة إيجابية لبناء
مستقبل جديد. فالمصاب بوخز الضمير لا يستطيع أن ينتصب ليبدأ مسيرة جديدة، بل يبقى
رازحاً تحت ثقل الذنوب التي اقترفها، وهو يردّد علِى الدوام: كيف توصّلت إلى
اقتراف مثل هذه الذنوب؟ إنّ ذنوبه تشكِّل أمامه حاجزاً لا يستطيع تجاوزه وسجنا لا
يمكنه الخروج عنه.

على
نقيض وخز الضمير، قد يلجأ المذنب إلى التمادي في الذنب عينه الذي اقترفه، وذلك في
سبيل تبرير ذاته من شعور بالذنب لم يستطع تحمّله. وهذا ما يفسّر بعض مظاهر السلوك
الجنسي “المتحرّر” الذي تزول فيه كل القيود الأخلاقية التي يضعها
المجتمع.

ويظهر
أخيراً الشعور بالذنب في طقوس التطهير الجماعية التي لا تهدف إلى الندامة واصلاح
السيرة بقدر ما تهدف إلى اجتناب عواقب الذنوب المقترفة، التي أخلّت بالشرائع
وأغاظت القوى الالهية حارسة الشرائع. فلإعادة الاحترام إلى الشرائع واسترضاءً
للقوى الالهية المغتاظة، يلجأ الانسان إلى طقوس تكفيرية متنوعة، نجدها في مختلف
الحضارات والديانات، منذ الغسل بالماء حتى إحراق الذبائح. ويدخل في هذا الإطار
إعدام المجرمين، ولاسيما عندما يتمّ على مرأى من الجماهير المحتشدة، بالرجم أو
الشنق أو الخرق. فبقتل المذنب، يرتاح الشعب من ثقل الشعور الجماعي بالذنب.

2-
وعي مسؤولية الذنب أمام الذات

إنّ
الشعور بالذنب يعمل في لاوعي الانسان ويحمله على اللجوء إلى وسائل جانبية يستعيض
بها عن عجزه عن الانسجام مع الشرائع والواجبات التي يشعر بأنها تُفرَض عليه.

أمّا
الوعي الأخلاقي أو الضمير فيبرز في حياة الإنسان عندما يكتشف مسؤوليته في الاضطلاع
بمصيره في إطار علاقته بالآخرين وضمن شرائع وواجبات يرى فيها وسيلة لبناء ذاته
وتحقيق هدف حياته.

إنّ
الثقافة المعاصرة تتميّز بوعي متزايد لمسؤولية الانسان في بتاء العالم وتطوّر
البشرية. وإنسان اليوم هو على يقين من أنّ النواميس والشرائع التي تنظّم علاقات
البشر بعضهم ببعض في المجتمعات والدول هي من وضع البشر أنفسهم، ويمكن بالتالي أن
تتغيّر وتتطوّر. فالشرائع الموروثة والنظم القائمة ليست المرجع الأخير والقياس الثابت
للسلوك البشري. أن قياس العمل الأخلاقي هو المستقبل، الذي يستطيع الانسان أن يحقّق
فيه نموّه الشخصي بالانسجام مع الآخرين.

في
هذه النظرة يدرك الانسان أنّه أذنب كلّ مرة يسلك بحرية وبملء إرادته سلوكاً يناقض
حكم ضميره. فالذنب لم يعد تجاوزاً لشريعة ثابتة ولا تعدّياً على نظام قائم، بل رفض
للتقدّم والنمو. ولم يعد الانسان بحاجة إلى لوائح من الشرائع تحدّد سلوكه تحديداً
مفصّلاً. لذلك عندما يأتي إنسان اليوم إلى محاسبة ذاته وفحص ضميره، لا يسأل نفسه: “ما
هي الشرائع التي تجاوزتها والنظم التي تعدّيت عليها؟”. بل: “ما هو هدفي
في هذه الحياة؟ ما هي القيم التي توجّه أعمالي؟ ما هو المستقبل الذي أريد أن أبنيه
لذاتي وللمجتمع؟ وهل كنت أميناً لهذا الهدف وهذه القيم وهذا المستقبل؟”.

إذّاك
تغدو التوبة اعترافاً أمام الذات بالانحراف عن القيم التي تبني الذات وتبني
الآخرين. إلاَّ أنّ هذا الاعتراف لا يدلي به المذنب بشعور بالذلّ وخنوع أمام
الإخفاق، بل بقصد ثابت للعودة إلى حياة أكثر انسجاماً مع متطلبات هدفه.

لا
شك أنّ جميع الناس ليسوا على القدر عينه من الوعي في هذا الموضوع. فإذا سألت بعض
المؤمنين عن الخطيئة ردّدوا على مسمعك لائحة تعلّموها منذ صغرهم بالخطايا التي يجب
اجتنابها، ولكنّهم لا يعرفون ما يجيبون على سؤال متعلّق بالهدف الذي يوجّه أعمالهم،
وبالقيم التي يريدون أن يحقّقوها في حياتهم. إنّ الشرائع والواجبات التي لا بدّ
لكل إنسان من أن يتعلمها يجب أن تكون تعبيراً عن قيم إنسانيّة. وهذه القيم هي التي
يتمّ التركيز عليها في التربية المعاصرة.

ثم
إنّ حكم الضمير الشخصي ليس معصوماً عن الخطأ، لأنه يستند إلى تربية معيّنة تلقّاها
الإنسان من المحيط الذي عاش فيه، ولأن الواقع معقّد ويتضمّن عناصر كثيرة يصعب
تقويمها بدقّة. لذلك مع التركيز على ضرورة الحكم الشخصي في الوعي الأخلاقي، لا بدّ
من الإشارة إلى ضرورة الانفتاح على حكم الآخرين في علاقة متبادلة للضمائر.

3-
وعي الخطيئة

أ)
الأخلاق والإيمان

إنّ
الحديث عن الخطيئة مبنيّ على الإيمان بأنّ الله قد أحبّنا أولاً، إذ خلقنا ودعانا
إلى حياة اتحاد معه. والايمان المسيحي يضيف أنّ الله أحبّنا إلى حدّ أنّه صار
واحداً منا بالتجسّد في شخص ابنه وكلمته يسوع المسيح، في حياته وموته وقيامته.
فالخطيئة هي رفض محبة الله التي ظهرت لنا في الخلق ثم في الخلاص.

إنّ
التركيز على الانسان في الفكر المعاصر قد يحمل بعض المسيحيين على القول إنّ علاقة
المحبة مع الله تعني في الواقع علاقة المحبة مع الآخرين. لذلك ليس من الضروري في
نظرهم إدخال البعد الإلهي في تقويم أعمال الانسان، بل يمكن الاكتفاء بما تتضمّنه
تلك الأعمال من بُعد إنساني وقيمة انسانيّة.

جوابنا
على هذا التفكير هو أوّلاً أنّ الأخلاق الانسانية مهما سمت واتّسعت تبقى محدودة في
الزمن وتظلّ عرضة للإخفاق والفشل. فالإيمان بالله يفتح لها آفاقاً جديدة ويُدخل
كلّ عمل إنساني في أبدية الله. فعمل الخير الذي هو في نظر الأخلاق بناء للذات
وبناء للآخرين هو في نظر الإيمان جواب على محبة الله للإنسان. لذلك من يصنع الخير
لمجرّد محبة الانسان قد يتعرّض لليأس إزاء وضاعة ما يستطيع القيام به وإزاء الرفض
الذي قد يلاقيه من قِبَل من يحبّهم ويخدمهم. أمّا من يُدخل البعد الإلهي في محبته
للانسان وفي ما يقوم به من خدمة وتضحية تجاه البشر، تتّسم أعماله مهما كانت وضيعة
وصغيرة بسمة الألوهة، ويجد في الله قوّة تمكّنه من تجاوز ما يتعرّض له من الرفض
والإخفاق. هكذا علّمنا السيد المسيح. فقد أحبّ البشر حتى أقصى حدود المحبة، حتى
الموت. لكن محبته للبشر لم تنفصل لحظة عن محبته للآب. لذلك عندما رفضه البشر
وعلّقوه على خشبة، استقى من إيمانه بالآب القوة ليغفر لهم: “يا أبتاه، اغفر
لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون” (لو 23: 34).

ثمّ
إنّ الإيمان بالله وبأنّه أوحى لنا الوحي الأخير في شخص ابنه وكلمته يسوع المسيح،
في أقواله كما في مثل حياته وموته، يرشد تفكيرنا البشري إلى ما يجب أن تتحلّى به
الأخلاق الانسانية. إنّه يصعب على البشر رسم المثال الأعلى الذي يحقّق كمال
الانسان. والسيد المسيح لم يرسم لنا طريق الكمال الانساني في مجموعة من قوانين
ووصايا تنطبق على كلّ ظرف من ظروف حياة البشر. وعلى كلّ حال فإنّ القوانين التي
تركها مؤسسو الأديان صارت الآن بحاجة إلى تعديل لتنسجم وتطلبات العصور المتغيّرة.
ولكن المسيح ترك لنا مثالاً نستوحي منه اختياراتنا المتعددة، ونستنير به للوصول
إلى تحقيق انسانيتنا: في أقواله وأعماله، في طريقة حياته وطريقة موته، يستطيع
البشر اليوم كما في كل العصور أن يجدوا الوجه الحقيقي للإنسان والوجه الحقيقي لابن
الله.

وأخيراً
إنّ الإيمان بالله يساعد على إدراك نسبيّة الأجوبة البشرية على تساؤلات الإنسان.
فالإنسان لا يمكنه أن يجد الجواب الأخير على تساؤلاته في مجرّد العودة إلى ذاته
والتفكير ضمن حدود عقله، بل في الله: “أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا
كلّه يُزاد لكم” (متى 6: 33). والملكوت هو ظهور الله ظهوراً شخصياً في شخص
يسوع المسيح: في حياته وموته وقيامته.

ب)
الخطيئة رفض المحبة

الخطيئة،
في الفكر المسيحي، ليست تعدّياً على شريعة يعتبرها الإنسان غريبة عنه، بل هي
تنكُّر لمحبة الله، ذاك الإله الذي يرى فيه المسيحي عمق كيانه ومصدر وجوده وغاية
حياته. انها رفض للدخول في حوار محبة معه ومع الناعم الذين خُلقوا على صورته
ومثاله.

وهذا
ما نقرأه في الكتاب المقدس منذ رواية الخطيئة الأولى في الفردوس. فالله خلق
الإنسان على صورته ومثاله، وأراد أن تكون علاقته معه علاقة محبة وثقة، تلك العلاقة
التي هي وحدها كفيلة بأن توجد كائناً حرًّا خلاّقاً. إلاَّ أنّ الإنسان رفض الله
وقطع العلاقة معه. فالخطيئة الأساسية هي رفضُ الإنسان الدخول في علاقة محبة مع
الله.

وبقطع
الإنسان علاقته مع الله، تشوّهت بالفعل عينه علاقته مع ذاته ومع الآخرين. فالإنسان
الذي كان قبل الخطيئة عائشاً في نعيم من السلام والانسجام مع الله ومع ذاته ومع
الآخرين، صار بعد الخطيئة عرضة لشتى أنواع الاضطراب. فنراه يخاف ويختبئ من وجه
الله، ويخجل من عُريه، ويفقد براءته وينشأ فيه القلق. وكذلك تشوّهت العلاقة بين
الزوجين: آدم يتّهم حواء بأنها هي سبب الخطيئة، يرفض تحمّل مسؤولية ذنبه، والزوجان
يرفضان مواجهة الواقع معاً في المحبة. وقُطعت أيضاً العلاقة ضمن العائلة: قايين
يقتل أخاه هابيل. وقطعت العلاقة بين البشر. وترمز إِلى ذلك قصة برج بابل وبلبلة
الألسن: إذ صار الناس عاجزين عن فهم بعضهم بعضاً وعن التفاهم بعضهم مع بعض.
وأخيراً قُطعت علاقة الإنسان بالكون: فالأرض لم تعد جنّة نعيم، بل موضع العناء
والتمزُّق، ويشير إلى ذلك الشوك، والعمل المضنيّ، والولادة بالأوجاع.

الخطيئة
ليست مجرّد نقض لشريعة مبهمة مجرّدة. بل هي خيانة لعهد شخص، قطع لعلاقة مع صديق،
عدم أمانة تجاه المحبة ومتطلباتها. وهذا ما يشير إليه الأنبياء في صورة الأمانة
الزوجية بين الله وشعبه.

إنّ
حوار المحبة الذي يكوّن علاقتنا بالله يظهر في حوار المحبة الذي يدعونا إليه كلّ
الذين نلتقيهم في حياتنا والذين ينتظرون أن يشاهدوا من خلال وجهنا وجه الله، ومن
خلال محبتنا محبة الله. في الأفراح والأحزان، في الصداقات والصراعات، وفي كل
تطلّبات العدالة والأخوّة، لا نزال نسمع نداء السيد المسيح: “كل ما تفعلونه
نحو إخوتي هؤلاء الصغار فبي تفعلونه” (متى 25: 40).

لا
شك أن المحبة هي دوماً حوار شخصي. ولكن بما أن الإنسان كائن بشري لا يحقّق
إنسانيته إلاَّ ضمن علاقة بالمجتمع وضمن أُطر اجتماعية ونظُم سياسية واقتصادية،
فلا يمكن للمسيحي إهمال هذا البُعد الجماعي في ممارسته المحبة. فالنظم الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية التي يعيش فيها قد تكون ظالمة، والمحبة تطلب منه أن يعمل
على تغييرها، بالتعاون مع جميع الناس من مسيحيين وغير مسيحيين “من ذوي
الإرادة الصالحة”.

إنّ
هذه النظرة تحمل المسيحي في بحثه عن الخطيئة في حياته على ألاّ يسأل نفسه فقط عن
أعماله الفردية بل عن المجتمع الذي يسعى إلى تحقيقه وعن القوى التي هو متضامن معها.

في
المحبة تلتقي الأخلاقية المسيحية بالأخلاقية الطبيعية التي يسعى كلّ إنسان إلى
تحقيقها. فالمحبة هي التي تتوّج التوق الإنساني الطبيعي إلى العدالة والتآخي. ثم
أن تطبيق التوق الطبيعي إلى العدالة في تفاصيل الشرائع والمؤسسات الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية يتطوّر مع تطوّر الثقافة والحضارة. وللمسيحيين دور رئيس في
هذا التطور. فالسيد المسيح، الذي يستنيرون بتعاليمه وأعماله، يرشدهم إلى معرفة
المثال الذي يحقّق كمال الإنسانية، ويدعوهم إلى أن يكونوا كالخمير اليسير الذي
يخمّر العجين كلّه بالمحبة التي تنبع من قلب الله.

ج)
الخطايا العرفية والخطايا المميتة

إذا
كانت الخطيئة هي دوماً إهانة للمحبة، وجرح نسبّبه للآخرين، فهذه الاهانة قد تكون
إهانة عرضية أي طفيفة، أو ثقيلة. وهذا الجرح قد يكون جرحاً عرضياً أي بسيطاً أو
مميتاً أي طعنة في الصميم. من هنا درج التقليد اللاهوتي على التمييز بين الخطايا
العرضية والخطايا المميتة.

إنّ
هذا التمييز له جذوره في الكتاب المقدس، فنقرأ في رسالة يوحنا الأولى:

“إن
رأى أحد أخاه يقترف خطيئة لا تقود إلى الموت، فليصلِّ، فيعطيه الله الحياة -ذلك
للّذين يرتكبون خطيئة ليست للموت- لأنّ من الخطايا ما يقود إلى الموت؛ ولست لأجلها
أطلب أن يُصلَّى” (1 يو 5: 16).

إنّ
التعبير الكتابي “الخطايا التي تقود إلى الموت” يعني في العهد القديم
الخطايا التي تستوجب حكم الموت (قارن بين عد 15: 22- 29 و30- 36). أما في لغة
يوحنا فتعني الخطايا التي تقود إلى الموت الروحي الأبدي، كما أنّ الحياة تعني في
كتاباته الحياة الروحية الأبدية. فهذه الخطايا لا يطلب أن نصلي لأجلها، بل نتركها،
كما يقول أيضاً بولس الرسول، لحكم الله وحده الذي يعود إليه أن يدينها أو أن يعفو
عنها (راجع 1 كو 5: 5).

لا
يحدّد العهد الجديد ما هي تلك الخطايا التي تقود إلى الموت. إلاَّ أنّ التقليد
اللاهوتي سيوضح أنّ الخطايا المميتة هي التي يميت بها الإنسان في قلبه محبة الله
كالجحود أو محبة القريب كالقتل والزنى. وستقتصر الكنيسة طوال قرون طويلة على هذه
الخطايا الثلاث وتعتبرها خطايا تحرم من يقترفها من شركة الكنيسة.

لكن
هذا التمييز بين الخطايا المميتة والخطايا العرضية يجب ألا يحمل المسيحي على
التساهل واعتبار الخطايا العرضية أموراً ثانوية يمكنه اقترافها دون تردد. فالخطيئة،
أمميتة كانت أم عرضية، تبقى خطيئة أي إهانة لصديق وجرحاً في قلب حبيب. والذي يحبّ
شخصاً يتحاشى القيام بأيّ عمل، مهما كان طفيفاً، يمكن أن يهين أو يجرح الشخص الذي
يحبه. وبقدر ما تزيد المحبة يزيد التنبّه للآخر. لذلك بقدر ما ينمو الإنسان في
القداسة يشعر بأنه خاطئ، أي بأنه لا يقوم بالقدر الكافي ممّا تطلبه منه محبته لله
وللقريب. في هذا يقول باسكال: “هناك فئتان من الناس: الأبرار الذين يعتبرون
ذواتهم خطأة، والخطأة الذين يعتبرون ذواتهم أبراراً”.

يقول
اللاهوتي الارثوذكسي افدوكيموف معبّراً عن تقليد اللاهوتي الشرقي:

“ان
كان هناك تمييز، حسب القديس يوحنا الانجيلي (1 يو 5: 16- 18) بين الخطايا التي
تقود إلى الموت وسائر الخطايا، فلا وجود للوائح محدّدة للخطايا العرضيّة والخطايا
المميتة. إن صلاة سر التوبة تطلب مغفرة الخطايا “الاختيارية وغير الاختيارية،
الخطايا المقترفة بالقول أو بالفعل، عن معرفة أم عن جهل، في النهار أو في الليل،
بالعقل أو بالفكر”. الخطايا كلّها يتضمّنها عمل القلب الواحد عينه دون اللجوء
إلى تحليل أو تصنيف. لقد أهان الإنسان الله ورحمته. ويستحيل على التائب الارثوذكسي
أن يسأل نفسه عمّا إذا كان في حالة النعمة أم لا. انه يأتي كفقير يلتمس خلاصه.
وحتى بعد الاعتراف، لدى تقدّمه إلى التناول يعترف بأنه “أول الخطأة”.
وعندما يعلن الكاهن المحتفل: “الأقداس للقديسين”، لا يسعه إلاّ أن يجيب:
“قدوس واحد، رب واحد”.

إلى
جانب “مادة الخطيئة” ينظر اللاهوت، لتحديد مسؤولية الخاطئ، إلى ثلاثة
أمور: المعرفة، والارادة، والحرية.

إنّ
أيّ عمل شرير لا يُعتبَر خطيئة ما لم يعرف من يقوم به أنه خطيئة. ولكن المعرفة
المطلوبة هنا ليست مجرّد الاطّلاع بل الاقتناع. وهنا تكمن صعوبة تقويم الأعمال
التي يعتبرها التعليم التقليدي خطايا، والتي يجيزها الناس لأنفسهم لأنهم لا يرون
فيها أيّ ضرر، وذلك في شتى الميادين: كالعلاقات الجنسيّة خارج الزواج، أو الإجهاض،
أو اللجوء إلى بعض وسائل منع الحمَل، أو القتل في ظروف خاصة. إنّ إنسان اليوم لا
يكتفي بمعرفة لوائح الخطايا، بل هو بحاجة إلى أن يعرف السبب الذي لأجله تُعتبَر
هذه الأعمال خطايا وأن يقتنع مما يُقال له. لذلك يجب تربية الضمائر للوصول إلى
قناعات شخصية تتيح لكل إنسان القيام بأعماله بوجه مسؤول مع الاحترام التام للقيم
الانسانية ولعلاقات المحبة بين البشر.

وكذلك
يصعب تقويم إرادة الشخص ومدى حريته في قيامه بأعماله. فلقد أظهرت العلوم الانسانية،
ولا سيّما علم الاجتماع وعلم النفس، أنّ الحرية الانسانية، التي هي عنصر أساسي
للتعريف بالخطيئة، تخضع لعوامل كثيرة وراثية واجتماعية، بحيث يصعب تأكيد وجود حرية
كاملة في معظم الأعمال التي يقوم بها الناس. فعلى سبيل المثال من يقتل أو يسرق قد
لا يكون مجرماً بقدر ما يكون ضحيّة مجتمع ظالم لم يقدّم له ما يجب له من العناية
والكرامة. من هنا يصل البعض إلى إنكار وجود الخطيئة بسبب انعدام الحرية. ويذهب
آخرون إلى القول إن الإنسان صالح في عمق طبيعته، غير أن المجتمع والتربية يحملانه
على القيام بأعمال شريرة. فعليهما تقع كل مسؤولية الشرور التي يقترفها الناس.

لا
ريب في أنه لا وجود للخطيئة إذا لم تكن هناك حرية ومسؤولية. ولكن هذا لا يعني أن
الإنسان غير مسؤول عن أي عمل يقوم به. يجب الإفادة من العلوم الإنسانية، لا لإنكار
مسؤولية الإنسان في أعماله، بل لتحديد مدى تلك المسؤولية. فالمجتمع هو صنع الناس،
والتاريخ هو صنع الناس. والناس هم الذين يطوّرون المجتمع ويطوّرون التاريخ. لا شكّ
أنهم في عملهم يتعرّضون لضغوطات كثيرة من ذواتهم ومن الآخرين، لكنهم يبقون أحراراً
ومسؤولين. أن تحديد مسؤولية كل إنسان في مختلف الميادين يتطلب من اللاهوتيين
والباحثين جهداً خاصاً يتهرّب منه من يكتفي بالقول إنّ الإنسان يتمتّع بملء الحرية
في القيام بكل أعماله، وكذلك من ينكر على الإنسان أيّ حرية وأيّ مسؤولية.

وعلى
كل حال، فالمهمّ في موضوع الخطيئة ليس البحث في مسؤولية الشخص في ما قام به من
أعمال في الماضي، بقدر ما هو النظر إلى المستقبل لتوعية المؤمنين على تطلّبات
دعوتهم الإنسانية والمسيحية، والبحث في كيفيّة التحرّر من العِقَد النفسية ومن
الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تهدف إلى إبقاء الأوضاع القائمة على ما هي عليه
من ظلم وقساوة. فالكنيسة بأجمعها، على صعيد السلطات الكنسيّة وعلى صعيد جماعات
المؤمنين، مدعوّة إلى أن تكون المكان الملائم للبحث والتفكير، على ضوء اختبارات
العلوم الانسانية، في ما يجب القيام به لخلق أوضاع تساعد على النمو في المعرفة
والحرية والمحبة.

 

الفصل
الثَاني

التَوبَة
وَمَغفِرَة الخَطَايا

“إنّ
الله لا يريد موت الخاطئ، بل أن يعود إليه ويحيا”. إنّ محور كلّ دين هو نظرته
إلى الله، ومحور النظرة المسيحية هو أنّ الله ليس الإله الديّان الذي يُنزل العقاب
بالخاطئ، بل الإله المحبة الذي يدعو الخاطئ إلى الحياة والخلاص. والتوبة المسيحية
هي قبول محبة الله. تلك هي الرسالة الكبرى التي نادى بها أنبياء العهد القديم،
وحقّقها بملئها السيد المسيح في العهد الجديد، وحفظها لنا الإنجيل المقدس الذي هو
“إنجيل” أي “بشرى صالحة”، لأنه “بشرى خلاص”. إنّ
وحي الخطيئة في الكتاب المقدس هو عمل خلاص من قبل الله، لأنه لا يهدف إلى الحكم
على الخاطئ بل إلى مساعدته للإقلاع عن خطيئته واختبار محبة الله الذي يغفر للخاطئ
ما اقترفه من الخطايا ويدعوه إلى إعادة علاقات المحبة معه.

أولاً-
التوبة ومغفرة الخطايا

في
رسالة الأنبياء ورسالة السيد المسيح

لقد
كانت رسالة الأنبياء في معظمها توعية للشعب لإدراك خطاياه الكثيرة أمام الله،
ودعوة له إلى التوبة، أي إلى أن يعود إلى الله ويعمل بأحكامه ووصاياه. كل المصائب
والويلات التي كانت تحلّ بالشعب، كان الأنبياء يعتبرونها نتيجة حتمية لابتعاد
الشعب عن طرُق الله. وهذا ما يمكن التحقق منه في دراسة مختلف أسفار العهد القديم.

إنّ
ما هو جديد في رسالة السيد المسيح هو أنّه لم يقتصر على الدعوة إلى التوبة كما فعل
الأنبياء. بل راح يغفر الخطايا معلناً تحقيق الزمان الذي وعد به الأنبياء. فقد بدأ
رسالته بالكرازة بتحقيق الملكوت في شخصه: “لقد تمَّ الزمان، واقترب ملكوت
الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر 1: 15). والملكوت هو حضور محبة الله
الغافرة بين البشر. وهذا ما أظهره السيد المسيح في ما قام به من أعمال محبة: من
شفاء للمرضى وإخراج للشياطين ومغفرة للخطايا. أن محبة الله تسبق كل عمل يقوم به
الإنسان، والتوبة التي هو مدعو إليها هي نتيجة، وليست شرطاً، لتلك المحبة. لذلك
كانت دعوة السيد المسيح أولاً إلى الإيمان بمجيء الملكوت ثم إلى التوبة.

فعندما
يدرك الإنسان محبة الله، يدرك في آنٍ معاً كم هو بعيد عن تلك المحبة في مختلف
الأعمال التي يقوم بها، ويدرك إذّاك معنى الخطيئة ومعنى التوبة. وهذا ما نقرأه في
مشهد المرأة الزانية الذي هو أروع ما كتب في هذا الموضوع (يو 8: 3- 11).

جاء
يوماً علماء الناموس والفريسيين إلى يسوع بامرأة أُخِذت في فعل الزّنى. وقالوا له
أن الناموس يقضي برجم أمثال تلك المرأة. تلك هي النظرة الأولى إلى الخطيئة: الخطيئة
تعدٍّ على الناموس. ومن ينظر إلى الخطيئة في هذه النظرة لا يبقى له للتكفير عن
الخطيئة وإعادة الاحترام للناموس إلاَّ تنفيذ الحكم الذي يأمر به الناموس.

لكنّ
السيد المسيح ينظر إلى موضوع الخطيئة نظرة مختلفة. فيجيب علماء الناموس والفريسيين:
“مَنْ فيكم بلا خطيئة فليبدأ ويرمها بحجر”. إنّه يتوجه إلى ضمير كلّ
واحد منهم. وعلى هذا المستوى لا يستطيع أحد أن يدّعي أنّه “بلا خطيئة”.
لذلك، يقول الإنجيل المقدس، “طفقوا يخرجون واحداً فواحداً، ابتداءً من
الشيوخ” (فالخطايا، على مرّ الأيام، تتكدّس). خرجوا، وبقي كل منهم وحده مع
خطاياه.

إلاَّ
أن السيد المسيح لم يقف عند هذا الحدّ. وهنا نصل حقاً إلى إدراك معنى الخطيئة
ومعنى المغفرة. إنّ ما لم تستطع العدالة أن تحقّقه، ستحقّقه المحبة التي تتجاوز
الخطيئة. فالمحبة ستعطي تلك المرأة القدرة على الخروج من السجن الذي قادتها إليه
أعمالها ومواقف الناس من حولها. فيخاطبها السيد المسيح أولاً بلغة الواقع: “أين
هم؟ أَلَمْ يحكم عليكِ أحد؟” يدعوها إلى أن تنظر إلى حقيقة ذاتها وإلى حقيقة
مَن حولها. “لا أحد!” إنّها خاطئة، ولكن جميع الناس خطأة. ثم يخاطبها
بلغة المحبة والمغفرة: “ولا أنا أحكم عليكِ!”. ولكنّه يضيف: “إذهبي،
ولا تعودي إلى الخطيئة من بعد”. إنّ المغفرة التي يمنحها إيّاها يرفقها بدعوة
إلى تغيير حياتها. وهذه الدعوة هي علامة ثقة بأنّها تستطيع عمل الخير، لأنّ ما
يحدّد مصيرها ومصير حياتها ليست الخطيئة التي عاشت فيها حتى الآن، بل محبة الله
التي يدعوها السيد المسيح إلى أن تحيا فيها.

هكذا
يعرّفنا السيد المسيح ما هي الخطيئة وما هي التوبة. فالخطيئة ليست تعدّياً على
شريعة، بل قطع لعلاقة محبة، وتلك هي مأساة هذه المرأة: لقد خانت المحبة التي
تربطها بزوجها. لذلك لا تعاد إلى المحبة برجمها بحسب الشريعة، بل بمساعدتها على
ملاقاة محبة تمنحها الثقة لتجاوز الخطيئة التي اقترفها. وهذا ما فعله السيد المسيح
نحوها.

ان
طريقنا إلى التوبة في نظر السيد المسيح يقوم على أن نكتشف في آن معاً عمق محبة
الله نحونا وحقيقة خطيئتنا: “تعرفون الحق، والحق يحرّركم” (يو 8: 32).
في معظم الأحيان يظنّ الخاطئ أنّ مغفرة خطاياه تقوم على اعلان براءته إمّا من قبل
الآخرين وإمّا من قبل ضميره، وذلك بإيجاد أعذار لخطيئته. لكن المغفرة التي يمنحها
السيد المسيح ليست إعلان براءة ولا القبول بما نقدّمه من أعذار. بل هي بالحريّ
قبول في الحق للخاطئ مع كلّ ما هو عليه، بما في ذلك الخطيئة التي اقترفها. هذا
القبول هو وحده كفيل بأن يفتح أبواب السجن الذي يقود الخاطئ إلى الشعور بالذنب، إذ
يكشف له أن الذنب الذي اقترفه يُبعده عن محبة الله. أمّا الله فيبقى أميناً على
عهد محبته مهما ابتعد الانسان عن هذا العهد. وانطلاقاً من اكتشاف محبة الله
الأمينة الثابتة ومن اعترافه بذنبه، تنفتح له آفاق مستقبل جديد.

أن
الله خالقنا للمحبة، وكل مرة نخون المحبة نخون الله ونخون ذواتنا في آنٍ معاً. في
هذا المعنى يمكن القول أن الخطيئة هي التغرّب والضياع الأعظم. وللخروج من هذا
التغرّب، لا طريق آخر سوى المغفرة، أي تلك النظرة المحبة التي يلقيها علينا الله.

 

ثانياً-
التوبة المسيحية

1-
التوبة المسيحية دخول في ديناميكية محبة الله

التوبة
المسيحية ليست ارتداداً إلى أحكام الشريعة لتتميمها، ولا ارتداداً إلى أصالة الذات،
بل هي في أساسها ارتداد إلى الله الحيّ.

أ)
الارتداد إلى الشريعة

هناك
بعض المسيحيين لا يزالون ينظرون إلى الله وكأنّه قبل أي أمر آخر الإله الواضع
الناموس والحارس الشريعة، الذي يُنزل العقاب بكل من يخالف أحكامه ووصاياه.

فالشرائع
والوصايا تعبّر، في نظرهم، بوضوح عن إرادة الله، ويمكن الاكتفاء بها. فليس لهم
إذاً إلاَّ تطبيق هذه الوصايا تطبيقاً حرفياً. في هذه النظرة تغدو التوبة إصلاحاً
للذات في موضوع معيّن يشعر المرء أنّه خالَفَ فيه الوصية، دون النظر إلى مجمل
حياته.

والمقاصد
التي توجّه عمله تقتصر على بعض واجبات ومبادئ أخلاقية تلقّاها في تربيته.

ب)
الارتداد إلى الذات

هناك
نظرة أخرى ترى في الله تجسيد “القيم” الإنسانية، وفي المسيح المثال
الأعلى للإنسان.

في
هذه النظرة تغدو التوبة عودة إلى الذات لتحقيق القيم الإنجيلية والعمل على إزالة
المظالم الاجتماعية التي تشوّه الإنسان.

لا
بدّ من التنبيه إلى حدود تلك النظرة التي لا تتخطّى المستوى الأخلاقي، الذي يحمل
المسيحي على أن يعيش على مثال المسيح. فيما الأخلاقية المسيحية تطلب منه أن يعيش
مع المسيح.

ج)
الارتداد إلى الله الحي

أن
التأثّر بالثقافة المعاصرة قد يحمل بعض المسيحيين إلى أن يروا أنّ التطوّر الحاصل
في الأخلاق المسيحية يقتصر على توسيع الشرائع. فما كان محرَّماً في القديم صار
الآن محلَّلاً. إنّ مَن لا ينظر إلى الأخلاق المسيحية إلاَّ في إطار المحرَّم
والمحلَّل لم يفهم ما جاء به السيد المسيح من جديد في إطار الأخلاق. انه لا يزال
يفكِّر ضمن إطار حدود الشريعة، لذلك يرغب في توسيع تلك الحدود. إنّه في الواقع
يرغب في تبرير أعماله، ويطلب من الشريعة هذا التبرير.

فيما
السيد المسيح لم يأتنا بشرائع نتمّمها فنحصل على التبرير، وهذا ما لم يفهمه
الفريسيون وعلماء الناموس، بل أدخلنا في عهد جديد، لا عهد الحرف بل عهد الروح، عهد
محبة وصداقة مع من يدعوه المسيح “أبي وأبيكم”. لا شك في أنّ هذا العهد
يقتضي متطلّبات لا يمكن إهمالها وشرائع يجب احترامها. ولكن لا يكفي أن يحترم
الإنسان الشرائع ليريح ضميره بأنه تمّم إرادة الله. فليست الشريعة هي الكلمة
الأخيرة في الأخلاقية المسيحية، بل العلاقة مع الله التي هي علاقة محبة. إنّ الله
أحبّنا أولاً، وحياتنا الأخلاقية هي جوابنا على تلك المحبة. وإذا كانت هناك حدود
للشريعة، فلا حدود للمحبة. فمَن قال إنّه يحب صديقه محبة كافية، فَقَدَ المحبة،
وتلك هي مأساة الكثيرين من المسيحيين: يظنّون أنّهم يستطيعون إراحة ضمائرهم أمام
الله. ولكن مَن هو هذا الإله الذي يعبدون؟ انه إله الشريعة.

إن
الإله الذي يدعونا السيد المسيح إلى أن نتوب إليه هو الإله الحي الذي لا يمكننا أن
نشعر إزاءه بأننا قمنا “بواجبنا” لأننا تمّمنا شرائعه. هذا الإله يدعونا
على الدوام إلى أن نخرج من ذواتنا، أن نموت عن ذواتنا على نحوٍ ما وننفتح عليه.
وفي هذا الموت عن الذات والانفتاح على الله يكشف لنا الله ذاتنا الحقيقية. فكأنّ
الله يخلقنا من جديد. في تلك النظرة التي يلقيها علينا، في علاقة المحبة والصداقة
التي تنشأ بينه وبيننا، يخلقنا من جديد على صورته ومثاله. إنّ العودة إلى الذات
يجب أن تقودنا إلى أن نجد الله في عمق ذاتنا.

أن
التوبة المسيحية هي ارتداد قلب الإنسان الذي يعترف بمحبة الله تجاهه، والانطلاق في
مسيرة تتضمّن مراحل طويلة يدرك فيها الإنسان أكثر فأكثر تلك المحبة، ويعمل على
تغيير منهج حياته في محبة اخوته، مع كل ما تتضمّنه تلك المحبة من تطلّبات لتحقيق
العدالة واحترام الشخص البشري.

2-
التوبة المسيحية اشتراك في فصح المسيح الخلاصي

“إنّ
الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه” (2 كو 5: 19). إنّ مصالحة
البشر مع الله لم تتحقّق من خلال الناموس، بل بواسطة المسيح، الذي به انتقلنا من
عبودية الناموس إلى حرية الإيمان. “فالناموس كان مؤدّبنا يرشدنا إلى المسيح
لننال البرّ بالإيمان” (غلا 3: 24). إنّ الانتقال إلى البرّ والحرية لم يتمّ
نتيجة لتطور ضمني داخل الناموس، بل نتيجة لحدث جديد هو فصح المسيح. لقد كان
الناموس سبباً لتكاثر الخطيئة. ولكن “حيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة” (رو
5: 20؛ 11: 32). والنعمة قد طفحت في صليب المسيح وقيامته.

إنّ
يسوع المسيح ابن الله وكلمته قد قضى على الأرض حياة كلّها عطاء لله ولتتميم إرادته:
“إنّي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني” (يو 5: 30)، وفي آنٍ
معاً عطاء للبشر: “إنّ ابن البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدم ويبذل نفسه فداء
عن كثيرين” (مر 10: 45). ولم يكن موته على الصليب سوى تكليل لتلك الحياة
“لأجل الله ولأجل الآخرين”: “ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل الحياة
عن أحبائه” (يو 15: 13). لقد علّمنا المسيح بمثله أن المحبة أعظم من الحياة
عندما قادته محبته إلى بذل حياته، وعلّمنا أن المحبة أقوى من الموت عندما قام من
الموت إلى حياة جديدة غير مائتة. هذا هو فصح المسيح الخلاصي: إنّه قد انتقل إلى
حياة الأبد، التي هي ثمرة المحبة. ومعه انتقلت البشريّة كلّها إلى تلك الحياة
الجديدة.

إنّ
التوبة المسيحية هي اشتراك في فصح المسيح الخلاصي، وارتداد إلى المحبة التي أحبّنا
بها المسيح والتي بها انتقل من الموت إلى الحياة. لذلك يمكن القول مع التقليد
اللاهوتي القديم أن التوبة هي تجديد للمعمودية. والتوبة، على غرار المعمودية، لا
تعني انعتاق الطبيعة البشرية من الضعف الذي جُبلت عليه، ولا تعني أن المسيحي لا
يتعرّض للخطيئة. ولكنها تعني تحرّراً ونموًّا في الحرية.

المسيحيون
يدركون أنهم خطأة، وأنهم على الدوام ينالون المغفرة من الله، ويحيون من محبته.
وهذا الادراك يُبعد عنهم في آنٍ معاً القلق النفسي ووخز الضمير اللذين ينتجان من
الشعور بالذنب، والكبرياء الفريسي الذي ينتج من التبرير الذاتي والتقيّد الحرفي
بفرائض الشريعة. وهذا التحرّر من الذنب يفتح أمامهم طريق الحرية الحقيقية.

ان
الحرية البشرية، في نظر اللاهوت المسيحي، تقوم على مشاركة حرية الله الذي دخل
تاريخ البشر وتحمّل نتائج خطاياهم حتى الموت، وانتصر على الخطيئة بالمحبة وعلى
الموت بالقيامة.

ان
الإيمان المسيحي بمحبة الله التي ظهرت لنا في صليب المسيح وقيامته، يرافقه الرجاء
بانتصار المحبة على الخطيئة والحياة على الموت، رغم كل اختبارات الخطيئة والموت
التي يخضع لها الإنسان، تلك هي المفارقة التي فيها يحيا المسيحي وفيها يحقّق حريته.
إذ إنّه ضمن كل ما يحمل على الخطيئة، وبالرغم من كل مما يقود إلى الموت، يعرف أن
يقرأ ملامح الرجاء بانتصار المحبة والحياة.

أن
المسيحي يحيا على هذه الأرض في مفارقة دائمة: انه في جسد مائت، ولكن حياة الأبد
تعمل فيه، حسب قول بولس الرسول: “ولئِن كان إنساننا الظاهر ينهدم، فإنساننا
الباطن يتجدّد يوماً فيوماً” (2 كو 4: 16). وحياة الأبد التي تملأ كلّ جوارح
كيانه والتي يتنشّقها في كل خليّة من خلايا جسده، تلك الحياة التي هي ثمرة المحبة،
والتي لا تثبت إلا بالمحبة، هي التي يعمل على نشرها في العالم في حياة كل إنسان
وفي نظم المجتمع وشرائعه.

إنّ
حرية المسيحي تقوم إذّاك على إدراك دعوته الشخصية إلى اكتشاف بذور الحياة، بالرغم
ممّا يختبره من إخفاق وخطيئة وموت، وذلك في كل مرافق حياته الشخصية والجماعية. أن
الحياة الجديدة التي يصل إليها المسيحي في اشتراكه في فصح المسيح، والتي يعلنها مع
الكنيسة جمعاء بالكرازة، لا يمكن إيجادها إلاَّ ضمن جماعة البشر. فالمسيح الذي قام
من بين الأموات ودخل في مجد الآب، نجده على هذه الأرض في “إخوته هؤلاء
الصغار”، في أفراح هذه الحياة وأحزانها، في مضايقها ومسؤولياتها.

ان
الحياة الجديدة، حياة الخلاص وحياة الأبد، لن تُعطى لنا إلاَّ إذا قبلنا أن نضطلع
مع السيد المسيح بواقع هذه الحياة المائتة، إلاَّ إذا قبلنا أن يكون التاريخ
البشري موضع العمل لأجل الخلاص. هذا ما تدعونا إليه التوبة المسيحية. وتلك هي
المسؤولية التي يشارك فيها المسيحيون جميع البشر. فإلى جانب غير المؤمنين يعملون
على تحرير الإنسان من كل أنواع العبودية في تاريخ هو دوماً عرضة للتقلّبات
والاضطرابات، إذ يمتزج فيه على الدوام الشك واليقين، الإخفاق والنجاح. ولكن عملهم
هذا يتمِّمونه، على خلاف غير المؤمنين، بقلوب عامرة بالإيمان بقيامة المسيح،
وبانتصار الحياة الجديدة، وبرفقة المسيح وشركة المحبّة التي جسّدها في حياته،
والتي تجعلها الكنيسة حاضرة على الدوام في أسرارها وفي حياة الأشخاص والجماعات،
فتجعل الأزمنة كلّها معاصرة لزمن المسيح ولفصحه الخلاصي.

وهذا
ما تدعو إليه الكنيسة في سرّ التوبة.

 

ثالثاً-
سرّ التوبة

1-
سرّ التوبة في تاريخ الكنيسة

أ)
من الزمن الرسولي حتى القرن السادس

“وسيُكرَز
بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، انطلاقاً من أورشليم، وأنتم شهود لذلك”
(لو 24: 47- 48).

“خذوا
الروح القدس. من غفرتم خطاياهم تُغفَر لهم، ومن أَمسكتم خطاياهم أُمسِكت” (يو
20: 23).

استناداً
إلى وصية السيد المسيح، راح الرسل يبشّرون بالتوبة ويمنحون مغفرة الخطايا، وذلك من
خلال المعمودية. فنسمع بطرس الرسول يعلن لمستمعيه في نهاية خطبته يوم العنصرة: “توبوا،
وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح
القدس” (اع 2: 38).

بقي
الأمر كذلك حتى أواسط القرن الثاني، حيث نقرأ في كتاب “الراعي” لهرماس
أن الذين خطئوا بعد المعمودية يمكنهم أن يجدوا سبيلاً للخلاص في التوبة التي، على
غرار المعمودية، لا تُمنَح إلاَّ مرة واحدة. استمرّت الكنيسة على هذا التقليد الذي
لا يمنح مغفرة الخطايا في سرّ التوبة إلاَّ مرة واحدة بعد المعمودية حتى القرن
السادس. غير أنّ الخطايا المشار إليها هي الخطايا التي تفصل المسيحي عن الكنيسة.
وكانت لائحة هذه الخطايا تختلف من كنيسة إلى أخرى، إلاَّ أنّ معظم الكنائس كانت
تحصرها في ثلاث خطايا: الجحود، والقتل، والخيانة الزوجية بالزنى. وفي بدء هذه
الفترة كان الأسقف وحده يمنح مغفرة الخطايا، ولكن مع تكاثر عدد الجماعات المسيحية
أوكل الأسقف هذه المهمّة لأحد الكهنة. ففي القرن الرابع نجد في القسطنطينية كاهناً
واحداً مختصاً بمنح سرّ التوبة.

عُرفت
هذه التوبة في تاريخ الكنيسة “بالتوبة القانونية”، لأن ممارستها كانت
تخضع لقوانين محدّدة تضعها المجامع الكنسيّة. أما طريقة ممارستها فكانت تتضمّن
ثلاث مراحل:


الدخول في صف التائبين: يعترف التائب بخطيئته سرّياً للأسقف أو للكاهن المعرِّف.
ويدخل في صفّ التائبين في رتبة ليتورجية يرئسها الأسقف، وفي نهايتها يُطرَد
التائبون من الكنيسة.


زمن التكفير: يمتدّ هذا الزمن عدّة سنوات حسب ما يحدّده الأسقف أو الكاهن المعرِّف،
يلتزم التائبون خلالها بحياة تقشُّف قاسية، فيمتنعون عن العلاقات الجنسيّة،
ويمتنعون عن أكل اللحم، ويُحرَمون من الوظائف العامة. أمّا الليتورجيا الإلهية فيمكنهم
الاشتراك فيها، ولكنهم يقفون على مدخل الكنيسة ويحظّر عليهم التقرّب إلى المناولة.


المصالحة والقبول إلى المناولة: تتمّ بواسطة الأسقف بوضع اليد، وبحضور الجماعة
المسيحية في الكنيسة، وفي معظم الأحيان يوم خميس الأسرار، ليتاح للتائبين التقرّب
من المناولة الافخارستية يوم عيد الفصح. ولكن الخاطئ، حتى بعد قبول توبته وإعادته
إلى الكنيسة، كان يبقى خاضعاً لقوانين صارمة: فلا يحق له الدخول في الجيش ولا في
سلك الاكليروس ولا في أي وظيفة عامّة، ولا أن يتعاطى التجارة، وعليه الامتناع عن
العلاقات الجنسيّة.

إزاء
قوانين صارمة كهذه، كان معظم الناس يؤخّرون قدر المستطاع الاعتراف بخطاياهم
والدخول في صف التائبين، حتى صار الاعتراف في القرن السادس يقتصر في الواقع على
العجزة والمرضى والذين على فراش الموت.

ب)
من القرن السادس حتى القرن الثالث عشر

عرفت
الكنيسة في هذه الفترة طريقة جديدة لممارسة سرّ التوبة، بدأت في الأديار الرهبانية.
فالحياة الرهبانية هي اتحاد مستمرّ بالله في الصلاة والتجرّد عن العالم. ولبلوغ
هذا الهدف كان لا بدّ للمبتدئين في الحياة الرهبانية من التتلمذ لراهب قديس يقتدون
بسيرته الفاضلة، ويرشدهم إلى الطريق الفضلى لتحقيق هدفهم الرهباني. وفي هذا الإطار
كانوا يكشفون له اختباراتهم وصعوباتهم في الحياة الرهبانية، وفي الوقت عينه
يعترفون له بخطاياهم، وينالون منه الحلّة، و”قانوناً” من الصلوات وأعمال
التقشّف يتمّمونها تكفيراً عن خطاياهم وتعبيراً عن توبتهم ورغبتهم في التقدّم في
الحياة الروحية. وهذا المرشد والمعرِّف لم يكن بالضرورة كاهناً، فسرّ الكهنوت لم
يكن يُمنَح في الأديار إلاَّ لبعض الرهبان حسب حاجة الدير إلى الخدمات الليتورجية
المخصّصة للكهنة. ولم يكن الإرشاد الروحي مخصّصاً للكهنة. وعلى غرار الرهبان، كان
العلمانيون الذين يِردون الأديار الرهبانية يطلبون الإرشاد الروحي، ويعترفون
بخطاياهم، وينالون الحلّة والقانون.

لقد
عرف الشرق، منذ أوائل انتشار الحياة الرهبانية هذا الاعتراف لدى راهب دُعي
“الأب الروحي”. ونجد هذا التقليد في الغرب في القرن السادس في أديار
ايرلندة، حيث بدأ ثم انتشر منها إلى كل كنائس الغرب على يد رهبان انتقلوا من
ايرلندة وبريطانية إلى سائر البلدان الأوروبية.

ولمساعدة
المعرِّفين في أداء خدمتهم، وُضع لهم في الغرب كُتيِّب خاص يتضمَّن لوائح الخطايا
والقانون الذي يجب أن يُفرَض على كل خطيئة. ومعظم هذه القوانين يقوم على صلوات وأصوام.

إلى
جانب هذا “الاعتراف الرهباني”، حافظت الكنيسة على “الاعتراف
القانوني” القديم الذي يخصّ الأسقف أو أحد الكهنة بسلطة الحل من الخطايا التي
يحدّدها القانون الكنسي.

ج)
من القرن الثالث عشر حتى القرن العشرين

سنة
1215 أقرّ المجمع اللاتراني الرابع في القانون 21 الاعتراف السنوي الالزامي لجميع
المؤمنين رجالاً ونساءً وأطفالاً منذ سنّ الرشد. ويوضح القانون أن هذا الاعتراف
يجب أن يتمّ لدى كاهن الرعية الذي ينتمي إليها كل مؤمن. ويرى المؤرّخون أن المجمع
ألزم الاعتراف السنوي للتحقق من صحة إيمان المسيحيين في عصر كثرت فيه البدع. لذلك
يضيف المجمع أنّ من لا يتقدّم من هذا الاعتراف السنوي يُحرَم من الكنيسة.

إلى
جانب هذا الاعتراف السنوي الإلزامي، نشأت في الأديار ولاسيمَا أديار الرهبان
الفرنسيسكانيين والدومينيكيين عادة الاعتراف المتواتر مرة أو مرتين في الأسبوع
(وكان البعض يعترفون كل يوم)، وذلك كوسيلة للتنقية والتقدّم في الحياة الروحية.
وانتقلت هذه العادة إلى العلمانيين، الذين وجدوا فيها وسيلة للاشتراك في آلام
المسيح، لاسيّمَا أن المناولة الافخارستية كانت أمراً نادراً: مرة في السنة على
الأقل، وعلى الأكثر من ثلاث إلى ست مرات.

لدى
نشأة الحركة البروتستنتية في الغرب، قاومت الكنيسة الكاثوليكية نظرة لوثر وكلفين
إلى سر التوبة. ففي نظر لوثر يمكن اعتبار سرّ التوبة “سرًّا”، ولكن ليس
كسرّ خاص، بل كسرّ مكمِّل لسرّ المعمودية، كسرّ “ارتداد إلى المعمودية”،
حسب تعبيره. فالمسيح قد منح كنيسته سلطة حلّ الخطايا وربطها، ولكنه لم يؤسّس
الاعتراف المفصّل الخطايا. أما كلفين فينكر على التوبة صفة السرّ، ويدعوها
“ذكرى المعمودية”، أي ذكرى لمغفرة الخطايا التي نالها المؤمن في
المعمودية. وبما أن لوثر وكلفين لا يقرّان بسرّ الكهنوت بالمعنى الكاثوليكي
والارثوذكسي، لذلك يعتبران أن الحلّ من الخطايا يمكن أن يكون على يد العلمانيين.

ضدّ
هذه الأفكار أقرّ المجمع التريدنتيني الأمور الثلاثة التالية التي لا يمكن فهمها
إلاَّ كردّة فعل على التطرّف البروتستنتي:

1-
واجب الاعتراف بالخطايا المميتة على الأقلّ مرّة في السنة.

2-
واجب الإقرار بالخطايا أمام حكم الكاهن الذي يستطيع أن يمنح الحلّة أو يرفضها.

3-
التأكيد على أن هذه القوانين ليست من وضع كنسي بل من وضع إلهي.

استناداً
إلى دراسة تاريخ ممارسة التوبة في الكنيسة على مدى العصور، يمكننا اليوم أكثر من
المجمع التريدنتيني التمييز بين ما هو من وضع إلهي وما هو من وضع كنسي.

إنّ
ما أراده السيد المسيح ومنحه لكنيسته هو سلطان مغفرة الخطايا، ليستمرّ على مدى
الزمن موقف الرحمة الذي وقفه من الخطأة في أثناء حياته على الأرض، ويشترك
المسيحيون على الدوام بسرّه الفصحي. إلاَّ أنه يعود للكنيسة أن تحدّد، كما فعلت
عبر الأجيال، طريقة ممارسة هذا السلطان. وتجدر الإشارة إلى التطور الذي عرفته
ممارسة هذا السر على مدى الأجيال وعلى تأثير الأديار الرهبانية في تحديد طريقة تلك
الممارسة في القرن السادس والقرن الثالث عشر.

أن
“الاعتراف الفردي” للكاهن مع طلب النصح والإرشاد كان لأجيال من
المسيحيين الوسيلة الفضلى للتنقية من الخطيئة والتقدّم في الحياة المسيحية. ان
عصرنا الحاضر يشهد اهمالاً لهذا الاعتراف الفردي وإقبالاً متواتراً على المناولة
الافخارستية. ممّا يجعل رعاة الكنيسة في حيرة إزاء الموقف الذي يجب أن يقفوه من
هذا التطوّر. ولكن من جهة أخرى تكثر الاحتفالات الجماعية بسرّ التوبة، مع المحافظة
في معظم الأحيان على الاقرار الفردي بالخطايا. ان رتبة التوبة الجماعية هي عنصر
إيجابي في الكنيسة المعاصرة يجب التنويه به وتشجيعه.

ان
إعادة الاعتبار لسرّ التوبة في ممارسة المؤمنين لا تأتي، في نظرنا، من التمسّك
بإحدى صيغ الماضي، بل تأتي أولاً بخلق جماعات كنسيّة حيّة. وهذه الجماعات هي التي
ستجد، بالتعاون مع السلطة الكنسيّة، الصيغ الملائمة لتجديد ممارسة هذا السرّ بحيث
يكون احتفالاً حقيقيًّا بمحبة الله التي تشفي المرضى وتحيي الأموات، وتجدّد الإنسان
الخاطئ ليعود خليّة حيّة في جسد المسيح. وفي هذا التجديد يجب المحافظة على بعدين
متكاملين لسرّ التوبة: البعد الشخصي والبعد الجماعي. فالتوبة هي لقاء شخصي بين
الإنسان التائب والسيد المسيح، وهي أيضاً لقاء جماعة المسيحيين الذين يدركون
تضامنهم في الخطيئة وتضامنهم في الخلاص.

2-
عناصر سرّ التوبة وأبعاده اللاهوتية.

ان
سرّ التوبة في المسيحية لا يقتصر على الإقرار بالخطايا من جهة التائب ومنح الحلّة
من جهة الكاهن. فقد نرى بعض المسيحيين يحصرون اهتمامهم في التساؤل عن الخطايا التي
يتوجّب عليهم الإقرار بها لينالوا حلّة الكاهن. ان الاكتفاء بهذين العنصرين قد
يكون السبب في الحالة التي وصلت إليها ممارسة هذا السرّ في كثير من الرعايا
المسيحية. إذ نسمع الكثيرين من المسيحيين يقولون: اني لم أقترف خطايا مميتة، فماذا
الاعتراف؟ فهناك عناصر أخرى هامة يجب التنبّه لها، ليُعاد إلى سرّ التوبة اعتباره
في تفكير المسيحيين ويؤتي ملء ثماره في حياتهم. أن الإقرار بالخطايا أمام الكاهن
لنيل الحلّة يجب ألاّ يُفصَل عن الإصغاء إلى كلام الله وعن التوبة العميقة وعن
الصلاة المشتركة وعن حضور الكنيسة.

أ)
فحص الضمير: الإصغاء إلى كلام الله

إنّ
ما يقود إلى سرّ التوبة هو كلام الله الذي يتوجّه به إلى ضمير كلّ إنسان: “آدم،
أين أنت؟”، “قايين، أين أخوك؟”. وهذا الكلام الإلهي ليس كلاماً
نظرياً يقتصر على المبادئ والقيم العامة، بل هو كلام واقعي يوجّهه الله إلى
الإنسان في واقع حياته، تلك الحياة التي يعيشها بالتضامن مع اخوته المسيحيين
الملتزمين نشر رسالة السيد المسيح في عالم يتعرّض على الدوام لتقلّبات التاريخ
وصراع الأجيال.

أن
الله يكلّمنا أوّلاً في ما أوصى به إلينا في الكتاب المقدس في كلا العهدين، ثم
يكلّمنا من خلال صوت الضمير الذي يخاطب به كلّ إنسان في عمق ذاته. ويكلّمنا أخيراً
من خلال لقاءاتنا مع اخوتنا ومن خلال أحداث العالم والتاريخ. لذلك ما يقود المسيحي
إلى سرّ التوبة لا يقتصر على ما يدركه في “فحص ضمير” فردي لما يقوم به
من أعمال بل أيضاً في تفكير مشترك مع اخوته حول الموقف الذي يقفونه معاً من
تطلّبات الإله الحيّ في مختلف الظروف والأوضاع التي يعيشون فيها.

ان
الجماعات المسيحية تدرك أكثر فأكثر أن الخطيئة لا تقتصر على العمل الفردي، بل تشمل
أيضاً الموقف الذي تقفه الجماعة في هذا الظرف أو ذاك، والذي قد يكون موقفاً خاطئاً،
كما تشمل الأنظمة والقوانين التي تنشئها الجماعات أو التي تعمل على إبقائها، والتي
قد تكون أنظمة وقوانين جائرة.

ب)
الندامة: ارتداد القلب والعودة إلى كنف الثالوث

العنصر
الثاني الذي يتضمّنه سرّ التوبة هو الندامة. وهذه الندامة ليست مجرّد شعور سطحي
بالأسف ممّا حدث، بل هي ارتداد القلب، أي قرار عميق يتّخذه التائب في عمق كيانه
بالعودة إلى كنف الثالوث الأقدس، للانطلاق في مرحلة جديدة من حياته يوجّه فيها كل
طاقات كيانه إلى محبة الله ومحبة القريب.

ان
سرّ التوبة هو ارتداد إلى المعمودية وأبعادها. انه عودة الابن الشاطر إلى أبيه بعد
أن انفصل عنه بالخطيئة، ليحيا من جديد معه حياة البنوّة الحقيقية: “أقوم،
وأمضي إلى أبي” (لو 15: 18). في هذا السرّ يقبل الآب ابنه التائب ويُلبسه
الحلّة الجديدة، وهي حياة البنوّة.

ان
سرّ التوبة هو أيضاً لقاء مع المسيح الخلِّص الذي غفر للخطأة في حياته. ففي سرّ
التوبة نسمع السيد المسيح يقول لنا كما قال للخطأة في حياته: “مغفورة لك
خطاياك” (مر 2: 5؛ لو 7: 48)؛ “اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت”
(لو 19: 9)؛ ونشترك في سرّ موته وقيامته، فيتحقق فينا من جديد فصح المسيح، إذ معه
ننتقل من موت الخطيئة إلى قيامة الحياة.

وسرّ
التوبة هو أخيراً تجديد في الروح القدس. أن الروح القدس يعمل في كل الأسرار. ويعمل
أيضاً في سرّ التوبة الذي لا يقتصر مفعوله على التنقية من أدران الخطايا، بل على
تجديد القلب من الداخل، هذا القلب “الذي منه تنبعث الأفكار الرديئة: الفجور
والسرقة والقتل، والزنى والطمع والخبث، والمكر والعهارة والحسد، والاغتياب والكبرياء
والحماقة” (مر 7: 21- 22). وهذا ما يبيّنه السيد المسيح للفريسيين الذين
كانوا يكثرون الغسل والوضوء ليصيروا أنقياء إزاء الشريعة. أن سرّ التوبة لا يجعلنا
أنقياء إزاء الشريعة التي نتعدّى عليها بقدر ما يجدّد قلبنا من الداخل. وهذا
التجديد هو عمل الروح القدس فينا.

ج)
الاعتراف والصلاة

ان
سرّ التوبة هو أيضاً صلاة. وهذا ما يغيب عن بال كثيرين من المؤمنين الذين لا يرون
في هذا السرّ إلاَّ التخلّص من عواقب خطاياهم.

ان
اللفظة المتداولة لسرّ التوبة هي “الاعتراف”. ولكن من دواعي الأسف أن
مدلول تلك اللفظة قد اقتصر في أذهان الكثيرين على “الاعتراف بالخطايا”.
فيما الاعتراف هو أولاً الاعتراف برحمة الله ومحبته. وهذا ما يجب النظر إليه
أوّلاً والتركيز عليه في سرّ التوبة: ان الله برحمته ومحبته الغافرة قد نظر إليّ
أنا الخاطئ، فأشيد له واعترف برحمته ومحبته.

قد
يقول البعض: لماذا اعترف بخطاياي، وأنا عالم بأنّي سأعود إلى الخطيئة في المستقبل؟
جوابنا على هذا الاعتراض هو أنه ينطلق من نظرة خاطئة إلى سرّ التوبة تعتبر هذا
السرّ مجرّد “غسل من الخطايا”. وحتى في هذه النظرة إن التكهّن بأني
سأتلوّث من جديد في المستقبل لا يعفيني من أن أكون نظيفاً الآن، ورفض الغسل يزيدني
تلوّثاً. ولكن هناك أعمق من ذلك. فالتوبة ليست مجرّد غسل من الخطايا، بل هي عودة
إلى محبة الله التي ابتعدت عنها. انها اعلان لمحبة الله الدائمة التي ترافقني في
كل أعمالي، الصالحة والشريرة، في الماضي والحاضر والمستقبل. أتقرّب من سرّ التوبة
لامتلئ من محبة المسيح التي تدفعني إلى الأمام لتكون حياتي في المستقبل جواب محبة
على محبة الله الدائمة. لا أعرف الشيء الكثير عن مستقبل حياتي، ولكني أومن أن محبة
الله سترافقني على الدوام. لذلك أقول مع بولس الرسول: “لا أعني أنّي قد أصبت
الهدف، أو بلغت إلى الكمال. إنّمَا أُواصل السعي لعلّي أدرك المسيح يسوع، لأنه هو
قد أدركني” (تي 3: 12- 13). ان المسيح قد أدركني بمحبته، وأسعى أن أدركه
بمحبتي.

ان
سرّ التوبة هو صلاة. وموضوع تلك الصلاة الاعتراف بمحبة الله والإشادة بالمغفرة
التي يسكبها علينا على الدوام برحمته الغافرة التي لا حدّ لها. ومن هذا الاعتراف
بمحبة الله ورحمته نستقي القوة لنتابع طريقنا في الحياة مع المسيح.

د)
الحلّة: المغفرة والمصالحة مع الله

ان
ملاقاة السيد المسيح في سرّ التوبة ليست عملاً فردياً يقوم به التائب وحده، بل هي
عمل الكنيسة. فكما أن المسيح هو سرّ الآب، أي علامة حضوره بين البشر، هكذا الكنيسة
هي سرّ المسيح وامتداد حضوره على مدى الزمن. وفي هذا السرّ، كما في سائر الأسرار،
لا بدّ من حضور الكنيسة. وهذا الحضور يتم من خلال الكاهن الذي يمثل الكنيسة. ثم ان
الخطيئة تبعد الإنسان عن الله وعن المسيح وتبعده في آنٍ معاً عن الكنيسة جسد
المسيح. والتوبة تعيده إلى الله وتعيده في الوقت عينه إلى الكنيسة جسد المسيح.
لذلك لا بدّ من حضور الكنيسة بواسطة الكاهن للاحتفال بسرّ التوبة.

إلاَّ
أنّ من يغفر الخطايا ليس الكاهن ولا الكنيسة، بل الله نفسه، والمسيح نفسه.
“فالكاهن ليس سوى شاهد لحضور المسيح”، حسب تعبير افدوكيموف. انه ينقل
للتائب محبة السيد المسيح والمغفرة التي يسكبها على التائبين. وذلك مهما تكن
الصيغة التي يستعملها في الحلّة: صيغة الصلاة التي نجدها في التقليد الشرقي القديم
والتي تعبّر بوضوح عن أنّ الله هو الذي يغفر الخطايا: “الله يغفر لك خطاياك..”،
“ربنا يسوع المسيح يغفر لك خطاياك”، أو صيغة الاعلان من قبل الكاهن: “أحلّك
من جميع خطاياك التي اعترفت بها أمام الله باسم الآب والابن والروح القدس”.

في
هذه النظرة يجد الإقرار بالخطايا معناه الحقيقي. فالتائب لا يقرّ بخطاياه أمام إنسان،
بل أمام المسيح وأمام الله. ان الإقرار بالخطايا قد يبدو لأول وهلة صعباً على
الطبيعة البشرية ومناقضاً للكرامة الانسانية. فالإنسان يخجل من كشف نفسه أمام
الآخرين، ويخاف من أن يحكموا عليه ويفقدوا ثقتهم به. أن هذا قد يصحّ إذا اعتبرنا
الاعتراف مثولاً أمام قاضٍ في محكمة. لكن الاعتراف هو مثول المريض أمام الطبيب
والابن أمام أبيه. وهذا ما يدركه جيداً علم النفس التحليلي المعاصر المبني على كشف
الإنسان غوامض ماضيه أمام الطبيب النفسي. ذلك أن الإقرار بالذنوب هو الوسيلة
الوحيدة للتحرّر منها. فإخفاء الذنوب يقود المذنب إلى العزلة داخل ذاته برفقة
ذنوبه. لكن الذنوب الخفيّة لا تزال تعمل داخل الإنسان، والكبت يزيدها قوةً
وتأثيراً، فتنخر النفس وتحمل الإنسان على الكذب والمواربة، فيحاول إيجاد أعذار
لتبرئة ذاته أمام نفسه وأمام الآخرين، ويتهرّب من تحمّل مسؤولية أعماله.

“تعرفون
الحق والحق يحرّركم” (يو 8: 32). الاقرار بالحقيقة هو وحده طريق التحرّر.
فعندما يقرّ الإنسان بذنبه، يأخذ على عاتقه مسؤولية ذنبه، فيؤكّد مسؤوليته ويؤكّد
حريته في آنٍ معاً، ويعيد الحقيقة إلى ذاته وإلى علاقاته مع الله ومع الآخرين. ان
الإنسان، بإقراره بخطاياه أمام الآخر وأمام نفسه، يودع ذاته بين يدي الآخر وهو
واثق برحمته ومحبته، كما يودع ذاته بين يدي نفسه وهو واثق من مسؤوليته وحريته.
إذّاك يخرج من عزلته ويتحرّر من ذنبه، وينفتح له مجال واسع يمكن أن ينشأ فيه قصد
جديد وعمل جديد. ان الإقرار بالخطايا هو في آنٍ معاً توبة وولادة جديدة.

ه)
ثمار التوبة: المغفرة والمصالحة مع الآخرين

“واغفر
لنا خطايانا كما نغفر نحن لمن أساء إلينا”. ان سرّ التوبة والمصالحة لا ينتهي
في الحلّة التي ينالها التائب من الله والمسيح بواسطة الكاهن. فمصالحته مع الله
يجب أن تظهر في مصالحته مع الآخرين، كما أنّ محبته لله لا تظهر إلاَّ من خلال
محبته للآخرين.

كلّنا
إزاء الله نشبه ذلك العبد الذي لم يكن له ما يوفي سيّده ديونه الباهظة، فرحمه
سيّده وترك له الدَين كلّه. هذا ما يعلّمنا إيّاه السيد المسيح في مثَل المداين
المديون الذي يقدّمه جواباً على سؤال بطرس: “كم مرّة يخطأ إليّ أخي وأغفر
له” (متى 18: 21- 35). فالمغفرة التي ننالها من الله لا تعمل فينا عمل
السِّحر، بل تعمل بقدر تجاوبنا معها. ومقياس تجاوبنا هو استعدادنا لأن نغفر لمن
أخطأ إلينا.

من
خلال هذه المغفرة للآخرين، يظهر لنا أنّ سرّ التوبة، على غرار سائر الأسرار، ليس
عملاً منفصلاً عن الحياة يتمّ في عتمة كرسي اعتراف بين مذنب يقرّ بخطاياه وكاهن
يغفر له باسم المسيح. ان هذه المغفرة التي ينالها المسيحي من الله ترمي به في
معترك الحياة حيث الصراعات والأحقاد والانشقاقات والخصومات، لينشر بين الناس ما
اختبره في ذاته من محبة الله ورحمته، ويكون هكذا خميرة مغفرة ومصالحة وسلام في
العالم أجمع.

خلاصة

ان
موقف التساؤل والتردّد إزاء سرّ التوبة الذي نشهده اليوم لدى كثيرين من المسيحيين
هو، في رأينا، نتيجة سوء فهم لمضمون هذا السرّ، كما أنّ رفض الله هو نتيجة تصوّر
خاطئ لله. فالناس الذين يرفضون الله يعكسون فيه ما اختبروه في علاقاتهم بالبشر من
تسلّط وتبعيّة، ويرون في رفضهم هذا تحرّراً واستقلالاً. ولكن من يرفض الارتباط
بالبشر خوفاً من تسلّطهم ويرفض الارتباط بالله الذي يتصوّره على مثال البشر، لا
يبقى له سوى الانكماش على ذاته في عزلة تولّد القلق. ان سرّ التوبة، بالمغفرة التي
يمنحها الله فيه للإنسان، يساعد الإنسان على الوصول إلى صورة صحيحة لله، وإلى
التحرّر الحقيقي من الذنب والقلق.

والقدرة
على المغفرة ليست من شأن الناموس، لأن الناموس لا يجيز إخلاء سبيل المذنب إلاَّ
بعد أن يؤدّي ما يتوجّب عليه من الدَّين، ويكفّر بالعقاب عمّا اقترفه من الذنوب،
وهناك أخطاء لا يرى الناموس إلاَّ الموت سبيلاً للتكفير عنها.

والمغفرة
ليست من شأن الضمير، ضمير الإنسان المنعزل مع ذاته. فالضمير وحده يلجأ للتحرّر من
الذنب إمّا إلى إخفائه وكبته وإغراقه في عمق نفسه، وإمّا إلى تبرئة ذاته منه وإلى
اتهام الآخرين.

المغفرة
تأتينا من الله، من ذاك القلب المحب الذي يعلن لمن يحبّهم حقيقة ما هم عليه وحقيقة
ما هو عليهم. لقد خطئوا، ولكن الخطيئة لا تعبّر عن عمق كيانهم. فهم على صورة الله،
ولا تزال تلك الصورة محفورة في نفوسهم، مهما عظمت خطاياهم. إنهم أبناء الله، ولا
تزال أسماؤهم محفورة على راحة كفَّيه، مهما ابتعدوا عنه. وهو إله المحبة والمغفرة
الذي يقبل الخطأة كما هم، ويدعوهم إلى قبول ذواتهم بصدق وتواضع، وإلى الانفتاح على
محبة الله، والعمل بقدرة تلك المحبة على تجديد حياتهم.

وعندما
يتوب الخاطئ إلى الله، يفرح الله، لأن الله محبة، وهو يفرح بكل ما يعيد علاقة
المحبة بينه وبين الإنسان.

وهذا
ما يجب أن يظهر في رتبة سرّ التوبة في الطقوس الكنسيّة. فهذه الرتبة ليست محكمة بل
احتفال وعيد بعودة الابن إلى أبيه:

“هاتوا
العجل المسمَّن، واذبحوه، فنأكل ونفرح بالعيد، لأنّ ابني هذا كان ميّتاً فعاش،
وكان ضالاًّ فوُجد” (لو 23: 15- 24).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار