علم الخلاص

الباب السابع



الباب السابع

الباب السابع

كيفية
الإفادة من كفارة
المسيح

– 1- الإيمان وأهميته أولاً- ماهية الإيمان

من البديهي أن يتساءل القراء بعد دراسة الباب السابق، عن ماهية الإِيمان
الذي بواسطته يمكن أن نخلص من قصاص الخطيئة ونتائجها، وأن نتمتع أيضاً بالحياة
الروحية مع الله إلى الأبد. ولهم الحق في ذلك، لأن كلمة الإيمان لكثرة تداولها بين
الناس فقدت معناها عند معظمهم، وأصبحت تطلق على مجرد الإعتراف بعقيدة ما. فكل من
اعترف بوجود الله (مثلاً)، أصبح في نظرهم مؤمناً. لكن هذا ليس من الصواب في شيء،
لأن من يؤمن بوجود الله، يبغض الخطيئة ويأبى السلوك فيها. وبما أن كثيرين من الذين
يعترفون بوجود الله، يرتكبون الكثير من الآثام غير حاسبين له تعالى حساباً، إذاً
فهم ليسوا بمؤمنين. وإن قالوا إنهم مؤمنون، فإيمانهم هذا لا يكون حقيقياً بل
أسمياً فحسب. وإيمان مثل هذا (إن جاز أن يسمى إيماناً) لا قيمة له في نظر الله،
حتى إن كان ذووه يصومون ويصلون ويتصدقون كثيراً. وإذا كان الأمر كذلك، يجب علينا
جميعاً أن نعرف ما هو الإيمان الحقيقي الذي يهيئنا للتمتع بالبركات السابق ذكرها،
ومن ثم نقول:

1- معنى الإيمان من الناحية اللغوية: الإيمان لغة هو الثقة واليقين، أو بالحري هو الثقة بحقائق غير منظورة بناء
على شهادة الله عنها، بغض النظر عن حكمنا نحن عليها، لأن آراءنا معرّضة للتغيير من
وقت إلى آخر، أما شهادة الله فثابتة إلى الأبد. وقد استعمل الكتاب المقدس كلمة
الإيمان بهذا المعنى فقال الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى
(عبرانيين 11: 1).

هذا هو المعنى العام للإيمان، وإذا أردنا تطبيقه على سبيل الإفادة من خلاص
المسيح، يكون هو العمل الروحي الذي به تتفتح نفوسنا لله وتثق في خلاصه الذي عمله
في المسيح، ثقة تجعلها توقن كل اليقين أنها امتلكت هذا الخلاص مع البركات المترتبة
عليه. غير أن للإيمان في بعض اللغات الأجنبية معان أخرى،كما يتضح مما يلي:

(ا) ففي اللغة السنسكريتية (التي هي أصل الكثير من اللغات الأوروبية) يراد
به أيضاً (الرابطة. فيكون الإيمان بالمسيح هو الرابطة الروحية التي تربطنا به.

(ب) وفي اللغة اليونانية يراد به الأساس الذي يستقر عليه الشيء، أو الجوهر
الذي يجعل لهذا الشيء كيانه ووجوده، كما يراد به العقد الذي يثبت الملكية. ومن ثم
يكون الإيمان بالمسيح هو الأساس الروحي الذي يستقر عليه خلاص المسيح في النفس. وهو
الجوهر الذي يجعل لهذا الخلاص كياناً خاصاً فيها، وهو الوثيقة التي تؤكد لها
ملكيتها للخلاص وأحقيتها في التمتع به، كما يتمتع المالك بملكه الخاص الذي وضع يده
عليه شرعاً وفعلاً.

(ج) وبالإضافة إلى دلالة الإيمان على الثقة، في كل من اللغة العربية
والإنجليزية، فإنه يراد به في الأولى (الأمن)، وفي الثانية (الأمانة). ومن ثم يكون
المؤمن شخصاً يعيش في سلام واطمئنان مع الله، كما يكون شخصاً أميناً مخلصاً له،
وهذان المعنيان يردان في الكتاب المقدس ليس تعريفاً للإيمان بل نتيجة له. فقد قال
الوحي إن لم تؤمنوا، فلا تأمنوا (إشعياء 7: 9)، كما قال غير المؤمنين إنهم أشخاص
لا أمانة فيهم (تثنية 32: 20).

2- معنى الإيمان من بعض النواحي العلمية والفلسفية: (ا) وإذا استعرنا لغة علم النفس، يكون إيمان الخلاص هو استجابة العقل
الباطن للإعلان الإلهي أن الخلاص قد تم بواسطة المسيح، ثم اطمئنانه لهذا الإعلان
وامتلاكه للخلاص المذكور مع البركات المترتبة عليه- وهذه الأعمال الباطنية الثلاثة
(أي الإستجابة والإطمئنان والإمتلاك) تكون طبعاً بموافقة العقل الواعي، لأن
الإيمان بالمسيح ليس هو الثقة بأمور وهمية أو مجهولة، بل بأمور حقيقية معروفة.

(ب) وإذا استعرنا لغة العلوم الطبيعية، يكون إيمان الخلاص هو استقبال
النفس لخلاص الله الذي عمله في المسيح، ثم حصولها عليه مع البركات السابق ذكرها،
كما يستقبل السالب قوة الموجب ويحصل عليها. أو يكون هذا الإيمان هو تفاعل النفس مع
الخلاص المذكور وتشبعها به، تشبعاً يجعلها (مع البركات المترتبة عليه) جزءاً لا
يتجزأ من كيانها.

(ج) وإذا استعرنا لغتي الصوفية والوجودية الروحية، يكون إيمان الخلاص هو
اختراق النفس للحجاب واتصالها بالله، ثم حصولها منه على الخلاص المذكور مع البركات
المترتبة عليه، بدرجة تجعلها تختبر هذه البركات وتتمتع عملياً بها. وما نقصده
بالحجاب هنا، هو ما يحجب النفس عن الله. وما يحجب النفس عن الله، هو الطبيعة
البشرية العتيقة التي لا تتوافق معه في شيء من صفاته الأدبية السامية. فاختراق
الحجاب إذاً هو الإنصراف عن الجسد بما فيه من شر أو خير (إن كان فيه ثمة خير)، لكي
تكون النفس تحت تأثير الله دون سواه. وقد أشار إلى هذه الحقيقة كثير من الفلاسفة
والمتصوفين، فقال القديس يوحنا المتصوف الأسباني: إن الإيمان هو اتصال النفس بالله
واتحادها به. وقال كيركجارد فيلسوف الوجودية الروحية الإيمان هو أماتة النفس
العتيقة أو (أنا) المادية المتمردة، ثم بعث هذه النفس في (أنا) روحية جديدة، تكون
مقترنة بالله اقتراناً تاماً. وقال برجسون الفيلسوف المشهور الإيمان هو عمل النفس
الفاعلة بذاته، والمنفعلة مع الله في حالة الإنسجام الكلي معه. وهو وثبة ترقى
بالنفس إلى مجال فسيح الأرجاء، كما أنه انجذاب نحو عالم أفضل يجعل النفس لا ترى
إلا عظائم الأمور. وقال غيره إن أول الإيمان لقاء مع الله، وآخره لقاء مع الله.

3- معنى الإيمان من الناحية المسيحية: والإيمان بلغة المسيحية هو (أولاً) عودة الإنسان إلى حالة الطفولة التي
تتجلى فيها النفس ببراءتها وصفاتها، ثم تصديق الأطفال الذي لا يشوبه شك أو ريب.
ولذلك قال المسيح الحق الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد، فلن
تدخلوا ملكوت السموات (متى 18: 3). (ثانياً) قبول المسيح في النفس فقد قال الوحي
وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه
(يوحنا 1: 12). وقبول المسيح لا يراد به فقط قبول عقيدة الخلاص الذي عمله المسيح
على الصليب، بل وأيضاً قبول شخصه بحالة روحية في أعماق النفس كما ذكرنا. (ثالثاً)
الإعتماد على المسيح أو بالحري إراحة القلب والعقل عليه. فقد قال النبي لله يا
مخلص (جميع) المتكلين عليك (مزمور 17: 7). وقال أيضاً يفرح جميع المتكلين عليك إلى
الأبد (مزمور 5: 11). وأيضاً الرب فادي نفوس عبيده، وكل من اتكل عليه لا يعاقب
(مزمور 34: 22).

4- مميزات الإيمان الحقيقي: مما تقدم يتضح لنا أن الإيمان الحقيقي ليس مجرد الإعتراف بالمسيح أو مجرد
تصديق رسالته كحقيقة أعلنها الوحي وأيدها الإختبار، لأنه إن وقف إيمان إنسان عند
هذا الحد يكون إيمانه عقلياً فحسب. والإيمان العقلي، وإن كان ينشئ في النفس
اقتناعاً بحقيقة الخلاص، لكنه لا يهيء لها سبيل الإفادة منه. فمثل الإيمان العقلي
والحالة هذه مثل اقتناع الأعمى بجمال الطبيعة، فإنه وإن كان يعطيه صورة ذهنية عن
هذا الجمال، لكنه لا يهيء له السبيل للتمتع العملي به. وقد أعلن الوحي عن عدم
فائدة هذا النوع من الإيمان، فقال عن الشياطين إنهم يؤمنون ويقشعرون (يعقوب 2:
19)، ومع ذلك لا خلاص لهم على الإطلاق. كما أن القيام بالصلاة والصوم والصدقة ليس
دليلاً على وجود الإيمان الحقيقي، إذ من الجائز أن يقوم إنسان بالعملين الأولين
بدافع من الغريزة الدينية وحدها، وبالعمل الثالث بدافع من الشفقة الطبيعية دون
غيرها، ويكون في نفس الوقت بعيداً بقلبه عن الله كل البعد.

فالإيمان الحقيقي هو عمل باطني يشغل قوى النفس كلها، لأن العقل الواعي
يصدق المسيح، والإرادة تقبله، والعواطف تتأثر به، والعقل الباطن يستريح إليه،
ويفيد منه، وبذلك تولد النفس ولادة روحية تحصل بها على حياة جديدة تهيئها لمعرفة
الله والتوافق معه والسلوك حسب مشيئته. وقد أشار الأستاذ ك. سامبسون إلى هذه
الحقيقة فقال إن الإيمان لا يتم بواسطة العقل فقط، بل بواسطة النفس بأسرها. ومن ثم
فإنه يشبع كل احتياجاتنا. كما قال إن الوجدان السليم يشترك مع العقل في الإيمان كل
الإشتراك. وقال شلر إن البرهنة على صدق أمر، تختلف كل الإختلاف عن الإيمان
(الحقيقي) به. ولنحيا حياة مستقيمة يجب أن لا نسلم فقط بأن العقيدة الفلانية قد قامت
عليها أدلة صادقة، بل أن نصدق أولاً هذه الحقيقة وبعد ذلك أن نحياها بالإيمان- ولا
غرابة في ذلك، فهناك أشخاص يبذلون كل جهدهم في البرهنة على وجود الله، بينما تكون
قلوبهم بعيدة عنه كل البعد.

ثانياً- أهمية الإيمان

1- أهمية الإيمان: إذا
رجعنا إلى حياة المسيح على الأرض، نرى أن الإيمان كان يشغل جانباً كبيراً من
تعليمه. فكان يقول لسامعيه كل ما تطلبونه حينما تصلون، فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم
(مرقس 11: 24). وكل شيء مستطاع للمؤمن (مرقس 9: 23). وليكن لكم إيمان بالله (مرقس
11: 22). ولو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا
إلى هنا فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم (متى 17: 20) يراد بالجبل الصعوبات
التي تعترضنا في الحياة. ومن ثم كان، بسبب محبته الشديدة في الإحسان إلى الناس،
يحرضهم على الإيمان به، حتى ينالوا ما يحتاجون من عطاياه. فمرة استدعوه لشفاء
فتاة، ولما وجد أنها فارقت الحياة، قال لوالدها لا تخف. آمن فقط فهي تشفى، ولما
آمن شفيت (لوقا 8: 50). وعندما أتاه رجل يشكو من مرض في ابنه قائلاً له إن كنت
تستطيع شيئاً فتحنن علينا، أجابه المسيح على الفور إن كنت تستطيع أن تؤمن. كل شيء
مستطاع للمؤمن. فلما وجد الرجل أن العيب فيه، صرخ في الحال بدموع قائلاً أؤمن يا
سيد، فأعن ضعف إيماني. وفي الحال شفي ابنه من مرضه (مرقس 9: 23، 24).

وكان للإيمان كل الأهمية لدى المسيح ليس في عمل المعجزات فحسب، بل وأيضاً
في منح الغفران للخطاة النادمين على خطاياهم. فالمرأة الخاطئة التي ندمت على
خطاياها قال المسيح لها: مغفورة لك خطاياك. إيمانك قد خلصك. إذهبي بسلام (لوقا 7:
50). والمفلوج الذي أتى به حاملوه إلى المسيح، غفر له خطاياه وشفاه من أجل إيمانهم
(مرقس 2: 5).

2- السبب في أهمية الإيمان: إن السبب في أهمية الإيمان يرجع إلى عاملين رئيسيين (الأول) إن الإيمان
كما مرّ بنا هو فتح أبواب النفس لله وتهيئتها لقبول عطاياه، أو بتعبير آخر هو الجو
الروحي الذي يتناسب مع طبيعة الله، وكيفية تداخله في مساعدة الناس. لذلك ففي هذا
الجو وفيه وحده، تجري عطاياه إليهم. (الثاني) إن الإيمان كما مرّ بنا هو التصديق،
ومن ثم فمن يؤمن بأقوال الله، فإنه يصدق الله، ومن لا يؤمن بها فإنه (بكل أسف)
يكذّب الله. فقد قال الوحي ومن لا يصدق الله فقد جعله كاذباً (1 يوحنا 5: 10)، ومن
يكذب الله لا يمكن أن يجد خيراً من الله. ومن ثم لا عجب إذا كان الله لا يهب
الخلاص إلا للذين يؤمنون إيماناً حقيقياً.

3- الإيمان وعلاقته بالعقل: يظن بعض الناس أن المسيحيين يؤمنون بعقائدهم دون بحث أو تفكير. لكن هذا
الظن لا نصيب له من الصواب، فقد اتضح لنا مما سلف أنه لو كان هناك خلاص من قصاص
الخطيئة، فهو لا يمكن أن يتأتى إلا بواسطة الفداء الذي عمله الله لأجلنا في
المسيح، وأنه لو كان هناك مجال للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، فهو لا
يمكن أن يتأتى إلا بواسطة الحياة الروحية التي يهبها اللّه لنا في نفوسنا- حقاً إن
هذين الأمرين يسموان فوق العقل، لكنهما لا يتعارضان معه على الإطلاق، إذ أنه
يستطيع البرهنة على صدقهما منطقياً، كما يرى نتائجهما عملياً.

وقد اختبر هذه الحقيقة كثير من العلماء والمفكرين فقال شلر إننا حينما
نلجأ إلى الإيمان، لا نلجأ إلى أمر يسلب العقل عمله، بل إلى ما يجعل العقل أكثر
تفكيراً وأعظم تأثيراً. كما قال الإيمان ليس عملاً عقلياً عادياً، لأنه يتطلب
مقداراً كبيراً من الإرادة والإختبار. وما الغرض من الفلسفة النظرية إلا أن تجعل
الثورة الفكرية التي تحدث في عقل الإنسان، إيماناً راسخاً. إذ أن المعرفة وحدها لا
تجدي إذا كانت مجردة من الإيمان. وقال همرشولد كنت في أول الأمر لا أفهم المسيحية،
ولذلك كنت أقاومها في نفسيمن وقت لآخر. لكن عندما أدركتها، أصبحت أعتز بها أكثر من
أي شيء في الوجود، كما أصبح في وسعي البرهنة على صدقها دون أن أتجاوز مطالب
الأمانة الفكرية.

ومع كل، وإن سما خلاص المسيح فوق العقل الواعي، فالعقل الباطن يستطيع أن
يدركه كل الإدراك، ويطمئن له كل الإطمئنان، بل ويستطيع أن يجابه اعتراض العقل
الواعي من جهته إن كان له اعتراض، ويقهر حجته إن كانت له حجة، إذ أن الحقائق
الروحية التي يختبرها العقل الباطن بناء على أقوال الله، هي أثبت وأرسخ من حجج
العقل الواعي جميعاً. لأن هذا العقل مع ما وصل إليه من نضوج ورقي، لا يزال يجهل
الكثير حتى من أمور الدنيا التي تقع تحت إدراكه وأحساسه.

-2-

السبيل إلى الإيمان ودلائله

أولاً- السبيل إلى الإيمان

قد يتم الإيمان الحقيقي في لحظة وقد يستغرق وقتاً طويلاً، لكن على أي حال
يجب أن تتوافر الشروط الآتية في كل من يريد أن يكون مؤمناً حقيقياً:

1- الرغبة الخالصة في الحصول على الخلاص: وهذه الرغبة تتطلب من المرء أن يكون كارهاً للخطيئة وشاعراً بشناعتها
وخطورتها، وموقناً باستحقاقه للحرمان من الله إلى الأبد بسببها، ولذلك ليس كل من
يقول بفمه إرحمني اللهم أنا الخاطئ، يحصل على الخلاص، لأن العبرة ليست بالكلام بل
بالحالة التي تكون عليها النفس. فالمرأة الخاطئة لم تخلص إلا بعد أن أحست بثقل
خطاياها والتجأت إلى المسيح بكل قلبها (لوقا 7: 36- 50). وزكا لم يخلص إلا بعد أن
أحس بحاجته إلى المسيح أكثر من المال (لوقا 19: 1- 10). واللص لم يدخل الفردوس إلا
بعد أن أدرك في نفسه أنه لا يستحق سوى الهلاك، وأنه لا خلاص له إلا بواسطة المسيح
(لوقا 23: 43). والذين آمنوا من اليهود في العصر الرسولي لم يتيسر لهم ذلك إلا بعد
أن نخسوا في قلوبهم، وشعروا شعوراً عميقاً بشناعة جريمتهم التي اقترفوها ضد
المسيح، وآمنوا بعد ذلك من كل قلوبهم بشخصه الكريم (أعمال 2: 37- 41).

2- التوبة عن الخطيئة: والشعور بشناعة الخطيئة يجب أن يكون مقروناً بالتوبة عنها، أو على الأقل
بالرغبة الصادقة في هذه التوبة، وإلا فلا فائدة من هذا الشعور على الإطلاق. ولا
يراد بالتوبة الندم على ارتكاب الخطيئة فحسب، بل والتحول عنها والرجوع إلى اللّه
أيضاً. فقد قال الوحي: إن اللّه يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا وأن يرجعوا
إليه عاملين أعمالاً تليق بالتوبة (أعمال 17: 30، 26: 20). وإذا تعذر على إنسان
أمر التوبة، فليعلم أن اللّه على استعداد لمساعدته على بلوغها، إذا كان راغباً في
التحول عن الخطيئة من كل قلبه. فمكتوب أنه يعطي التوبة (أعمال 5: 31، 11: 18)،
ولذلك صرخ أحدهم للّه قائلاً تّوبني فأتوب (إرميا 31: 18) فأعطاه التوبة.

3- الإتجاه إلى المسيح: إن الندم على ارتكاب الخطيئة والتوبة عنها أمران هامان، لكنهما لا يخلصان
من دينونة الخطيئة أو سلطانها الخفي على النفس، لأن الذي يخلّص من هذين معاً هو
المسيح دون سواه. لذلك على المرء أن لا يقف عند حد الندم على الخطيئة والتوبة
عنها، بل أن يتجه بكل قلبه إلى المسيح، الذي أحبه ومات على الصليب كفارة عنه،
فيفيد منه مثلما أفاد بطرس وبولس (إن كان مثلهما متديناً)، أو مثلما أفادت المرأة
الخاطئة والعشار (إن كان مثلهما مستبيحاً)، لأن خلاص المسيح ليس لفئة خاصة من
الناس، بل لكل الناس دون استثناء. فقد قال الوحي عن المسيح إنه ذاق بنعمة اللّه
الموت لأجل كل واحد (عبرانيين 2: 9). وإنه كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل
لخطايا كل العالم أيضاً (1 يوحنا 2: 2).

4- قبول المسيح في النفس: أما وقد توافر لدى طالب الخلاص أن اللّه يحبه
بصفة شخصية، وأن المسيح مات نيابة عنه بالذات مكفراً عن كل خطاياه مثل غيره من
الناس، فعليه أن يتجاوب مع المسيح ويقبله بالروح مخلصاً لنفسه وحياة لها، فيصبح
الخلاص للتو ملكاً له. ومن ثم له أن يفرح ما شاء له الفرح، وأن يطمئن ما شاء له
الإطمئنان. فقد أصبح من هذه اللحظة مبرراً أمام اللّه، بل ومن أولاده المحبوبين
الذين لهم السلام والفرح الكاملين معه، والذين لا يمكن أن يأتوا إلى دينونة بل قد
انتقلوا من الموت إلى الحياة.

ثانياً- دلائل إيمان الخلاص

طبعاً ليس كل من يقول إنه مؤمن حقيقي هو كذلك، لأنه كما يخدع الإِنسان
غيره قد يخدع أيضاً نفسه. لذلك لم يتركنا الوحي في ريب من جهة هذا الموضوع، بل سجل
لنا دلائل الإِيمان الحقيقي بكل وضوح وجلاء، وأهم هذه الدلائل ما يأتي:

1- المحبة للّه والتعبد له: هذه هي أولى العلامات التي تدل على الإِيمان الحقيقي. فقد قال بولس الرسول
عنه إنه الإِيمان العامل بالمحبة (غلاطية 5: 6)، وقال يوحنا الرسول: نحن نحبه لأنه
أحبنا أولاً (1 يو 4: 19). وقال بولس الرسول: لأن محبة اللّه انسكبت في قلوبنا
بالروح القدس المعطى لنا (رومية 5: 5). وقال أيضاً لأن محبة المسيح تحصرنا (2
كورنثوس 5: 14).

وهذه المحبة تقود المؤمن الحقيقي إلى اللّه من وقت لآخر لكي يسكب قلبه
أمامه تعبداً وسجوداً، ويصوغ له بتأثير الروح القدس في نفسه حمداً وشكراً كثيراً.
وإن كان أميّاً لا يستطيع التعبير عن آرائه في كثير من المسائل العامة، لكن عندما
يضع قلبه تحت تأثير الروح القدس، تنبعث منه معان سامية يعجز عن صياغة مثلها كاتب
ماهر.

2- الصلاة: وبجانب
العبادة والسجود، فالمؤمن رجل صلاة. والعبادة هي تقديم الإكرام والسجود للّه لما
يتصف به من سجايا مثل المحبة والقداسة والقدرة والعلم بدرجة لا حد لها. أما الصلاة
فهي طلب ما نحتاج إليه منه في هذه الحياة. لذلك فالعابد يقدم شيئا للّه، أما
المصلي فيطلب شيئاً منه، سواء أكان هذا الشيء روحياً أم مادياً، فالعابد (إن جازت
المقارنة) أسمى حالاً من المصلي. ولا يصلي المؤمن لإِله مجهول في عالم الخيال أو
الفكر، أو لإِله في مكان قصي لا يمكن الإتصال الحقيقي به (كما هي الحال عند كثير
من الناس)، بل يصلي لإِله حقيقي يعرفه حق المعرفة، ويمكنه الإتصال بالروح إتصالاً
فعلياً. كما أن الصلاة لديه ليس عادة يقوم بها بطريقة آلية، أو مجرد فرض يقوم به
كما يقوم العبد بواجب نحو سيده، بل إنها مهمة حيوية لا يستطيع الإستغناء عنها
بحال. فهي كما ذكرنا فيما سلف مثل الهواء بالنسبة لرئتيه، والطعام بالنسبة إلى
جوفه. فضلاً عن ذلك فإنه يجد في الصلاة متعة روحية فائقة، إذ فيها يناجي اللّه
ذاته، ومن ثم يقضي الأوقات الطويلة فيها. وإذ استلزم الأمر فإنه يضحي عن طيب خاطر
ببعض أعماله وأوقات راحته الخاصة، في سبيل إطالة فرص الصلاة، وذلك لأجل نفسه ونفوس
الآخرين، وقبل كل شيء لأجل مجد اللّه وإكرامه (1 تيموثاوس 2: 1، أفسس 6: 18).

3- دراسة كلمة اللّه: والمؤمن الحقيقي يدرس كلمة اللّه ليس كمجرد واجب من الواجبات، أو لكي
يعرفها ويلم بها كموضوع من الموضوعات، بل قبل كل شيء لأنه يستمع فيها لصوت اللّه،
كما يجد فيها طعاماً شهياً لنفسه. ولذلك يدرسها بشغف وفهم ويسعى للهج فيها كثيراً.
ومن ثم فهو صديق مخلص لكتاب اللّه، تربطه به علاقة حية وصلة قوية، لأنه يفهمه
ويعرفه ويدأب على الرجوع إليه من وقت إلى آخر، حتى يتشبع به ويسير على هداه.

4- السلوك السماوي: ولتأثره بكلمة اللّه لا يحصر نظره في الأمور الزائلة التي تُرى، بل في الأمور
الباقية التي لا ترى. ومن ثم يحفظ نفسه في دائرة السماويات، في حالة القداسة
اللائقة باللّه، كما يسعى دائماً أبداً لتنفيذ إرادته مهما كان شأنها. ولذلك لا
ينطق بعبارة نابية أو يلجأ إلى الهزل والمزاح، أو يتصرف في شيء بنزق وطياشة، بل
تكون كل أقواله بنعمة وحكمة، وكل أعماله بتعقل واتزان (أفسس 5: 4 و15، تيطس 2: 7).
وإن سقط في خطيئة مرة لسبب من الأسباب، لا يمكن أن يظل فيها طويلاً (لأنها تتعارض
مع الطبيعة الروحية الجديدة التي نالها من اللّه)، بل ينهض للتو منها، مسلماً
حياته للّه بأكثر تدقيق حتى يحفظه من كل عثرة وزلل.

5- المحبة لجميع الناس: ولتأثره باللّه وتشبعه بكلماته يتصف أيضاً بالكثير من صفات اللّه، وفي
مقدمتها المحبة. ومن ثم فإنه يحب جميع الناس حتى الذين يسيئون إليه منهم، مثلما
يفعل اللّه (متى 5: 44) كما يحب من قلب طاهر بشدة كل المؤمنين الحقيقيين (1 بطرس
1: 22) مهما اختلفت طوائفهم أو مراكزهم الإجتماعية، لأنه يعرف أن له ولهم أباً
واحداً هو اللّه (1 يوحنا 5: 2)، ومخلصاً واحداً هو المسيح (أعمال 4: 12)، كما سكن
فيه وفيهم روح واحد هو الروح القدس (1 كورنثوس 3: 16).

كما يبذل كل ما لديه من جهد في إعلان نعمة اللّه للخطاة، وذلك بالصلاة
لأجلهم أو التحدث معهم، حتى يفيد منها من يريد الفائدة. كما يمد يده إلى كل معوز
ومحتاج، وهو لا يرجو من وراء ذلك جزاء أو ثواباً، إذ يكفيه شرفاً وسروراً أن يعمل
عملاً لأجل مجد اللّه الذي أحبه إلى المنتهى الذي لا نهاية له.

6- الثقة الكاملة من جهة امتلاك الخلاص: أخيراً نقول: إن المؤمن الحقيقي لا يتسرب إليه شك من جهة كفاية كفارة
المسيح، بل يوقن أنها رفعت عن كاهله قصاص خطاياه وجعلته مقبولاً أمام اللّه، ولذلك
يستطيع أن يقول مع الرسول إنه متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء
ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى، تقدر أن
تفصلنا عن محبة اللّه (لنا) التي في المسيح يسوع ربنا (رومية 8: 38- 39). وأن يقول
أيضاً معه إني عالم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي (أي نفسي المستودعة
بين يديه) إلى ذلك اليوم (2 تيموثاوس 1: 12). لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا
الأرضي (أي أجسادنا المادية)، فلنا في السموات بناء من اللّه بيت غير مصنوع بيد
أبدي (2 كورنثوس 5: 1). والآن نحن أولاد اللّه ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم
أنه إذا أُظهر (المسيح)، نكون مثله لأننا سنراه كما هو (1 يوحنا 3: 2).

والحق أننا مهما جلنا بأبصارنا في عقائد البشر وفلسفاتهم، لا يمكن أن نجد
فيها ما يبعث إلينا يقيناً من جهة محبة اللّه لنا وقبوله إيانا إلى الأبد، مثل
اليقين الذي يبعثه المسيح. لأنه يبعث هذا اليقين إلينا ليس بناء على وعود عاطفية
مجردة أو أقوال أخاذة منمقة، بل بناء على كفارته الكاملةالتي وفّت كل مطالب عدالة
اللّه وقداسته. ومن ثم فكل مؤمن حقيقي يستطيع عن يقين صادق أن يستحضر أمامه
المستقبل المجيد الذي أصبح ملكاً له على أساس كفارة المسيح، وأن يدخل أيضاً في هذا
المستقبل بقلبه ويستريح في أرجائه، شاكراً اللّه من أجل محبته التي تفوق كل محبة،
وجوده الذي يفوق كل جود، وحكمته التي تفوق كل حكمة. فقد قال الرسول شاكرين الآب
الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور. الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا
إلى ملكوت إبن محبته. الذي لنا فيه الفداء بدمه غفران الخطايا (كولوسي 1: 12- 14).
كما قال وأقامنا (الآب) معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع ليُظهر في
الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع (أفسس 2: 6 و7).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار