علم المسيح

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

أحاديث
المسيح مع تلاميذه
في العليَّة بعد العشاء الأخير

135- الوصية
الجديدة

الآن وقد رسم المسيح لتلاميذه سر الشركة معه بالحق والروح
لتدوم معهم كل يوم، أوصاهم

كما يوصي أب أولاده الوصية الأخيرة بعد أن كشف
لهم وسلَّمهم كنز الميراث: “يا أولادي، أنا معكم
زماناً قليلاً بعد.
ستطلبونني، وكما قلت لليهود: حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا، أقول لكم أنتم
الآن. وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم
أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حُبٌّ بعضاً لبعض.”
(يو 13: 3335)

أمَّا
لماذا هي وصية جديدة؟ فلأنها نابعة من عمل جديد لم يكن موجوداً قبل، وهو البذل
العظيم الذي قدَّمه المسيح على الصليب والذي رسمه لهم في سر الإفخارستيا، الذي هو
في الحقيقة سر الحب المذبوح! فالوصية هي جديدة، لأنها نابعة من حب قدَّمه المسيح
بسكب ذاته حتى الموت. فإن كان المسيح قد ارتبط بل واتحد في شركة مع تلاميذه بسر
الإفخارستيا الذي هو أعمق تعبير عن المحبة: “ليس لأحد حُبٌّ أعظم من هذا أن
يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو 13: 15)، فأصبحت الإفخارستيا هي بمثابة الوصية
الجديدة لربط تلاميذ المسيح بالمحبة على مستوى المسيح!!

136- سؤال
بطرس والحديث عن إنكاره المزمع

كان
من العسير كل العسر على التلاميذ أن يصدِّقوا أن المسيح سيتركهم، لأنه كانت في
الحقيقة العلاقة التي تربطهم بالمسيح قد توثَّقت على مستوى الروح، فتعلَّقت
أرواحهم به تعلُّقاً لم ينتبهوا له أنه ليس من هذا العالم.

فهو
تعلُّق فائق عن العالم والزمن والطبيعة البشرية، فكيف يتصوَّرون أنهم سيُحرمون منه
كُلِّيةً فلا يرونه وهو كائن في قلوبهم وأعماقهم. وكان صعباً على المسيح أن يقنعهم
بتركه لهم، لأنه في الحقيقة كان يعلم أنه تركٌ وقتي زمني قليل، وبعد ذلك يستعيدون
علاقتهم به التي هي فوق مستوى الوجود الزمني والعالم. فلم يضغط عليهم لكي يقطعوا
نهائياً بغيابه، فتركهم بمشاعرهم ينعمون بها. لذلك قال لهم بعد ذلك: “بعد
قليل لا تبصرونني، ثم بعد قليل أيضاً ترونني، لأني ذاهب إلى الآب” (يو 16:
16)، “فأنتم كذلك، عندكم الآن حزن. ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا
ينزع أحد (بعد) فرحكم منكم” (يو 22: 16)، “قال له سمعان بطرس: يا سيد،
إلى أين تذهب؟ أجابه يسوع: حيث أذهب لا تقدر الآن أن تتبعني، ولكنك ستتبعني
أخيراً. قال له بطرس: يا سيد لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن؟ إني أضع نفسي عنك.
أجابه يسوع: أَتَضَعْ نفسك عني؟ الحق الحق أقول لك: لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث
مرَّات.” (يو 13: 3638)

137- أحاديث
أخرى سجَّلها القديس لوقا

أراد
المسيح أن يُعِدَّ أذهان التلاميذ إلى الحوادث الصعبة الآتية في الطريق سريعاً.
وكان منظر الجماعة القادمة من عند رؤساء الكهنة مع عساكر السنهدرين وغوغاء الشعب
ماثلاً في ذهنه وكأنه يراهم. فبدأ الحديث معهم بتذكرة لنصائحه التي سلَّح بها
تلاميذه عندما أرسلهم: “حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم
شيء؟ فقالوا لا. فقال لهم: لكن الآن، مَنْ له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومَنْ ليس
له فليبع ثوبه ويشترِ سيفاً” (لو 22: 35و36). مضمون القول إنهم قادمون، لا
على بشارة بملكوت الله وسلام، ولكن قادمون على معركة بسيوف وعِصيٍّ كما على لصوص!!
فالقصد من الكيس والمزود تعبير عن تخلية من الله لدخول الضيق بأشد معناه كامتحان
نهائي لدخول ملكوت الله. أمَّا القصد من السيف فهو تعبير عن أن السلام انتزع
وأُشهر عوضه السيف، وهذه أصعب صور التخلية التي يتركنا فيها الله بلا حماية ونكون
تحت رحمة سيف الأعداء. انظر إلى المسيح! لقد ذُبح بأصعب من ذبح السيف! هنا يكشف
المسيح عن واقع دخله هنا بنفسه وأراد أن يشترك تلاميذه فيه. فأصعب وأقسى ما قاله
المسيح في حياته قاله هنا: “مَنْ ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفاً” هنا
أراد المسيح أن يُدخلهم معه في منظر السيوف والعصي والموت على الصليب: “مَنْ
يُهلك نفسه من أجلي يجدها” (مت 25: 16). فالمسيح في الحقيقة لم يتكلَّم عن
شراء السيف أو حمله إلاَّ ليُدخل التلاميذ في جو الصليب الدامي والإحساس بالموت،
لا كتجربة بل مسيرة المشيئة لهلاك الذات من أجل الخلاص والحياة الأبدية. والكلمة
التي قالها المسيح تعليقاً على ما عمله بطرس حينما ضرب عبد رئيس الكهنة بالسيف
فقطع أُذنه: “لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون” (مت 52: 26)،
أرادها المسيح حينما قال لهم: اشتروا سيفاً، فالمعنى دعوة للموت. هذا شأن كل مَنْ
أراد أن يتبع الرب على طريق الجلجثة، فالمسيح
لم يقصد سيفاً لحرب ودفاع، بل لموت وانكسار! فطريق الخلاص
طريق سيف وجلد،
طريق هلاك وتخلية حتى الموت. فبعدها قال
المسيح مباشرة: “إنه ينبغي أن يتم فيَّ أيضاً هذا المكتوب: وأُحصي مع
أثمة.” (لو
37: 22)

138- وعد
المسيح بالعودة

كان
الحديث في هذه الساعة ثقيلاً معبَّأً بشعور الحزن والخوف مما سيأتي، لأن التلاميذ
لم يكونوا قد كوَّنوا فكراً معيناً بالنسبة لفراق المسيح. ولكن المسيح على كل حال
حاول أن يهدِّئ عقولهم ويجعلهم يستعدون بقدر الإمكان لمواجهة المحنة الشديدة
والعنيفة القادمة التي ستعصف بهم بعيداً عن المخلِّص. فكان من ضمن الحديث على
المائدة لمَّا ابتدأ يفتح ملف الأيام القادمة وابتدأوا يشعرون بالخوف، أن قال لهم:
“لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة،
وإلاَّ فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددت لكم
مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.” (يو
14: 13)

هكذا
كان يتكلَّم المسيح بهدوء عن مجيئه الثاني، على أن غيابه سيتبعه حتماً شركة سرِّية
بالروح، فالمسيح وسيط حي فعَّال بين التلاميذ والآب، لذلك لن يدوم إحساسهم
بالفراق: “سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم” (يو 22: 16). هذا يعني مجيئه
السرِّي بالروح وزيارته لهم سواء مجتمعين كما في العلية أو أثناء أسفارهم اثنين
اثنين: “حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت 20:
18). هذا المجيء السرِّي كان أقوى معزٍّ حقيقي بالنسبة للتلاميذ بعد قيامة الرب،
إذ رأوه وتحدَّثوا معه وأكلوا أيضاً معه وعلَّمهم واستمعوا إليه كالماضي. والعلاقة
التي تكوَّنت بين التلاميذ والمسيح بعد ذهابه كانت أقوى وأكثر فاعلية وعزاءً وقوة
مما كانت. ولو أنهم لم يفهموا ولم يصدِّقوا أن أياماً أخرى ستأتي ليستعيدوا عشرتهم
مع المسيح والآب. ولكن كان الكلام معزِّياً على كل حال.

 

139- كيف
نعرف الطريق؟

حينما
قال المسيح: ” أنا هو الألف والياء”، كشف أن في معرفته بلوغ منتهى
القصد. وحينما قال: ” أنا هو الأول والآخر”، أدركنا أنه الباب والطريق
والنهاية، ولمَّا قال: ” أنا
البداية
والنهاية”، لم يعد لنا سواه.

عندما
أكَّد المسيح أن بعد ذهابه سيكون للتلاميذ علاقة معه كما كانت وأقوى، هذا فتح
شهيتهم لكي يسألوه أين هو ذاهب؟ وكيف يصلون إليه؟ أمَّا هو فأعطاهم فرصة ليطمعوا
أكثر في السؤال، فقال: “وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق!” (يو 4:
14)، “فقال له توما: يا سيد، لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف
الطريق؟” (يو 5: 14). هنا وجدها المسيح أعظم فرصة ليرفع عقولهم وقلوبهم إلى
ما هو أعلى من الجسد وأرفع من الزمن والمكان المحسوس والملموس: “قال له يسوع:
أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 6: 14). حينما قال: “أنا هو
الطريق” بدت الكلمة شديدة الغموض، ولكن لمَّا أضاف إليها “الحق”
انفتحت في الحال أذهانهم ليفهموا أنه يتكلَّم عن طريق المعرفة للحق الذي يستطيعون
أن يصلوا إليه. ثم لمَّا أضاف مع الطريق والحق “الحياة” أيضاً، ارتفع
الفكر بإحساس الروح القلبي أن الوجود مع المسيح بعد ذلك سيكون داخلياً في القلب
كحياة روحية جديدة من داخل الإنسان وليست خارجه. ثم أضاف المسيح: “ليس أحد
يأتي إلى الآب إلاَّ بي” وضح هنا أنه عن طريق معرفة الحق والحياة بالروح في
المسيح داخل القلب يمكن للتلاميذ أن يبلغوا إلى معرفة الآب نفسه، ولهذا أضاف:
“لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه” (يو
7: 14). هنا اقترب المسيح جداً من كشف علاقته بالآب، عندما ارتفع بذهن التلاميذ من
مستوى الجسد والمادة والعالم والحسيَّات إلى مستوى الروح والحق والحياة.

حينئذ
ابتدأ يتحرَّك قلب فيلبُّس مع روحه المنطلقة طلباً في أن يرى الآب: “قال له
فيلبُّس: ياسيد، أرِنا الآب وكفانا” (يو 8: 14). هكذا نجح المسيح أن يُطْلِق
روح فيلبُّس لتبحث عن الآب في الحق والحياة بواسطة المسيح. وبذلك يكون المسيح قد
بلغ مع ذهن التلاميذ إلى نهاية الشوط لكي يكشف لهم عن الحقيقة التي غابت عن عقولهم
كل هذه السنين وهم يتفرَّسون في المسيح ولا يرون فيه شيئاً إلاَّ أملاً كالسراب،
كلما اقتربوا منه هرب من أيديهم. هنا أفصح المسيح عمَّنْ هو: “قال له يسوع:
أنا معكم زماناً هذه مدته (ثلاث سنين ونصف) ولم تعرفني يا فيلبُّس: الذي رآني فقد
رآى الآب، فكيف تقول أنت أرِنا الآب؟” (يو 9: 14). المسيح هنا يوبِّخ ذكاء
فيلبُّس، لأن المسيح لم يكف عن القول بالنسبة لكل أعماله أنها بالآب معمولة،
وأقواله أنها من الآب مسموعة، ومشيئته وإرادته أنها هي مشيئة الآب وإرادته، وأن
فكره هو فكر الآب، بل وحياته هي حياة الآب. لهذا يسأله مستنكراً: كيف تقول أنت
أرِنا الآب؟ ألم تَرَني؟ ألم تسمعني؟ ألم تحس بقوة عملي؟ أنه الآب فيَّ. وهكذا
انتهى فيلبُّس إلى الإيمان، وهنا نبَّه إيمانه: “ألست تؤمن أني أنا في الآب
والآب فيَّ؟” (يو 10: 14). وعاد يحقِّق للتلاميذ مدى العلاقة الشديدة التماسك
بين المسيح والآب: “الكلام الذي أُكلِّمكم به لست أتكلَّم به من نفسي، لكن
الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال” فإن كنت أعمل أعمال الآب فأنا والآب واحد:
“صدِّقوني أني في الآب والآب فيَّ” (يو 11: 14). فإن نظرتم إليَّ ووجدتم
أمامكم إنساناً يتكلَّم، فكان يحق لكم أن لا تؤمنوا بسبب الشكل؛ ولكن إن رأيتم
العمل الذي أعمله وهو فائق جداً ولا يستطيع أي إنسان أن يعمله “فصدقوني لسبب
الأعمال نفسها” الآب هو الذي أعطاني هذه الأعمال لأعملها لأتمِّم مشيئته
لفداء الإنسان وخلاصه ومصالحته مع الآب، ولكن إن آمنتم بي حينئذ أعدكم أن:
“مَنْ يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها”
(يو 12: 14)، لأن الآب سيعطيه أن يعمل عملي ليتمِّم رسالتي. فالآب هو الكل في
الكل: “لأني ماضٍ إلى أبي. ومهما سألتم باسمي- “لتكمِّلوا عملي”-
فذلك أفعله ليتمجَّد الآب بالابن. إن سألتم شيئاً باسمي فإني أفعله.” (يو 13:
14و14)

140- فاعلية
السؤال باسم المسيح

المناداة
باسم الله والمسيح هي بمثابة الدخول في حضرته، لأن الاسم هو المعبِّر عن الذات
والشخصية، فالذي يدعو باسم الرب كأنه أُدخل إلى حضرته ليتواجه مع شخصه. فالشخص
مقابله في اليونانية “بروسوبون”، والبروسوبون هو أيضاً الوجه.
لذلك لمَّا قال موسى لله: “إن لم يَسِرْ وجهك فلا تصعدنا من ههنا” (خر
15: 33) كانت كلمة “وجهك” هي المؤدية للتعبير عن الشخص، وهذا قاله الرب
ردًّا على قول موسى: “وجهي يسير فأريحك” (خر 14: 33). والذي
يؤكِّد ذلك هو ما عاد موسى يطلبه بوضوح: “فَلْيَسِرْ السيد في
وسطنا..” (خر 9: 34). والاسم هو التعبير عن الشخص أي البروسوبون، فالذي ينادي
بالاسم كمَنْ ينادي ذات الله، فللحال يوجد قائماً في حضرته. لهذا أكَّد المسيح أن
الذي يسأل باسمه إنما هو كمن ينادي شخصه ويتراءى أمامه، فيسمع صوته ويُجاب: ”
مهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجَّد الآب بالابن. إن سألتم شيئاً باسمي فإني
أفعله”
(يو 14: 13و14). وكلمة سأل هنا هي الصلاة المخصَّصة للطلب.

كذلك:
“سؤال الآب باسم المسيح” يُحتسب كرفع المسيح ذبيحة أمام الآب كوسيط
ليسمع الآب ويستجيب باستحقاق ذبيحة الابن: “الحق الحق أقول لكم: إن كل ما
طلبتم من الآب باسمي يعطيكم
” (يو 23: 16). وهكذا نرى أن المسيح يُهيِّئ
ذِهْن التلاميذ أن في حال غيابه تكون الصلاة والسؤال باسمه بديلاً لوجوده، وستكون
مضمونة الاستجابة لدى الآب. وهكذا نرى أن الدعاء بالاسم يحل محل وجود المسيح
بالجسد.

141- الوعد
بإرسال الروح القدس

هذا
قرَّره المسيح تحت شروط محدَّدة: أولاً: المحبة، ثانياً: التدقيق في
حفظ وصايا المسيح وأهمها الخاصة بملكوت الله، على أن الأُولى مربوطة بالثانية.

+
إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزِّياً
آخر ليمكث معكم إلى الأبد.
” (يو 14: 15و16)

بمعنى إن كان المسيح قد جاء معزِّياً لمدة زمنية محدودة،
فمجيء المعزي الروح القدس سيبقى إلى الأبد.

والمسيح
كان بحسب تعبيره أنه هو “الحق”، أمَّا المعزِّي الروح القدس فهو “روح
الحق”” لأنه يأخذ مما لي ويخبركم”
(يو 14: 16)، لذلك معرفة
المسيح والآب معقودة على الروح القدس الذي يعرفكم” كل الحق”.

والمسيح
لم يقبله العالم، لأنه ليس من العالم. هكذا الروح القدس لا يعرفه العالم ولا يراه،
لذلك لا يستطيع أن يقبله. وأمَّا التلاميذ فيعرفون الروح القدس لأنه: “ماكث
معكم ويكون فيكم” (يو 17: 14)، كالمسيح الذي كان معهم وهو الآن فيهم بسبب
الروح القدس الذي فيهم. وقد عبَّر عن ذلك بقوله: “لا أترككم يتامى- (بدون أب
معزٍّ)- إني آتي إليكم (بالروح القدس)” (يو 18: 14). وبمجيء المسيح بالروح
القدس ليمكث فينا ويكون معنا، حينئذ سنعرف أن الروح القدس الذي في الآب والابن
يأتي ويكون فينا، وبهذا يعلِّم المسيح قائلاً: “في ذلك اليوم (حلول الروح
القدس) تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم فيَّ، وأنا فيكم” (يو 20: 14)، ذلك
بعامل الروح القدس الذي يمكث فينا ويكون معنا، وهو بآن واحد روح المسيح والآب.

لذلك
لمَّا اختفى المسيح بذهابه إلى الآب، لم يَعُدْ يراه العالم؛ أمَّا نحن فنراه رؤيا
الروح للروح: “
لا
يراني العالم أيضاً، أمَّا أنتم فترونني” (يو 19: 14). كذلك فالمسيح في
السماء عند الآب يكون حيًّا بالآب وبالروح،
وهكذا نحن نكون بالروح أحياءً: “إني أنا حيّ فأنتم ستَحْيَوْن.” (يو

19: 14)

ولكن الروح يعمل ويوحِّد بقوة المحبة. وقوة المحبة تعمل
بحفظ الوصايا: “والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أُحبه، وأُظهر له ذاتي” (يو
21: 14)، “إن أحبني

أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده
نصنع منزلاً” (يو 23: 14)،
و”
المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلِّمكم
كل شيء،
ويذكِّركم بكل ما قلته لكم” (يو 26:
14). وهنا نقلة حية متحرِّكة داخل الإنجيل!

142- سلام
المسيح الذي يفوق كل عقل

[مَنْ ذاق سلام المسيح
استهان بالدنيا].

عندما
وُلِدَ المسيح حلَّ السلام على الأرض والمسرَّة بين الناس بشهادة وإعلان الملائكة
من السماء مقروناً بتمجيد الله في السماء. وعاش المسيح يعطي سلامه للقلوب والعقول والأجساد
والنفوس المتعبة. وهكذا حرص المسيح بعد أن أكل عشاء الفصح الأخير مع تلاميذه أن
يعطيهم كلمة الإنصاف المدموغة بالسلام ليكون عطاؤه الدائم مقروناً بهذا الطقس
الإلهي، حتى نعيش سلام المسيح الفائق العقل مع شركة جسده ودمه: “سلاماً أترك
لكم. سلامي أعطيكم” (يو 27: 14). وسلام المسيح ليس كسلام العالم والناس، لأنه
سلام من “رئيس السلام” (إش 6: 9)، الذي هو نفسه سلامنا (أف 14: 2)! الذي
دفع ثمنه كل صنوف الآلام والتعذيب والموت. فهو سلام إلهي خالٍ من ضريبة العالم
الشرير. سلام لا يستطيع أحد أن ينزعه منّا، لأنه سلام الروح الخفي الذي يعزِّي ولا
يراه أحد. ولأنه سيمكث معنا طالما مكث الروح، ويمكث في إنساننا الجديد بعيداً عن
متناول الناس والعالم.

143- آخر
وعد:

“لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب سمعتم أني قلت لكم: أنا أذهب ثم آتي
إليكم”

فهو
هنا يطالب التلاميذ بالتمسُّك بالإيمان والوعد. فالآن هنا المحك: “لو كنتم
تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب” (يو 28: 14). وطبعاً مصدر
الفرح مفروض أن يكون بسبب مجيئه الثاني المجيد. ثم يعطي سبباً آخر بضرورة الفرح
الغامر وهو أنه بذهابه إلى الآب سيضيف على عطاياه عطايا الآب أيضاً، وأهمها:
الحب والمصالحة والتبني،
مضافة إلى عطايا الابن: الفداء والخلاص والبر.
وعطايا الآب أعظم من عطايا الابن، لأن عطايا الابن كلها إنما تمهِّد لعطايا الآب،
فالفداء والخلاص مهَّد للمصالحة، والموت مهَّد للتبني لحياة جديدة. والمسيح حينما
قال: “لأن أبي أعظم مني” (يو 28: 14)، فهو يقولها وهو لا يزال يحمل جسد
خطايا البشرية كلها قبل أن يكون قد حملها على الصليب. فهو يتكلَّم كابن الإنسان
كما هو ابن الله، فهو تحت الآلام مثلنا.

ثم
تحت ضغط الساعة المحسوبة أنها ساعة الأعداء وشيطان الظلمة اعتذر عن الإطالة في
الكلام: “لا أتكلَّم أيضاً معكم كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي” (يو
30: 14). ولكن، ليس رهبة منه ولا أي اهتمام لأن المسيح حتى هذه الساعة لم يكن
مديوناً للعالم ولا لرئيس العالم بخطية واحدة. فإن كان بإرادته يسير إلى الصليب
فهذه علامة حبِّه للآب وطاعة لتنفيذ وصيته!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار