بدع وهرطقات

الخارزماتية



الخارزماتية

الخارزماتية

 

الكنيسة
الأرثوذكسية وحركة الخارزماتيين المعاصرة

أوليفييه
كليمان

تفرض
الحركة “الخارزماتية”، الآتية من أمريكا والتي تنتشر الآن في سائر أنحاء
العالم، تمييزاً دقيقاً للأرواح. إنها تشكل تحدّياً لا بد منه بقدر ما تذكرّ أن
الحياة المسيحية هي، قبل كل شيء، كما يقول القديس سرافيم ساروفسكي، في
“اقتناء الروح القدس”. وإنها لا تكمن، كما يعتقد البعض، في مناقبية
ناموسية أو انتماء إيديولوجي أو ممارسات ثقافية معيّنة، بل هي العيش في نار
العنصرة ونفحاتها…

 

في
عالم مسيحي ينصرف اهتمامه، بشكل خاص، إلى السياسية الاجتماعية، ويتجه فيه الشباب
المتعطش إلى الخبرة الروحية نحو روحانيات الهند والشرق الأقصى، تذكّر
الحركة”الخارزماتية” أن المسيحية هي، قبل كل شيء، “قدرة
الروح”، التي يتكلم عنها بولس الرسول، وتشهد لها “أعمال الرسل” في
كل واحدة من صفحاتها.

 

يأخذ
الأرثوذكسيون، في كثير من الأحيان، على مسيحيي الغرب تقليلهم من أهمية شخص الروح
القدس ودوره. لذلك لا بد لنا من الاغتباط والحمد على تزايد العطش إلى الروح وعلى
كون الروح يظهر حقاً ما عدا بعض المظاهر الشاذة في كثير من المناسبات في أيامنا،ممّا
يدعونا أيضاً إلى التواضع والانتباه.

 

لكن
الحركة “الخارزماتية” تنحو مناحي خطرة، إذ تُبرز غالباً بعض الحوادث
العجائبية التي قد ترتبط بالمجال النفسي أكثر مما ترتبط بالمجال الروحي الصرف…
ويلاحظ أيضاً، في تلك الحركة، اندفاع نحو المثير ولجوء إلى التهرب من الواقع
التاريخي. ويحدث أحياناً أن يجعل أتباع هذه الحركة التركيز على الروح على حساب
الصليب وأن ينسوا كلياً الكنسية “سرّ” المصلوب القائم من بين الأموات.

 

لا
بد من الإِشارة أخيراً إلى أن الحركة “الخارزماتية” ميّالة إلى خلق
العديد من الفرق الصغيرة تجتمع حول “قادة” ينتاب بعضهم نوع من الهيجان
النفسي. بعض هذه الفرق لا تبقى فكثيراً ما تجتمع حول تأثر عاطفي معيّن تزول بزواله
وغالباً ما تصبح هذه الفرق هامشية بالنسبة للكنيسة الكبيرة، أو هي تسعى إلى صدع
وحدتها.

 

لم
تعتقد الكنيسة الأرثوذكسية يوماً أن مواهب الروح قد شحّت بانتهاء العصر الرسولي،
لأن الكنيسة هي رسولية باستمرار، ليس فقط بمعنى خلافة الأساقفة الرسولية، بل لأنها،
بكليتها، مُرسلة إلى البشر لأجل خلاصهم وشفائهم (إذ أن كلمة “رسول” تعني
“المُرسل”). بهذا المعنى كل تاريخ الكنيسة معاش في أعمال الرسل.

 

يظهر
الروحانيون من جيل إلى جيل، حاصلين على مواهب مختلفة: النبوّة، الشفاء، تمييز
الأرواح الذي هو علامة الأبوّة الروحية الحقة. يُدعي هؤلاء “رسوليّين”
لأنهم يرون المسيح في نور الروح ويُرسلون من قبله إلى البشر.

 

لم
تتوقف أبداً هذه الخدمة الخارزماتية. يكفي أن نسمّي، في القرن العشرين،
“الستارتس” سلوان من الجبل المقدس، أو “الشيخ” الأب
أمفيلوخيوس في جزيرة بطمس، وفي أيامنا هذا “الشيخ” الأب باييسيوس من جبل
آثوس، أو في إنكلترا أحد تلاميذ الستارتس سلوان، الأب صفرونيوس…

وقد
اعتبرت الكنيسة الأرثوذكسية إبداع رسّام الأيقونات وكل إبداع جمالي وكذلك خدمة
الطبيب غير المهتم بالفضة (
anargyre)، والالتزام الحكيم المعطاء في السياسة (ليس فقط من مثال
“الأمير القديس” في روسيا (ألكسندر نيفسكي، بوريس وغليب الخ…)، بل
أيضاً في مثال رجال السياسة في مجتمع ديمقراطي، كما أكّد القديس نكتاريوس
الايجيني)، وكذلك حياة السكّاف المتواضعة أو العمل البيتي، كما يشهد على ذلك
العديد من القصص التي كان يرددها آباء الصحراء. اعتبرت كل هذه الأمور كمواهب من
الروح إذ ترفض الأرثوذكسية أي هرب خارج التاريخ. وهكذا، لم تحصر أبداً الكنيسة
الأرثوذكسية، حتى في “العالم المسيحي” (
chrétienté) التي تعدّيناها اليوم، مواهب الروح بالتكريس الرهباني، مع العلم
أن الحياة الرهبانية لعبت في هذا المجال الدور المثالي، ويجب أن تستمر في الاضطلاع
بهذا الدور في أيامنا هذه.

 

من
جهة الثانية، لم يُلفت الانتباه بما فيه الكفاية للنهضة الإزيقية في القرن الرابع
عشر حيث اعتبر القديس غريغوريوس بالاماس ونيقولا كاباسيلاس (وكان علمانياً) أن
نصوص أعمال الرسل والرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس القائلة بأن الاجتماع
الافخارستي هو مكان تدفق المواهب الطبيعي، تنطبق على الجماعة الكنسية كلها.

 

وقد
شدّدت كل الحركات النهضوية في الكنيسة الأرثوذكسية منذ إصدار الفيلوكاليا (مجموعة
من النصوص الروحية لكبار الآباء وقد صدر بعض من مضمونها في “فصول في الصلاة
والحياة الروحية”، سلسلة (آباء الكنيسة) رقم 5، منشورات النور) السنة ال 1800
حتى أيامنا هذه، على الجماعة الأفخارستية كجماعة أحياء. وفي الوقت نفسه أكد
التقليد الأرثوذكسي بشدة على ضرورة التوبة كانقلاب في القلب (
Metanoia) والتواضع واليقظة (nepsis) الرافضة للمثير، والمفضّلة للألم اليومي الصبور في عيش سرّ
الصليب والقيامة، على الإثارات والعواطف الكبيرة. وقد أعطى هذا التقليد، متبعاً
بذلك بولس الرسول، الأوليّة للرأفة ومحبة الأعداء الإنجيليتين.

 

وكذلك
شدّد التقليد على الخبرة الليتورجية كتجاوز للمحدودية والانكماشات الشخصية، للوصل
إلى السلام بواسطة الجمال، حيث لم يعد الإنسان يهتم بذاته بل يُحمل في نهر التسبيح
الكنسي النوراني. من هنا انزعاج المؤمنين الأرثوذكسيين عادة من الصلوات المرتجلة
“العفوية” ومظاهر التعبد العجيبة المثيرة…

 

ولكن
سيكون من الخفة بمكان أن تتجاهل الكنيسة الأرثوذكسية الحركة الخارزماتية أو أن
ترفضها بدون تمييز. يداهم الأرثوذكسية خطر التقوِّية الليتورجية، لذلك يجب أن تكون
الحركة الخارزماتية، بالنسبة لها، بمثابة تنبيه ودعوة لتجاوز الرتابة والروتين.
ليست الأرثوذكسية بحاجة لطعم من الخارج، لكنها بحاجة ماسة إلى إحياء أفعال الروح
القدس الكامنة فيها وإظهارها. حقيقة الكنيسة أن تكون جسد المسيح
“السرّي” حيث تفيض قدرة القيامة، أي مواهب الروح القدس، لأن جسد المسيح
هو “الجسد الروحاني” (
soma
Pneumatikon
)، المتأجج عميقاً بنار
الروح القدس. ولقد اختبر الكثيرون من المؤمنين الأرثوذكسيين انه يكفي بالشيء
البسيط (إذا عبّر عن نهضة كنسية حقيقية) لكي يشعر كل المشتركين بالقداس الإلهي،
مجتمعين (وليس بعضهم فقط في سر قلوبهم)، انهم يعيشون عنصرة متجددة. الذي أعطي لهم
أن يشتركوا في مؤتمرات لحركات الشباب الأرثوذكسي، في مختلف أنحاء العالم، يفهمون
تماماً ما أعني. وهذا ليس بالمستغرب أو العجيب، إذ أنه، بكل بساطة، الشيء الطبيعي
ويجب أن يكون عليه دائماً. وعندئذ يحصل كل واحد على القوة ليصير في حياته اليومية
وفي صراعات المدنيّة والحضارة، الإنسان الليتورجي الذي “يشكر في كل شيء”،
والذي يعي مسؤوليته في ضرورة السعي نحو هذه الصيرورة.

 

يمكن
للحركة الخاروماتية المعاصرة، بالتالي، أن توقظ الأرثوذكسية وتحثها على النهضة،
جاعلة إياها تعي من جديد بعد كنيستنا الروحي النبوي، موجهّة إياها نحو روحانية
خلاقّة.أمّا الأرثوذكسية فيمكنها أن تذكّر الحركة الخارزماتية بضرورة التجذّر في
الأسرار والحياة النسكية. على الحركة الخارزماتية أن تجد ينابيعها الثابتة التي لا
تنضب في الكنيسة بما أن الروح يستقر دائماً على جسد المسيح “السري”. يجب
ألاّ تتوقف هذه الحركة أما المثير لكي تكتشف أن الأمور العادية، في ضوء وجه المسيح
القائم من بين الأموات، تضحي أموراً عجيبة مثيرة. على حركة الخارزماتيين أن تصبح
“فرحاً حزيناً”، لطفاً، رأفة، روحانية خلاقة، تستطيع أن “تُخرج
الشياطين” من التاريخ وتخصبه من جديد. عليها ألاّ تكّف عن مشاهدة سيّد العالم
المصلوب من أجلنا. عندها تكشف، وهي بالفعل أخذت تكشف، أن فجر الروح يبزغ، بماء
المعمودية ودم سر الشكر، من جنب المصلوب المطعون بحربة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار