علم الكتاب المقدس

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

النقد
الأدبي والكتاب المقدّس

يخبر
سفر أعمال الرسل (8: 26- 34) أنّ فيلبس، أحد خدّام الكلمة السبعة، كان سائرًا في
الطريق التي تمتد من أورشليم إلى غزة، فصادف وزير مملكة الحبشة وضعه يقرأ في سفر
أشعيا النبي، فتقدّم إليه وسأله: “هل تفهم ما تقرأ”؟ فأجاب الوزير:
“كيف أفهم إن لم يرشدني أحد؟ إن لم يشرح لي أحد هذه الكلمات: كشاة سيق إلى
الذبح، كحمل صامت بين يدي من يجزّه، هكذا لا يفتح فاه ” (أش 53: 7). وبدأ
فيلبس من هذه الآية يبشرّه بيسوع.

ونحن،
هل نفهم الكتاب المقدّس عندما نقرأه؟ هذه الأسفار التي كتُبت منذ ألفين أو ثلاثة
آلاف سنة، هل نفهم ما تعني ونعرف كيف الوصول إلى معناها؟ في هذا السبيل سنتوقّف
على ما يسمّى النقد الأدبي، ونطبّقه على الكتاب المقدّس حاصرين موضوعنا في أسفار
العهد القديم، على أن نعود في ما بعد إلى النقد الأدبي والعهد الجديد، ثم إلى
طريقة تفسير العهد القديم على ضوء العهد الجديد.

 

أ-
النقد الأدبي بالمعنى العامّ

إذا
فتحنا القاموس قرأنا أنّ النقد هو تمييز الأمور والنظر إليها لمعرفة جيّدها من
رديئها. أمّا نقد الكلام فهو إنعام النظر فيه لإظهار ما فيه من المحاسن والعيوب.
فالنقد هو حكم وفصل في كتاب من الكتب. والنقد الكتابي هو مجموعة أحكام وآراء
نبديها في نص الكتاب المقدّس، في الفنون الأدبية التي استعملها الكاتب الملهم، في
القيمة التاريخية لهذه النصوص. وفي عملية النقد هذه يجب أن نتذكّر أنّ الكتاب
المقدس هو عمل إلهي وعمل إنساني معًا: الله يوحي ويلهم، والإنسان يتكلّم ويكتب. في
النقد الكتابي لا نحكم على صحّة كلام الله وصدقه، حاشا! بل نتطرّق إلى ناحية
الكتاب الإنسانية، وهدفنا من ذلك أن نجعل النص المكتوب بين أيدينا شفافًا، فنصل من
خلاله إلى كلام الله.

والنقد
الكتابي على أنواع. النوع الأوّل هو نقد النصوص أي تصويبها وتصحيحها بدقة انطلاقًا
من المخطوطات القديمة المتعدّدة، لنصل إلى نص يرضي عقلنا وقلبنا بمعانيه (هنا نعرف
الجيد من الرديء). وهذا يفترض الرجوع إلى النصوص العبرانية ومقارنتها بعضها ببعض
وبالترجمات الآرامية والسريانية واللاتينية والقبطية، لاستخلاص المعنى الأقرب إلى
المنطق والعقل.

والنوع
الثاني هو النقد التاريخي أي إبداء الرأي في مضمون الأسفار المقدسة انطلاقًا من
المعطيات التاريخية والجغرافية والاركيولوجية التي في حوزتنا. وما يساعدنا على ذلك
هو الاكتشافات العديدة التي تمّت في القرنين التاسع عشر والعشرين، في نوزو في
العراق، وماري على الفرات، وأوغاريت (راس شمرا) شمالي اللاذقية، وتل العمارنة في
الدلتا المصرية، وغيرها.

والنوع
الثالث هو النقد الأدبي الذي يبحث في الفنون الأدبية الخاصة بكل كتاب، فييسّر لنا
أن نفهم كل نص ونشرحه ونصل إلى معناه العميق متجنّبين الوقوع في الخطأ.

تحدّثنا
في الفصل السابق عن الوحي والإلهام في الكتاب المقدّس. ونقول الآن، قبل أن نتوسّع
في الحديث، إنّ الإلهام يفرض علينا أن نُدخل معطيات النقد الكتابي في عملنا ليكون
تأويلنا للنصوص مقبولاً، فنستفيد من كل وسائل عقلنا وطاقاته لنفهم فهمًا دقيقًا هذه
اللغة البشرية التي تحمل إلينا كلام الله.

نأخذ
مثالاً على ذلك سفر الخروج الذي يروي خروج العبرانيين من أرض مصر بعد حياة من
العبودية هناك، وعبورهم البحيرات المرّة الواقعة آنذاك بين البحر الابيض المتوسط
والبحر الأحمر، وتجوالهم في برية سيناء قبل الوصول إلى أرض كنعان. كيف يصل شرّاح
الكتاب المقدّس إلى فهم هذا النص فهمًا كافيًا وافيًا؟

في
المرحلة الأولى، ينطلقون من النص العبراني الماسوري الذي أثبته علماء اليهود
ابتداء من القرن السابع بعد المسيح، فيعملون على ترجمته معتمدين على معرفتهم
لقواعد اللغة العبرية، مستفيدين من إلمامهم باللغات الشرقية كالعربية والآرامية
والسريانية وغيرها. فإن لم يصلوا إلى معنى يرضى به العقل، يلجأون إلى الترجمات
الآرامية.. ليستخلصوا من هذه الآية أو تلك النص الجيّد دون الرديء.

في
المرحلة الثانية ينطلقون من المعنى الذي توصلوا إليه ويقارنونه بما يعرفون من
كتابات مصر في تلك الفترة التي أقام فيها بنو اسرائيل في مصر (القرن الثالث عشر ق.
م.). فنحن نعرف اسم الملك الذي سخّرهم في بناء المدن الحصينة (يبدو أنّه رعمسيس
الثاني، 1290 – 1224)، ونعرف أنّ سكّان مصر في تلك الحقبة كانوا بين ثلاثة وخمسة
ملايين على وجه التقريب، ونعرف الطريق التي سلكها العبرانيون لما هربوا من أرض
مصر، ونتصوّر أن الحامية التي كانت هناك، أرادت اللحاق بهم فغاصت عجلات مركباتها
في الرمال أو في الأوحال. ولكن عندما نقرأ سفر الخروج لا نجد ذكرًا لاسم الملك سوى
أنه الفرعون، عدو الله وعدو الشعب، يعاند الله متكبرًا فيعاقبه العليّ بقتل ابنه
البكر ونقرأ أن العبرانيين كانوا عند خروجهم من أرض مصر ست مئة ألف رجل (خر 37:
12) ما عدا النساء والأطفال، ومع ذلك فقد خافوا من جيش مصر الذي كان يتراوح عدده
في ذلك الوقت بين 25000 و30000 جندي! ونقرأ أنّ ملك مصر ذاته لحقهم بست مئة مركبة
من أفضل مركباته المجهّزة (7: 14) فغرقت بمن فيها. ولم يبق أحد ليخبر بما جرى (28:
14)..

بعد
هذه الملاحظات وغيرها نتساءل: كيف نستطيع أن نفهم هذا السفر وغيره من أسفار الكتاب
المقدّس؟ فنجيب: على شارح الكتاب المقدّس أن يرجع إلى النقد الأدبي. هل هو أمام
كتاب تاريخي يروي الاحداث بالدقة التي نعرفها اليوم، أم أمام كتاب ملحمي ينطلق من
واقع بسيط عاشه الشعب، فيأخذ في تضخيم الأمور وزيادة الأعداد؟ وملاحم شعب الله
تختلف عن ملاحم سائر الأمم. فعند الرومان واليونان كانت تُكتب الملاحم لتمجيد
الشعوب والأبطال؟ أمّا في الكتاب المقدّس، فالملاحم تُكتب لمجد الله القدير الذي
خلّص شعبًا من العبودية بانتظار أن يخلّص البشريّة كلّها من عبوديّة الشرّ
والخطيئة والموت.

ونسارع
إلى القول إنّ النقد الأدبي الصحيح يفرض علينا أن نتجاوزه، وإنّ التفسير العلمي
المحض يكون عقيمًا إن لم يتعدّ نطاقه. فغاية كلام الله ليست في الأصل تزويد أبحاث
المؤرّخين وفلسفة المفكّرين بالمعارف والمعلومات، بل هي تغذية إيمان البشرية
وحياتهم الدينية ليدخلوا في حوار مع الله فيسمعوا له ويعبدوه حافظين وصاياه
وتابعين إلهاماته. لقد كان وقت قرأ فيه العديدون الكتاب المقدّس للبحث عن مراحل
تطوّر الفكر في عالم الشرق! وتكوّنت كذلك تيارات قرأت في قصّة الخلق، كما كان
ينشدها الكهنة في الهيكل (تك 1: 1- 2: 4)، مراحل تكوين الكون، فقالوا إنّ الكون
خلق في ستة أيّام وتكوّن على ست مراحل، ونسوا أنّ الكاتب المُلهم دوّن بلغة زمانه
وتعابير أبناء عصره حقائق دينية تتعدّى زمانه وعصره. فلما دوّنت قصة الخلق هذه
حُعلت في إطار ليتورجي: يعلن المترئس أنّ الله خلق السماء والارض، فتجيب جوقة
أولى: ورأى الله ذلك إنّه حسن، وتجيب جوقة ثانية: وكان مساء وكان صباح. إذًا لم
يَرُم الكاتب أن يُعطينا بحثًا علميًا، بل نشيد صلاة ينشد عظمة الله في الكون
وعنايته بكل مخلوقاته، ولاسيّما بالإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله.

لا
شكّ في أنّنا نطّلع على أمور جغرافية ترشح من هذا النص (الكواكب، النبات،
الحيوان)، وعلى طريقة الإخبار عند الكاتب الملهم الذي جمع عمل الخلق في ستة أيّام
ليركّز على اليوم السابع الذي هو يوم راحة للرب والإنسان، ويوم صلاة يرفع الإنسان
فيه الخليقة كلّها إلى الله في نشيد شكر له. وإنّنا نعرف كذلك أنّ الاقدمين كانوا
يعتقدون أن المياه تُحيط بالكون، وهو يشبه القبة، من جوانبه الأربعة. ولكنّنا نعلم
أيضاً أنّ الله هو سيّد السماء والأرض والبحار لأنّه هو الذي خلقها: قال فكان كلّ
شيء، وأمر فكان كل موجود. وهكذا، فإن قرأنا هذا النص الكهنوتي عن الخلق كما نقرأ
كتابًا من كتب الجغرافيا، فلن نفهم منه شيئًا، أمّا إذا قرأناه كنشيد ليتورجي يدخل
في صلاة المؤمنين أمورًا عديدة عن الخلق، فنكون قد ولجنا أعماقه ودخلنا في ما قصد
إليه الكاتب الملهم الذي يهمّه أول ما يهمّه التعبير عن إيمانه بلغة أبناء عصره.
ونحن سننطق قدر المستطاع من “لغة” تلك العصور لندخل في تيّار الإيمان
هذا. غير أنّ النظرة الإيمانية التي نصبو إلى إدراكها تبقى بعيدة عن متناولنا لو
لم يقم علماء اهتمّوا بالنقد الكتابي وأعطونا حصيلة علومهم وأبحاثهم.

 

ب-
النقد الأدبي بالمعنى الخاصّ

إنّ
النقد الأدبي يُعنى بطريقة خاصة بالفنون الأدبية على أنواعها، الشعر والنثر والقصة
والنبوءة والمثل، فيساعدنا على فهم موضوع الأسفار المقدّسة، الذي هو سرّ خلاص الله
في البشر.

ومهما
توصّلنا إلى الدقة في النصوص الكتابية الأصيلة، فلن نحصل على نتائج ثابتة دون
الرجوع إلى مضمون النصوص، وهذا ما ذكرناه عندما نوّهنا بأهمية معرفة اللغات
القديمة وأوّلها العبرية. ولقد تمّ اليوم ذلك بفضل القواميس المتعددة وكتب الصرف
والنحو، فهّدت لنا الطريق لمعرفة بنية الكتاب والمناخ الذي تتحرَّك فيه فكرة
الكاتب. وعلينا بعد هذا أن نطّع على الظروف العلمية والسياسية والاجتماعية التي
أحاطت بهذه النصوص يوم دوّنت. وهذا النوع من الأبحاث لا يتنافى وإيماننا بالوحي،
كما سبقنا وقلنا. فماذا كان الكلام الذي أوحى به الروح القدس هو الذي دوّنه الكاتب
الملهم، علينا أن نبحث بدقّة عما يعنيه هذا الكلام. ولهذا، فالاطلاع على الوسائل
الادبية إلى لجأ إليها الكاتب، يساعدنا على الدخول بطريقة أعمق في كلام الله.

وفي
هذا الصدد قال قداسة البابا بيوس الثاني عشر في رسالته “بفيض الروح
الإلهي” (سنة 1943) التي تنوّه بأهمية نقد النصوص وضرورة تعلّم اللغات
القديمة وقيمة المعنى الحرفي والفنون الأدبية: “ما عناه الكتّاب بكلامهم لا
تحدّده فقط قواعدُ الصرف والفقه والقرينة. فعلى شارح الكتاب المقدّس أن يرجع بالفكر
إلى تلك العصور القديمة في الشرق، فيستعين بثروات التاريخ والأركيولوجيا
والإثنولوجيا وغيرها من العلوم، ليميّز ويعرف الفنون الأدبية التي لجأ إليها
الكتّاب في القديم. لقد عبّروا عما في فكرهم بطرق غريبة عنا ومألوفة لدى أهل
بلادهم وعصرهم، فلا يستطيع مفسّر الكتاب الوصول إلى تحديد هذه الفنون الادبية إلاّ
بدراسة حريصة لآداب الشرق القديم. ولقد بدأت هذه الدراسة في السنوات العشر
الإخيرة، ولا تزال تتتابع بهمة وعناية، فأبانت بطريقة أوضح وسائل الكلام التي
استعملت في تلك الأيّام القديمة في التصوير الشعري وفي ذكر الشرائع وقواعد الحياة
اليومية وفي سرد وقائع التاريخ وأحداثه “.

إن
لم نطّلع على الفن الأدبي في النصوص التي نقرأها تكون معرفتنا ناقصة. وإن حصرنا
معرفتنا في الفن الأدبي ضاع المعنى اللاهوتي. فاذا قرأنا مثلاً مز 29 أحسسنا حالاً
أنّ الكاتب يُعنى بظهار عظمة الله وقدرته. ولكن عندما نعلم أنّ موضوع المزمور هو
العاصفة وفيها صوت الله كالرعد وقوّته التي تحطم الأشجار الباسقة في لبنان دون أن
تمسّ أرض الميعاد، ندرك أنّ المرتّل أراد بذلك أن يدلّ على حضور الرب الحامل
السلام لشعبه والآتي ليدين المتكبّرين والأشرار، ونفهم أنّه يطب من المؤمنين حياة
أخلاقية لا عيب فيها، فإن لم نتب فسوف نهلك جميعنا.

نذكر
مثلين من سفر يشوع بن نون لنستدلّ على أهمّية معرفة الفن الأدبي الذي يساعدنا بعد
ذلك على الدخول في المعنى اللاهوتي للنص الكتابي. ففي الفصل السادس يروي الكاتب
الملهم سقوط أريحا، ولكنّه لا يقول كلمة واحدة عن الأعمال الحربية التي قام بها
العبرانيون. هل دخلوها عنوة أم بالحيلة؟ هذا ما لا يقوله الكتاب الذي يكتفي بإفهام
الشعب أنّ أريحا العظمى لم تسقط بفعل البشر بل بفعل الله. ولهذا فهو يعمد إلى
تصوير الطواف حول المدينة برفقة تابوت العهد، رمز حضور الرب وسط شعبه، ولا يذكر من
عالم الحرب إلاّ الجبابرة الأشداء وبوق الحرب والدخول إلى المدينة لنهبها. ولقد
كان العبرانيون المقيمون في أرضهم يتذكرون كل سنة ما عمله الله لأجلهم، فيطوفون
حول المدينة ليشكروا لله إنعامه ويمدحوه على أفضاله. ولما كتب نص احتلال أريحا لم
يبقَ ظاهرًا إلا الوجهُ الليتورجي، واختفى الوجه الحربي.

ونقرأ
المثل الثاني في الفصل العاشر من السفر عينه، حيث يروي الكاتب حرب يشوع مع الملوك
الخمسة كيف أوقف الشمس والقمر لينهي الحرب. “يا شمس قفي على جبعون، ويا قمر
اثبت على وادي ايلون. فوقفت الشمس وثبت القمر إلى أن انتقم الشعب من أعدائهم”
(يش 10: 12- 13). ونتساءل: أما نحن أمام شعر كانت تنشده الصبايا عند المساء؟
فلماذا إذًا نقرأه وكأنّه واقع من التاريخ؟ في عُرف الكاتب الملهم، تمّت الحرب على
يد الله الذي أنزل البرد حجارة على أعداء يشوع فهلك من هلك وهرب من هرب، فانتصر
بنو إسرائيل. إنّ النواة التاريخية لهذا الحدث هي حرب وقعت بين يشوع وحلفائه أهل
جبعون، من جهة، والملوك الخمسة من جهة أخرى، فانتصر رجال يشوع وحلفاؤهم. غير أنّ
الكاتب الملهم أراد أن يضخّم عمل الله من أجل شعبه، فضخّم دور البرَد وحسب هذه
المصادفة تدخلاً عجيبًا من قبل الله. أمّا نشيد الشمس فهو شعر ملحمي أقحمه الكاتب
في الخبر فحسبناه قسمًا منه. ولكن لماذا الحاجة إلى نهار طويل بعد أن زحف يشوع على
الأعداء بغتة عند طلوع الفجر فضربهم ضربة عظيمة وهزمهم؟ ذكر الكاتب البرَد وهو
سلاح الله يضرب به الأموريين (الأعداء) ولا يمسّ العبرانيين (رج 9: 23- 26)، وذكر
الشمس التي تطيع أوامر الله بناء على طلب يشوع، فدلّ بذلك على أن الله عندما
يتدخّل ينادي الطبيعة، وهو سيّدها وخالقها، فتأتمر بأمره. وهكذا بيّن لنا عبر حادث
جرى ليشوع أنّ الرب هو السبب الأوّل للنصر، وأنّ يشوع ورجاله كانوا أداة بين يدي
الله (مع البرَد والشمس) فدحر بهم الأعداء.

إنّ
الكاتب الملهم يعدّ كل ما يحدث وكأنّه يحدث بفضل الله، كل ما حصل عليه يشوع منّة
من الله. ولكن كيف عبّر عن تدخل الله هذا؟ استفاد من النشيد الليتورجي والشعر
الملحمي والرواية المضخّمة التي تجمع عمل الله وعمل الإنسان، فأعطانا آية في
الإخبار العجيب والسرد الفريد.

قدّمنا
هذه الأمثال لندل على أهمية الفن الأدبي في فهم نصوص الكتاب المقدّس والدخول في
معانيها. ولقد توصّلنا إلى اكتشاف هذه الفنون الأدبية انطلاقًا من آداب الشرق
القديم، لذلك سوف نسرد بعض عناوين آداب الشرق القديم لنعطي القارئ فكرة عن هذا
العالم الغني الذي ظهرت آثاره في الأسفار المقدّسة وفي كل ما تركت لنا الحفريات من
كتابات في الشعر والنثر والقصص والشرائع والملاحم.

 

ج-
الفنون الأدبية في الشرق القديم

نعود
إلى الفنون الأدبية فننظر إلى الطرق التي توسّلها الكاتب ليفكّر ويتكلّم ويكتب،
وهي تختلف باختلاف المحيطات. وقد يظن دارسو الآداب عندما نتكلّم عن الفنون الأدبية
أنّنا نبحث عن النواحي الجمالية في النصوص التي نقرأها، بينما يهمّنا أن نكتشف
العلاقة بين طريقة التعبير التي استعملها الكاتب والحقيقة التي عبّر عنها. نحن
ندرس هذه الفنون الأدبية لنُظهر التعليم الذي قصده الكاتب من خلال كتاباته.

في
ما يلي بعض الفنون الأدبية التي وصلت إلينا من الشرق القديم.

لقد
وصل الينا من بلاد الرافدين الكثير من آداب السومريين والاكاديين (نعرف تاريخهم
منذ سنة 4500 ق. م.). نجد وثائق من الحياة اليومية تتناول أمورًا اقتصادية أو
إدارية، كالإحصاءات واللوائح والإيصالات، أو أمورًا تشريعية وقانونية، كعقود
الإيجار والبيع والتبنّي، أو كمحاضر المحاكم ومجموعات القوانين. وهناك كذلك رسائل
بين دولة ودولة وبين شخص وشخص، ومجموعات خاصة بالكتبة وطريقة عملهم. ونجد أيضاً
مجموعات عن علم الفلك والحساب، ونصوصاً عن الطب وعالم السحر والرقية وأعمال
الكهانة. ووصل إلينا خصوصاً أساطير عن وضع الإنسان في الكون وعلاقته بالآلهة، منها
“نشيد الخلق” و”ملحمة جلجامش ” و”ادافا وايتانا”، كما
وصل إلينا الكثير من الامثال والحكايات التي تدخلنا في عالم الحكمة
و”الفلسفة”.

أمّا
مصر (بدأ تاريخها قبل الألف الثالث ق. م.) فقد أورثتنا أنواعًا من الأدب. فهناك
آداب الموتى وهي تحوي نصوصاً وُجدت في الأهرام أو النواويس، ومنها “كتاب
الموتى” (الالف الثاني ق. م.) و”الدليل إلى الآخرة” (كتاب الأموات.
كتاب الأبواب، كتاب للعبور إلى الأبدية). وهناك آداب تتعلّق بالدين والطقوس والسحر
وُجدت مكتوبة على جدران الهياكل. وهناك الآداب الحكمية التي وصلت الينا عبر هذا
الملك أو ذاك الوزير في قصة من السماء أو حكاية من الحكايات أو مجموعة أمثال، نذكر
منها على سبيل المثال “شكوى الفلاّح المتألّم” و”نبوءة إفوير”
و”حوار الإنسان مع نفسه” (بعد أن تعِب من الحياة). كل هذه النصوص فيها
من المعاني ما يجعلها تلتقي وسفر أيوب. وهناك أيضاً “حكمة أمينوفي” التي
أثّرت في قسم من سفر الأمثال، وبعض الأخبار التي تذكّرنا بقصة يوسف بن يعقوب أو
بموسى كليم الله، والكتابات التاريخية وفيها الحوليات التي تذكر أعمال الفراعنة
سنة بعد سنة، وفيها الأوامر والمراسيم كتكريس هيكل أو تعيين حاكم، وفيها سيرة أحد
الملوك أو الحكام. وهناك نصوص عن عالم الحب، ونصوص عن عالم النقد والهجاء، ونصوص
عن عالم الطب والرياضيات والفلك.

وأمّا
في سورية ولبنان فلا نجد من الغنى ما نجده في بلاد الرافدين ومصر الفراعنة. لقد
اكتشفت بعض النقوش باللغة الآرامية أو الفينيقية، هنا وهناك، على قبر ملك أو أمير،
أو على مسلّة رُفعت تمجيدًا لبعض العبء (ميشع ملك موآب، زكير ملك حماة..). غير أنّ
أُوغاريت (راس شمرا) التي اكتُشفت سنة 1929 تركت لنا مكتبة واسعة تحتوي على رسائل
ووثائق دبلوماسية وادارية، وعلى لوائح الآلهة والملوك، وعلى كتب طقوس حول الولادة
والزواج، وخاصة أسطورة ملحمية عنوانها “بعل وعنات”. إنّ معرفتنا بالنصوص
الأوغاريتية ساعدتنا كثيرًا على فهم صوَر وتعابير من الكتاب المقدّس، لأن العبرية
والاوغاريتية لغتان شَقيقتان تتفرعان من الكنعانية وهي إحدى اللغات السامية.

لماذا
ذكرنا كل هذه المعلومات؟ لنعرف، ونحن أبناء الشرق، الغنى الأدبي الذي ورثناه عن
آبائنا منذ آلاف السنين ق. م.، ولنتمكّن من مقارنة هذه الفنون الأدبية التي ذكرنا
بعضها بالنصوص الكتابية، فنفهم كيف استقى الكاتب الملهم الكثير من الأفكار
والسُطُر ثمّ جعلها في إطار من التوحيد بعد أن أقصى كل ما يشتم منه رائحة الشرك
وتعدّد الآلهة.

 

د-
الفنون الأدبية في الكتاب المقدّس. العهد القديم

إهتم
الشرّاح منذ زمن بعيد بالفنون الأدبية في النصوص الكتابية، ولكنّ الإكتشافات التي
تحدّثنا عنها، ساعدت كثيرًا على تنظيم هذه الفنون في لوائح منسّقة.

نبدأ
أوّلاً فنميّز التقليد الشفهي عن التقليد الكتابي. نحن نعرف أهمّية التقليد الشفهي
في عالمنا الشرقي حتّى في أيّامنا هذه. فاذا وضع الكاهن إعلانًا على باب الكنيسة
لا يقرأه وينتبه إلى مضمونه إلاّ بعض المؤمنين، أمّا إذا تلاه على مسامع الحاضرين
فعدد المطّلعين عليه يصبح ضعفًا أو ضعفين. والكلمة المحكية كلمة حية تعمل كالسحر
في القلوب وتحلّ محل الفعل. والتقليد الكتابي مهمّ جدًا، ونحن نعرف دور الكتابة
التي اكتشفت حروفها في فينيقية في الألف الثاني ق. م. وانتشرت من هناك حتى الشرق
والغرب، إلاّ أنّ هناك نصوصاً عديدة ظلّت تنتقل شفهيًا مدى أجيال وأجيال، كما أنّ
التقليد الشفهي لم يتوقّف عندما انتقل الكلام إلى التقليد الكتابي ليصبح نصًّا
جامدًا متحجّرًا لا تتبدّل فيه كلمة أو حرف.

التقليد
كائن حيّ يتطوّر دومًا تبعًا لظروف البلاد وحالات النفس عند الأفراد والجماعات.
نعطي مثالاً على ذلك مز 51. تلاه مريضٌ متألّم أحسّ بوطأة خطيئته على قلبه فطلب
إلى الرب قلبًا نقيًا وروحًا مستقيمًا. ولكن لمّا تلا هذا المزمورَ المؤمنُ العائد
من المنفى، بعد أن هُدمت مدينة أورشليم واحترق هيكلها، زاد بعض الكلمات طالبًا إلى
الرب أن يعمل على بناء المدينة وأن يعود إلى الهيكل مركز حضوره بين شعبه ليتقبّل
الذبائح الكثيرة التي ستقدّم له. لم يتغيّر معنى النص الأساسي، لكن اتّسعت أبعاده
فضمّ الجماعة والفرد في صلاة واحدة، وجعل حاجات الفرد حاجات الجماعة، وتطلّعات
الجماعة تطّلعات الفرد.

هذا
التقليد الحيّ نجد آثاره الكثيرة في النصوص التشريعية والتاريخية والليتورجية،
والأمثال على ذلك كثيرة. نكتفي منها بذكر الوصية القائلة بتقديس يوم الرب
والامتناع عن العمل فيه. أيكون الرب استراح في هذا اليوم وطلب من المؤمن أن يقدّس
يوم الراحة ويخصصه للصلاة والعبادة؟ أيكون الرب خلّص شعبه من العبودية في مصر
وحرّرهم من العمل المتواصل، فعلّمهم الراحة يومًا في الاسبوع وفرض عليهم أن يسمحوا
لعبيدهم بالراحة كذلك يومًا في الأسبوع فيتنفسوا الصعداء؟ الوصية هي هي، أمّا
التعليم المتعلق بالوصيّة فيتبدّل ويغتني تبعًا لظروف الحياة وحالاتها.

نحن
نتكلّم عن التقليد الشفهي والتقليد الكتابي، لا لنفصل بينما، بل لنعلم أنّ في
النصوص تردادات، وكدت أقول تضاربًا حول بعض المعلومات. نفسّر هذا الواقع فنقول إنّ
الكاتب الملهم الذي أعطانا الكتاب بالصورة النهائية التي نعرفها، حسِب أنّ التقليد
الشفهي والتقليد الكتابي كلاهما كلام الله، فجمعهما ولم يشأ أن يضيع شيء منهما.
وكانت النتيجة أنّنا خسرنا التسلسل المنطقي والمنظّم ولم تعد الفكرة واحدة في النص
الواحد (رج تك 6- 9 حيث تتداخل روايتان عن الطوفان)، ولكنّنا ربحنا غنى التقاليد
المتعدّدة التي تسعى إلى الإحاطة بكلام الله بطرق مختلفة. على هذا النحو ركّز
التقليد اليهوهي (يسمى الله “يهوه”) الذي وُلد في مملكة الجنوب (عاصمتها
اورشليم) على أنّ الله قريب منا يحدّث الإنسان كما يحدّث المرء صاحبه. وكز التقليد
الألوهيمي (يسمّى الله “الوهيم” وهو جمع “ايل “) الذي وُلد في
مملكة الشمال (وعاصمتها السامرة) على أنّ الله يحدّث الإنسان من العلاء. التقليد
الأوّل يقول إنّ الله قريب من الإنسان، والتقليد الثاني بقول إنّ الله بعيد
متسامٍ. طريقتان صحيحتان للتكلّم عن الله، فأيّهما نختار؟ الأمر متروك لقلب كل
إنسان.

 

ه-
الفنون الشعرية

كما
ميّزنا التقليد الشفهي من التقليد الكتابي، نميّز الفنون الشعرية من الفنون
النثرية. هناك الفنون الشعرية البدائية التي تدخل في أسفار الكتاب المقدّس، منها
نشيد العمال (نحميا 4: 4، 5) يستحثّ بعضهم بعضاً على السرعة في العمل (عد 17: 21
ي)، واشعار الهجاء (أش 47: 1 ي) والشرب (أش 22: 13) والحب (اش 23: 16) والرثاء
والبكاء (2 صم 1: 17+ 33: 3) والحرب (1 صم 18: 7. قتل شاول ألوفه وداود عشرات
ألوفه)، ونشيد الأمّهات ينجبن طفلاً: حواء التي اقتنت ولدًا من عند الرب (تك 4:
1)، وسارة التي فرحت بإسحق ففرح لفرحها كل من سمع بخبرها (تك 7: 21). وتشمل هذه
الفنون كذلك المقاطع التي تحمل بركات الآباء إلى أبنائهم وأحفادهم، كبركة نوح لسام
ويافث (ولعنته لكنعان بن حام. رج تك 25: 9- 27) وبركة اسحق ليعقوب (تك 27: 28- 29.
راجع ما قاله اسحق لعيسو في آ 38- 40). بهذه المقاطع يرتبط ما قاله الرب لآدم
وحواء والحية (تك 3: 14- 19)، كما يرتبط نشيد الاناشيد بعالم الحب الذي عرفته بلاد
مصر وأدوم وموآب.

كل
هذه الأشعار والأناشيد تعدّنا لنسمع المزامير، ذلك النوع من الشعر الغنائي الذي
كان يُنشدَ حول مراكز العبادة. في هذه المزامير نجد المدائح لمجد الله، والشكر له
على إنعاماته، والبكاء والتفجع بعد نكبة ألّمت بالشعب، والصلاة والتوسّل في ساعات
المرض والأخطار. يُنشد المرتّلون للإله الذي خلّصهم من الضيق يوم كانوا في
العبودية (مز 113 و114)، والإله الذي خلق كل شيء وخلق خصوصاً الإنسان وجعله رفيعًا
ساميًا (مز 8). “باركي يا نفسي الرب، لأنّه خلق النور والمياه، واهتم بالنبات
والحيوان والإنسان، فما أعظم أعماله ” (مز 104). ويرفع المؤمنون صلاتهم إلى
الإله القريب الحاضر في وسط شعبه بشريعته ووصاياه، والممجَّد في هيكله: الله يعلم
جلوسنا وقيامنا، ويعرف كلامنا الذي على لساننا وفكرنا الذي في قلبنا (مز 139)،
ويشبع عطشنا اليه (مز 42) وينيرنا بكلمته التي هي مصباح لخطانا ونور لسبيلنا (مز
119). ونسبّح الرب لأنّه الملك المالك على العالم (مز 96) الذي يفي بوعده لمحبيه
وحافظي وصاياه (مز 89). ونسأل الرب في المرض والضيق والخطيئة، وعندما يقهرنا الظلم
ويشتّتنا العنف فنصبح منفيين في الأرض: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟ في النهار
أدعو فلا تجيب، وفي الليل فلا تحرّك ساكنًا” (مز 22)، “إرحمني يا الله
كعظيم رحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ ذنوبي” (مز 51).

لقد
استقى شعب الله وأتقياؤه الصور العديدة والتشابيه المختلفة ليعبّروا بها عن
عواطفهم نحو الله بطريقة شعرية. ونحن سنأخذ روح هذه الأناشيد فنجعل من صلاة
المصلّين في الهيكل صلاتنا نحن المؤمنين في نهاية القرن العشرين.

والفن
الشعري يظهر أيضاً في المثل، أكان قصيرًا كما في سفر الأمثال (7: 18. فمُ الجاهل
دماره، وشفتاه شرك لنفسه)، أم طويلاً كما في سفر أيّوب الذي هو مثل عن البار
المتألم. وما يهمّنا من الأمثال هو طريقة التوازي حيث الجُمَل تتجاوب الواحدة مع
الأخرى: “ميزان الغش رجس عند الرب، والمعيار الوافي مرضاته. سلامة المستقيمين
ترشدهم، وفساد الغادرين يدمرّهم ” (أم 11: 1- 3).

ويظهر
الفن الشعري كذلك في الكتب النبوية، وهو نبع غزير نكتفي منه بمقطع من سفر هوشع (2:
4- 25)، ذلك النبي الذي عاش في مملكة الشمال في القرن الثامن ق. م. وتحدّث عن محبة
الله لشعبه التي تشبه محبة العريس لعروسه:

إتّهموا
أُمّكم إتهموها، فما هي امرأتي ولا أنا رجلها.

لتنزع
علامات زناها عن وجهها، ودلائل فسقها من بين ثدييها،

لئلاّ
أفضحها وأُعرّيها، وأردّها كما كانت يوم وُلدت،

وأجعلها
كقفر، كأرض قاحلة، وأُميتها بالعطش.

بنوها
لن أرحمهم، لأنهم أبناء زنى،

لأن
أُمهم زنت، والتي حبلت بهم أتت أعمالاً معيبة.

قالت
في نفسها: أسير وراء الذين أحببت،

أعطوني
خبزي ومائي، صوفي وكتّاني، زيتي وشرابي.

لذلك
سأُسيّج طريقها بالشوك، وأُحوّطه بحائط فلا تجد سبيلها،

فتتبع
الذين أحبّت ولا تلحق بهم، وتبحث عنهم فلا تجدهم،

فتقول:
أرجع إلى رَجلي الأوّل، فقد كنت أسعد مما أنا الآن.

هي
لم تعرف أنّي أنا أعطيتها القمح والخمر والزيت،

وأنّي
أكثرت لها الفضة والذهب، فجعلوا كل هذا للبعل.

لذلك
سأعود وآخذ قمحي في آنه وخمري في حينه،

وأنزع
عنها صوفي وكتّاني اللذين تستر بما عورتها.

فاكشف
خزيها أمام من أحبّت، وما من أحد يُنقذها من يدي.

وأُبطل
كل فرحها وأعيادها، رأس الشهور وسبوتها واحتفالاتها،

وأُدمّر
كرمها وتينها بعد أن قالت: هما هبة لي من الذين أحببت،

وأُصيّرهما
غابًا وعرًا، فيأكلهما وحش البرية.

وأُعاقبها
على أيام البعل، وقد أحرقت له البخور،

تزينّت
بأساورها وحليّها، وتبعت الذين أحبّت،

أمّا
أنا فنسيتني، يقول الرب.

لذلك
سأغويها وأجيء بها إلى البرية وأُخاطب قلبها.

من
هناك أعطيها كرومها، ووادي عكور كباب للرجاء،

فتستجيب
لي هناك كما في صباها، كما في يوم صعودها من أرض مصر.

وفي
ذلك اليوم، يقول الرب، تدعينني “زوجي” ولا تدعينني بعد
“بعلي”،

لأنّي
سأُزيل اسم البعل من فمها، فلا يذكر اسمه من بعد.

وفي
ذلك اليوم، أقطع لها عهدًا مع وحش البرّية وطير السماء ودواب الأرض،

وأكسر
القوس والسيف، وأزيل الحروب من الارض، فأجعلها تنام في أمان.

وأتزوّجك
إلى الأبد، أتزوّجك بالصدق والحق،

أتزوّجك
بالرحمة والأمانة، فتعرفين الرب.

وفي
ذلك اليوم، يقول الرب، استجيب للسماء والسماء تستجيب للأرض،

والأرض
تستجيب للقمح والخمر والزيت، وهذه كلها تستجيب ليزرعيل.

وأزرعها
لي في الأرض، وأرحم مَن لم تكن مرحومة

وأدعو
شعبي مَن لم يكن شعبي، وهو يقول لي: أنت إلهي.

إنّ
السؤال المطروح هو: أي إله سيعبد بنو إسرائيل؟ الرب سيّد التاريخ الذي أخرج شعبه
من أرض مصر وما زال يعتني به في أرض كنعان، أم الإله (بعل) الذي يعطيه الشتاء
والإلاهة (عشتار) التي تعطيه الخصب؟ قالوا: الرب هو إله الصحراء، أمّا البعل فهو
إله الأرض المزروعة. ولهذا كتب النبي موبّخًا الشعب الذي خان الرب وعبد البعل،
ومشبّهًا إيّاه بالمرأة الزانية (فجاءت الصوَر واقعية جدًا)، ومشيرًا إليه بإصبع
الاتهام.

يُلقي
الرب على امرأته (أي شعبه) اتّهامات ثلاثة: فلقد تبعت (الآلهة) الذين تحب وحسبت
أنّهم يعطونها الخبز والماء.. وتناست الرب فلم تعرف أنّه هو من يعطيها الخبز
والخمر والزيت.. وجعلت عطايا الرب وسيلة بها تعبد البعل. لذلك سوف يعاقبها الرب:
يتركها عارية كأرض قاحلة جدباء، ويسيّج طرقاتها فلا تجد (الآلهة) الذين تحب،
ويجلّلها بالحزن فلا تعيّد اعيادها بالفرح. ولكن العروس بقيت في زناها، والشعب
ناسيًا ربه.

فهل
يطلّق الله شعبه كما يطّق الزوج زوجته الخائنة؟ كلا، بل سيأخذها إلى البرية، لا
ليميتها عطشا، بل ليذكّرها بالأيّام الحلوة (التي مرت كشهر العسل) حين كان الله
يهتم بشعبه فيعطيه المنّ والماء، وكان الشعب يقرّ بأفضال الله عليه. فلا بدّ من أن
يذكر الشعبُ تلك الأيّام بعد أن رفض الإقرار بأنّ الرب هو الذي يعطيه كل خير
(القمح، الزيت، الخمر..)، وبعد أن نسي الرب، وذهب وراء من يحب (تتردد كلمة
“أحبّ” مرارًا) كالمرأة وراء عشيقها تاركة رفيق صباها ورَجلها الأول.
ورغم اللهجة القاسية التي تبرز في هذا النص، نكتشف وجه الله الرحوم الذي يتحنّن
على الشعب كالأم على أولادها ويميل إليهم كالحبيب إلى حبيبته والرجل إلى امرأته.
إنّ الله هو الأمين الذي أقام عهدًا مع شعبه ولن يتراجع، وهو الصادق الذي نثق به،
لا ينسانا وإن نسيناه، وهو مَن يعرفنا معرفة حميمة (كمعرفة الزوج لزوجته) حتى وان
رفضنا نحن ان نعرفه. وهنا يتبادر الى ذهننا كلام القدّيس بولس في رسالته الثانية
إلى تلميذه تيموثاوس: “إذا متنا معه حيينا معه، وإذا صبرنا ملكنا معه، وإذا أنكرناه
أنكرنا هو أيضاً، وإذا كنّا خائنين ظل هو وفيًا، لأنّه لا يمكن أن ينكر نفسه
” (2: 11- 13).

 

و-
الفنون النثريّة

أوّل
آثار الفنون النثرية نجده في العقود (تك 23 ؛ إر 32)، والمعاهدات (تك 31؛ يش 10)،
وسلسلة الانساب (تك 46: 8- 27؛ خر 1: 1- 5)، ولائحة الموظّفين (1 مل 4)، والرسائل
بين الملوك والحكّام (عد 14: 20 ي؛ إر 29: 1 ي)، وفي بعض الصلوات النثرية كالتي
تلاها سليمان يوم دشّن الهيكل (1 مل 8)، والخطب السياسية أو العظات الدينية (أم 5؛
طو 4). واطول عظة في الكتاب المقدّس هي تلك التي نقرأها في سفر تثنية الاشتراع.
هذا السفر كُتب في القرن السادس ق. م. على لسان موسى الذي عاش في القرن الثالث عشر
ق. م.، فجعل روح موسى حاضرًا وكلامه القديم جديدًا: “اليوم إن أنتم سمعتم
صوته، فلا تقسّوا قلوبكم”. تلك هي الفائدة من استقصاء كلام الله، أن نسمعه
وكأنه يتوجّه إلينا اليوم.

إنّ
الشرائع كُتبت نثرًا فملأت أسفارًا كاملة من الكتاب المقدّس. فسفر اللاويين مثلاً
هو مجموعة شرائع عن الذبائح والكهنة كل ما يتعلّق بعبادة الله. وسفر العدد يشبهه
في الكثير من ذلك. في هذا الفن الأدبي الذي نسمّيه “الفن الشرائعي”، نجد
معًا “التوراة” ووصايا الله وأوامره، والحقوق والواجبات الإنسانية،
و”كلمات” تتضمن أحكامَا إلهية إلى جانب حالات قانونية أو نصح وإرشاد.
إلاّ أنّنا نحن نميّز هذه الأمور بعضها من بعض: فمنها ما يبقى مفروضاً علينا،
أكنّا أبناء العهد القديم أم أبناء العهد الجديد (مثلاً: أكرم أباك وأُمك، لا تقتل
أحبب قريبك كنفسك)، ومنها ما أملته ظروف المكان والزمان (لا تطبخوا الجدي بلبن
امه، خر 23: 19). فنحن لا نتعلّق بالحرف الذي يقتل، بل بكلام الرب الذي هو روح
وحياة (يو 63: 6)، ونحن لا نتعلّم للعلم بل لنعيش بالمحبّة، لأن العلم ينفخ ولكنّ
المحبّة تبني (1 كور 8: 1).

ومن
الفنون النثرية فمن كتابة التاريخ: تاريخ ما فعله يشوع، وما فعله القضاة، أولئك
الحكّام الموقّتون الذين حكموا شعب إسرائيل حتى زمن الملوك، وما فعله ملوك الجنوب
والشمال. لا شكّ في أن الكاتب الملهم استند إلى وقائع نقلها إليه التقليد (كأخبار
جدعون ويفتاح وشمشون)، أو الوثائق المحفوظة في خزائن الملوك أو الكهنة، غير أنّه
لا يهتمّ بالتاريخ على أنّه سرد لأحداث سياسية وحربية؛ وإن هو ذكر هذه الاحداث
فلكي يستخلص منها العبرة الدينية وهي أنّ الله، لا الإنسان، يصنع التاريخ، وأنّ
الحكم على الملوك لا يأتيهم من البشر بل من الله الذي يحاسب كل إنسان بحسب أعماله
(مت 27: 16)، ولا يتوقّف عند الهيئة الخارجية، كما يفعل الإنسان، بل ينظر إلى
القلب (1 صم 7: 16- 8).

ولذلك
فمن قرأ سفر يشوع وكأنه كتاب تاريخ فلن يجد فيه الكثير ممّا يشبع رغبته في البحث
والاستقصاء. وهذا لا يعني أنّنا لا نسعى إلى فهم النص بالوسائل المعروفة؛ لكنّنا
نتعدّى هذه الأمور لنصل إلى المعنى الروحي (يش 24: 1 ي). لن نتوقّف مثلاً على
أساليب الحرب وفيها ما فيها من مبالغة يتوسلها الضعيف ليعوّض عن ضعفه (قتل السكّان
وإحراق جميع ممتلكاتهم. ونحن نعرف أنّ بني إسرائيل ظلّوا أقليّة ضئيلة بين سكان
كنعان)، بل ندرك أنّ يد الله مع شعبه، وقد أعطاهم أن يقيموا في أرض كنعان وقطع لهم
عهدًا. قال لهم يشوع بلسان الرب: إتّقوا الرب واعبدوه عبادة تامة ومخلصة، وأزيلوا
الآلهة التي عبدها آباؤكم. اختاروا لكم اليوم إما الآلهة وإما الله.

أمّا
سفر القضاة فنجد معناه في الفصل الثاني (آ 11- 22): يفعل بنو إسرائيل الشرّ،
فيدفعهم الربّ إلى أعدائهم بعد أن يتركهم وشأنهم. ثمّ يرجعون إلى الرب فيرجع إليهم
ويُرسل إليهم “قاضيًا” يحكهم من قِبَله ويوحّد كلمتهم فيخلّصهم. أما
الأخبار، وفيها ما فيها من الطرف والنوادر، فهي بمثابة زخرفة وعامل تشويق. ونحن
نكتشف الفن الأدبي ونتفهّم معنى الكلمات لنصل إلى العبرة التي توخّاها الكاتب، ألا
وهي الأمانة لله ولوصاياه، فنصيب في حياتنا خيرًا. لن نتوقّف، مثلاً، في خبر شمشون
(قف 14: 1 ي) على أهمّية شعره الذي هو علامة تكريسه للرب، بل نُعنى بالحري بهذا
الذي اختاره الرب رغم نقائصه وخطاياه وطلب إليه أن يخلِّص شعبه، ففعل كما أمره
الرب لا بطريقة متواصلة بل متقطّعة: ترك الرب، وعلامة تخلّيه عن الرب كان قصّ
شعره، فتركه الرب، ثم عاد إلى الرب فعاد الرب إليه. وإذا كان الله معنا فمن يقدر
على مقاومتنا (روم 8: 31)؟

أمّا
أخبار صموئيل والملوك، فنجد فيها حكمًا على ملوك بني إسرائيل على ضوء وصايا الله
كما نقرأها في سفر تثنية الاشتراع. فأن يكون يربعام الثاني، ملك السامرة، قد عمل
الكثير أو أظهر مقدرة حربية، فهذا لا يهمّ الكاتب الملهم، بل جلّ ما يهمه هو أنّه
فعل الشر، اللهمّ إن أردنا أن نحكم بمنظار الرب (2 ملوك 14: 24- 28). وأن يكون
يوشيا ملكًا محارباً لم يخف من التصدّي لفرعون وجيشه في مجدّو (جنوبي جبل الكرمل)
فذلك لا يحظى باهتمام الكاتب الملهم بقدر ما يحظى به الاصلاح الديني الذي قام به
ملك شاب تربّى على يد الكهنة في الهيكل (2 مل 22: 1 ي). نحن لا نهمل الأمور
التاريخية التي نستشفّها من خلال النصوص الكتابية، بل نتطلعّ بالحري إلى التاريخ
المقدّس، تاريخ الله الذي يحامي عن الضعيف بوجه القوي، ويفضل أن يزول شبح الحرب من
الكون، أللهمّ إن شاء الإنسان ذلك.

ونذكر
أخيرًا لا آخرًا فنًا نثرًيا نقع عليه في النصوص الكتابية المتأخّرة، ألا وهو
الدرس الديني عن التقاليد القديمة ونصوص الكتاب السابقة. وعلى هذا النحو نقرأ قصة
طوبيا التي تُفهمنا أنّ التقوى خلاص المؤمنين، وقصة يهوديت، تلك الأرملة المؤمنة
التي خلّصت شعب بلدتها باتكالها على الله، وقصة يوسف بن يعقوب (تك 39: 1 ي) الذي
تعلّم وسط المحنة أنّ الله يخرج من الشر خيرًا ويخلّص الإنسان مهما أراد البشر أن
يُفشلوا مخططاته. أمّا سفر الحكمة فيبدو تأمّلاً في أحداث سفر الخروج، وسفر يشوع
بن سيراخ، في قسمه الأخير، مديحًا للآباء الذين مجدّوا الرب بحياتهم (44: 1- 2).
وعندما نقرأ سفر طوبيا، مثلاً، فلن نبحث عن الأمور بمنطق التاريخ والجغرافيا
وحقيقة الوقائع، بل نتطلعّ إلى الغاية التي سعى إليها الكاتب، ألا وهي النصح
والإرشاد للمؤمنين المشتتين والبعيدين عن المدينة المقدّسة والهيكل. نحيط إذًا
بالفن الأدبي الذي كتب فيه هذا السفر، ثمّ نصل إلى النظرة الدينية واللاهوتية التي
أراد الكاتب أن يوصلها إلينا عبر هذا “الفن القصصي”.

 

ز-
خاتمة

تطرّقنا
إلى النقد الكتابي عامة، والى النقد الأدبي خاصة، فما تعمّقنا فيه ولا أحطنا به
إحاطة شاملة، إنّما ألمحنا إلى بعض الأمور آملين أن نعالجها بطريقة أوفى عندما
ندرس هذا السفر أو ذاك من أسفار الكتاب المقدّس. فالكتاب المقدّس لا يشبه الكتب
التي بين أيدينا، لأنّه مكتبة كاملة كُتبت على مدى ألف سنة أو أكثر. فهل ندّعي بعد
مقال صغير أنّنا وفينا موضوعنا حقّه؟ كلاّ. فعلى المؤمنين أن يتابعوا قراءة الكتاب
المقدّس انطلاقًا ممّا قلناه في هذا المقال، أو ممّا يقرأونه في الكتب أو
المقالات، لئلاّ يبقى كلام الله مغلقًا عليهم فلا يفهموه.

وننهي
حديثنا مكرّرين ما ألمحنا اليه مرارًا: إنّنا بعد أن نحقّق النص ونضعه في إطاره
التاريخي ونطّلع على فنّه الأدبي، يلزمنا أن ندخل بقلبنا ومحبّتنا في أعماق النص
الكتابي، فنكتشف فيه الله الذي ما زال يكلّمنا اليوم كما كلّم في الماضي أولئك
الأنبياء والحكماء. “إنّ الله، بعدما كلّم آباءنا من قديم الزمان بلسان
الأنبياء مرّات كثيرة وبمختلف الوسائل، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة بابنه الذي
جعله وارثًا لكل شيء وبه خلق العالمين” (عب 1: 1). هذه الكلمات لا تزال
تتردّد في مسامعنا اليوم، فهل نعرف أن نكتشف كلام الله الحاضر أمامنا؟ اليوم، إن
أنتم سمعتم صوته فلا تقسّوا قلبكم بل اجعلوه طريئًا كالأرض الطيّبة التي تنزل فيها
الحبة فتعطي ثلاثين وستين ومئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار