علم المسيح

يوم يهوذا



يوم يهوذا

يوم يهوذا

ربما
لبث المسيح في بيت عنيا، نهار الأربعاء وهكذا الاستنتاج قد ذهب إليه استناداً إلي
أن الإنجيل لا يورد للمسيح أي تعليم في ذاك النهار، وإلي أن القديس مرقس ومتي قد
أثبتا فيه خبر المأدبة عند سمعان الأبرص، حيث افاضت مريم الطيب علي رأس يسوع. وكان
يسوع – في الليلة السابقة – قبل أ ن يغادر أصفياءه، قد أودعهم كلمة أخيرة: ”
تعلمون أن الفصح بعد يومين، وابن البشر يسلم للصليب ” (متي 26: 1-2). هو
الإنباء الرابع بمصيره!.. أفي ذات اللحظة؟.. أم في غصون الأربعاء؟..” اجتمع
رؤساء الكهنة وشيوخ ا لشعب، في دار رئيس الكهنة، المدعو قيافا، وائتمروا أن يلقوا
القبض علي يسوع – بحلية – ويقتلوه. بيد أنهم كانوا يقولون: لا في العيد، لئلا يقع
بلبال في الشعب ” (متي 26: 3 – 5، مرقس 14: 1 – 2 لوقا 22: 1 – 2). لقد كانت
سافرة كل السفور أغراض أولئك السياسيين: يريدون التخلص من ذاك المشاغب – أياً كان
الثمن! – ولكن من غير أن يثيروا في الشعب.

 

واّا
بيهوذا في تلك اللحظة بالذات!.. لقد باتت ملامح شخصيته، منذ مطلع رسالة يسوع،
مخفية بعض الشيء. وقد عرض به المعلم أحياناً، في سياق الإنجيل، ولكن بأسلوب سريع
غامض لم ينجل إلا من بعد وقوع الكارثة، فشأنه إذن، في الظاهر، وحتي اللحظة التي
أزمع فيها الخيانة، شأن التلاميذ الأحد عشر، وذلك أ/ر لا ريب فيه. ففي ذاك النهار
– الأربعاء – وطن النفس علي اقتراف تلك الجريمة التي سوف تظل، الدهر، ملتصقة باسمه
التصاق العار! وكأن الإنجيليين قد أعرضوا عن تدوين أي حدث آخر – لذلك اليوم – لكي
تبرز في غمرة نورها الفاجع، جريرة ذاك الأسخريوطي، إلي رؤساء لكهنة، وقال لهم:
” ماذا تريدون أن تعطوني، وأنا أسلمه إليكم؟”، فلما سمعوا فرحوا واتفقوا
أن يعطوه ثلاثين من الفضة. وفاوض رؤساء وقواد الحرس علي طريقة تسليمه بمعزل عن
الجمع.. وأخذ منذئذ، يطلب فرصة مؤتية ” (متي 26: 14 – 16، مرقس 14: 10 – 11،
لوقا 22: 1 – 6)

 

. ما
كانت تلك ” الثلاثون من الفضة “؟ لقد جاء في التقاليد أنها ثلاثون
ديناراً حتى لقد أصبح ” ال ثلاثون ديناراً ” – عبر الأجيال – رمزاً إلي
الخيانة النكراء. والواقع أن التعبير فيه شيء من الأبهام والأشكال! فهل كانت
ثلاثين درهماً؟ أم ثلاثين مثقالاً يهوديا؟ أم ثلاثين ديناراً رومانياً؟.. لقد كان
مرتب الجندي الروماني لذلك العهد، 225 ديناراً في السنة، فإذا عمدنا إلي المقارنة،
كانت قيمة ” الثلاثين من الفضة ” 90 فرنكاً ذهباً تقريباً: مبلغ له شأن،
ولكنه زهيداً جداً بالنسبة إلي جسامة الجرم. وأما أن يكون المبلغ ” ثلاثين
مثقالاً يهودياً ” فهو من باب المقايسة، بالثمن المطلوب عن دم العبيد، فإذا
صح ذلك فهو تعريض جارح بيسوع، بالإمكان أن نستشهد أيضاً بهذا النص الوارد في نبوءة
زخريا: ” وقلت لكم: أن حسن في عيونكم، فهاتوا أجرتي، وآلا فامتنعوا، فوزنوا
أجرتي ثلاثين من الفضة ” (زخريا 11: 12)

 

..
وإنما لا بد من الإقرار بأن دوافع تلك الجريمة النكراء لا تزال مستبهمة! لقد جاء –
ولا شك – في إنجيلي يوحنا ولوقا ” أن الشيطان – ملاك الشر – يلبس كل خاطئ،
وإن كان أخف وزراً – بما لا يقاس – من يهوذا الخائن! فذلك، ولا بد، وجه من وجوه
التعبير، وقد شاعت عند العرب، حتى اليوم، عادة القول: ” لقد دخل في الشيطان
“، اعتذاراً وتبرواً. وأما اذا حملنا العبارة علي مفهومها الأصلي الكامل، وجب
أن نعلل لماذا تخلي يسوع للأبالسة عن أحد أتباعه، وقد طالما كسر شوكتهم؟..

 

الواقع
أن كل تفسير يعيا في قضية يهوذا الإسخريوطي. فالباعث علي الخيانة، بحسب ظاهر
الإنجيل، إنما هو الجشع، والشيطان الذي لبسه إنما هو ” مامون “، وقد قال
يوحنا، صراحة: ” إنه كان سارقاً، وإذ كان الكيس بيده، كان يسرق ما يلقي فيه
” (يوحنا 1: 6). أفلم يكن أجدي له – والحالة هذه – أن يظل علي اختلاس الكيس،
من إن يبيع معلمه بذاك الثمن البخس؟ هذا، ولسوف نراه – بعد إذ وقف علي عاقبة
خيانته الفظيعة – يقذف الفضة في وجه المحفل، ويلتمس في الشنق آخر محفوظ، لم يكن
” مامون ” قد استولي عليه! فإذا لم يكن الطمع، أفتكون الخيبة هي التي
دفعت الرجل في سبيله؟ أن أول إشارة، في الإنجيل، إلي خيانته (يوحنا 6: 70) تساند
هذا الافتراض. كان ذلك في غد ” معجزة الخبز “. وكان يسوع قد توارى عن
الجمع الذي هم بمبايعته ملكاً، وأخذ في كلامه عن ” خبز الحياة “، يرسي
مبادئ عقيدة لم تترك أي مجال للمطامح الدينونية. فقد يكون أن يهوذا، في تلك اللحظة
بالذات – وهو الذي لم يلتحق بيسوع إلا طمعاً بالعرش – قد خذل المسيح في قرارة
نفسه، ولذلك قال المسيح لتلاميذه، عبارة مبهمة: ” أن واحداً منكم هو شيطان!
“. والواقع أن سيرة المعلم، في جميع أطوارها اللاحقة، لم تكن إلا لترسخ
الاسخريوطي في يقينه بأنه لم يبق ثمة اي خير يرتجي!.. فالسخط والخنق قد يكونان من
الحوافز التي حملته علي التخلص من زعيم قد خاب فيه كل رجاء..

 

بيد
أن هذا التفسير لا يعلل التلوم والانتحار. فلو كان الأمر علي ما ذكرنا، لوجب أن
نراه يتطوس زهواً بنجاح مساعيه الماكرة، ولا يقع في نفسه الخسيسة موقعاً باهظاً،
تعيير أولئك سلموه ” الثلاثين قطعة من الفضة “. أجبان إذن؟ وواحد من
أولئك الحقيرين الذين ألفوا – في ساعة الخطر – استجابة جميع المنكرات، ضناً بحياتهم
ومصالحهم؟! ولكننا لا نفهم جيداً أن يكون المسيح قد اصطفي رجلاً بمثل تلك السخافة،
وأبقاه في بطانته، مدة سنتين! ثم إن الذي يظهر من الإنجيل – مهما استبهن فيه
المعلومات عن الخائن – هو أن الاسخريوطي كان عنيفاً جهماً أكثر منه، منه جباناً
هزيلاً، يثبت ذلك – مثلاً احتجاجه علي تفريط مريم بالطيبي النفيس، ثم – فيما بعد
ليلة العشاء السري، خروجه من الغرفة خروجاً مفاجئاً.

 

.
ربما كان ذلك اصلح تفسير لطوية ذاك الرجل. ولكن إلا يكمن تحت ستار ذاك العنف أقل
نكراً؟.. أفلا يكون الحب هو الحافز الصميم؟ وليس الحب المشرق، النزيه، الذي كان
يختلج في قلب بطرس ورفاقه العشرة، بل ضرب من تلك الميول الجامحة المستأثرة التي
تهبط إلي تهبط إلي أقصي الدركات بالقلوب التي يتأكلها الحسد، الحب الشبيه بالبغض،
والذي يستطيع أن يستحيل فجأة إليه يلفي نفسه – بعد الكارثة – في غمرة اليأس والألم
الفسيح!.. ألا فلنتوقف عند هذا الحد من محاولات التفسير هذه! فهي محص تعليلات
بشرية، نفسه، ولا تنال الجوهر. فإن اعتقال يسوع عن يد زبانية السنهدرين، والقضاء
عليه جوراً، لا يكونان فقط حدثاً – زهيداً – في تاريخ النبوة اليهودية، وتاريخ
الجبانات السياسية، بل هما – في نظر المسيحية – الوسيلة التي تحقق بها السر
الأعظم، أي سر الفداء. كان ينبغي للمسيح أن يسلم!.. فمن الناحية لم يكن إلا بوسع
واحد من أتباعه أن يعين الفرصة التي كان يمكن فيها إنجاز المهمة من غير إثارة
للفضيحة. وأما من الناحية النبوية، فقد كتب: ” صاحب سلامي الذي اتكلت عليه
وأكل خبزي، هو الذي يعيرني فأحتمل، ولا مبغضي هو الذي تجبر علي فأتوراي منه، بل
أنت أيها الرجل، عديلى وأليفيى وأنيسي ” (مزمور 54: 13 – 14). كان ينبغي أن
تقع علي المسيح كل نذالة الإنسان وكل خساسته، فتم بذلك تضحيته. ولسوف يقول بطرس
صراحة – علي ما جاء في ” أعمال الرسل “: ” أنه كان يجب أن تتم كلمة
الكتاب التي سبق الروح القديس فقالها بفم داود، عن يهوذا الذي صير نفسه دليلاً
للذين قبضوا علي يسوع ” (أعمل 1: 16). هذا، وليس في الإنجيل كله قول أشد
إشكالاً من العبارة التالية – وهي تنطبق كل الانطباق علي يهوذا: ” لا بد أن
تقع المعاثر حتماً!.. ولكن ويل للإنسان الذي تقع المعاثر عن يده! ” (متي
18-7)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار