المسيحية

التثليث الذى حاربه الإسلام



التثليث الذى حاربه الإسلام

التثليث
الذ
ى حاربه الإسلام

سر
التثليث

ترشيح:
ينقسم الموجود إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها: فهو إمّا حي ناطق كالإنسان، وإمّا حي
غير ناطق كالحيوان والنبات، وإمّا غير حي وغير ناطق كالجماد، وأولها أشرفها من غير
شك.

وكلنا
يؤمن أن الله موجود، وأنه مبدع جميع هذه العوالم المختلفة. فيتحتم إذاً ما دام أن
أشرف الموجود هو الحي الناطق أن يكون الله بجانب وجوده حياً ناطقاً. وإلا لكان
الموجود الحي الناطق، وهو مخلوق الله، أفضل منه تعالى، فيما هو نفسه قد فضَّله به
على المخلوقات. ولا بد أن تكون حياة الله ونطقه منه لا من غيره، وأن يكونا أزليين
بأزليته، وإلا لكان مخلوقاً وهو الخالق وهذا محال. فالله موجود بذاته، حي بروحه،
ناطق بكلمته.

وهذه
الصفات جوهرية روحية في الله، وإلا لزم أن تلحقه الأعراض، وهذا أيضاً محال.

وهذا
الإله، الأزلي الوجود والحياة والنطق، هو ما يعبَّر عنه في الديانة المسيحية
بالثالوث الإلهي الأقدس، الواحد الذات والجوهر، غير المنقسم بوجه من الوجوه
الفرضية، لأن وقوع القسمة في الروحي البسيط منفي منطقياً، فلا يتصور وجودها في
أبسط الموجودات الروحية المجردة وأشرفها، وإنما تكون هذه القسمة في الخواص الإلهية،
التي هي صفات الآب والابن والروح القدس. فوجوده عبارة عن صفة الأبوّة، ونطقه عبارة
عن صفة البنوّة، وحياته عبارة عن صفة الانبثاق.

 

وهذه
الصفات لا تقتضي ولادة جسدية يسبق بها الآب الابن، بل هي ولادة روحية، أزلية أبدية.
فولادة الابن العجيبة من الآب وانبثاق الروح القدس، كمثل صدور الحرارة وانبثاق
النور من لهب النار، فحيثما وُجد اللهب كان النور وكانت الحرارة. ولعل البعض يظنون
أن اللهب هو علة وجود النور والحرارة، وظنهم هذا كان يمسي حقيقياً لو كان اللهب
بمفرده ناراً، وكانت الحرارة بمفردها ناراً، وكان النور بمفرده ناراً. أما وأن
اللهب والحرارة والنور نار واحدة فلن يستقيم القول، لأنها نار بجوهر واحد وخواص
ثلاث، ولن يمكن إطلاق كلمة نار على أحد هذه الخواص إلا بشرط وجود الخاصتين
الأخريين. فإذا قلنا إن أحد الأقانيم الإلهية هو الله، فإننا نقصد أن الأقنومين
الآخرين ملازمان له، وأن كلا منهم مساوٍ للآخر في جوهره، له كل ما له في كل شيء،
خلا الخاصية المتميّز بها: فالآب آب أبداً، والابن ابن منذ الأزل، والروح القدس
منبثق انبثاقاً سرمدياً. فالقول بثلاثة أقانيم لا يعني القول بثلاثة آلهة، لأن
تعدد الخواص والصفات لا يستلزم تعدد الذات، وإلا قلنا في المثل السابق بثلاثة
نيران، وهذا محال.

 

ولزيادة
الإيضاح نقول: هب أن لديك مثلثاً متساوي الأضلاع، نُقِشَ على كل ضلع منه حرف معيّن،
وليكن ا، ب، ج. فلو نظرت إلى هذا المثلث لوجدته واحداً، ولكنك إذا ميّزته بما نُقش
على أضلاعه لما وسعك إلا أن تطلق على كل منها اسمه الخاص المتميّز به عن الضلعين
الآخرين.

 

فنحن
المسيحيّين نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والأرض، جوهر واحد، كلي الكمال،
في ثلاث خواص ذاتية، أبانها المسيح وكشف عنها القناع.

 

ولسنا
باعتقادنا أن الله تعالى جوهر نجعله كسائر الجواهر الموجودة عرضة للعرض، وهو تبارك
وتعالى ليس مثله شيء، وإنما نعتقد أنه جل شأنه قائم بذاته فحسب، لأن الموجود نقيض
المعدوم، وهو ما أدركته إحدى حواسنا أو ما تصورناه بالعقل وأمكن الإخبار عنه، وهو
ينقسم إلى قسمين: جوهر وعرض.

 

فالجوهر
كل قائم بذاته، غير مفتقر في قيامه إلى غيره، ولو أنه واقع تحت العوامل العرضية.
فالإنسان مثلاً جوهر قابل للعرض لأنه واقع تحت نواميس التغيّر والتطور، فقد يكون
جاهلاً ثم ينقلب عالماً. فإذا قلنا إن الله تعالى جوهر، لا نقصد أنّه جوهر
كالجواهر المخلوقة، القابلة للعرض، بل نعني أنه قائم بذاته، لأن لله من معاني
الأسماء ومدلول الصفات كمالاتها المطلقة، كما أن للمخلوق نقائصها.

 

وأما
العرض فبعكس الجوهر، أعني أنّه الذي لا يقوم بذاته، بل يحتاج في قيامه إلى غيره
كالعلم، فهو لا يقوم إلا بوجود العالم. وأنه سبحانه وتعالى منزّه عن أن يفتقر إلى
غيره، وهو موجد الموجودات جميعها وعلى كل الجواهر والأعراض.

 

وحيث
أن الموجودات لا تتعدى الجوهر أو العرض، وحيث أن الله تعالى موجود، فهو إذاً جوهر
أي قائم بذاته.

 

وقد
تعرّض للكلام في هذا الأمر كثير من علماء المسلمين وكبار فلاسفتهم، فمثلاً يقول
القاضي محمد بن الطيب المعروف بابن الباقلاني في كتابه الطمس في القواعد الخمس: إذا
أنعمنا النظر في قول النصارى إن الله تعالى جوهر واحد في ثلاثة أقانيم، لا نجد
بيننا وبينهم خلافاً إلا في اللفظ فقط. فهم يقولون إنه جوهر ولكن لا كالجواهر
المخلوقة، ويريدون بذلك أنه قائم بذاته. والمعنى صحيح، ولكن العبارة فاسدة. كما
يقول الإمام أبو جعفر محمد بن محمد الأشعب في كتابه في العلم الإلهي: قد تبيّن أن
المحرك الأول أول على الإطلاق، فهو إذاً علة الموجودات كلها. وفي هذه الحالة هو
أحد اثنين: إمّا جوهر وإمّا عرض. ومحال أن يكون عرضاً، لأن الجوهر علة وجود العرض.
والله علة وجود كل شيء، ولولا الجوهر لما وُجد العرض. فيتعيَّن أن يكون الله
جوهراً، أو شيئاً أشرف من الجوهر، أو جوهراً خاصاً أو ذاتاً أو ماشئت فسمّه، إذ لا
فرق في اللفظ مع سلامة المعنى.

 

وقد
وصف القرآن الله تعالى بصفات الجوهر القابل للعرض في كثير من آياته كقوله: هو الحي
القيوم هو على كل شيء قدير هو بكل شيء عليم إنه هو السميع البصير. بل لقد ذكر
القرآن لله صفات وصفه فيها بالوقوع تحت العوامل النفسية كالسخط والغضب والحسرة
والنسيان، فقال: إن سخط الله عليهم (المائدة 5: 80) أي غضب الله عليهم يا حسرة على
العباد (يس 36: 30) اليوم ننساهم (الأعراف 7: 51).وجاء في صحيح البخاري: ربي غضب
اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ولقد زاد القرآن فجعل لله وجهاً
وعينين باصرتين ويدين مبسوطتين، وأنه يستوي على العرش ويدنو ويتدلى، ويأتي
والملائكة صفاً، فقال: كل شيء هالك إلا وجهه (القصص 28: 88) ويبقى وجه ربك ذو
الجلال والإكرام (الرحمان 55: 27) واصنع الفلك بأعيننا (هود 11: 37) بل يداه
مبسوطتان (المائدة 5: 64) ثم استوى على العرش (الأعراف 7: 54) وجاء ربك والملك
صفاً صفاً (الفجر 89: 22).إلى غير ذلك من صفات الجوهر القابل للعرض، ومع أن
المسلمين ينزهون الله عنها مثلنا. وكل ما بيننا وبينهم في هذه القضية هو أنهم
يقولون: إن الجوهر ما قبل العرض ودخل في الحيّز، فيستحيل في حق الله تعالى أن يكون
جوهراً يقبل العرض ويشمله الظرف. وأما نحن فنقول إن الجوهر ما كان موجوداً قائماً
بذاته، والله تعالى جوهر باعتباره موجوداً قائماً بذاته فحسب، ذو خواص ثلاث هي ما
يعبر عنها بالثالوث الأقدس.

 

والتثليث
هو العقيدة الأساسية في الديانة المسيحية حتى أن الرسول يوحنا يقول: هذَا هُوَ
ضِدُّ الْمَسِيحِ، الّذي يُنْكِرُ الْآبَ وَالِابْنَ (1 يوحنا 2: 22) وقد ذكر نفس
الرسول هذه العقيدة في قوله: الّذينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلَاثَةٌ: الْآبُ،
وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ وَاحِدٌ (1
يوحنا 5: 7) فظاهر من هذا أن التثليث لا ينقض وحدانية الله تعالى، لأنه لا يعني
التعدد.

 

ويظن
البعض خطأ أن الإسلام قد حارب هذا التعليم الأساسي وأنكره وكفَّر القائلين به,
ولكن الباحث المدقق في موقف الإسلام إزاء هذا التعليم تتضح له حقائق تخالف الظن
والمفروض. وهذه هي الحقائق التي تتجلى واضحة لكل من يبحث هذا الأمر بحثاً دقيقاً
بعيداً عن التحزب

 

والتعصب:

أولاً:
إنّ التثليث الذي حاربه الإسلام هو غير تثليث المسيحيّة الصحيحة.

ثانياً:
أثبت علماء الإسلام للمسيحيّة فكرتها الصحيحة عن التثليث، وبالتالي أعلنوا أنها
شيء آخر غير عقيدة التثليث المغلوطة التي ندد بها القرآن، واجتهد في إظهار ما بها
من الابتداع.

ثالثاً:
نظر الإسلام إلى المسيحيّين وتكلم عنهم كقوم موحِّدين غير مشركين.

رابعاً:
تكلم الإسلام عن الثالوث الأقدس كما تعلّم به المسيحيّة، وفي ذلك مصادقة منه لها
على صحة هذه العقيدة.

 

وتعتقد
المسيحية أن الله واحد الذات، مثلث الأقانيم. وهي بذلك لا تنافي الوحدانية، لأنها
لا تُعلّم بتعدد أو ولادة تناسلية، كما ينعتها مناوئوها. فالقول بأن الإسلام قد
حارب المسيحية في هذا المعتقد قول مردود، فهو لم يحارب ثالوث المسيحية الصحيحة،
وإنما حارب تعليماً يقول بالتعدد والإشراك والولادة التناسلية. تعالى الله عن ذلك
علواً كبيراً.

 

أمّا
ثالوث المسيحية الأقدس فقد تكلم عنه القرآن بكل تقديس وتبجيل، مما يؤيد القول بأنه
حارب معتقداً غير المعتقد الذي ندين به، وتعلمنا إيّاه المسيحية الحقة، يثبت ذلك
من:

 

1
– التثليث الذي حاربه القرآن هو تثليث التعدد والإشراك:

قلنا
إنّ المسيحية تعلم بتثليث لا ينقض الوحدانية أو ينافيها، فهي تؤمن بالآب والابن
والروح القدس إله واحد في جوهره. وهي لا تعلّم قط بتعدد الآلهة، بل تنكر هذا
التعليم إنكاراً كلياً. وقانون إيماننا يبدأ بالقول: نؤمن بإله واحد. ولو كانت
المسيحية تقصد بالتثليث التعدد والإشراك لما صرحت بأن هذا التعليم فوق الإدراك،
وهي لم تصرح بذلك إلا لما تعتقده من عدم مناقضته لوحدانية الله. والثابت المقرر أن
الإسلام حارب تعليماً يشير إلى تعدد الآلهة أو الإشراك بالله.

 

قال
في سورة النساء 4: 171: وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ
إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ولَقَدْ كَفَرَ الّذينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ,,, إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الّذينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا
مِنْ إِلَهٍ الّا إِلَهٌ وَاحِدٌ (سورة المائدة 5: 72، 73) واتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (سورة التوبة 9: 31) وإِذْ قَالَ اللّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ
إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ؟ (سورة المائدة 5: 116)

 

فواضح
من هذه الآيات أنها تحارب تعليماً يحمل معنى الإشراك بالله وتعدد الآلهة، وأنها
تدعو إلى الإيمان بوحدانية الله. وبما أن المسيحية لا تعلّم بإشراك ولا بتعدد بل
تؤمن بإله واحد، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فيثبت إذاً
أن الإسلام إنما حارب تثليثاً غير ثالوث المسيحية، وتعليمها، وعقيدتها…

 

والذي
يؤيد هذه الحقيقة الآية الأخيرة، على نوع خاص، إذ أشار فيها إلى اعتبار العذراء
القديسة مريم ركناً من الأركان الثلاثة حيث تقول: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ والحق أن المسيحية لم تعتقد يوماً
ما بتأليه العذراء أو باعتبارها ركناً من أركان الثالوث الأقدس في الإله الواحد.

 

وإذاً
فقد تقرر أن هذا التعليم الذي أراد الإسلام أن يحاربه كان تعليماً منافياً لتعليم
المسيحية، بعيداً عن معتقدها البعد كله.

ويظهر
أن حملات الإسلام على هذا التعليم كانت موجَّهة ضد بدعة كانت قد ظهرت ونادت بتأليه
العذراء القديسة مريم. وهذه البدعة لم يتجند لحربها الإسلام وحده، بل لقد حاربتها
المسيحية حرباً لا هوادة فيها حتى قضت عليها. فالإسلام في حملاته هذه إنما كان
متجنداً مع المسيحية جنباً لجنب لمحاربة بدعة أبغضتها الكنيسة وقاومتها.

 

وفي
آية بحثنا دليل آخر على هذه الحقيقة حيث تقول: إلهين من دون الله. وتعليم المسيحية
عن الثالوث لا ينطبق عليه هذا القول، فهي لا تعلّم بالمسيح إلهاً من دون الله،
ولكنها تعلم أن المسيح والآب واحد بلا تعدد ولا افتراق. وقد أشار المسيح إلى ذلك
في قوله: أَنَا وَالْآبُ وَاحِدٌ (يوحنا 10: 30)

 

فمن
كل هذه الوجوه يثبت أن تعليم التثليث الذي قاومه الإسلام لم يكن تعليم المسيحية
عنه. وإنما كانت حربه موجهة ضد طوائف لا صلة بينها وبين المسيحية، ولا وجه للشبه
بين عقيدتها وعقيدتهم.

وأما
الآية التي تقول: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ويستند إليها البعض خطأ
زاعمين أن الثلاثة الذين ذُكروا فيها هم ثالوث المسيحية الأقدس، فتلك آية قيلت في
حق طائفة المرقونية الذين لفظتهم الكنيسة وحرمت أتباعهم، لأنهم كانوا يقولون
بتثليث باطل، ويؤمنون بثلاثة آلهة: عادل أنزل التوراة، وصالح نسخها بالإنجيل،
وشرير هو إبليس.

 

كما
حارب الإسلام طائفتي المانوية والديصانية اللتين تقولان بإلهين اثنين: أحدهما
للخير وهو جوهر النور والثاني للشر، وهو جوهر الظلمة فقال في حقهم: ولا تتخذوا
إلهين اثنين.

لقد
كانت هذه الطوائف وأشباهها شر ما مُنيت به المسيحية قبل الإسلام وبعده ولا يزال
حكمهم في الكنيسة حكم المذاهب الخارجة في الإسلام، الذين عَدَلوا عن الكتاب
والسنّة، كطائفة النصيرية القائلة بأن الله جل شأنه حلّ في جسد علي بن أبي طالب
وتكلم في لسانه.

وإذا
فالإسلام لم يحارب تثليث المسيحية الصحيحة كما يظن البعض, والمسيحية لا تعتبر
مقاومته تلك التعاليم المنافية لتعاليمها مقاومة لها.

 

2
– البنوّة التي حاربها الإسلام تناسلية

إن
المسيحية في اعتقادها عن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وكلامها عنه (كابن) لا
تقصد بنوّة تناسلية يسبق بها الوالد ولده، بل هي بنوّة معنوية يقصر العقل عن
إدراكها.

أما
البنوّة التي حاربها الإسلام عند مقاومته تعليم التثليث فهي بنوّة تناسلية، مخالفة
كل المخالفة للعقيدة المسيحية في بنوّة المسيح, وإليك الآيات التي أشار فيها إلى
هذا التعليم وقاومه فيها:

وَلَا
تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ (سورة النساء 4: 171)

بَدِيعُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
صَاحِبَةٌ (سورة الأنعام 6: 101)

قَالُوا
اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ (سورة يونس 10: 68)

قَالُوا
اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً (سورة الكهف 18: 4). مَا كَانَ للّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
وَلَدٍ (سورة مريم 19: 35)

وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً,,, أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً,,, وَمَا
يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (سورة مريم 19: 88، 91، 92)

وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً (سورة الأنبياء 21: 26)

مَا
اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ (سورة المؤمنون 23: 91)

وَأَنَّهُ
تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً (سورة الجن 72: 3)

قُلْ
هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (سورة الاخلاص
112: 1 – 3)

 

تلك
هي الآيات القرآنية التي أشارت إلى نسبة البنوّة لله، بولادة تناسلية، يدل على ذلك
الصاحبة والولد. والمسيحية بريئة من هذه العقيدة كل البراءة. والإسلام في محاربته
هذا التعليم إنما كان يحارب تعليماً غريباً عن تعاليم المسيحية. والمسيحية لا ترى
هذه الحرب موجهة ضدها، ولا شأن لها بها.

 

الخلاصة

إن
القرآن في تعصّبه للوحدانية، ومحاربته لتعليم التثليث، لم يحارب ثالوث المسيحية,
وهذه الحرب لم تضر المسيحية بشيء، بل هي على العكس من ذلك. قد أفادت المسيحية
ووقفت في صفها إزاء تعليمها عن الثالوث الأقدس، لأنها على الأقل قد أثبتت أن هذا
التعليم قديم يرتقي عهده إلى ما قبل ظهور الإسلام.

 

شهادة
علماء الإسلام لصحة تثليث المسيحية

تعرّض
علماء الإسلام وفلاسفته إلى عقيدة التثليث المسيحية، وأعلنوا أنها غير العقيدة التي
حاربها الإسلام، وندّد بها القرآن. ونورد هنا ما ذكره صاحب المشرع نقلاً عن نسخة
قديمة من كتاب أصول الدين لأبي الخير بن الطيب الذي عاصر الإمام أبا حامد الغزالي.
وهو:

قال
بعض المسيحيين لأبي الخير بن الطيب: إن الإنجيل بقوله: امضوا وتلمذوا كل الأمم
وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس قد أوجب عليكم الاعتقاد بثلاثة آلهة.
فأجابه: لا ريب في أن لباب الشريعة المسيحية هو الإنجيل ورسائل بولس الرسول وأخبار
الحواريين. وهذه الكتب، وأقوال علماء النصارى المنبثة في آفاق الأرض تشهد بتوحيدهم،
وبأن أسماء الآب والابن والروح القدس إنما هي خواص لذاته الواحدة. ولولا حب
الإيجاز لأتيت على إثبات عقيدتهم مفصلاً، ولكنني مع ذلك أقتضب من أقوالهم الناطقة
بصحة معتقدهم وقويم إيمانهم، ما لا يخلو من فائدة فأقول: يرى النصارى أن البارئ
تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح عنها القناع، وهي
الآب والابن والروح القدس، ويشيرون بالجوهر ذاته الذي يسمونه البارئ ذا العقل
المجرد إلى الآب. والجوهر نفسه الذي يسمونه ذا العقل العاقل ذاته إلى الابن.
والجوهر عينه الذي يسمونه ذا العقل المعقول من ذاته إلى الروح القدس. ويريدون
بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنياً عن الظرف.

وقد
أشار الغزالي إلى عقيدتهم هذه في كتابه الرد الجميل فقال: يعتقد النصارى أن ذات
البارئ تعالى واحدة في الجوهر ولها اعتبارات.

فإن
اعتبر وجودها غير معلق على غيره، فذلك الوجود المطلق، هو ما يسمونه بأقنوم الآب.

وإن
اعتبر معلقاً على وجود آخر، كالعلم المعلق على وجود العالم فذلك الوجود المقيد، هو
ما يسمونه بأقنوم الابن أو الكلمة.

وإن
اعتبر معلقاً على كون عاقليته معقولة منه، فذلك الوجود المقيد أيضاً هو ما يسمونه
بأقنوم الروح القدس، لأن ذات البارئ معقولة منه.

والحاصل
من هذا التعبير الاصطلاحي: أن الذات الإلهية واحدة في الجوهر، وإن تكن منعوتة
بصفات الأقانيم.

ويقولون
أيضاً:

إن
الذات من حيث هي مجردة لا موصوفة، عبارة عن معنى العقل، وهو المسمى عندهم بأقنوم
الآب.

وإن
اعتبرت من حيث هي عاقلة ذاتها، فهذا الاعتبار عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى
بأقنوم الابن والكلمة.

وإن
اعتبرت من حيث أن ذاتها معقولة منها، فهذا الاعتبار عبارة عن معنى المعقول، وهو
المسمى بأقنوم الروح القدس.

فعلى
هذا الاصطلاح، يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط، والآب مرادف له، والعاقل عبارة
عن ذاته بمعنى أنها عاقلة ذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له، والمعقول عبارة عن
الإله المعقولة ذاته منه، وروح القدس مرادف له أيضاً.

ثم
عقّب قائلاً: إذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ ولا في اصطلاح المتكلمين عن
كتاب المشرع للقس بولس سباط الطبعة الثانية صفحة 21 – 25).

الخلاصة

من
تفسير الإمام الغزالي لعقيدة التثليث المسيحية، وتعليقه عليها يتضح أن فلاسفة
الإسلام وعلماءه أدركوا أن عقيدة المسيحية الصحيحة في التثليث هي غير تلك العقيدة
المبتدَعَة التي أشار إليها القرآن وندَّد بها.

 

ومعنى
هذا أن الإسلام لم يحارب التعليم الصحيح عن عقيدة التثليث المسيحية، بل حارب
التعليم المبتدع فيها، وأن علماءه وفلاسفته قد شهدوا بأن تعليم المسيحية عن
التثليث لا يناقض التوحيد.

 

تنزيه
التوحيد المسيحي عن الشرك

في
القرآن آيات كثيرة تدل على أن الإسلام نظر إلى المسيحية نظرة خالية من الاعتقاد
فيها بتعليم الإشراك. فقد جاء في سورة المائدة 5: 69: إِنَّ الّذينَ آمَنُوا
وَالّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

فلو
قيل إن الإسلام يعتقد أن النصارى آمنوا بالله في غير توحيد، وإن إيمانهم إيمان
تعدد وإشراك، لما صرح أن لهم أجرهم عند ربهم، وأنهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون،
لأنه يكون بتصريحه هذا قد وعد المشركين بالأجر والثواب، وهذا باطل. إذ أن المعقول
والمنقول أن الإسلام قد حارب الشرك والمشركين وأنذرهم عذاباً أليماً من بين أيديهم
ومن خلفهم, فهذه الآية قد دلت على أن الإسلام ميّز بين النصارى والمشركين، ولم
ينظر إلى المسيحية كدين تعدد وإشراك.

ثم
أن الإسلام حرم على المسلمين أن يتزوجوا بالمشركات، دون أن يتخذن الإسلام لهن
ديناً. في حين أنه ساوى بين المسيحية والمسلمة في هذا، أباح للمسلم أن يتزوج من
المسيحية دون أن يُشترط الإسلام لتمام هذا الزواج وصحته، فقال: أُحِلّ لَكُمُ
الطَّيِبَاتُ وَطَعَامُ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (سورة المائدة 5: 5فهذه
الآية أجازت للمسلم التزوج من النصرانية، مع الحرص على حقها أن لا يُهضم، جاعلاً
إياها في مرتبة المرأة المسلمة. فلو كان الإسلام اعتبر المسيحية مشركة لحظر الزواج
بها، ولحرمه تحريماً، أو على الأقل لجعل الإسلام شرطاً ضرورياً لتمام هذا الزواج،
كما فعل مع المشركات اللاتي قال في حقهنّ: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ (سورة البقرة 2: 221) فهذه الآية قد حرمت على المسلم الزواج من المشركة
وهي باقية على شركها، وأجازه له بعد إسلامها.

 

فالقول
بأن الإسلام اعتقد في المسيحيين الشرك، يدعو إلى التناقض بين هاتين الآيتين. وإذاً
تكون النتيجة اللازمة لهذا هي أن الإسلام نزَّه المسيحية عن الشرك، وفرَّق بين
النصارى والمشركين.

وهناك
الآية التي تنطق بوضوح بنظر الإسلام إلى المسيحية كالدين البعيد عن الإشراك
والتعدد وهي: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ
وَالّذينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً للّذِينَ آمَنُوا
الّذينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ
وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (سورة المائدة 5: 82) فهذه الآية
تفصل بين النصارى والمشركين، وتشير إليهم كطائفتين متغايرتين، وهي بذلك تنزّه
المسيحية عن تعليم الإشراك وتثليث التعدد.

 

وهناك
أيضاً الآية التي تكلم فيها القرآن عن المسيحيين كمؤمنين بالله، تقاة ساجدين،
آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، مسارعين في الخيرات، ومن الصالحين، والتي أشار
أولاً فيها إلى اليهود وهي: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ,
يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (سورة آل عمران 3: 113، 114). فهل يُعقل أن يشهد القرآن مثل هذه
الشهادات، وينعت بكل هذه الصفات قوماً مشركين؟

 

أضِف
إلى هذا أن الإسلام قد أباح دماء المشركين، فقال: وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ
كُلّمرْصَدٍ (سورة التوبة 9: 5) فهذه الآية قد أهدرت دم المشركين وحضت على التربص
بهم، فميّزت بينهم وبين النصارى الذين حقن الإسلام دماءهم، إذا هم دفعوا الجزية
(التوبة 9: 29) وقد سبق لنا القول إن هذه الجزية لا تؤخذ عوض البقاء على الكفر
وبدل الاستمرار على الشرك بالله، وإلا كان آخذوها وهم المسلمون شركاء في هذا الكفر،
لما يكون في علمهم من التجاوز عما لا يجوز التجاوز فيه من حرام ومحظور.

 

الخلاصة

لا
شك بعد هذا في أن الإسلام قد اعتقد في المسيحية الإيمان الصحيح بالله تعالى،
الإيمان البعيد عن خطل الشرك ووزر التعدد، وأنه نظر إلى المسيحيين وتكلم عنهم كقوم
موحدين لا تشوب عقيدتهم شائبة.

 

مصادقة
الإسلام على صحة عقيدة الثالوث المسيحيّة

تعلّم
المسيحية بوحدانية الله في الذات، وتثليثه في الأقانيم: الآب والابن والروح القدس
الإله الواحد. ولقد ذكر القرآن في آياته ما يؤيد هذا التعليم ويصادق عليه. ونحن
ننقل ما جاء في كتاب المشرع لمؤلفه القس بولس سباط، قال:

لو
تدبَّر المسلمون كلام القرآن بالروية لعلموا أننا على محجة الإيمان، فإن كثيراً من
نصوصه يثبت معتقدنا بالتثليث الذي جاء عندنا منظوماً في سلك البسملة، وعندهم
منثوراً في القرآن بين كلماته وضمن سُوَره وآياته.

إِذْ
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (سورة آل عمران 3: 45).وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة البقرة 2: 87).فكأني بصورة
التثليث قد انعكست على مرآة القرآن. فأبرزها بهاتين الآيتين وأمثالهما، والمسلمون
يرتلونهما دون انتباه لما فيهما من المطابقة لاعتقاد النصارى، لفظاً ومعنى. على أن
اسم الجلالة في الآية هو الآب، كما يُستنتج من تسمية المسيح بالابن، وإلا اقتضى
قول الآية: بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم إن يستأبب هذا الابن المولود من أم،
أباً كآباء الآدميين، أو أباً أزلياً فائق الطبيعة لاقتضاء البنوّة أبوّة في كل
حال. وفي القرآن ما ينزِّه المسلمين عن نسبة الأبوّة والبنوّة البشريتين إلى الله
والمسيح, فإذا امتنع في إيماننا واعتقادهم أن يكون الله تعالى والداً، والمسيح
مولوداً كالآدميين، ثبت بامتناع أحد النقيضين تحقُّق الآخر، تعيَّن أن يكون للمسيح
آب يفوق إدراك العقول، ويُنزّه عن الكيف والكم وعن لماذا ولِمَ. وإلا فمن تراه يكون
أهلاً لأبوّة المسيح، كلمة الله المتأنس، غير الله عز وجلّ؟

ثم
ان الكلمة وروح القدس المذكورين في القرآن هما الأقنومان المتممان لخواص الثالوث
عندنا، لفظاً ومعنى، فإن الآية: وأيدناه بروح القدس تشمل المؤيِّد والمؤيَّد
والمؤيَّد به، وكل منها أقنوم ممتاز بخاصته الذاتية. ويبدو الفرق بينها في أسرع من
لمح البصر. فإن المتكلم هو غير الكلمة، كما أن المؤيِّد، هو الله، غير المؤيَّد
وهو الكلمة أو الابن، والمؤيِّد غير المؤيَّد به، وهو الروح القدس. وتلك أقانيم
الثالوث عندنا، لا خلاف فيها بيننا وبين المسلمين. فنحن نقول في بشارة الملاك
لمريم: ملاك الرب نزل من السماء، وبشر مريم العذراء، فحبلت بالروح القدس. ونقول
أيضاً: وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلّ بَيْنَنَا (يوحنا 1: 14). وفي الإنجيل
الطاهر: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ،
وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللّهَ (يوحنا 1: 1). إلى غير ذلك مما تتجلى فيه عقيدتنا
الراهنة، البعيدة عن معنى الأبوّة المادية التي يتَّهمنا بها المسلمون، وقد أبنّا
في ما تقدم وجه ما أجاز لنا تسمية الله بالآب، وأوضحنا أن قولنا الكلمة هو مرادف
لقولنا ابن الله، وأنّ الإنجيل المقدس قد دعاه الكلمة أيضاً، ودلّ في كلمة التبشير
على ولادته من روح القدس، لا من المادة كما شهد به القرآن. فتعيّن إذاً ألا يكون
بيننا وبينهم إلا خلاف لفظي في تسمية الله الآب، وهي أبوّة اقتضتها بنوّة المسيح
في قول القرآن: بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، ولا يصح أن يكون هذا الخلاف
سبباً في الجدل والمناوأة، مع صحة هذه الأبوّة التي اعتقدها ألوف من أهل العلم،
ونمت حقيقتها في أقوال القرآن، على ما رأيت. فالله المسؤول أن يجمع قلوبنا على حبه
وعبادته.

ونضيف
أن آيتي البقرة 87 وآل عمران 45 تضمنتا ذكر الثلاثة الأقانيم، كما تعلم به عقيدة
التثليث المسيحية تماماً. ففيه ذكر الله، وهو الإسم الشائع الاستعمال للكتابة عن
الأقنوم الأول والآب وفيها ذكر الكلمة الأقنوم الثاني، وفيها ذكر الروح القدس
الأقنوم الثالث.

ثم
أن آل عمران 45 تتكلم بوضوح عن الأقنوم الثاني كلمة الله، فهي تصرح أن هذه الكلمة
ليست لفظاً يقرع الأسماع ثم يذهب مع الريح، وإنما تعلم أن الكلمة:

 

(أ)
من الله: إنّ الله يبشرك بكلمة منه.

(ب)
ويراد بها شيء له قيوميته في ذاته: اسمه المسيح عيسى.

(ج)
وهي في الوقت ذاته ابن مريم.

 

ولقد
سلك المفسرون في تفسير هذه الآية وأشباهها سلوكاً كله تكلف وإعنات، فهم يقولون إن
الكلمة لم يكن من الله، بل كان بقوة كلمة الله كن. كما أنهم قد غُلبوا على أمرهم
في إدراك معنى الروح واضطربوا في تفسيره اضطراباً يدعو إلى العجب. وسنرى هنا صواب
قولهم أو خطأه.

قلنا
إن هاتين الآيتين تضمنتا ذكر الثالوث الأقدس كما علّمت به المسيحية. ونرى لزاماً
علينا أن نزيد هذا القول إيضاحاً وتفصيلاً.

 

(أ)
أما الآبفقد ذكرته الآية بطريقة يتحتم معها تسمية الله بهذا الاسم، لأنها في
كلامها قد دعت المسيح ابن مريم، فوجب أن يكون لهذا الابن أب كسائر المواليد من
أنثى، لأن المعلول لا بد له من علة، فالبنوّة تقتضي أبوّة. وأب المسيح إما أن يكون
أباً بشرياً كسائر الآباء، وحينئذ يصبح المسيح شخصاً عادياً، والمسيحية والإسلامية
تنزهان المسيح عن ذلك. وإما أن يكون هذا الآب أباً غير بشري، حتى يستقيم القول إنه
كلمة من الله. وقد انتفى أن يكون للمسيح أب بشري، فوجب أن يكون له آب فائق الطبيعة
هو الله سبحانه وتعالى.

 

وسيرى
القارئ عند كلامنا عن الكلمة تفصيلاً لهذا كله.

(ب)
أما الكلمة: فإن المفسرين يفسرون قول القرآن: بكلمة منه بزعمهم أن الكلمة لم يكن
من الله، بل كان بقوة كلمة الله، ولو صحّ هذا التفسير لأضحى المسيح موجوداً من
العدم لا من الله، وحينئذ يكون القرآن قد ذكر لفظة منه عبثاً. كما يكون قد أخطأ
حين أضاف الكلمة إلى الله ولقَّب المسيح بأنه روح منه في قوله إنما المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه , ونحن نجل القرآن عن هذا،
ونعتقد أنه لم يخطئ حين ذكر صدور الكلمة من الله، ولم يتعدّ الصواب حين وصف المسيح
بأنه روح منه , ولم يذكر كلمة منه عبثاً. بل نعتقد أنه إنما ذكرها ليدل على أن
مصدر الكلمة هو الله ذاته. وما كان من الله بغير طريق الخلق والإبداع، كان هو الله
ذاته لا محالة، لأن كل شيء في الله واحد.

 

ولكن
كيف حدث ذلك الصدور بحيث أصبحت كلمة الله ذاتاً اسمها المسيح عيسى ابن مريم؟

إنّ
نظرية الصدور أو التوالد تختلف بين الكائنات باختلاف طبائعها. وكلما ازدادت
الطبيعة رقياً وارتفاعاً ازداد ما يصدر عنها أو يتولد منها اتحاداً بها. فنرى في
الجمادات كالصخور والمعادن وهي أسفل الكائنات درجة أن الصدور والتولد لا يحدث فيها
إلا بفعل الواحد في الآخر. فالنار مثلاً لا تتولد إلا من نار، وذلك بفعل النار في
الجسم القريب منها، فتشركه في صفاتها وتحوله إلى نوعها، وقس على ذلك.

 

فإذا
ارتقينا بالنبات درجة، ورأيناه في مرتبة الحياة الحساسة حياة الحيوان رأينا أن
تولّد النفس الحساسة، الخاص بها، يبدأ من الخارج، وينتهي إلى الباطن. ولذلك أصبحت
هذه الحياة الحساسة أرفع قدراً من حياة النبات لزيادة اتحادها في ذات كونها،
ولكنها مع كل هذا ليست حياة كاملة الكمال الوافي.

 

فإذا
ارتقينا بهذه النفس الحساسة، ورأيناها وقد حلّ فيها النطق، فخرجت به من أفق
الحيوان إلى أفق الإنسان، رأيناها تبدأ الحياة العاقلة، التي هي أكمل أنواع الحياة،
وأرقاها شأناً، وأرفعها مقاماً.

 

بيد
أن هذه الحياة الحساسة الناطقة العاقلة لا تزال ناقصة لأن العقل البشري وإنْ أمكنه
أن يدرك ذاته فإنه إنما يستمد بدء علمه من الخارج، ولذا كانت الحياة العقلية في
الملائكة أكمل وأرفع منها في الإنسان. ولكنه مع هذا كله لم يصل إلى درجة الكمال
المطلق، لأن المعنى الذي يدركه الملاك وإن كان ذاتياً فليس هو جوهر الملاك، لأن
العقل والوجود ليسا واحداً فيه.

 

فكمال
الحياة إذاً الذي ليس وراءه كمال هو في ذلك الكائن الذي وجوده ذاته وذاته وجوده،
وهو الله سبحانه وتعالى، الحي القيوم، لأن العقل والوجود واحد فيه. ولذلك كان
المعنى المعقول فيه والذات الإلهية واحداً. ولكن لما كان وجود الله تعالى هو عقله،
وكان عقله هو وجوده، كان المعنى المعقول فيه هو عقله أيضاً، إذ كل شيء في الله
واحد، ومن هنا كان العقل فيه هو الشيء المعقول فيه، وكان بعقله لذاته يعقل كل شيء،
لأنه علة كل شيء.

 

والنتيجة
إذاً أن العقل والعاقل والمعقول واحد في الله سبحانه وتعالى.

إذا
أمعنت الفكر في كل ما سبق استطعت أن تتصور صدور الكلمة من الله ذات الصدور الذي
نؤمن به، وأشار إليه القرآن بقوله للعذراء مريم: إنّ الله يبشرك بكلمة منه، وبقوله
لزكريا عند تبشيره بيحيى: إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وهو المسيح.

 

ولا
يمكن أن يكون ذلك الكلمة قد صدر من الله على شكل الصدور الحادث بين الجماد، لأن
التولد فيه إنما يكون برسم صورته في مادة خارجية، ولا يمكن أن يكون قد صدر على شكل
الصدور الحادث بين النبات والحيوان لأن التولد فيهما لا يحدث إلا بانفصال شيء
منهما يشاركهما في صفاتهما، ولا يمكن أن ينفصل عن الله شيء منه، كما لا يمكن أن
يقبل هو جل شأنه شيئاً من الخارج.

 

فكيف
يكون إذاً قد صدر ذلك الكلمة من الله؟ لا سبيل لذلك إلا سبيل التولد العقلي.
فالكلمة إذاً هي في الله العاقل لذاته، أي أن الله تعالى معقول، وموضوع عقله هو
ذاته نفسها، لأن كل شيء في الله واحد. ولما كان عقله لا يخرج من القوة إلى الفعل،
فلا يطرأ عليه الحدث، ولا يقع تحت عوامل العرض كان كلمته الذي منه أزلياً أبدياً،
موجوداً فيه، ومساوياً له المساواة التامة.

 

ولما
كان كلمة الله منه فهو إذاً ابنه، على سبيل التولد العقلي. وهو إذاً له طبيعة الله
وصفاته، لأن الله لا يعقل ذاته بأقل مما هو عليه، إذ عقله وجوده.

 

والكلمة
الإلهية، من حيث أنها إله معقول هي إله حقيقي، لها الصفات الإلهية من ذات طبيعتها،
إذ لا تمايز بين وجود الله، وبين علمه وعقله، ولذلك كانت كلمة الله هي ذاته، لأنها
صادرة من الله بطريق التولد والصدور العقلي، لا بطريق الخلق والإبداع، كما أشرنا
إلى ذلك آنفاً. وهذا يفسر لنا قول القرآن: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح
عيسى ابن مريم، ويوافق قول الإنجيل: فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ،
وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللّهَ.,, كُلّ شَيْءٍ
بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَان (يوحنا 1: 1، 3).

 

فالكلمة
الإلهية إذاً هي نفس الذات الإلهية، وهي واحدة في النوع وفي العدد لأن كل شيء في
الله واحد. ثم أنّ الطبيعة في أيّ موجود لا تنقسم إلى موجودات كثيرة بمقتضى العدد،
بل بحكم المادة التي تتشخص بها. والطبيعة الإلهية منزهة عن كل مادة: فمن المحال أن
تكون واحدة في النوع وممتازة في العدد. فكلمة الله التي بشر بها الملاك العذراء
مريم، تشترك مع الله في طبيعة واحدة عدداً، فليس الله وكلمته إلهين اثنين، بل إله
واحد.

 

وقصارى
القول، إنّ كلمة الله قد صدر من الله بمقتضى عقله لذاته. ولما كان العقل والعاقل
والمعنى المعقول واحداً في الله تعالى، كان الكلمة هو الله تعالى.

 

(ج)
وأما الروح القدس: فالقرآن لا يوضح لنا ماهيته، ولا يفسر لنا معناه ولا يبيّن من
يكون هو، ولا ماذا يُراد به، مع أن القرآن ذكر كلمة روح في نحو عشرين آية. وكلما
وصل المفسرون إليها ارتبكوا وتحيّروا وغُلبوا على أمرهم.

 

ولا
نكاد نجد مفسراً واحداً أوفى شرح هذه اللفظة، وأبان مدلولها، بل نراهم يفسرونها
بمعانٍ لا صلة بينها البتة. ويخيّرون القارئ في أخذ ما يحب منها. فنرى مثلاً
الإمام البيضاوي عند كلامه عن آية البقرة 87: وآتينا عيسى ابن مريم البينات
وأيدناه بروح القدس يخيّر القارئ بين أربعة معانٍ هي:

(1)
الروح القدس هو جبريل.

(2)
هو روح عيسى.

(3)
هو الإنجيل.

(4)
هو الإسم الأعظم الذي كان عيسى به يحيي الموتى.

 

ويزيد
الطبري هذا التفسير تعقيداً على تعقيده. فتكلم في معنى الروح جسداً، ونسب تأويلات
متباينة إلى الصحابة وأولادهم لا تدل إلا على أنهم كانوا هم أيضاً في حيرة وارتباك
من جهة الروح, ولغموض القرآن في أمر الروح، ولخلط الأئمة وتناقض أقوالهم في تفسيره،
نرى المسلمين عامة يقفون عند الروح موقف من اعتقد أنه سر عظيم لا يمكن إدراك كنهه
ولا معرفة ماهيته. بل لا نغالي إن قلنا إن هذا السر العظيم قد غمض على نفس نبي
الإسلام، فقد وفد عليه اليهود يسألونه عن الروح، طالبين إليه أن يخبرهم: ماذا يكون،
وكيف يتعذب الروح الذي في الجسد؟ وكيف يتنعم؟ فأجابهم: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (سورة الإسراء 17: 85) مما يدل دلالة
واضحة لا لبس فيها ولا غموض على أنه قد اعتقد أن الروح صفة أو طبيعة تفوق إدراك
العقل البشري، وأنّ عِلم أمره مقصور على الله تعالى. وقد رُوي عن ابن بريدة أنه
قال: لقد مضى (مات) النبي وما يعلم الروح. هذا، وأقوال المفسرين تدل على أنهم
أيضاً قد تاهوا في هذا المجال، وشطوا في بحوثهم: هل الروح عرض أو جوهر؟ وهل هو ذات
المسيح، أم أن المسيح مولود بالروح، أم أنه مؤيد بالروح والروح مؤيد له فقط؟

 

وإن
كان القرآن لم يشف الغلة في إيضاح ماهية هذا الروح، فإن مما يستحق الاعتبار أنه
قرن ذكر الروح بالمسيح. وهذه الصلة القائمة بين المسيح والروح في القرآن، بجانب
هذا الغموض أمر يدعو إلى العجب، ويدل على منزلة المسيح التي لم يُنزِلها القرآن
أحداً غيره من الأنبياء والرسل.

ولو
نظرنا إلى ورود كلمة الروح في القرآن باعتبار زمن الآيات، لرأينا أربعة أقسام:

 

القسم
الأول: تكلم عن الروح كأنه جبريل أو أحد الملائكة. تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (سورة القدر 97: 4). يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً (سورة النبأ 78: 38). ,4تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (سورة
المعارج 70: 4).نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ (سورة الشعراء 26:
193، 194).قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (سورة النحل 16:
102)

 

وقد
ذهب البيضاوي والجلالان والكشاف والطبري والرازي والنيسابوري بما يشبه الإجماع
الكلي إلى أن الروح في هذه الآيات هو جبريل. ولا شك أنهم ذهبوا هذا المذهب تخلّصاً
من عناء البحث.

 

القسم
الثاني: ينسب الخلق إلى الروح. فَإِذَا سَّوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (سورة الحجر 15: 29 ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ
رُوحِهِ (سورة السجدة 32: 9).وقال الرازي في تفسيره ما معناه: نفخت فيه من روحي
حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي. وقال الجلالان: أجريت فيه من روحي فصار حياً.
وقال الكشاف: نفخت فيه من روحي وأحييته، وليس ثمة نافخ ولا منفوخ، وإنما هو تمثيل
لتحصيل ماء الحياة فيه. وزاد البيضاوي فقال: أي جعله حياً حساساً بعد أن كان
جماداً. وأضافه إلى نفسه تشريفاً.

 

وهذا
يدل على أن مفسري القرآن قد ازدادوا حيرة، لأن الروح في هذه الآيات ليس جبريل كما
فسروا في آيات القسم الأول. لأن جبريل ليس نفخة تجري في تجويف الإنسان، كما يجري
الدم، فيُحيا به. ولو كان الأمر كما ذكروا لما استطعنا أن نجادل من يقول إن الله
قد نفخ في القرد من روحه فصار حياً، لأنه بحسب قولهم لا حياة للجسم المادي دون أن
ينفخ الله فيه من روحه، كما قال الرازي إن كل أحد روحه روح الله، خطأ فاحش، لأنه
يقتضي أن يسمي كل واحد نفسه روح الله.

 

القسم
الثالث: ينسب الوحي إلى الروح. يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ (سورة النحل 16: 2). وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (سورة الإسراء 17: 85). رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو
الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ (سورة غافر 40: 15)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا (سورة الشورى 42: 52)
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (سورة
المجادلة 58: 22) وقد فسر المفسرون الذين ذكرناهم سابقاً الروح في هذه الآيات بأنه
الوحي أو القرآن أو الكتاب أو النبوّة أو الإيمان أو النصر على العدو أو النور،
ولكنهم قالوا جميعاً إنه الوحي.

 

القسم
الرابع: ينسب ولادة المسيح وأعماله إلى الروح. وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة البقرة 2: 87، 253)
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ (سورة النساء 4: 171).إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ (سورة المائدة 5: 110).فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (سورة مريم 19: 17).وَالّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا (سورة الأنبياء 21: 91)
وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ
رُوحِنَا (سورة التحريم 66: 12).

 

وقد
فسر المفسرون هذه الآيات قائلين إنّ الروح هو الروح المقدسة جبريل لطهارته، أو روح
عيسى ووصفها به لطهارته من الشيطان، أو لكرامته على الله ولذلك أضافها الله إلى
نفسه، أو لأنه لم تضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، أو الإنجيل، أو اسم الله الأعظم
الذي كان عيسى به يحيي الموتى.

 

وتفسير
هذا القسم قد اصطبغ بصبغة الفكر المبلبل، إذ جعل للروح تأثير قوة روحية خفية ليست
هي الله ذاته، على أن ما يستنتج من آياته أن الروح هو من الله رأساً، فلا يدرك كنهه
سواه، إذ هو مصدره، وأنه كان الواسطة الوحيدة في حبل العذراء بالمسيح، وأنه هو
الذي كان يوحي كلام الله إلى أنبيائه وأنه كان مؤيِّداً للمسيح.

 

وما
دام أن الروح هو من الله، أو هو روح الله، فهو ككلمته إله أزلي له كل الصفات
الإلهية، لأن كل شيء في الله واحد كما ذكرنا، ولأن القرآن لم يوضح لنا ما هو. وأما
القول بأن الله قد أضاف الروح إلى نفسه تشريفاً فهو تكلّف لا سبيل إلى الأخذ به.

 

ومن
العجيب حقاً أن مفسري القرآن لم يستطيعوا معرفة حقيقة أمر الروح وإدراك سره، ونحن
نعتقد أن الذي منعهم من بحث الأمر بحثاً دقيقاً هو سر الأقانيم الإلهية في ذاته
تعالى، ولهذا نراهم يحاولون جهدهم التخلص من عقدة التثليث فيحولون العبارات من
الحقيقة إلى المجاز.

ألم
تر كيف يقولون إن الروح هو جبريل، أو ملاك عظيم، أو جند من الملائكة، أو نسمة، أو
ريح، أو نور، أو الوحي، أو الإيمان، أو النبوة، أو القرآن، أو الإنجيل، أو كل
الناس، أو هو كائن أعظم من الملائكة، أو النصر على العدو أو… أو الخ؟

 

وهذه
المعاني الكثيرة، التي تبعث على الدهشة تدل على أن بين المسيح والذات الإلهية صلة
فريدة تقوم بوساطة روح يشترك في هذه العلاقة الممتازة، فهي ليست كالصلة العادية
التي بين الخالق والمخلوق، وليست بالصلة التي تدعو إليها دواع يخترعها المفسرون
اختراعاً.

 

ونحن
نشاطر المسلمين حيرتهم إزاء غموض القرآن في أمر الروح، والذي لم يستطع الصحابة أو
المفسرون جلاءه أو الوصول إلى حقيقته، ولهذا نرى واجباً علينا أن نلجأ إلى الكتاب
المقدس نستوضحه ما غمض علينا فهمه، عملاً بقول القرآن: فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ (أهل الكتاب) إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (سورة الأنبياء 21: 7)

 

يرى
المطلع على كتاب الله المقدس أن الروح القدس هو الرب جل جلاله, وَدَعَا اسْمَ
الْمَوْضِعِ مَسَّةَ وَمَرِيبَةَ مِنْ أَجْلِ مُخَاصَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَمِنْ أَجْلِ تَجْرِبَتِهِمْ لِلرَّبِّ قَائِلِينَ: أَفِي وَسَطِنَا الرَّبُّ
أَمْ لَا؟ (خروج 17: 7) لِذ لِكَ كَمَا يَقُولُ الرُّوحُ الْقُدُسُ: الْيَوْمَ
إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلَا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ، كَمَا فِي الْإِسْخَاطِ،
يَوْمَ التَّجْرِبَةِ فِي الْقَفْرِ حَيْثُ جَرَّبَنِي آبَاؤُكُمُ. اخْتَبَرُونِي
وَأَبْصَرُوا أَعْمَالِي أَرْبَعِينَ سَنَةً (عبرانيين 3: 7-9) رُوحُ الرَّبِّ
تَكَلّم بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي. قَالَ إِلهُ إِسْرَائِيلَ. إِلَيَّ
تَكَلّم صَخْرَةُ إِسْرَائِيلَ. إِذَا تَسَلّطَ عَلَى النَّاسِ بَارٌّ يَتَسَلّطُ
بِخَوْفِ اللّهِ (2 صموئيل 23: 2، 3) لِأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ
بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلّم أُنَاسُ اللّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ
مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ (2 بطرس 1: 21) ويرى أنه ذات الله في أسفار صموئيل
والمزامير وإشعياء، وأنه قد وُصف بصفات الله عز وجل، فهو الديَّان المقنع المعلّم
المُعِين، ذو القوة والبأس المتين.

 

فالروح
هو الله بلا شك، لأن هذه الصفات لا يمكن أن يتصف بها غيره تعالى، وهذه الحقوق
مختصة به وحده، فهو الذي يقف الكل أمام عرشه صاغرين، وما الملائكة إلا مبلغون
لوحيه، وليس الأنبياء والرسل إلا مبشرين ومنذرين. أما الروح القدس فهو الذي يحرك
القلوب وينمي مفعول كلام الله فيها، وبيده الحياة والحكمة يؤتيها من يشاء (يوحنا 7:
39، رومية 9: 1، 1 تسالونيكي 1: 5، 1 بطرس 1: 12). وهو الذي يسكب المحبة في قلوب
المؤمنين، وهو الذي يقدس ويغسل ويبرر، مما لا يستطيعه إلا الله. فبأي وجه لا نعتقد
أن الروح هو الله. وهذا أيوب يقول: رُوحُ اللّهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ
أَحْيَتْنِي (أيوب 33: 4)

 

إننا
نَتَكَلّم بِحِكْمَةِ اللّهِ فِي سِرٍّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الّتِي
سَبَقَ اللّهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، الّتِي لَمْ
يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ – لِأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا
صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ. بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ،
وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ
اللّهُ للّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ اللّهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ.
لِأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللّهِ. لِأَنْ مَنْ مِنَ
النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الْإِنْسَانِ الّا رُوحُ الْإِنْسَانِ الّذي فِيهِ؟ ه
كَذَا أَيْضاً أُمُورُ اللّهِ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ الّا رُوحُ اللّهِ. وَنَحْنُ
لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الّذي مِنَ اللّهِ، لِنَعْرِفَ
الْأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللّهِ، الّتِي نَتَكَلّم بِهَا أَيْضاً،
لَا بِأَقْوَالٍ تُعَلّمهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلّمهُ
الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ (1 كورنثوس 2: 7-13)

 

الخلاصة

نستطيع
بعد كل ما سبق بيانه، القول إن القرآن تكلم عن سر الثالوث الأقدس كما تُعلّم به
المسيحية الصحيحة. فقد ذكر القرآن: الله، وكلمته، وروحه، وهذه هي الأقانيم الإلهية،
الواحدة الذات والجوهر. ولقد كان كلامه بهذه الطريقة مصادقةً منه على صحة عقيدة
التثليث المسيحية التي لا تنافي العقل، ولا تقول بتعدد وإشراك، وإنما هي العقيدة
المثلى للإيمان الحق بالله تعالى، إذ توضح لنا أسرار محبته وعدله ورحمته.

وعليه
فقد رأينا في الأبحاث السابقة كيف نظر الإسلام إلى العقيدة المسيحية في الله تعالى،
وعلقنا على أقواله بما يوصلنا إلى النتائج الآتية:

1
– التثليث الذي حاربه الإسلام، هو غير التثليث المسيحي، وهو تثليث مبتدَع، يقول
بالولادة التناسلية، والتعدد في الذات الإلهية، مما تبرأ منه المسيحية وتكفّر كل
القائلين به.

2
– أثبت علماء الإسلام ومحققوه للمسيحية فكرتها الصحيحة عن الثالوث، فتكلموا عنه
معلنين أن هذه العقيدة المسيحية هي غير عقيدة التثليث المغلوطة التي كانت قد ظهرت
عند ظهور الإسلام فندد بها القرآن، واجتهد في إظهار ما بها من الضلال. ولقد سبقته
الكنيسة في ذلك، فحرمت شيعة هذا المذهب المبتدع، وحظرت أتباعه، ولا يزال موقفها
معهم إلى اليوم موقف المنكر لما يعتقدون.

3
– نظر الإسلام إلى المسيحيين وتكلم عنهم كقوم موحّدين، فوعدهم بالأجر والثواب،
ووصفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم يسارعون في الخيرات، ويؤمنون
بالله واليوم الآخِر، وحَقَن دماءهم، فكان بذلك مميِّزاً لهم عن المشركين الذين
أحلّ دماءهم، ووعدهم جهنم وساءت مصيراً.

4
– تكلم الإسلام عن سر الثالوث الأقدس كما تُعلّم به المسيحية، فتكلم عن الله بما
يلزم معه أن يُنعت بالآب. وعن المسيح كلمة الله الأزلي، وصرح أن هذا الكلمة قد صدر
من الله،بما يحتم أن يكون المسيح والله ذاتاً واحدة، لأن كل شيء في الله واحد. وعن
الروح القدس كأنه همزة الوصل بين الله والمسيح وبين الخالق والمخلوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار