24- نظرة إلى مجموع التجارب وهدفها
24- نظرة إلى مجموع التجارب وهدفها
إن
أهم ما يمكن أن نقوله بخصوص هذه التجارب التي جازها المسيح: إنها لم تُصوَّب إليه
كونه “ابن الله” فهذا مستحيل ولا يستطيعه الشيطان، ولكنه لمَّا تجسَّد
الابن الكلمة وأخذ جسد الإنسان، أي صار بشراً، أصبح في متناول الشيطان لأنه جرَّب
مع آدم ونجح. فالتجارب مصوَّبة للمسيح ابن الله المتجسِّد باستغلال أخذه ضعف
الإنسان أي جسده.
وبالمقابل
فإن المسيح دخل إلى تجربة الشيطان وهو حامل البشرية وممثِّلها بقصد مباشر هو أن
يجيز البشرية التي فيه، وهي أضعف ما فيه، كل تجارب الشيطان، ثم يغلب الشيطان،
وبجسده الضعيف، يحطِّم أسلحته وقوته وذلك لحساب الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة
التي ستقوم به وفيه من بين الأموات. لذلك قالها المسيح واثقاً مما عمله بفم
الإنسان الجديد الذي فيه قبل أن يجوز به الموت لينهي منه قوة الخطية إلى الأبد:
” لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء” (يو 30: 14).
فقد صفَّى المسيح حساب الشيطان مع الإنسان قبل أن يدخل بجسده الموت حتى لا يُمسك
منه في الموت؛ بل قام به جديداً منيراً خليقة جديدة لحساب الإنسان.
على
أن التجربة مع الشيطان كانت تمهيداً للتجارب والمصادمات التي كانت تنتظره مع
الكتبة والفريسيين، وأعطته الإحساس الداخلي
كيف يتعرَّف على التجربة من أين هي آتية وإلى أين هي مصوَّبة. فقد أدرك أفكار العدو وكشف حيله، فلم تكن
التجارب بعد ذلك خارجة عن متناول معرفته وسلطانه.
لقد
جاز المسيح تجارب الشيطان والكتبة والفرِّيسيين ورؤساء الكهنة، وبالنهاية قال
لتلاميذه: “دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع
الأُمم” (مت 18: 28و19). لقد تخلَّى المسيح عن مظاهر المجد والقوة وحارب الشر
والأشرار ببرِّه الذاتي الشخصي، فغلب واسترد كل سلطان له ليحكم ويدين.
لقد
كان القصد والغاية من التجربة التي جازها المسيح إزاء الشيطان أن يختبر علاقة
المسيح بالله أبيه. بالرغم أن التجربة في ظاهرها أصابت الجسد حيث تتركَّز
التجربة في: (أ) شهوات الجسد الطبيعي، (ب) الشهوات النفسية للطبيعة الإنسانية، (ج)
شهوة الإعجاب بالذات والتكريم من الآخرين وامتلاك القوة.
أمَّا
جوهر التجربة الحقيقي فهو موجَّه نحو الدعوة التي دُعِيَ إليها المسيح، فهي
مصوَّبة بإتقان لتخريب العلاقة بين المسيح والله لإصابة طاعته وثقته وأمانته في
الله. وهذا واضح جداً في عرض الشيطان للمسيح بأن يُسلِّمه مملكة العالم كله إن هو
سجد له. أمَّا ثقة المسيح في الله فتعرَّضت للتجربة بتقديم فكرة طرح المسيح لنفسه
من فوق جناح الهيكل. وأمَّا طاعة المسيح لله في كل شيء فامتحنها الشيطان بعرض فكرة
تحويل الحجر إلى خبز، الأمر الذي ازداد وضوحاً برد المسيح عليه: “ليس بالخبز
وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” أي الوصايا والطاعة لها. كما
جاءت في (تث 3: 8)، حيث تكون الحياة في خضوع كلِّي لمشيئة الله.
من
هنا يظهر لنا أن المعمودية وبعدها التجربة هما فصل واحد متماسك ومتشابك في بدء
حياة المسيح وخدمته، حيث في المعمودية يتم اختيار الله للمسيح وتعيينه للعمل،
يقابله في التجربة رد فعل المسيح في المحافظة على هذا الاختيار بمنتهى حرية
المسيح والأمانة الكلِّية لله الآب، والثقة فيه، والخضوع والطاعة
له كملك.
وهكذا
وقبل أن يبدأ خدمته تعيَّن المسيح رسمياً من الله كمختار الله للعمل في تأسيس
ملكوته على الأرض، كما تمَّ إثبات أمانة المسيح وثقته وخضوعه لله كملك لملكوته على
الأرض، وأن كل ما سيتم في هذه الخدمة سيكون من أجل الله، مع الله، وتحت الله؛ حيث
المسيح سيكون العامل الأمين الكامل للملك الكامل.
الأناجيل
تُثبت وتوضِّح هذا الأمر:
+
“إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله.” (مت
28: 12)
هنا
واضح أن القوة التي سيُمارس بها المسيح إخراج الشياطين هي قوة الله الملك.
+
“ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أُمي وإخوتي، لأن مَنْ يصنع مشيئة الله
هو أخي وأختي وأمي.” (مر 3: 34و35)
وهنا
واضح أن المسيح جاء ليصنع مشيئة الله بدليل أن كل مَنْ يصنع مشيئة الله يكون
منتسباً إليه: “بيت الله”.
+
“وأمَّا الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلاَّ للذين أُعدَّ
لهم.” (مر 40: 10)
+
“وأمَّا ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين
فيالسماء ولا الابن إلاَّ الآب.” (مر 32: 13)
وهنا واضح أن المسيح يترك ما لله في يد الله وليس له إلاَّ
أن يصنع مشيئته.