المسيحية

أهم نقاط الالتقاء بين القرآن والإنجيل



أهم نقاط الالتقاء بين القرآن والإنجيل

أهم
نقاط الالتقاء بين القرآن والإنجيل

أهم
نقطة يشهد فيها القرآن للإنجيل، أن عيسى هو المسيح حقاً. لو لم يؤكّد القرآن على
هذه العقيدة الأساسية، لما كان صادقاً. فهذه الشهادة خزت اليهود وأثارت نقمتهم على
محمد. ولو قال القرآن أن عيسى ليس المسيح، لَقَبِلَهُ اليهود وما حاربوه، لأنهم ما
زالوا ينتظرون مجيء المسيح الصهيوني الذي يتوخّونه. هذا المسيح الصهيوني الدجّال
معروف باسم “المسيح الدجال”. سنقول عنه بعض الشيء في حديثنا عن المسيح.

 

إن
اهم النقاط الموحّدة بين القرآن والإنجيل هي:

1-
المسيح

2-
مريم العذراء

3-
المائدة السماوية

4-
الروح

 

(1) المسيح

إن
الحقيقة الأولى والكبرى التي كشفها القرآن للعرب هي أن لا إله إلا الله. ثم أعلمهم
أن عيسى هو حقاً مسيح الله الذي تنبّأ به الأنبياء. هذه الحقيقة تمنع اليهود من
الإيمان بالقرآن، فلو آمنوا به، لاضطرّوا إلى الاعتراف بالإنجيل أيضاً وبأن عيسى
هو المسيح. إليكم أهم الآيات القرآنية التي تشهد أنّ عيسى ابن مريم هو المسيح:

 

 (..وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله..)
(النساء 157)

 (المسيح عيسى ابن مريم رسول
الله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه..) (النساء 171)

 ( قل: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد الله أن يهلك المسيح ابن مريم
وأمه..[(المائدة 17)

 (..اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن
مريم
..[(مريم 33)

 ( إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمةٍ منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم..[(آل عمران 45)

 

إذا
اعترف الإسرائيليون أن عيسى هو المسيح، لوجب عليهم التخلّي عن الصهيونية وعن
الدولة الإسرائيلية التي فيها تتجسّد مبادئ الصهيونية. فلقد أبى اليهود الاعتراف
بعيسى مسيحاً، لأنه نكر أن يكون للدولة الإسرائيلية
وهي هاجس اليهود حق إلهي في الوجود. ولذلك رفض المسيح من اليهود أن يكون عليهم
ملكاً زمنياً لدولة إسرائيلية كما ورد في إنجيل يوحنا 6: 14-15.

رفض
المسيح تأسيس مملكة يهودية لأن ملكوت الله في القلب، لا في السياسة. وقد رفض جدعون
أيضاً تأسيس تلك المملكة في القرن الثاني عشر ق.م.، وكان هو أول من رفضها (القضاة
22: 8). ثم رفضها النبي صموئيل في القرن الحادي عشر ق.م. (صموئيل الأول: 8). إلا
أن اليهود أصرّوا منذ هذا الزمن القديم على إنشاء إمبراطوريّة صهيونيّة، مع أن
الله أعلن صراحة، بفم النبي صموئيل، عن عدم رضاه عنها.

 

إن
رفض المسيح تأسيس دولة يهودية، يعني أن هدف الدين ليس سياسياً، بل روحانيّاً. لكنه
لا يعني أن المؤمنين محرومون من الاشتراك في السياسة، بل وبالعكس، أنه من المرغوب
ومن الأفضل أن يحكم البلاد رجال مؤمنون، يقودون الناس إلى ما يُرضي الله ويخدم
أفراد المجتمع بأسره، لا فئة دون أخرى. إنما الاشتراك في الحكم شيء، وتسييس الدين
بجعله دين ودولة شيء آخر. فالدين للمؤمنين بالله، أما الدولة فلأبنائها، المؤمنين
منهم وغير المؤمنين، “فلا إكراه في الدّين” كما جاء في القرآن

في
سورة البقرة 256.

 

إن
أهمية الاعتراف بيسوع مسيحاً، علماً برفضه دولة صهيونية، هي في قمة الإيمان في
الإنجيل. وهذا يعطي على تصديق القرآن لعيسى مسيحاً كل ثقله.

 

يقول
الوحي الإنجيلي: “لا يستطيع أحد أن يقول إنّ يسوع سيد (أي أنه السيد المسيح)
إلاّ بوحي من الروح القدس” (1 كورنثوس 3: 12). وأيضاً: “كل من يؤمن أن
يسوع هو المسيح فقد وُلد (بالروح) من الله” (رسالة يوحنا الأولى 1: 5). ويقول
المسيح بنفسه لليهود المتآمرين عليه: “إن لم تؤمنوا أني أنا هو (المسيح)
ستموتون في خطاياكم (يوحنا 24: 8).

 

يشرح
الوحي الإنجيلي في رسالة يوحنا الأولى أن الذين يقولون إن يسوع ليس المسيح، هم
جماعة المسيح الدجال: “لقد سمعتم أن المسيح الدجال سيأتي.. إن الذي ينكر
أنّ يسوع هو المسيح،
هذا هو المسيح الدجال” (1 يوحنا 2: 18-22). إنّنا
نعلم أنّ فئة عديدة من اليهود ينكرون أنّ يسوع هو المسيح.

 

نستنتج
من كلام الوحي هذا أن محمداً الذي آمن أن عيسى هو المسيح مُلهمٌ من الروح القدس.
كما أننا نستنتج أن اليهود، ناكري المسيح عيسى، هم أتباع المسيح الدجال الذي ظهر
في فلسطين متجسّداً في كيان إسرائيلي دجّال أعضاؤه كلهم “ينكرون أن يسوع هو
المسيح”.

 

يقول
الوحي الإنجيلي إن يسوع، عندما سيظهر المسيح الدجال، سيبيده هو بنفسه. فيقول
الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي (باليونان)، إن
“العدو” (أي المسيح الدجال) سيظهر قبل عودة المسيح، ويكون ظهورهذا
الدجّال مؤشّراً لتلك العودة.

فيقول
الرسول بولس:

“لا
يأتي المسيح قبل ظهور الكفر (الصهيوني) أولاً، ويُعلَن إنسان الإثم، ابن الهلاك،
العدو.. وسيبيده السيد (يسوع) بنفحة فمه، ويقضي عليه بسني مجيئه ” (2
تسالونيكي 2: 3-12).

 

إن
الكفر المتنبّأ به هو الكفر الصهيوني لأنه عنصري، والله ليس عنصرياً. و”إنسان
الإثم”، و”ابن الهلاك” و”العدو”، هو الإنسان الصهيوني،
عدو الله والإنسانية، ودولته الدجالة “إسرائيل” التي هي قلبه النابض. إن
اليهود الصهاينة عملوا بالأمس من خلال مؤسسات؛ أما اليوم، فعملهم أعنف ما يكون
لأنّهم يعملون من خلال دولة، تَجَسّدَ فيها الكفر والدجل بقوة السلاح.

 

لقد
تنبّأ النبي محمد في أحاديثه الشريفة عن هذا الكفر، إذ قال إن الأحرف “ك ف
ر” مدوّنة على جبهة المسيح الدجال بين عينيه (*). تلك الأحرف، بجمعها في كلمة واحدة، تعني
“كفر”. وجاء في الأحاديث أيضاً، أنه لدى ظهور المسيح الدجال، سيبيده
المسيح عيسى وأصحابه، وهذا يصدّق على ما جاء في الإنجيل بهذا الصدد. إذ ورد في سفر
الرؤيا أنّ كلمات كُفر وتجذيف أُعطيت لدابّة (أو وحش) تظهر ومدوّن على جبهتها إسم
سرّي: “رأيت إمرأة تجلس على وحش قرمزيّ (إسرائيل) مُغطّىً بأسماء
تجذيف..” (رؤيا 17: 3). وقد أُعطيَ هذا الوحش “فماً ينطُقُ بكلام
الكبرياء والتجذيف (الكفر) ” (رؤيا 13: 5).

 

إن
أصحاب عيسى اليوم، بالمقصود الروحي للنبوءات، ليسوا المسيحيين التقليديين
المتعاملين مع إسرائيل والداعمين إياها، بل هم جماعة المتعطّشين إلى العدالة،
والمحرومين منها تحت وطأة الإسرائيليين، والثائرين من كل بلد وكل دين على الإثم
الصهيوني الغدّار وحلفائه المرذولين، والرافضين الكيان الإسرائيلي الظالم الدجال
وعملائه الضالين الهالكين.

 

ستزول
“الدولة” الإسرائيلية المزيّفة كما تنبّأ لها الوحي الإنجيلي والنبي
محمد، فيكون فناؤها رمزاً لفشل كل محاولة وكلّ فكرة تهدفان إلى جعل الإيمان ديناً
ودولة، وسيتّعظ بسقوطها الكثيرون، فبسقوطها يملك المسيح وأصحابه كما جاء في
النبوءات.

 

 (2) العذراء مريم

يقول
القرآن الكريم أكرم ما يُقال عن السيدة العذراء: (يا مريم، إن الله اصطفاك وطهّرك
واصطفاك على نساء العالمين) (آل عمران 42). أليست تلك الشهادة إدانة لليهود الذين
يكفرون (بقولهم على مريم بهتاناً عظيماً) حتى يومنا هذا؟ (النساء: 156) إنّ الله،
في هذه الآية الشريفة، يصدّق لما أوحاه عن مريم في الإنجيل: “مباركة أنت في
النساء” (لوقا 42: 1).

 

يكشف
الوحي القرآني عن استثنائية طهارة مريم وابنها. فتقول عنهما امرأة عمران، أم مريم:
(إذ قالت امرأة عمران: ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً. فتقبّل منّي انك أنت
السميع العليم.. وإني سمّيتها مريم وإني أُعيذُها بك وذُريّتها من الشيطان الرجيم)
(آل عمران: 35-36). لقد تقبّل الرحمن الرحيم من امرأة عمران نذرها، فكانت مريم
وذريتها عيسى، وحدهما مصانيْن من الشيطان الرجيم، إذ يقول النبي محمد في أحاديثه
الشريفة:

“ما من أحد يولد إلا والشيطان يمسّه حين
يولد، فيستهلّ صارخاً من مسّ الشيطان، إلاّ مريم وابنها” (انظر تفسير
الجلالين لآية آل عمران 36).

 

هكذا
أعلمنا النبي محمد أن كل رجل وكل امرأة، بما فيهم الأنبياء كلّهم وأمّهاتهم،
وُلدوا وقد مسّهم الشيطان بدنسه، ما عدا مريم وابنها عيسى.

 

فأين
موقف اليهود من تلك الشهادة؟!

 

(3) المائدة السماوية

تكلم الوحي
القرآني عن “مائدة” نزلت من السماء غذاءً للحواريين، تلاميذ المسيح
الإثني عشر. فجاء في سورة المائدة:

 (وإذ
قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟
قال: اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم
أن قد صدقتنا ونكون عليها (أيّ على المائدة) من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم:
اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك
وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله: إني منزّلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإنّي
أعذّبه عذاباً لأ أعذّبه أحداً من العالمين) (المائدة 112-115).

 

ما
هي هذه المائدة النازلة من السماء؟ إن معرفتها ذات أهمية عظمى، لأن الحواريين
قطعوا عهداً بأن يكونوا (عليها من الشاهدين). وعلى تلك الشهادة أن تدوم إلى آخر
مؤمن
على وجه الأرض، لأن عيسى يطلبها من الله (لتكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا).
فأنزلها لهم الله محذّراً من يكفر بها بعذاب لم يذقه أحد من العالمين.

 

يظن
بعض المفسرين أن هذه المائدة هي طعام مادي، كالسمك، وهم يخلطون بتفسيرهم هذا بين
أعجوبة تكثير السمك التي أنجزها المسيح ورواها الإنجيل، وتلك المائدة الروحيّة
لأنّها نازلة “من السماء“.

 

يقول
الإنجيل (يوحنا 1: 6

15) إن المسيح، إذ رأى الجمع حوله جياعاً، كثّر بأعجوبة عدد السمك والخبز
الموجودَيْن، وفرّق على الشعب الملتف حوله. فأكلوا كلهم وشبعوا، ثم جمعوا ما تبقّى
في إثنتي عشرة سلّة. في هذه الأعجوبة، أعطى المسيح طعاماً من الأرض، لا من السماء.
أما ما طلبه الحواريون من عيسى في سورة المائدة، فهو إنزال مائدة (من السماء).
ومن السماء تنزل مائدة روحية، لا مادية، كما أوحاها الله وفسّرها في الإنجيل
قائلاً: “إنّ أبي هو الذي يُعطيكم خُبز السماء الحقيقيّ، لأنّ خُبز الله هو
الذي ينزل من السماء ويهب الحياة للعالم.. أنا خُبز الحياة النّازل من
السماء..” (يوحنا 6: 32-35).

 

لكن
كيف يمكن توضيح تلك المائدة الروحية، وشرح ذاك الغذاء الروحي إلى عرب الجاهلية
الذين لا يعلمون عن الأمر شيئاً؟ لقد توجّب الحديث عنها أولاً (بلسان عربي مبين)
وبذهنيّة عرب الجاهليّة، ليعلم بها من يجهل عنها كل شيء، وليبحث عنها المؤمن بعد
ذلك في الإنجيل، حيث يجدها مفصّلة.

 

يظن
بعض المفسّرين أن الله لم ينزّل هذه المائدة بعد، وأنه وعد بها فقط. إن هذا
التفسير خطأ، فلا ينطبق على ما قاله تعالى: (إني منزّلها عليكم)، أي على
الحواريين بالماضي.

 

لأجل
أن يفهم المؤمن سرّ هذه المائدة، وليكون (عليها من الشاهدين) مع المؤمنين بها، إذ
هو آمن بها أيضاً، فعليه العودة إلى الوحي الإنجيلي. إننا نجد فيه أن السيد
المسيح، بعد أعجوبة تكثير الخبر والسمك، إذ رأى الجموع تبحث عنه لتجعله ملكاً
صهيونياً على إسرائيل، قال لهم: “إنكم تطلبوني، لا لأنكم عاينتم العجائب (أي
لا لأسباب روحية سامية) بل لأنكم أكلتم خبزاً وشبعتم (أي لأسباب ماديّة أرضيّة سفلى).
اعملوا لا لأجل الطعام الزائل، بل لأجل الطعام (الروحي) الذي يبقى للحياة الأبدية..
إن أبي هو الذي يعطيكم خبز السماء الحقيقي، لأن خبز الله هو (المسيح) الذي ينزل من
السماء ويهب الحياة للعالم”. فقالوا له: “يا سيد اعطنا دائماً من هذا
الخبز”. فقال لهم يسوع: ” أنا خبز الحياة. من يأتي إليّ لن يجوع أبداً،
ومن يؤمن بي لن يعطش أبداً،.. فأخذ اليهود يتذمرون عليه لأنه قال: أنا الخبز
النازل من السماء.. فقال لهم يسوع: لا تتذمّروا فيما بينكم.. الحق، الحق أقول لكم،
إن من يؤمن (بما أقول) له الحياة الأبدية. أنا خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في
البرية وماتوا (ماتوا روحياً لأنهم، بعدما أكلوا المنّ، تذمّروا على الله وموسى في
البرية). أما هذا الخبز فهو النازل من السماء لكي لا يموت كل من يأكل منه. أنا
الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز، يحيا إلى الأبد. والخبز
الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله لأجل حياة العالم”. فخاصم اليهود بعضهم
بعضاً قائلين: كيف يستطيع هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟ فقال لهم يسوع: الحق، الحق
أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن البشر (المسيح) وتشربوا دمه، فلا حياة لكم في
نفوسكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي، له الحياة الأبدية، وأنا أبعثه حيّاً في اليوم
الأخير.. فقال كثيرون من تلاميذه من بعد ما سمعوه: هذا الكلام صعب (القبول به). من
يستطيع أن يسمعه؟” فقال لهم يسوع: “أكلامي هذا يُشكِّكُهُم؟ فما بالكم
إذا رأيتم ابن البشر يصعد إلى حيث كان اولاً؟ إن الروح هو الذي يحيي، وأما الجسد
فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي قلته لكم، هو روح وحياة. ولكن منكم قوم لا يؤمنون..
منذ هذا الوقت، ارتدّ عنه كثيرون من تلاميذه، ولم يتبعوه” (يوحنا 26: 6-66).
إنّ اليهود بعد أجيالٍ من التهيئة لم يستوعبوا كلام المسيح عن الخبز النازل من
السماء مائدةً روحيّةً للمؤمنين كافّةً. بل إنّ هذا الكلام نفسه غير مقبول حتى في
أوساط تدّعي المسيحية، فهو كلام روحٍ وحياةٍ لا يستوعبه الماديّون. ولقد أُنزلت
المائدة من السماء لفرز الروحانيين عن الماديين.

 

لقد
أعطى المسيح الحوارييّن المائدة النازلة من السماء، أيّ خبز الحياة هذا الذي وعد
به، بعد مضي سنة من الحديث عنه. وقد جرى ذلك أثناء آخر عشاء فصحي أكله المسيح مع
تلاميذه (الحواريين)، المعروف “بالعشاء السري”، إذ أخذ خبزاً وأعطاهم
إياه قائلاً: “خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يُبْذل لأجلكم”. ثم أخذ كأساً
وقدّمه لهم قائلاً: “إشربوا منها كلّكم، هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الذي
يُسفك لأجلكم ولأجل الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متّى 26: 26-29).

 

عندها
فهم الحواريّون والمؤمنون من بعدهم كيف يمنح المسيح ذاته وروحه مأكلاً ومشرباً. إن
المائدة التي يقدّمها المسيح الحيّ (لأولنا ولآخرنا) هو الروح القدس الإلهي الذي
يستقر في قلوب المؤمنين من خلال خبز يأكلونه ومشروب يروي نفوسهم. إن هذا المشروب
السماوي الإلهي هو الوارد ذكره أيضاً في القرآن الكريم في سورة المطففين، والذين
يشربون منه هم الأبرار دون سواهم الذين يجرمون بابتعادهم عنه: (إنّ الأبرار لفي
نعيمٍ على الأرائكِ ينظرون، تعرِف في وجوههم نضرة النعيم، يسقوْن من رحيق مختوم
ختامُهُ مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم (ماء) عيناً يشرب بها المقرّبون،
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا (بهذا المشروب) يضحكون) (سورة المطففين
22-29).

والقرآن
الكريم، إذ يقدّم للمؤمنين هذا (الرحيق المختوم) إنّما يصدّق على كلام
السيّد المسيح الوارد في إنجيل يوحنا عن الخبز المختوم النازل من السماء:
“هذا القوت يهِبُهُ لكم إبن الإنسان (المسيح) لأنّ الله الآب ختمه بختمه
(يوحنا 6: 27).

 

نُذكّر
بما قاله عيسى في سورة المائدة: (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا
عيداً لأولنا وآخرنا) (المائدة 114). هذا يعني أن المائدة التي نزلت، ليست
للحواريين وحدهم، فهي ما زالت نازلة كلّ يوم لتكون عيداً (لأولنا وآخرنا
أي لمؤمني كلّ زمان ومكان إلى يوم القيامة، تشهد أمام الله إلى الأبد لمن شهد لها
على الأرض.

وأخيراً،
لا بدّ من ملاحظة أمرٍ في غاية الأهميّة، وهو أنّ القرآن الكريم يدفع المؤمنين، بل
ويحثّهم على التنافس، أي على التسابق نحو هذا الرحيق المختوم
السريّ، فهو مشروبٌ مجيدٌ،مُحيي، من السماء ينحدر، إنّه يختلف كليّاً عن الخمر
الأرضيّ. فليتّعظ إذاً، قبل فوات الأوان، كلّ من يرفضه، وليحذر أيضاً كلّ ساخرٍ
يسخر من المؤمنين به المتنافسين عليه.

 

(4) الروح

ثمّة غموض في المجتمع الإسلامي حول مفهوم الروح.
تلك الكلمة واردة تكراراً في القرآن الكريم دون توضيح جوهرها، تاركاً المؤمنين يتساءلون
عن مقصودها. فورد في سورة الإسراء:

 (ويسألونك
عن الروح قل (يا محمد) الروح من أمر ربّي وما أوتيتم (في القرآن) من العلم إلاّ
قليلاً) (الإسراء 85). للقرآن الكريم حكمة في عدم إلقاء النور على معنى الروح،
فالمولى عزّ وجلّ أراد أن يكون وحيه القرآني باباً مفتوحاً ومنفذاً للكتاب المقدّس
وشاهداً مصدّقاً للكتاب كما رأينا سالفاً.

 

وشأن
“الروح” في القرآن هو شأن “المائدة” التي أنزلها الله من
السماء على الحواريين، لا يدرك المؤمنون معناهما إلاّ باللجوء إلى الكتاب، فالقرآن
الكريم يحثّ المؤمن على استشارة الكتاب وأهله إذ ورد في سورة يونس:

 (فإن
كنت في شكّ ممّا أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحقّ
من ربّك (في الكتاب والقرآن) فلا تكوننّ من الممترين) (يونس 94).

 

هكذا
يظهر القرآن ممرّاً إلى الكتاب الذي يجد فيه المؤمنون توضيحاً لما جاء في القرآن.
فهذا الأخير يُصرّح بوضوح أنه يقدّم لعرب الجاهلية بعضاً من العلم فقط، بل
و”قليله”، نجد كفايته في الكتاب، كما نلاحظ في سورة الإسراء:

(وما
أوتيتم (في القرآن الكريم) من العلم إلاّ قليلاً) (الإسراء 85).

 

من
يستنكف من استشارة الكتاب فهو (من الممترين) (يونس 94). أما المؤمن المنفتح على
مجمل الوحي الإلهي، فإنه يجد في الوحي الكتابيّ جواباً على مفهوم
“الروح”، فهو روح الله القدوس، إنه الله نفسه الذي أرسل روحه الأزليّ
إلى الأنبياء منذ إبراهيم الخليل، ثم تجسّد في أحشاء مريم البتول، كما أوحى الله
في الكتاب والقرآن.

 

فقد ورد في الإنجيل: “فقالت مريم للملاك:
كيف يكون هذا وأنا عذراء لا أعرف رجلاً؟ فأجابها الملاك: الروح القدس يحلّ
عليك وقدرة العلي تظلّلك، لذلك فالقدوس الذي يولد منك يُدعى ابن الله” (لوقا
34: 1-35).

 

كما ورد في القرآن: (..المسيح عيسى
ابن مريم رسول الله وكلمته القاها الى مريم وروح منه
..) (النساء
171).

 

 (.. فاتخذت (مريم) من دونهم حجاباً فأرسلنا
إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً) (مريم 17: 19).

وبناءً على ذلك، فعندما طلب النجاشيّ من
المسلمين اللاّجئين إليه توضيح آرائهم عن المسيح، جاوبه جعفر بن أبي طالب:
“نقول فيه الذي جاء فيه نبيّنا. يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته
ألقاها إلى مريم العذراء البتول”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار