مدرسة الحياة المسيحيه
حياة العمل

(حيــــــــــاة العمل)
مقدمـــــــــــة:
لا تنتعش حياة الكنيسة، إلا بالعودة إلى عمق الكتاب المقدس، والعودة لعمق الكتاب المقدس لها أسبابها وشروطها الخاصة!!
فسبب العودة للكتاب المقدس، هوَّ البحث عن كيف نحيا مع الله، ونتخلَّص من حياة الشرّ والفساد، ومعنى أن نتخلص من الشر والفساد، أي نتغيرّ، بمعنى أن نتغيرّ لحياة أُخرى، حياة غير الحياة التي نعيشها الآن!!، أي نتغير ونصير على الشكل الذي يُريدنا الله عليه!!، وما هوَّ الشكل الذي يُريدنا الله عليه؟!!
لنُصغِ لكلمة القديس بولس الرسول:
“و نحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح (2كورنثوس3 : 18)
وما هذه الصورة: “الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة انجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله” (2كورنثوس4 : 4)
إذن هدف الكتاب المقدس أن نتغير إلى شخص الكلمة المتجسد الذي هوَّ صورة الله، إذن الإنجيل أي الكتاب المقدس لهُ عمل خطير ومهم للغاية، لا أن نحيا حياة صالحة مقدسة عادية – كما يظن البعض – لا يوجد بها خطية، بل نتغير لتلك الصورة عينها من مجد إلى مجد..
أما الشرط الأساسي للعودة للكتاب المقدس والحصول على ثمرة التغيير حسب قصد الله، هوًّ الإيمان، أي نؤمن أن الله قادر أن يُغيرنا فعلاً بكلمته !!
باختصار نقرأ الكتاب المقدس يعني نتغير ونتغير يعني نؤمن، ونؤمن يعني نصدق أن الله قادر أن يُغيرنا فعلاً وحقيقي، الآن..
*ولنا أن نعرف أن الكتاب المقدس هوَّ المصدر النقي والوحيد والكافي تماماً لتعاليم الإيمان ومصدره، فهوَّ كلمة الله الخارجة من فمه المعطاة بالوحي المقدس لمختاريه، لينقلوا كلمته إلينا “لان كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب و نياته” (عب 4 : 12)
ويعطي أحد الآباء الروس (إغناطيوس بريانتشانينوف) هذه النصيحة للمبتدئين في حياة الرهبنة، وطبعاً هذه النصيحة نافعة للجميع سواء كانوا رهبان أو علمانيين، أي هيَّ لكل مسيحي حقيقي إذ يقول: [ منذ أول دخوله إلى الدير ينبغي للراهب أن يدرس الإنجيل بتدقيق حتى يصير حاضراً دائماً في ذاكرته. وينبغي أن يكون تعليم الإنجيل حاضراً في ذهنه عند كل موقف أخلاقي، عند كل عمل، وعند كل فكر، استمر في دراسة الإنجيل حتى نهاية حياتك. لا تتوقف أبداً. لا تظن أنك قد عرفته بدرجة كافية حتى لو كنت قد حفظته كله غيابياً ]
* الكتاب المقدس، في حقيقته، هوَّ كلمة الله ، وكلمة الله هو شخص الكلمة الحي القائم من الأموات، لذلك نحن نجتاز ألفاظ الكتاب المقدس ومعانية الحرفية والحسية، بعملية عبور، من المنظور للغير منظور!!
فالمنظور هوَّ الكلام المكتوب أمامي على الورق، والغير منظور في هذه السطور المكتوبة أي هيَّ هيَّ التي أراها وأقرئها الآن، هوَّ شخص الكلمة المتجسد القائم من الموت يسوع المسيح، الرب بشخصه !!
فالله هوَّ الذي يُكلمني كما كلم إبراهيم، ويواجهني كما واجه اسحق وذلك من خلال سطور الكتاب المقدس المكتوبة بحبر على ورق، ولننتبه أن كلمة الله هيَّ الله وليست مجرد كلمات كتبت أو نقرئها على ورق: “في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله و كان الكلمة الله” (يو1: 1)
عموماً، هذا العبور أي العبور من الكلمة المكتوبة والخروج من اللفظ المنطوق، إلى شخص الله الكلمة، لهُ شرط أو مطلب ؟
في الحقيقة شرط بل ومطلب العبور، أي بلوغ حقيقة الكلمة في عمقها، والتطلع إلى الله والنظر إليه من خلال الكلمة، هوَّ الإيمان .
الكتاب المقدس يُلزمنا بالإيمان لكي نرى فيه ما لا يُرى: “أما الإيمان فهوَّ الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى” (عب11: 1)
فبدون الإيمان لا نرى شيء، وسيظل الكتاب المقدس، بالنسبة لنا، موضوع مطروح للمناقشة، والتأمل الخاص حسب رأي كل واحد فينا، أو مجرد بَركة بمعناها السطحي للكلمة ، أو ربما تتطور الأمور لتصل لحد النزاع على رأي خاص، كما نرى في هذه الأيام الصعبة، حتى أنه صار أراء شخصية كثيرة صنعت خصومات وانشقاقات مالها حصر..
فقولي: أنا أؤمن بالله وأؤمن بالإنجيل، وأحاول جاهداً أن أصنع ما يُثبت ذلك بالحجج والبراهين والإثباتات، هذه لن تخرج عن كونها فلسفة فقط، تزول بزوال المؤثر.
أو ربما أتأثر بعظة فأنفعل وأُقرر أن أقرأ الكتاب المقدس، ولكن الصدمة الكبرى هيَّ حينما يزول المؤثر وينتهي انفعالي الوقتي بالعظة أو بما قرأت، فأجد نفسي قد نسيت ما قررت وانتهى كل شيء، ولم يعد في أمكاني أن أقرأ الكتاب المقدس ولا أجد دافع لقراءته!!، وإن قرأت فلا نتيجة أي لا تغيير، يبقى الحال كما هوَّ؟!!!
الإيمان ليس لفظة تُنطق، وليس أقراراً نظرياً بحقيقة باردة. فالله الذي أعرفه – بحسب منطقي أنا – هوَّ إله الكون وإله ألفاظ الكتاب المقدس، هذا إله فلسفي صنع العقل وحده، فإذا كان هذا الإله الفلسفي إله الكون واللفظ فقط، جامد جمود الهندسة والعلوم الأكاديمية وحبيس الألفاظ الغير مفهومة والتي يتعثر فيها العقل؛ ينبغي أن يتحرك ليصبح إلهي أنا. ينبغي أن يحب ويميل نحوي ليتصل بي ولأتصل أنا به !!
الإله العقلي يُصبح الإله الحي إذا خاطبني أي تحدث أليَّ وتحدثت أنا إليه.
فالله ليس جامد، وليس هوَّ إله التفلسف أو اللفظ الجامد، بل هوَّ إله إبراهيم الذي يأتي إلى إبراهيم بشخصه إله الآباء الذي يكشف لهم نفسه، ويُقيم بينه وبين من يُخاطب حواراً، ويُقيم علاقة..
وعلى ذلك، فلغة الإنجيل هيَّ لغة حوار بين طرفين، أي بين شخصين، الطرف الأول أو الشخص الأول هوَّ الله والثاني هوَّ الإنسان أي أنا.
وكما يقول القديس تيخون من زادونسك: [ كلما تقرأ الإنجيل فالمسيح نفسه هوَّ الذي يُكلمك. وبينما أنت تقرأ، أنت تصلي وتتحدث معه ] فأي حوار يتطلب شخصين، وحوار الله حوار مُلزم، أي يُعطي ويأخذ:
فالله يعطي كلمته للإنسان، ودور الإنسان أن يتجاوب مع كلمة الله المعطاة لهُ.
ففي لغة الحوار بين الله والإنسان:
الله يتكلم والإنسان يسمع أولاً ثم يُجيب، وأيضاً الإنسان يتكلم والله يسمع ويُجيب؟؟
فأي جواب يطلب الله، إلا جواب الإيمان!!
فبدون إيمان لا يمكن إرضاؤه، بل يستحيل على الإطلاق إرضاؤه (عب11: 6)
وأي جواب يطلب الإنسان، إلا استجابة الله لصلاته!!
وبدون إيمان أيضاً، تستحيل استجابة الصلاة مهما كانت حسب قصد الله في نظرنا.
وأبسط معنى للإيمان، هوَّ التصديق، أي تصديق الله، أي كلمته، تصديق مطلق بلا مناقشة أو تفسير، أي كما هيَّ في ذاتها، أي كما قالها الرب، فالله يتكلم والإنسان يؤمن، أي يُصدق كالأطفال، فينطق، بعد سماع الكلمة، آمين = “حقاً هكذا يكون” أو “بالحقيقة هذا سيكون فعلاً”، وطبعاً ذلك لأن الله تكلم، ومعنى الله تكلم = فعل.. ” قال الله… فكان كذلك..” (أنظر سفر التكوين الإصحاح الأول)
ولكن، من الصعب بل والمستحيل، أن يقول الإنسان “آمين” أي “حقاً هكذا يكون”، بدون إشراق النعمة على القلب، والاستعداد لحضور الله الحقيقي والرغبة الحقيقية في أن تتحقق أقوال الله، وتصير كلمته ذات مفعول في داخلي، أي تُغيرني..
فلا بُدَّ من أن يكون هُناك استعداد قائم في قلب الإنسان، الذي هوَّ الاستعداد والرغبة في التغيير الحقيقي الداخلي، أي أن تتغير حياته فعلاً، مهما كانت صالحه أو نافعة في نظره!!
أي يكون الإنسان أو أنا شخصياً، مشتاق للتغيير، بل ومقتنع تماماً – في داخلي – بحتمية التغيير.
وبالطبع الإيمان وحده بكلمة الله هوَّ الذي يُعطي التغيير الحقيقي لحياتنا :
“فأجاب قائد المئة و قال يا سيد لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي لكن قل كلمة فقط فيبرا غلامي” (متى 8 : 8 )
“و امرأة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة و قد أنفقت كل معيشتها للأطباء و لم تقدر أن تشفى من احد جاءت من ورائه و لمست هدب ثوبه “لأنها قالت في نفسها إن مسست ثوبه فقط شفيت” ففي “الحال” وقف نزف دمها فقال يسوع من الذي لمسني و إذ كان الجميع ينكرون قال بطرس و الذين معه يا معلم الجموع يضيقون عليك و يزحمونك و تقول من الذي لمسني فقال يسوع قد لمسني واحد لأني علمت إن قوة قد خرجت مني” (لو8: 43-46، مت9: 21)
وذلك لأن الإيمان، دعوة في الأساس، قائمة على عمل، وهذا العمل عمل إلهي بالدرجة الأولى، وهو عمل قائم على عهد، وهذا العهد قائم على سفك دم، وهذا الدم المسفوك هو دم ابن الله الحي، دم يسوع المسيح دم العهد الجديد، وهو هو دم الإفخارستيا.
وهذا الدم هوَّ الذي يُطهر ويغسل، والذي به لنا قدوماً لله ولعرش النعمة لننال عوناً في حينه:” فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي (العبرانيين 9 : 14)
و لكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض و دم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل (أي) خطية” (يوحنا الأولى 1 : 7)
فالله يدعونا بعهدٍ جديد، وهذه الدعوة دعوة لإتباع خطوات الرب يسوع بالإيمان، خطوة بخطوة!!
أي أننا مدعوين بالإيمان، أن نتبع الرب يسوع المسيح ونترك كل شيء ونسير وراءه، “و فيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى فقال له اتبعني فقام و تبعه” (متى 9 : 9)، “فقال بطرس ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك” (لوقا 18 : 28).
في الحقيقة نحن مدعوين بالإيمان أن نسير في طريق الرب، وما هوَّ طريقه الرب، إلا طريق الآلام والموت، أي طريق الرب طريق الصليب ونهايته القيامة، فلا قيامة بدون موت ولا موت بدون صليب ولا صليب بدون إيمان ولا إيمان بدون كلمة الله.
“فقال لهما يسوع لستما تعلمان ما تطلبان أتستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها أنا و أن تصطبغا بالصبغة التي اصطبغ بها أنا، فقالا له نستطيع فقال لهما يسوع أما الكأس التي اشربها أنا فتشربانها و بالصبغة التي اصطبغ بها أنا تصطبغان” (مر10 :38-39)
عموماً الإيمان بكلمة الله، دون أن نتبع الرب، ليس لهُ معنى..
فالإيمان لهُ متطلباته، ومتطلبات الإيمان هوَّ سماع صوت الله وحفظ وصاياه، ولأن الإيمان ينشأ بدافع من الحب، أي حب الإنسان لله، فالحب وحده يدفع الإنسان بتلقائية بحفظ وصايا حبيبه: “الذي عنده وصاياي و يحفظها فهو الذي يحبني و الذي يحبني يحبه أبي و أنا أحبه و اظهر له ذاتي” (يو14 : 21)
وماذا يعنى حفظ الوصية، غير الطاعة :
“بالإيمان إبراهيم لما دعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدا أن يأخذه ميراثا فخرج و هو لا يعلم إلى أين يأتي، بالإيمان تغرب في ارض الموعد كأنها غريبة ساكنا في خيام مع اسحق و يعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه، لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها و بارئها الله، بالإيمان سارة نفسها أيضا أخذت قدرة على إنشاء نسل و بعد وقت السن ولدت إذ حسبت الذي وعد صادقا، لذلك ولد أيضا من واحد و ذلك من ممات مثل نجوم السماء في الكثرة و كالرمل الذي على شاطئ البحر الذي لا يعد، في الإيمان مات هؤلاء أجمعون و هم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها و صدقوها و حيوها و اقروا بأنهم غرباء و نزلاء على الأرض، فان الذين يقولون مثل هذا يظهرون إنهم يطلبون وطنا، فلو ذكروا ذلك الذي خرجوا منه لكان لهم فرصة للرجوع، و لكن الآن يبتغون وطنا أفضل أي سماويا لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم لأنه اعد لهم مدينة، بالإيمان قدم إبراهيم اسحق و هو مجرب قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له انه بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب إن الله قادر على الإقامة من الأموات” (عب11: 8-19)
عموماً، الحياة المسيحية، حياة عمل، يعني أنها حياة تنحصر في، عمل الإيمان، الذي مصدره المحبة، والتي بدورها تدفع الإنسان لتبعية الرب، وتبعية الرب تُلزم الإنسان بالطاعة لوصايا الرب يسوع.
إذن فحياتنا المسيحية، لا بُدَّ من أن تمتلئ من حياة الإيمان المدعمة بالطاعة الخالصة، وهذا الإيمان هوَّ الإيمان الحي الذي يجعلنا من خلال كلمة الله أن نتغير، ونندفع وراء الرب المسيح ملك المجد بأتباعه حتى الموت موت الصليب، ويجعلنا مجاهدين ضد الخطية حتى الدم، نحيا حياة الغلبة والنصرة، بحياة مقدسة، حسب إرادة الله ووصاياه.
2 |
عطش الإنسان إلى المطلق:
الإنسان عنده قناعة داخلية بالله، ليس بالمنطق العقلي، ولكن بالحس، وهذا الحس دفين في أعماق الإنسان من الداخل.
فأثر الله يبدو في أعماق القلب البشري، ويتجلى الله ويظهر في عطش الإنسان الداخلي واشتياقه لحياة أفضل، ميله الطبيعي أن يؤمن بما هوَّ أعظم..
فالإنسان – مهما كان – يعيش غير راضٍ أو قانع بحياته، لأنه لا يراها الحياة التي يتمنى أن يعيشها، أو أن هذه هيَّ حياته!!
فالإنسان دائماً يميل إلى تغيير حياته للأفضل والأحسن، بل وحتى أن وصل لما يتمناه، يبقى غير قانع، بل يطلب ما هوَّ أفضل، فهوَّ لا يتوقف ولا يشبع أو يقنع!!
الإنسان يُعرف عند علماء النفس بأنه “حيوان قلق” وهذه الميزة يختلف بها عن سائر الكائنات الحية. فللحيوان رغبات غريزية محدودة، سهلة الإرضاء، لذلك ليست في حياته مشاكل. أما الإنسان فكلما حاول إشباع رغباته اشتدت وقويت فيه هذه الرغبات، وكأن هناك شيئاً في أعماق كيانه يحركه ويُعذبه، بل ويدفعه دون هوادة!!
في الإنسان صراع داخلي بين رغباته وبين ما يملكه، وبين إرادته وقدرته، بين ما يُريد أن يكون وبما هوَّ عليه الآن، وبين ما في داخله وما في خارجه!!
فكلما حاول أن يقترب من ما يرغبه أو ما يُريد، أبتعد ما يُريد عنه موقظاً في نفسه الخيبة والحسرة. وهذا ما يبدو في الخبرة اليومية وفي كل المجالات؛ فمثلاً:
1- الإنسان الذي يسعى إلى المال أو مركز اجتماعي أو مجدٍ ما، لا يكتفي بما حصل عليه. بل كلما بلغ مقصده، طمع في المزيد، لذلك لا يعرف قلبه راحة أو استقرار (عين الإنسان لا تشبع) كما يقول المثل السائد!!
2- و الإنسان الذي يسعى إلى الجمال. فأمام منظر طبيعي بديع أو قطعة أدبية رائعة أو قصة جميله، أو لوحة فنية أو قطعة موسيقية ساحرة، يشعر الإنسان، إلى جانب نشوته وابتهاجه بها، بشيء من الحزن، ويزداد هذا الحزن بنسبة ما يكون جمال هذا المنظر أو الإنتاج الفني.
فكيف يُفسرّ هذا الحزن؟!! ذلك الجمال الذي أدركناه أيقظ فينا حنيناً وشوقاً لا قدرة لنا على إشباعه أو إطفائه ومن هُنا نشأ الألم والحزن، وكم من الأدباء والشعراء والفنانين، اعترفوا بالمرارة والألم اللذان شعرا بها عندما كانوا يبدعون تحفة فنية أو مقطوعة موسيقية، أو قصة رائعة، أو قطعة شعرية!!
3- خبرة الحب. فالحب، كما هوَّ معروف، ينتظر منه الإنسان سعادة مطلقة، دائمة، وبخاصة إذا كان هذا الإنسان رومانسي بطبعه. ولكن يجد هذا الإنسان – بعد قصة حب طويلة وبعد أحلام رومانسية طويلة – أنه أُصيب بخيبة أمل في حبه، فالمحبوب، مهما سمت صفاته، بشر وليس إلهاً، لذا لا يمكنه أن يقدم لمحبوبة السعادة الفردوسية التي يحلم بها.
فتصور الإنسان عن الحب الحقيقي، أنه يسعى إلى شركة بين الحبيبين شركة تامة وخالدة، ولكنه يصطدم بالواقع، واقع السأم الذي تولده العادة، وأيضاً الأنانية التي يسعى فيها المحب أو المحبوب لإرضاء نفسه دون الآخر، وتحقيق رغباته دون الآخر!!، وبذلك ينهار معنى الحب والزواج في عينيه!!
عموماً باختصار:
إن للإنسان المحدود أماني متسعة جداً لا محدودة، يسعى جاهداً لكي يُحققها، رغم جهله بمصدرها وما يُشبعها إشباع حقيقي، لذلك يعيش في توترّ وقلق دائم!
ولكن ما هوَّ سرّ هذا التفاوت الصارخ الذي في حياة الإنسان؟ من أين أتى هذا السعي إلى اللامتناهي والمطلق، رغم أن خبرته في الحياة تُقدم لهُ المحدود الزمني أي المحدود النسبي، الذي لا يُشبعه على الإطلاق، بل يزده قلق وجوع؟
في الحقيقة، أن في أعماق الإنسان المحدود، في الداخل، صورة أصلية لكائن غير محدود.
لذلك فأن سعي الإنسان إلى المطلق تعبيراً عن حنينه وشوقه لأصل الصورة، فالصورة تحن لأصلها المطلق!!
فخيبة الإنسان المتكررة وخطأه الدائم، هوَّ أنهُ يبحث عن ما يروي عطشه ويُسدد احتياجاته بين المخلوقات والمجتمع، وطلب ما هوَّ على الأرض، فهوَّ يطلب حياة كريمة ومعقولة ليس فيها شرّ، طلبات عادية، ولكن مهما كانت فهيَّ على الأرض، ويتمنى عملاً يبعده عن التفكير بالشرّ وحياة تجعله يهدأ لنفسه أو حب يُشبع قلبه، وزوجة صالحة تهتم به وتعطيه احتياجه، ولكن هيهات أن شبع قلبه أو حس براحة!!!!!!!!
مصيبة الإنسان أنه يبحث عن الذي يروي عطش قلبه غير الله، أو قبل الله، أو الله يُشبع قلبه في حياة مريحة وهادئة بلا صراع على الأرض، ولكن هيهات من أن يستريح الإنسان في الأرض!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
فكما أن المدّ يفترض وجود القمرّ الذي يجذب إليه ماء البحر، ولو كان مختفياً وراء السحب، كذلك مدّ النفوس وسعيها المتواصل إلى ما يُشبهها، ولا يُشبعها غير المطلق، أي الله الذي هوَّ وحده الذي يجذب النفس حتى ولو اختفى عن نظرنا وإدراكنا(( يارب خلقتنا لذاتك (متجهين إليك) وكذلك لن تجد قلوبنا راحة إلا إذا استقرت فيك)) (القديس أغسطينوس)
_______________________________________________________________