أسئلة حول التجسد

أسئلة
حول التجسد
نيافة
الأنبا موسي
سؤال
هام هو المسيحية كلها: سؤال طالما أثير في كل مكان وزمان.
سؤال استدعي أن يسطر الوحي الإلهي علي يدي معلمنا يوحنا
الحبيب إنجيله ورسائله, ليوضح لنا حتمية التجسد لخلاص البشرية,
واستحالة الخلاص دون الإيمان بتجسد الله الكلمة. ففي إنجيل
معلمنا يوحنا يستهل الوحي حديثه بالتحليق في آفاق اللاهوت
العليا: ‘في البدء- أي في الأصل, ومنذ الأزل- كان الكلمة,
والكلمة صار جسدا’ (أي اتخذ له جسدا فهو لم يكف عن كونه
كلمة الله), وحل بيننا, ورأينا مجده’ (يو14: 1).
وفي
رسائل معلمنا يوحنا يعتبر الرسول (بوحي من الله طبعا) أن: ‘
كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد فليس من الله.
وهذا هو روح ضد المسيح, الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في
العالم’ (1يو4: . ولقد قصد الله أن يبقي يوحنا الحبيب, الذي
طالما اتكأ علي صدر السيد المسيح, حتي نهاية القرن الأول
شاهدا أمينا علي الفكر اللاهوتي المسيحي السليم كما تسلمه من
الرب نفسه. فبينما استشهد بقية الاثني عشر وحتي بولس الرسول
قبيل سنة 70 ميلادية, بقي يوحنا الحبيب حتي نهاية القرن الأول
تقريبا لتثبيت العقيدة المسيحية السليمة في مواجهة العديد من
الهرطقات مثل:
1-
هرطقة الغنوسيين.
2-
هرطقة التهود.
3-
هرطقة الدوسيتيين.
ومازالت
أصداؤها ترن في التساؤلات حول التجسد إذ يتساءلون:
أ-
هل التجسد ضد طبيعة الله؟
ب-
هل التجسد ضد قداسة الله؟
ح-
هل التجسد ضد قدرة الله؟
د-
لماذا التجسد … ألم يكن هناك حل آخر سواه؟
ع-
ما مدلول التجسد في حياتنا؟
وهذه
الأسئلة الهامة يجب أن نستوعب إجابات عليها لعدة أسباب:
أولا:
للتثبت من إيماننا الصخري, الذي تحطمت علي صخرته كل الهرطقات.
ثانيا:
لندعم إخوتنا في المسيح علي أساس المعرفة الأساسية اللازمة
للخلاص, إذ يقول الكتاب المقدس: ‘ هلك شعبي من عدم المعرفة’
(هو 4: 6).
ثالثا:
لأن التخلي عن عقيدة التجسد هو بعينه التخلي عن نصيبنا في
المسيح وفي الملكوت. فما دام الله يستنكف أن يتخذ له جسدا..
إذن, فهو لن يسكن فينا, وهذا هو الهلاك بعينه, إذ كيف
نحيا معه في الملكوت ونحن لا نشبهه قط.
لهذا
قال الرسول: ‘عظيم هو سر التقوي الله ظهر في الجسد’ (1تي16:
3).
فالتجسد
إذن هو سر التقوي الإنسانية, وبالتالي الخلاص الأبدي.
أ
– هل التجسد يتعارض مع طبيعة الله؟
يتصور
البعض أن التجسد يتعارض مع طبيعة الله, لأن الله روح بسيط
خالد, غير مركب, ولا مادي, ولا يصح أن يأخذ صورا حسية,
مرئية أو مسموعة أو محسوسة. فهل هذا التفكير سليم؟ وما
خطورة هذه الفكرة علي البشرية وعلي خلاصها؟
1-
نظرة خاطئة للمادة
هذه
الفكرة – أن الله لايتجسد – تخص بين طياتها نظرة خاطئة وخطيرة
إلي المادة . أليست المادة بكل صورها إحدي مخلوقات الله؟! ما
الغضاضة إذن في أن يتخذ الله منها وسيلة يعلن بها عن
روحانيته واختفائه وعلوه, لبشر حسيين وضعفاء؟! إن فكرة نجاسة
المادة ليست سليمة إيمانيا, وترجع في أصولها إلي فكر وثني
وهندوسي, يتصور أن الإنسان روح محبوسة في جسد , هو لها مثل
سجن قابض. وهم بذلك يعذبون أجسادهم بالمسامير, وينهكونها بأصوام
مفرطة متطرفة.
هل
يخلق الله شيئا دنسا؟! أليست أجسادنا من صنع يده؟ ألا تحوي
أجسادنا أدق أسرار الخلق, وتحمل أعمق الأدلة وأصدقها علي وجود
الخالق الأعظم؟ لا يصح أن ننسب إلي أعمال الله النقص أو
النقيصة, الإنسان خلق مقدسا, وعاش مع الله في الفردوس بنفس
جسده الحالي, ولكنه اختار أن يستمع إلي غواية الشيطان فسقط
في براثنه. فالخطأ إذن دخل إلي جسده فيما بعد, وإلي روحه
وكيانه كله. أما الإنسان ككل, وكخليقة الله في الأساس, فكان’
حسنا جدا’ (تك31: 1). ولعل هذا هو السبب في أن تتمسك
كنائسنا التقليدية باستخدام المادة في الأسرار المقدسة, كالماء
في المعمودية, والزيت في الميرون ومسحة المرضي, والخبز والخمر
في التناول, لتؤكد لنا أن كل شئ خلقه الله هو مقدس, وأن
المشكلة هي في ‘سوء الاستخدام’ وليس في المادة نفسها.
2-
نظرة خاطئة إلي الله
الله
بالفعل روح بسيط قدوس, مالئ السماء والأرض, والتجسد لا يغير
من طبيعته, ولا داعي لأن نخشي من التجسد علي طبيعته. فالله
حينما يتخذ جسدا, أو يسمعنا صوتا أو يرينا نورا لا يكف عن
كونه الروح البسيط الخالد القدوس, مالئ السماء والأرض. إنه لم
‘يتحول’ إلي جسد … حاشا! إنه فقط ‘اتخذ جسدا’ فهل في هذا
مشكلة؟ أليس هو قادر علي ذلك؟
وهناك
تشبيهات كثيرة لهذا الأمر: مثلا الجو كله من حولنا يموج
بالإرسال الإذاعي والتلفزيوني, موجات مرسلة من القاهرة وتنتشر
في الجو إلي كل بلاد الجمهورية. لا نراها ولا نسمعها بالعين
والأذن المجردتين, ولا بد من جهاز يستقبلها ويجسدها. وإذا
استقبلنا هذا في جهاز لدينا, لا يعني ذلك أننا استنفذناها,
أو احتكرناها في جهازنا هذا, فهي لا تكف عن الانتشار في
أجواء مصر كلها. ومن هذا التشبيه نري:
1-
أن هناك موجات موجودة, لانراها ولانسمعها دون أن يلغي ذلك
أنها موجودة بالفعل. والقياس مع الفارق بالنسبة إلي إلهنا
العظيم الموجود في كل مكان وزمان دون أن نراه بعيون الجسد.
2-
إن هذه الموجات غير المحسوسة يمكن أن تحس وتري من خلال
تجسيدها في جهاز. والقياس مع الفارق بالنسبة إلي إلهنا العظيم
الذي هو روح سامية, ويمكن أن يتخذ صورا حسية كالنار أو
الصوت أو النور أو الجسم البشري.
3-
إن تجسيد هذه الموجات في جهاز لا يعني انسحابها من الجو,
وانحصارها في هذا الجهاز. وكذلك فإنه حين اتخذ الله جسد
إنسان, لم يكف عن كونه الإله مالئ السماء والأرض. لهذا قال السيد
المسيح له المجد: ‘ليس أحد صعد إلي السماء, إلا الذي نزل
من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء’ (يو13: 3).
وما
قلناه عن الموجات الإذاعية نقوله عن الطاقة الكهربائية فهي
تتجسد في مصباح دون أن يحتكرها هذا المصباح, وهكذا… إذن
فالتجسد لا يتعارض مع طبيعة الله, إذ أن الله هو الذي خلق
المادة مقدسة, والمادة لن تحده بأي حال إذا ما اتخذها وسيلة
يعلن لنا بها عن ذاته.
يتصور
البعض أن التجسد ربما يتعارض مع قداسة الله وقدرته فيقولون
مثلا: هل من المعقول أن إلهنا العظيم القدوس المتعالي ينزل
إلي بطن العذراء ويأخذ جسد إنسان, ويأكل ويشرب وينام ويصير
كواحد منا؟!, أليس في ذلك تلويث لقداسة الله؟!.
يرد
القديس أثناسيوس الرسولي – أعظم من كتب عن سر التجسد – فيشبه
إلهنا العظيم بالشمس, إذ نلمس فيها شبها من خالقها, في
سموها وطهرها وجبروتها ودفئها ولزومها للحياة .. فلو سطعت الشمس
عل كومة من القمامة, أتتدنس الشمس, أم أنها تطهر هذه الكومة
من القمامة دون أن تتلوث هي؟!, كذلك إلهنا العظيم, حين يسكن
فينا, لن يتدنس بنا, بل بالحري يطهرنا بطهره… نعم يطهرنا
دون أن يتدنس!.
وهذه
الحقيقة لم تستجد بالتجسد الإلهي, بل بالحري نحياها كل يوم ..
فالله يشرق بنوره وبروحه القدوس, علي البشرية الخاطئة, منذ
الأزمنة السحيقة, يعمل فيها ويهديها ويطهرها, دون أن يتدنس.
فماذا استجد إذن؟, أليس الله في كل مكان, وفي كل زمان,
وفي كل إنسان مهما كان خاطئا؟, هل يخلو منه مكان؟ مهما
كان هذا المكان دنسا؟, هل نسينا أن الله غير محدود, ويستحيل
أن تخلو منه أحشاء الإنسان أيا كان؟, ألسنا به نحيا ونتحرك
ونوجد؟, إذن فالتجسد لا يتعارض مع قداسة الله الذي إذ يتخذ
جسدا يظهر به لا يتدنس بل يقدسه. الجديد هو أن الله ارتأي
أن يأخذ مالنا, ليعطينا ما له. وإنه أحبنا في المسيح, ليتحد
بنا ونتحد به . رضي بالسكني وسط البشر, وفي قلوبهم, ليطهرهم
من الخطايا, ويجدد طبيعتهم الساقطة, ويحملهم علي منكبيه فرحا.
ويعود بهم إلي السماء. إذن التجسد لا يتعارض مع قداسة الله
, وفي الوقت ذاته حتمي
لقداسة
الإنسان .. كيف؟.
عظيم
هو سر التقوي
إن
تجسد الله هو بالحقيقة سر التقوي: أي سر التقوي الإنسانية,
وبدونه لا تكون التقوي ولا القداسة. والسبب ببساطة أن طبيعتنا
فسدت بعد سقوط آدم وحواء, وكان لابد من تجديدها وإعادة خلقة
الإنسان وصنعه مرة ثانية. فما كان من الممكن أن يتم هذا
التجديد إلا بسكني الله في قلوبنا وتقديسه لطبيعتنا من
الداخل. وهذا سر الأسرار في المسيحية, فهي لا تكتفي بتقديم
النصائح الخيرة والشرائع الطيبة والأوامر والنواهي. كلا هي
ببساطة تجعل إلهنا العظيم الذي سكن في أحشاء العذراء , يسكن
في أحشائنا جميعا فيطهرنا, ويخلصنا ثانية: ‘ إن كان أحد في
المسيح فهو خليقة جديدة’ (2كو17: 5). إذن فالتجسد لا يضر
بقداسة الله, ولكنه أساسي لقداستنا نحن ..
وهل
التجسد يتعارض مع قدرة الله ؟
هذا
غير معقول, لسبب بسيط, أن الله كلي القدرة, قادر علي كل
شئ. إن الشئ الوحيد الذي لا يوافق طبيعة الرب أن يعمله هو
الخطية لأنها خارجة عن طبيعته, وهو منزه عن الشر. وخارج هذا
الأمر ‘هل يستحيل علي الرب شئ؟’ (تك14: 18).
إذا
كانت أرواح الصديقين تظهر لنا في أشكال حسية, كما ظهرت أم
النور علي قباب كنيستها بالزيتون, فهل يكون هذا صعبا علي
الخالق الحافظ, القادر علي كل شئ؟, وإن كانت الملائكة تظهر
للقديسين في هيئة حسية, فهل من الصعب أن يتخذ الله جسدا
ويظهر لنا؟, إن التجسد هو سر خلاص الإنسان, وهو يتعارض مع
طبيعة الله القدوسة القادرة. وهكذا يأتي السؤال: ولماذا كل
هذا؟, لماذا التجسد من الأساس؟, أفلم يكن أمام الله حل
لمشكلة الإنسان خلاف التجسد؟, ما أهداف التجسد؟, هذا ما
سنتابعه في الأسابيع المقبلة إن شاء الله.
كانت
هناك مشاكل خطيرة أساسية فرعية – أمام البشرية بعد سقوطها,
ولم يكن هناك حل آخر سوي أن يتجسد الله الكلمة, ليحل هذه
المشاكل التي يستحيل أن يحلها غير الله ذاته. وهذه المشاكل
هي:
1-
مشكلة التعرف علي الله: فالله روح غير محدود, والإنسان ملتصق
بالمادة ومحدود. فهل يبقي الله عاليا في سمائه بعيدا عن
الإنسان الملتصق بالمادة والحسيات؟ وهل من المستطاع أن يصعد
الإنسان إلي سماء الله رغم محدوديته وضعفه. وهكذا تجسد ‘كمعلم
حكيم’ -بحسب تعبير القديس أثناسيوس- ليصير قريبا منا ومحسوسا
لدينا.
2-
مشكلة موت الإنسان: وهي المشكلة الجوهرية والأساسية. ‘أجرة
الخطية هي موت’ (رو23: 6). هذا حكم إلهي لا رجعة فيه. ليس
لأنه مجرد إدانة غاضبة علي الشر, بل لأن هذا هو الميل
الطبيعي للنفس والروح؟ ومن يقيم الأجساد بعد دفنها وانحلالها؟
ومن يعطيها أن تتحول إلي أجساد نورانية؟ ليس سوي الله
قطعا.
3-
فساد الطبيعة البشرية: سقط الإنسان, وتلوثت طبيعته, وأصابها
الفساد, وكان من الممكن طبعا أن يسامحه الله رغم أنه حذره
من العصيان. لكن المشكلة لم تكن في رغبة الله أن يصفح, بل
في طبيعة الإنسان, ومن يجددها له مرة أخري, بعدما أصابها من
الفساد. وهذا العمل يستحيل علي الإنسان الساقط, وعلي أي نبي
أو ملاك, فالكل مخلوق ومحدود, وخلق الإنسان من جديد يحتاج
إلي الخالق نفسه.
4-
مشكلة سطوة الشيطان: لقد أخضع الإنسان نفسه بنفسه تحت سطوة
الشيطان, فقبض عليه وضغط عليه, وحتي عند موت الأبرار كانوا
ينزلون إلي الهاوية, وإذا كان الفردوس مغلقا, وكان إبليس يقبض
علي نفوسهم هناك. تري, من يستطيع أن يطلق البشرية من قبضة
إبليس, سواء الأحياء علي الأرض, أو الأرواح البارة التي في
الجحيم؟ من يستطيع أن يقتحم هذا المجهول, ليفك
أ-
بالتجسد… عرفنا الله
لا
شك أن هناك تناقضا جذريا بين طبيعة الله وطبيعة الإنسان,
فالله روح بسيط خالد يملأ كل مكان سرمدي (أزلي أبدي) غير
محدود ولا مدرك ولا متغير بينما الإنسان غير ذلك تماما. إنه
مخلوق علي صورة الله في الحرية والبر والعقل ويتمتع بعنصر
الروح التي تفكر فيما وراء المادة والطبيعة… لكنه محدود وله
بداية.
وهذا
التسامي الإلهي يجعل الله فوق إدراك البشر من جهة العقل أو
الحواس, ولهذا تميل كنيستنا القبطية, واللاهوت الشرقي دوما إلي
استخدام الأسلوب السلبي في التعبير عن إلهنا العظيم, أي
الأسلوب الذي ينفي عن الله ما لا يتناسب مع صفاته أكثر
مما يورد من صفات إيجابية عنه تعالي. فنقول في القداس
الغريغوري مثلا: ‘الذي لا ينطق به, غير المرئي, غير المحوي,
غير المبتدئ, الأبدي غير الزمني الذي لا يحد, غير المفحوص,
غير المستحيل, خالق الكل, مخلص الجميع’. وهنا نلاحظ النفي
المتكرر, لما لا يتناسب مع الله, وإثبات لبعض الصفات القليلة
التي ينفرد بها الله كالأبدي, الخالق, المخلص…
من
هنا لزم التجسد
لأنه
إذا كان الله متساميا فوق الإدراك البشري, بحيث أن من يدخل
إليه ما يسميه اللاهوتيون ‘الضباب الإلهي’ (Divine Darkness)… لأن نور الله يبهر العين فتبدو عمياء لا
تراه. نقول, إذا كان الله متساميا فوق الطبيعة البشرية إلي
هذه الدرجة غير المحدودة, فهل تبقي الأمور هكذا؟ كيف يتعرف
إليه الإنسان الضعيف الحسي؟ كيف خاطئ يقترب إليه؟ وكيف يتصاعد
إلي عرشه الأعلي وهو تراب كثيف ورماد خاطئ؟ إنها بالحقيقة
مشكلة هامة!
محاولات
يائسة
ولقد
حاول الكثيرون منذ سقوط آدم أن يقتربوا إلي الله, فارتدوا
أمام القول الرهيب: ‘الإنسان لا يراني ويعيش’ (خر 20: 33). ولما
حاول موسي أن يري ‘مجد الرب’, خبأه الرب في مغارة, وستر
عليه بيده, وأجاز ‘جودته’ أمامه. ولما اكتشف منوح أبو شمشون
أنه رأي الرب في رؤيا صرخ قائلا: ‘نموت موتا لأننا قد
رأينا الله’ (قض 22: 13).
وهكذا
عاشت البشرية أجيالا تلهث وراء هذه الرؤيا دون جدوي. وكان
الله يتكلم إلي البشر قديما عن طريق أنبيائه الذين يلهمهم
بكلامه ويتراءي لهم في صورة محسوسة للحظات: كامتلاء الخيمة
بالضباب, أو الصوت القادم من العليقة المشتعلة, أو الرؤي في
الأحلام. وهكذا بقي الله عاليا في سمائه, والإنسان هابطا في
طين الأرض وظلمة الحسيات.
وجاء
الحل
وذلك
حين تجسد الكلمة الإلهية في صورة إنسان كقول الرسول: ‘الله,
بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما, بأنواع وطرق كثيرة, كلمنا
في هذه الأيام الأخيرة في ابنه – الذي جعله وارثا لكل شيء,
الذي به أيضا عمل العالمين’. (عب 1: 1 ,2). ولنلاحظ هنا الفرق
بين حرفي الجر ‘ب’ و ‘في’. فالله كان يكلمنا بالأنبياء
وأخيرا كلمنا في ابنه. أي أنه أعلن نفسه لنا جسديا في
صورة إنسان مثلنا في كل شئ ما خلا الخطية. وهكذا صار
الإله غير المرئي مرئيا, وغير المحسوس محسوسا, دون أن يكف
عن كونه الإله الروح المالئ كل مكان وزمان, والمتعالي علي
كل الأذهان.
المعلم
الصالح
ويشبه
القديس أثناسيوس إلهنا في تجسده بالمعلم الصالح, الذي لا
ينتظر من تلاميذه أن يرتفعوا إلي مستواه, بل ينزل هو إلي
مستواهم ليعرفهم مقاصده وتعاليمه. وهذا هو الوضع المنطقي
والمقبول. أما أن يبقي الله في علياء سمائه, وينتظرنا حتي
نتصاعد إليه رغم ضعفنا وترابيتنا, فهذا هو عين المستحيل.
من
هنا تجسد الرب ليقترب إلينا نحن الضعفاء, وليتحدث إلينا
باللغة التي نفهمها, حتي يعلن لنا حبه, ويعرفنا بشخصه,
ويقودنا بنعمته إلي سمائه.