علم

المناظرة الرابعة عشر



المناظرة الرابعة عشر

المناظرة
الرابعة عشر

المعرفة
الروحية للأب نسطور
Abbot Nesteros

 

1-
مقدمة

يقتضي
طريقنا منا أن نتبع تعاليم الأب نسطور، رجل ممتاز في كل شيء وخاصة في المعرفة
العظيمة. هذا الأب لما رآنا قد استظهرنا غيبًا بعض أجزاء من الكتاب المقدس، ورغبنا
في أن يشرحها لنا، خاطبنا بهذه الكلمات:

 يوجد
في هذا العالم عدة أنواع من المعرفة تختلف اختلافًا شاسعًا فيما بينها، كما هو في
مختلف الفنون والعلوم. فكل الفنون أو العلوم الضارة منها أو النافعة في هذه الحياة
الزمنية لا يوجد واحد منها ليس له نظام أو وسيلة بها يتفهمها الذين يرغبون في
تعلمها. فإن كان لهذه الفنون وسائل معينة يلزم إتباعها لأجل انتشارها، فكم بالأحرى
يكون الأمر بالنسبة لانتشار ديانتنا والتعبير عنها، التي تقوم على التأمل في
الأسرار الخفية غير المنظورة، ولا تطلب نفعًا زمنيًا، بل مكافأة أبدية، أن تعتمد
على نظام ثابت ونسق معين. والمعرفة الخاصة بها لها جانبان:

الجانب
الأول: المعرفة العملية التي ننالها بتقدمنا في الفضيلة والتنقي من الأخطاء.

الجانب
الثاني: المعرفة التي تحوي التأمل في الإلهيات، ومعرفة الأفكار التي هي غاية في
القداسة.

 

2-
بلوغ المعرفة الروحية

من
يبغي الوصول إلي هذه المعرفة النظرية (التأمل في الإلهيات)، يلزمه أولاً أن يتبع
المعرفة العملية (الإختبارية) بأقصى ما يمكن، لأن هذه المعرفة العملية يمكن أن
تُطلب دون النظرية، أما النظرية فيستحيل اقتنائها بدون العملية. إذ يوجد مراحل
معينة محددة ومرتبة يصعد بها تواضع الإنسان إلي العلي… فلا يقدر أن يطير الإنسان
إلي المرحلة الثانية ما لم يبدأ بالأولى. باطلاً يجاهد الإنسان من أجل رؤية الله،
ما لم تزول عنه آثار الخطية، لأن “الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا
تحل في الجسد المسترق للخطيئة. لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن
الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم” (حك 4: 1، 5).

 

3-
الكمال العملي يعتمد على نظام مزدوج

الكمال
العملي يعتمد على نسق مزدوج:

الوسيلة
الأولى: هي أن نتعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها.

الوسيلة
الثانية: هي أن نكتشف تدبير الفضائل، ونُشكل أذهاننا بكمال الفضائل، حتى تطيعها
أذهاننا، ليس كمن هي مجبرة على هذا، ولا كمن يخضع لنفوذ قاسٍ، إنما تبتهج بطبيعتها
الصالحة وتنجح فيها، وتصعد ذلك الطريق الضيق الصعب الذي للفرح الحقيقي. لأنه كيف
يمكن للإنسان الذي لا ينجح في فهم طبيعة أخطائه ولا يحاول أن يقطع دابرها أن يقتني
فهم الفضائل، التي هي المرحلة الثانية من الاختبار العملي، أو يتفهم الأسرار
الروحية والأمور السماوية التي هي المرحلة العالية الخاصة بالمعرفة النظرية؟

 من
الضروري لنا أن نؤكد أنه لا يستطيع الإنسان أن يتقدم إلي العلا ما لم يرتفع بعد
إلي الأمور التي هي أقل، وبالتالي يعجز عن إدراك الأمور التي هي من خارج (أي التي
تفوق إدراكه الحالي) ما لم ينجح أولاً في فهم ما هو في متناول فهمه.

 يجدر
بنا أن نعرف أن نبذل جهدًا بغرض مزدوج: لأجل سحق الرذيلة، ولأجل نوال الفضيلة. هذا
القول ليس من تخميننا، وإنما نتعلمه من كلمات الله التي وحدها تعرف قوة عمله
ووسيلته، إذ يقول: “لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” (إر10: 1).
إنه يشير إلي أن التخلص من الأمور المهلكة يتطلب منا أربعة أمور: تقلع، وتهدم،
وتهلك، وتنقض. أما تنفيذ ما هو صالح ونوال نصيب في البر فيحتاج فقط إلي أن
“تبني وتغرس”. هذا يشير بشهادة كاملة أن تمزيق الشهوات المتأصلة التي
للجسد والروح ونزوعها أصعب من إدخال الفضائل الروحية وزرعها.

 

4-
أنواع طرق المعرفة العملية

هذه
الحياة العملية، التي قيل عنها أنها تتأسس على تدبير مزدوج (أي هدم الأخطار وبناء
الفضيلة) تتوزع بين أعمال واهتمامات كثيرة. فالبعض يركزون كل غرضهم في التمتع
بحياة النسك الخفية ونقاوة القلب، وذلك مثل إيليا وإليشع في القديم، وأنطونيوس
وآخرون اقتدوا به في أيامنا هذه. هؤلاء التصقوا بالله تماماً خلال سكون الوحدة.
والبعض بذلوا كل جهدهم واهتمامهم في نظام الاخوة وحرصوا على حياة الشركة. وذلك مثل
الأب يوحنا[1] الذي ظهر حديثاً، والذي رأس ديرًا كبيرًا بجوار مدينة
Thmuis. وآخرون مشابهون في الاستحقاقات كانوا بارزين مثل الرسل. والبعض
يفرحون بخدمة إضافة الغرباء والزائرين، المملوءة كرمًا ورحمة، الأمر الذي به أرضى
إبراهيم ولوط الرب. وفي وقتنا هذا يوجد مقاريوس المبارك، رجل فريد من جهة كرمه
واحتماله، هذا الذي كان يقوم بخدمة بيت الضيوف الذي في الإسكندرية بطريقة جعلته لا
يقل عن أولئك الذين انسحبوا إلي البرية. والبعض اختاروا الاهتمام بالمرضي. والبعض
كرسوا حياتهم للتشفع عن الآخرين، حيث يقدمون صلواتهم من أجل المتضايقين والحزانى.
والبعض كرسوا حياتهم للتعليم أو لإعالة المساكين وهكذا ظهروا بين الرجال الممتازين
بسبب حبهم وصلاحهم.

 

5-
المثابرة فيما اختاره الإنسان

من
الأفضل والنافع للإنسان أن يجاهد بكل طاقته لينال كمالا في العمل الذي بدأ فيه واختاره
حسب النعمة التي نالها. وإذ يمدح فضائل الآخرين ويُعجب بها لا ينحرف عن الطريق
الذي اختاره من بين الطرق. وكما يقول الرسول بأن جسد الكنيسة واحد، لكن الأعضاء
كثيرة “ولكن ليس جميع الأعضاءِ لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في
المسيح وأعضاء بعضًا لبعضٍ كلَّ واحدٍ للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النعمة
المعطاة لنا. أَنبوَّة فبالنسبة إلي الإيمان أم خدمة ففي الخدمة. أم المعلّم ففي
التعليم. أم الواعظ ففي الوعظ. المُعطِي فبسخاءٍ. المدبّر فباجتهادٍ. الراحم
فبسرورٍ” (رو4: 12-8).

 لأنه
لا يقدر عضو أن يقوم بعمل الأعضاء الأخرى، فالعين لا تقدر أن تقوم بعمل اليد، ولا
الأنف بعمل الأذن. هكذا ليس الكل رسلاً، ولا الكل أنبياء، ولا الكل معلّمين، وليس
للكل مواهب شفاء، ولا الكل يتكلم بألسنة، ولا الكل يفسر (1كو28: 12).

 

6-
مضار التشتت في طريق الحياة الروحية

 أما
أولئك الذين لم يستقروا بعد على الطريق الذي يسلكونه، هؤلاء متي سمعوا أحدًا يمدح
فضائل معينة يثيرهم هذا المديح محاولين تنفيذها. وفي هذا الضعف البشرى يشتتون
جهودهم بلا هدف. لأنه توجد استحالة أن يتفوق الإنسان في كل الأعمال الصالحة التي
سبق أن عددتها. فإذا ما اشتاق إنسان إلي اقتنائها جميعًا بدرجة متساوية، يصل
بالتأكيد إلي هذه النتيجة: بينما هو مجتهد في كل عمل، لا ينجح في أي واحد منها، بل
يخسر بدلا من أن يكسب وذلك بسبب التغيير والتبديل بينها. ففي طرق كثيرة يتقدم
البشر تجاه الله، وهكذا يلزم على كل إنسان أن يكمل ما ثبّت أنظاره تجاهه من غير أن
يغير طريقه، حتى يصير كاملاً في طريقة الحياة التي له.

 

7-
… ففي بعض الأمور التي يصنعها البعض بحق يكون من الخطأ أن يقلدها الآخرون، فما
قد يفيد البعض قد يضر الغير. ولكي ما نعطي مثالاً نذكر الأعمال الصالحة التي اعتاد
الأب يوحنا أن يذكرها لا للاقتداء بها بل لإعجابه بها… فقد جاء إليه رجل علماني
وقدم له بكور محصوله. وفي أثناء حضوره كان عند الأب رجل متسلط عليه شيطان في منتهى
العنف. هذا الشخص ازدرى بأوامر الأب يوحنا ورفض الشيطان أن يترك الجسد الذي سكن
فيه، ولكن بمجيء الرجل العلماني خاف الشيطان للحال وهرب في خزي عظيم… تعجب الشيخ
(الأب يوحنا) كثيرًا من أجل النعمة الواضحة التي لهذا الرجل، ومما زاد من دهشته
أنه رآه علمانيًا. فبدأ يسأله بتدقيق عن طريقة سلوكه وحياته. وإذ أجابه أنه يعيش
في العالم ومرتبط برباط الزوجية، تأمل يوحنا الطوباوي عظمة فضيلته ونعمته، وسأله
بالأكثر مستفسرًا عن طريقة سلوكه في الحياة. فأعلن له الرجل أنه فلاح يجد طعامه
بالتعب اليومي بصعوبة وليس له أي عمل صالح يقوم به سوى أنه لا يذهب قط في الصباح
إلي الحقل ولا يعود إلي بيته ما لم يقدم الشكر للّه الذي يهبه طعامه اليومي. ولا
يمد يده إلي المحصول ما لم يقدم البكور والعشور، ولا يجر ثوره خارج حدود حقله ما
لم يكممه حتى لا يلحق جاره أية خسارة بسبب إهماله… وتحت الإلحاح في الاستفسار
اعترف الرجل أنه كان يرغب في حياة الرهبنة، وقد أجبراه والداه على الزواج منذ
اثنتي عشر عامًا… فحفظ زوجته بتولاً في بيت العذارى. ولما سمع الشيخ اندهش، وعرف
أنه ليس عبثاً أن الشيطان لم يحتمل حضوره.

بالرغم
من أن الأب يوحنا كان يريد أن يخبر بهذه القصة متعجبًا منه بشدة، لكنه لم ينصح أي
أحد أن يصنع هذا. لأنه ما هو حق بالنسبة لإنسان قد يكون خطأ بالنسبة لغيره ويعرضه
للخطر. كما لا يمكن للجميع أن ينفذوا ما قد وهبه الله لقليلين كهبة خاصة.

 

8-
عن المعرفة الروحية

لنعد
إلي شرح “المعرفة” موضوع هذه المناظرة. كما قلنا قبلا أن المعرفة
العملية توزع بين مواضيع واهتمامات كثيرة. أما المعرفة النظرية فتنقسم إلي قسمين: التفسير
التاريخي والتفسير الروحي…

المعرفة
(أو التفسير) الروحية ثلاثة أنواع:

 أ
– التفسير المجازي أو استخدام الاستعارة
tropological.

ب-
التفسير الرمزي
allegorical.

ج-
التفسير التشبيهي
anagogical

يحتضن
التفسير التاريخي معرفة الأمور المنظورة (كما هي)، وذلك كما ورد في أقوال الرسول
بصورة متكررة مثل قوله: “فإنهُ مكتوب أنهُ كان لإبراهيم ابنان واحد من
الجارية والآخر من الحرَّة. لكن الذي من الجارية وُلِد حسب الجسد وأما الذي من
الحرَّة فبالموعد” (غلا22: 4،23).

 التفسير
الرمزي هو ما يختص بالمستقبل، فما يحدث حاليًا هو رمز للمستقبل بشكل سرى، إذ يقول
الرسول: “وكل ذلك رمز، لأن هاتَين هما العهدان أحدهما من جبل سيناءَ الوالد
للعبودية الذي هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناءَ في العربية، ولكنهُ يقابل أورشليم
الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها” (غلا24: 4،25).

 أما
التفسير التشبيهي فيستنبط من الأسرار الروحية أسرارًا سماوية مقدسة عالية. إذ يكمل
الرسول قوله بهذه الكلمات: “وأما أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي
حرَّة. لأنهُ مكتوب افرحي أيتها العاقر التي لم تلد. اهتفي واصرخي أيتها التي لم
تتمخَّض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج” (غلا26: 4- 27).

 أما
التفسير المجازي أو الاستعاري فهو التفسير الأخلاقي الذي يختص بالتعليم العملي،
كما لو كنا نفهم العهدين (المذكورين في النص السابق غلا26: 4-27) على أنهما
التعليم العملي والنظري. أو كأن نفسر أورشليم أو صهيون على أنها النفس البشرية،
وذلك كما جاء: “سبّحي يا أورشليم الربَّ. سبّحي إلهكِ يا صهيون” (مز 12:
147).

 ويمكن
تطبيق هذه الأنواع الأربعة من التفسير السابق ذكرها في موضع آخر. فتؤخذ أورشليم
الواردة في الآية السابقة في أربعة معان:

 (أ)
المعنى التاريخي: وهي مدينة أورشليم ذاتها…

 (ب)
المعنى الرمزي: أي كنيسة المسيح.

 (ج)
المعنى التشبيهي: أي مدينة الله السماوية، التي هي أمنا جميعًا.

 (د)
المعنى المجازي (الاستعاري): أي النفس البشرية.

يتحدث
الرسول المبارك عن هذه الأنواع الأربعة من التفسير هكذا: “فالآن أيُّها
الاخوة إن جئْت إليكم متكلّمًا بألسِنَةٍ فماذا أنفعكم إن لم أكلّمكم إما بإعلانٍ
أو بعلمٍ أو بنبوَّةٍ أو بتعليمٍ؟!” (1كو6: 14).

 (أ)
الإعلان: ينتمي إلي التفسير الرمزي، لأن ما قد تم في الحدث التاريخي يعلن في داخله
تفسيرًا روحيًا، مثال ذلك ما جاء شارحًا كيف أن “آباءَنا جميعهم كانوا تحت
السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر،
وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم
كانوا يشربون من صخرةٍ روحيَّة تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (1كو1: 10-4).
هذا الشرح رمزي، إذ فيه يقارن ما قد حدث بما يخص جسد المسيح ودمه اللذين تناولهما
يوميًا.

(ب)
أما “العلم” فيشير به الرسول إلي التفسير المجازي (الاستعاري) بنفس
الطريقة، هذا الذي به نستطيع خلال الدراسة باهتمام أن نرى كل الأمور التي تحدث
بإدراك (تمييز) عملي متى كانت هذه الأمور مفيدة وصالحة. مثال ذلك عندما يطلب منا
أن نحكم في أنفسنا: “هل يليق بالمرأَة أن تصلّي إلي الله وهي غير
مغطَّاة؟!” (1كو13: 11)، وهذا الأمر يحوي فيه معنى أخلاقي.

 (ج)
كذلك “النبوة” التي وضعها الرسول في المكان الثالث، مشيرًا إلي التفسير
التشبيهي
anagogical، حيث تطبق الكلمات الواردة علي أمور مقبلة غير منظورة. وذلك كما
قيل: “ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الاخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا
كالباقين الذين لا رجاءَ لهم. لأنهُ إن كنا نؤْمن أن يسوع مات وقام فكذلك الراقدون
بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معهُ. فإننا نقول لكم هذا بكلمة الربّ أننا نحن الأحياءَ
الباقين إلي مجيءِ الربّ لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسهُ بهُتَافٍ بصوت رئيس
ملائكةٍ وبوق الله سوف ينزل من السماءِ والأموات في المسيح سيقومون أوَّلاً”
(1تس13: 4-16).

 (د)
وأما “التعليم” فيحوي العرض التاريخي البسيط، حيث لا يكمن فيه أي معنى
سري، إنما يتحدث بكلمات واضحة، كما في العبارة: “فإنني سلَّمت إليكم في
الأَّول ما قبلتهُ أنا أيضًا أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنهُ دُفِن
وأنهُ قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنهُ ظهر لصفا ثم للإثني عشر” (1كو3: 15-
5). و “أرسل الله ابنهُ مولودًا من امرأَةٍ مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين
تحت الناموس” (غلا4: 4،5).

 

9-
كيف نقتني المعرفة الروحية من العملية؟

 أولاُ:
إن كنتم مشتاقين إلي الحصول على نور المعرفة الروحية، معرفة ليست خاطئة لأجل
كبرياء فارغ لتكونوا رجالاً فارغين. يجدر بكم أولاً أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب
الذي نقرأ عنه: “طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله” (مت 8: 5).
بهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال: “والفاهمون يضيئُون كضياءِ الجلد،
والذين ردُّوا كثيرين إلي البر كالكواكب إلي أبد الدهور” (دا3: 12). ويقول
نبي آخر: “ازرعوا لأنفسكم بالبر (حيث يوجد وقت)” (هو12: 10).

هكذا
يلزمنا المثابرة بجهاد في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق
لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولاً، أي المعرفة الأخلاقية. لأنه بغيرها لا
يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم
معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة
يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا
من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: “من
وصاياك تفهمت” (مز 104: 119). وإذ يقهرون كل شهواتهم يقولون بكل ثقة: “لك
يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كامل” (مز 1: 101، 2). فمن يجاهد في طريق كامل
بقلب نقي يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها.

 إن
أردتم أن تعدوا قلوبكم هيكلاً للمعرفة الروحية، فنقوا أنفسكم من آثار كل الخطايا
وتخلصوا من اهتمامات هذا العالم لأن هناك استحالة على النفس التي ترتبك باهتمامات
العالم – ولو إلي درجة بسيطة – أن تقتني عطية المعرفة، أو تصير مصدرًا للتفسير
الروحي وتجاهد في قراءة الأمور المقدسة.

ويجدر
بكم أن تهتموا في المكان الأول، وخاصة بالنسبة لك يا يوحنا الأصغر سنًا، أن تطلبوا
الحرص فيما أكلمكم به، وان ترتبطوا بالسكون المطلق، مقتنين أول كل شيء تواضع القلب
الثابت لكي يحملكم إلي كمال الحب، لا إلي المعرفة التي تنفخ بل التي تنير.

 إنه
يستحيل على الذهن غير النقي أن يقتني هبة المعرفة الروحية. لذلك تجنبوا هذا بكل
حرص ممكن لئلا خلال غيرتكم في القراءة لا يرتفع فيكم نور المعرفة ولا المجد الدائم
الموعود به خلال النور النابع عن القراءة، بل ترتفع أدوات تدميركم خلال الزهو
الفارغ.

 ثانيًا:
يلزمكم أن تجاهدوا بكل وسيلة ممكنة أن تتخلصوا من كل الأفكار العالمية المقلقة،
وتسلموا أنفسكم للقراءة المقدسة بمثابرة بغير انقطاع حتى يمتلئ قلبكم بالتأمل
الدائم، وتشكلكم القراءة لتتكلموا على شبهها. بهذا تجعل القراءة قلبك أشبه بتابوت
العهد يحمل في داخله لوحين حجريين هما الثقة الكاملة في العهدين (القديم والجديد).
وفيه القسط الذهبي أي ذاكرة نقية غير دنسة، تحفظها صلابة دائمة للمن المحفوظ فيها،
أي الاحتمال والعذوبة السماوية التي للتفسير الروحي وخبز الملائكة. كذلك يوجد فيه
عصا هارون، أي الخشبة المنقذة التي لربنا يسوع المسيح رئيس الكهنة الحقيقي، والتي
تفرخ على الدوام ذاكرة حية غير مائتة. لأن هذا هو القضيب الذي خرج من أصل يسى ومات
وقام في حياة قوية. هذا كله تحت حراسة الكاروبين: أي كمال المعرفة التاريخية
والروحية. لأن الكاروبيم يعني مجموعة من المعرفة (إذ هو مملوء أعيننا)، وهذه
المعرفة تحمي عرش الله الرحوم أي سلام القلب. فهي تظلله ضد كل هجمات الشر الروحية.
وبهذا تُحمل نفوسكم لا إلي تابوت العهد الإلهي فحسب، بل وإلي الملكوت الكهنوتي،
حاملة فيها محبة النقاوة غير المنكسرة، وذلك بتنفيذها الوصايا المعطاة للكهنة خلال
الدراسات الروحية، وترتبط بواهب الشريعة كما قيل “لا يخرج من المقدس لئَلاَّ
يدنّس مقدس إلههِ” (لا12: 21)، بمعنى لا يخرج من قلبه، هذا الذي وعد الرب أن
يسكن فيه إلي الأبد قائلاً “إني سأَسكن فيهم وأسير بينهم” (2كو16: 6).

 لهذا
يجدر بنا أن نستوعب في ذاكرتنا كل ما ورد في الكتاب المقدس باجتهاد، ونكرره بغير
انقطاع، لأن هذا التأمل الدائم يهبنا ثمرة مزدوجة:

 أولاً:
إذ يُمتص انتباه الذهن في القراءة والاستعداد للدروس، لا يمكن أسره بسهولة في أي
فخ من فخاخ الأفكار الشريرة.

ثانيًا:
الأمور التي ننشغل بها… والتي نحاول تكرارها، إن كنا لا نفهمها وقت قراءتها
لكننا سنفهمها بعد ذلك بوضوح… فعندما نكون في راحة (ليلاً)، تكون نفوسنا كما لو
أنها قد غطت في سبات عميق، وينكشف لنا فهم الكثير من المعاني السرية التي لم
ندركها أثناء عملنا خلال ساعات النهار.

 

11-
فهم الكتاب المقدس بصور متعددة

إذ
تنمو نفوسنا بواسطة هذه الطرق الخاصة بالدراسة، يلبس الكتاب المقدس وجهًا جديدًا
بالنسبة لنا. وبنمونا نحن نجد نموًا في تذوق جمال معانيه المقدسة، لأن الإنسان
يطبق معانيه حسب قدرة فهمه، فبالنسبة للجسدانيين تظهر لهم معانيه أرضية، ويجدونها
الروحانيون إلهية.

لكي
ما نوضح قصدنا هذا بأكثر جلاء بمثال، نكتفي بأن نأخذ عبارة واحدة من الشريعة كمثال
نبرهن به على أن جميع الوصايا يطبقها البشر حسب قياس حالهم. فقد جاء في الشريعة
“لا تزنِ” (خر14: 20).

 (أ)
هذه يمكن أن تُلاحظ بحق حسب المعنى الحرفي للعبارة، وذلك بالنسبة للذين لا يزالون
في عبودية الشهوات الدنسة.

 (ب)
أما الإنسان الذي ترك بالفعل مثل هذه الأفعال القذرة والانفعالات الدنسة، فإنه
ينظر إلي الوصية في الروح. يراها تطالبه بترك العبادة الوثنية وشكوك الأوثان
وخرافتها، رافضًا العرافة والتفاؤل والتشاؤم… على أي الأحوال لا يرتبك بأي
خزعبلات تفسد بساطة الإيمان… فنحن نقرأ عن أورشليم أنها قد تدنست بزنا من هذا
النوع على الجبال العالية وتحت كل شجرة خضراء (إر6: 3)، ويوبخها الرب بالنبي
قائلاً: “قد ضعفتِ من كثرة مشوراتكِ. ليقفْ قاسموا السماءِ الراصدون النجوم
المعرّفون عند رؤُوس الشهور ويخلصوكِ مما يأتي عليكِ” (إش13: 47). وتحدث عن
هذا الزنا في موضع آخر موبخًا إياهم قائلاً: “شعبي يسأَل خشبهُ وعصاهُ تخبرهُ،
لأن روح الزنى قد أضلَّهم فزنوا من تحت إلههم” (هو12: 4).

 (ج)
أما من ترك مثل هذين النوعين من الزنا، فسيجد نوعًا ثالثًا من الزنا يجب تجنبه،
وهو الارتداد إلي الأمور اليهودية[2] التي يقول عنها الرسول: “أَتحفظون
أيامًا وشهورًا وأوقاتًا وسنين” و”لا تمسَّ ولا تَذُقْ ولا
تجسَّ؟!” (غل10: 4، كو21: 2) وبلا شك من يسقط في هذا يزني وراء السيد المسيح
(مرتدًا إلي اليهودية مرة أخرى في شكلها الخارجي، رافضًا الدخول إلي العمق الذي
أعلنه الرب يسوع)، فلا يستحق أن يسمع من الرسول القول التالي: “فإني أغار
عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأُقدّم عذراءَ عفيفةً للمسيح”
(2كو2: 11)، وإنما توجه إليه هذه الكلمات: “ولكنني أخاف أنهُ كما خدعت
الحيَّة حوَّاءَ بمكرها هكذا تُفسَد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح”
(2كو3: 11).

(د)
ومتى هرب الإنسان من دنس مثل هذا الزنا، يبقى نوع رابع، هذا الذي يُرتكب خلال
الاتصالات الشريرة الناجمة عن التعليم الهرطوقي. ويتحدث الرسول المبارك عن هذا
قائلاً: “لأني أعلم هذا أنهُ بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئَاب خاطفْة لا تشفق على
الرعيَّة. ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلَّمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ
وراءَهم” (أع29: 20،30).

(ه)
لكن إن نجح الإنسان في تجنب مثل هذا النوع أيضًا، فليحذر لئلا يسقط في خطية معثرة
وهي الزنا. أقصد بذلك الأفكار الهائمة، لأن كل فكر باطل (خامل) يفصلنا عن الله – ولو
إلي درجة بسيطة – هذا ينظر إليه الإنسان الكامل أنه في غاية الدنس.

 

12-
كيف يمكننا الحصول على “عدم الاهتمام بهذا العالم”؟

 عند
ذلك بدأت أتحرك بدافع خفي، ثم تنهدت تنهدا عميقاً وقلت:

 هذه
الأمور التي أوضحتها لنا أخيرًا ربما تجعلني أسقط في اليأس أكثر من ذي قبل، إذ أنه
بجانب تلك الأمور العامة التي تأسر النفس (وتعوقها عن المعرفة الحقيقية)… فإن
عائقًا خاصًا يعطلني عن الخلاص وهو معرفتي للأدب. هذه المعرفة التي كما أظن إنني
بالفعل نلت منها نصيبًا بسيطًا بفضل جهود معلمي أو بفعل دراستي المستمرة، وقد شُحن
ذهني بالشعر حتى إنني أفكر فيه أثناء الصلاة، فأتذكر الأمور التافهة وقصص الملوك
والمعارك التي سمعتها في طفولتي المبكرة… وفي أثناء التسبيح بالمزامير أو طلب
غفران الخطايا، يتطفل الشعر المحفوظ على ذاكرتي بغير إرادتي، وتستعرض صور الحروب
والمعارك المذكورة في الشعر أمام عيني، وتتراقص الخيالات قدامي وتثيرني ولا تسمح
لنفسي أن تصفو متأملة في الأمور العليا، حتى إنني لا أستطيع أن أتخلص من هذه
الأمور بنحيبي اليومي.

 

13-
الإجابة

هذه
الحقيقة التي تراها ينبوعًا لليأس الشديد من جهة تنقيتك، هي بذاتها تحمل علاجًا
سريعًا وفعالاً، وذلك إن وجهت قراءتك وتأملاتك إلي الكتابات الروحية، وذلك بنفس
الجهاد والشغف اللذين تقول إنك أظهرتهما في الدراسات الزمنية. لأنه بالتأكيد سيبقي
ذهنك منشغلاً بذلك الشعر إلي أن تقتني بنفس الغيرة والمثابرة التأمل في الأمور
الأخرى، فتنشغل بالأمور الروحية الإلهية بدلاً من الأمور الأرضية غير النافعة.

 عندما
نفهم هذه الأمور الروحية فهمًا كاملاً وتنتعش فينا، تُستبعد عنا الأمور الثانية
(الأرضية) بالتدريج إلي أن تُنزع عنا بالتمام. فذهن الإنسان لا يمكن أن يبقى بغير
تفكير، وبقدر ما لا ينشغل بالأفكار الروحية، حتماً يمتلئ بالأفكار التي سبق أن
تعلمها منذ زمن بعيد. فإذ لا يجد ما يشغله ويتدرب عليه الآن حتمًا يرتد إلي ما قد
تعلمه في طفولته، ويعود إلي ما قد سبق أن استخدمه أو تأمل فيه منذ زمن بعيد.

 لكي
ما تتقوى فيك المعرفة الروحية بثبات قويم، ولا تتمتع بها فقط إلي حين مثل أولئك
الذين يتلمسونها لا بجهادهم إنما يعتمدون على مجرد سماعهم ما يسرده الآخرون…
ولكي ما تبقى في قلبك وتدركها بعمق وتعاينها وتمسكها بصورة كاملة يحسن بك أن تتمسك
بها بحرصٍ شديدٍ، أي حتى إن فرضنا أنك سمعت في مناظرة ما أمورًا تعرفها معرفة جيدة،
لا تتطلع إليها باستخفافٍ وتراخٍ بسبب معرفتك السابقة، بل ضعها في قلبك بنفس
الغيرة التي لك نحو كلمات الخلاص التي تتوق إليها، فتنفتح لها آذاننا وننطق بها
على شفاهنا.

 لأنه
وإن كان كثيرًا ما يتكرر سرد الأمور المقدسة، لكن الذهن الذي يشعر بعطش إلى
المعرفة الحقيقية، فإن شبعه لا يخلق قط نوع من الاشمئزاز، بل في كل يوم يتقبل
الكلمة كشيءٍ جديدٍ يحتاج إليه. وعلى أي الأحوال غالبًا ما ينصت إليها بشغف شديد
ويتحدث بها. والتكرار بالنسبة له يثبته في المعرفة التي له من قبل دون ضجر.

 هذه
هي العلامة التي بها يُعرف الذهن أنه بارد ومتعجرف، أنه يتقبل أدوية كلمات الخلاص
بازدراء واستهتار، بالرغم من أنها مُقدمة بغيرة ولجاجة زائدة، وذلك لأن
“النفس الشبعانة تدوس العسل، وللنفس الجائعة كل مرٍّ حلو” (أم 7: 27).

هكذا
أن أُخذت هذه الأمور بعناية، وخُزنت في داخل النفس وختمت بخاتم السكون، فإنها تصير
مثل الخمر حلوة المذاق، تُبهج قلب الإنسان، وتُعتَق بتخزينها كثيرًا في الفكر مع
الصبر الثابت، فتخرج من آنية القلب رائحة لذيذة، ويصير ينبوعًا دائمًا يفيض أعماق
الخبرة بغزارة، وتكون كمجارى مروية. تسكب الفضيلة تيارات غزيرة كما من بئر قلبك
العميق.

 يصف
سفر الأمثال من ينفذ هذا، فيقول: “اشرب مياهًا من جبَّك، ومياهًا جارية من
بئْرك” (أم 15: 5). ويقول النبي إشعياء: “ويقودك الرب على الدوام ويشبع
في الجدوب نفسك، وينشط عظامك، فتصير كجنَّة ريَّا، وكنبع مياهٍ لا تنقطع مياههُ.
ومنك تُبنَى الخِرَب القديمة. تقيم أساسات دور فدور فيسمونك مرمم الثغرة، مرجع
المسالك للسكنى” (إش11: 58،12). ويحل بك التطويب الذي وعد به النبي نفسه
قائلاً: “ويعطيكم السيد خبزًا في الضيق، وماءً في الشدَّة. لا يختبئُ معلموك
بعدُ، بل تكون عيناك ترَيان معلميك. وأذناك تسمعان كلمةً خلفك قائلةً: هذه هي
الطريق اسلكوا فيها حينما تميلون إلي اليمين وحينما تميلون إلي اليسار” (إش20:
30، 21). ولا يكون هذا كل غرض قلبك، إنما تصير كل الأفكار التي تدور في مخيلتك
مقدسة، متأملاً في الشريعة الإلهية بغير انقطاع.

 

14-
عجز النفس الدنسة عن تقبلها المعرفة الروحية

 كما
قلت أنه مستحيل على المبتدئ أن يفهم المعرفة الروحية، فكيف يقدر أن يقدمها للغير؟!
لكن إن كانت لديه لياقة للتعليم بخصوص هذه الأمور، بالتأكيد تكون كلماته عقيمة بلا
نفع، وتحمل كلماته كسلاً واضحًا، وزهوًا عقيمًا، لأنهم لا يخرجونها من كنز ضمائرهم
الصالحة، إنما تنبع عن زهو فارغ مملوء سفاهة.

 يستحيل
على النفس غير النقية – مهما بلغت أشواقها نحو القراءة – أن تحصل على معرفة روحية.
لأنه لا يقدر أحد أن يسكب دهنًا طيبًا أو عسلاً جيدًا أو أي سائل قيم في إناء قذر
كريه الرائحة. لأن الإناء الممتلئ بروائح كريهة يُفسد ما يوضع فيه أكثر مما يتأثر
هو من الشيء الصالح، لأن ما هو نقي يفسد بسرعة أكثر من تأثير النقي على الفاسد.

 هكذا
ما لم يتنقَ إناء صدرنا من وصمات الخطية الفاسدة، لا يستحق أن يتقبل الدهن المبارك
الذي تحدث عنه النبي قائلاً: “مثل الدهن الطيب على الرأس النازل على اللحية،
لحية هارون النازل إلي طرف ثيابهِ” (مز 2: 133). “لأنهُ أيَّة خلطةٍ
للبرّ والإثم؟! وأيَّة شركةٍ للنور مع الظلمة؟! وأيُّ اتفاقٍ للمسيح مع بليعال؟!
وأيُّ نصيبٍ للمؤْمن مع غير المؤْمن؟!” (2 كو 14: 6، 15).

 

15-
اعتراض

 جرمانيوس:
هذا بالتأكيد يبدو لنا غير صحيح أو غير مؤسس على سبب قوي. لأنه إن كان من الواضح
أن كل الذين لم يتقبلوا الإيمان بالسيد المسيح أو الذين فسدوا بتعاليم الهراطقة
الشريرة قلوبهم غير نقية، فكيف نجد أن كثير من اليهود والهراطقة وبعض المؤمنين[3]
الذين لهم خطايا واضحة، لهم معرفة بالكتاب المقدس، ويفخرون بعظمة تعليمهم الروحي،
بينما نجد من الجانب الآخر حشود لا حصر لها من القديسين الذين تنقت قلوبهم من كل
وصمات الخطية، قانعين بالتقوى الذي للإيمان البسيط دون أن تكون لهم معرفة بأسرار
المعرفة الحقيقية؟! كيف تستقيم هذه الفكرة التي تنادي بها ناسبًا المعرفة الروحية
لأنقياء القلب وحدهم؟

 

16-
نسطور: لا يقدر أن يكتشف قيمة ما أكدته إلا الذين يزنون كل كلمة ننطق بها بميزان
دقيق. فقد بدأنا الحديث عن أناس ماهرين في النقاش لكنهم عاجزين عن الدخول إلي عمق
الكتاب المقدس واكتشاف معانيه الروحية. لأن المعرفة الروحية يطلبها عابدو الله
وحدهم، ولا ينالها الذين قيل عنهم: “اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم
الفهم الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون” (إر 21: 5). وأيضاً: “قد
هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة، أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك
نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو 6: 4).

 فكما
قيل أنه في السيد المسيح تكمن كل كنوز الحكمة والمعرفة (كو 3: 2)، فكيف يمكننا أن
نقول بأن الذي يحتقر التعرف على السيد المسيح، أو عندما يجده يجدف عليه بشفتيه
المدنستين، أو على الأقل يدنس بأفعاله الشريرة إيمانه الذي حسب الكنيسة الجامعة،
كيف يقدر أن ينال معرفة روحية؟!

 “إن
الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر، ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة، لأن روح
التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة، وينهزم إذا حضر
الإثم” (حك 4: 1، 5).

 إذن
لا يوجد طريق لبلوغ المعرفة الروحية غير ذلك الطريق الذي وصفه النبي بدقة قائلاً: “ازرعوا
لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب
حتى يأتي ويعلّمكمْ البرّ” (هو 12: 10). يلزمنا أولاً أن نزرع بالبرّ، أي
بأفعال البرّ نوسع الكمال العملي. بعد ذلك يجدر بنا أن نحصد رجاء الحياة، أي عن
طريق نزع الخطايا الجسدية نجمع ثمار الفضائل الروحية. وهكذا سوف ننجح في إضاءة
أنفسنا بنور المعرفة.

 يرى
المرتل بالمزامير أيضًا أن هذا النظام يلزمنا إتباعه إذ يقول “طوباهم الذين
بلا عيب في الطريق، طوباهم الذين يفحصون عن شهاداته” (مز1: 119،2). فإنه لا
يقول في الأول “طوبى للذين يفحصون عن شهاداته” وبعد ذلك “طوباهم
الذين هم بلا عيب”، إنما يبدأ بالقول “طوباهم الذين هم بلا عيب”،
مظهرًا أنه لا يستطيع الإنسان أن يأتي إلى فحص شهادات الله بلياقة ما لم يسلك في
طريق المسيح بلا عيب بحياته العملية.

فأولئك
الذين تشير إليهم لا يملكون المعرفة التي لا يملكها غير الأنقياء، إنما يقتنون
معرفة باطلة يتحدث عنها الرسول قائلاً: “معرضًا عن الكلام الباطل الدنس
ومخالفات العلم الكاذب الاسم” (1تي20: 6). هؤلاء الذين يظهرون أنهم ينالون
نوعًا ما من المعرفة، أو أولئك الذين يكرسون نفوسهم لقراءة المجلدات المقدسة،
واستذكار الكتب المقدسة غير متخلين عن الخطايا الجسدية، هؤلاء قيل عنهم في سفر
الأمثال: “خزامة ذهب في فِنطِيسة خنزيرةٍ، المرأَة الجميلة العديمة
العقل” (أم 22: 11). لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن اقتنى الزينة السماوية التي
للبلاغة، والجمال الكثير الثمن الذي للكتاب المقدس، إن كان يفسد هذا الالتصاق
بالأفعال القذرة والأفكار الشريرة، دافعًا إياها في أرض دنسة، أو ينجسها بالتمرغ
في قذارة شهواته؟! النتيجة هي أن ما هو حلي بالنسبة للذين يستعملونه استعمالاً
حسنًا، يصير بالنسبة لهم ليس عاجزا عن تزينهم فحسب بل قذارة ووحل متزايد، لأنه
“لا يجمل الحمد في فم الخاطئ” (ابن سيراخ9: 15). إذ يقال له بالنبي.
“مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك؟!” (مز 16: 50). مثل تلك النفوس
لا تملك مخافة الرب بأي شكل من الأشكال إذ قيل: “مخافة الرب أدبُ حكمةٍ”
(أم 33: 15). ومع هذا فإنها تحاول أن تستخلص معاني الكتاب المقدس بالتأمل المستمر
فيه، وبلياقة يسألون في سفر الأمثال: “لماذا في يد الجاهل ثمن؟ الاقتناءِ
الحكمة وليس لهُ فهم؟ ” (أم 16: 17).

 ليس
للمعرفة الحقيقية الروحية فصاحة زمنية، تلك التي هي مدنسة بوصمات الخطايا الجسدية،
فإننا نعرف أنه أحيانًا ينالها بصورة عظيمة من هم بلا فصاحة لسان بل والأميين. هذا
يظهر بوضوح في حالة الرسل وكثير من القديسين الذين لهم مظهر الأوراق الكثيرة لكنهم
منحنون بفعل ثقل ثمار المعرفة الروحية الحقيقية. عن هؤلاء جاء في أعمال الرسل: “فلما
رأَوا مجاهرة بطرس ويوحنا ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعامّيَّان تعجَّبوا،
فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع” (أع13: 4).

فإن
كنتم شغوفين لنوال تلك الرائحة الذكية التي لا تزول، يلزمكم أولاً أن تجاهدوا بكل
طاقتكم للحصول على نقاوة الطهارة من الرب. لأنه لا يقدر أحد من الذين فيهم محبة
الشهوات الجسدية أن ينال المعرفة الروحية، خاصة الذين لا يزالون يترنحون بالزنا…

 يعلمنا
الرسول الطوباوي ضرورة الحصول على المعرفة الروحية التي تحدثنا عنها، لأنه عندما
رغب في تسجيل قائمة فضائله جميعها وصف ترتيبها مظهرًا أيهما الأولى وأيهما التالية،
وما هي الفضيلة التي تتبع سابقتها وتتولد منها… قائلاً “في ضرباتٍ في سجونٍ
في اضطراباتٍ في أتعابٍ في أسهارٍ في أصوامٍ في طهارةٍ في علمٍ في أناةٍ في لطفٍ
في الروح القدس في محبةٍ بلا رياءٍ” (2كو5: 6، 6). بهذا الإحصاء يعلمنا بوضوح
أن نبدأ بالسهر والصوم إلى الطهارة، ومن الطهارة إلى العلم (المعرفة)، ومن المعرفة
إلى طول الأناة، ومن طول الأناة إلى اللطف، ومن اللطف إلى الروح القدس، ومن الروح
القدس إلى مكافأة الحب غير الواهن. بهذا النظام وهذا التدبير، إذ تأتي إلى المعرفة
الروحية، لا تكون معرفتك عقيمة مملوءة كسلاً، بل معرفة حية مثمرة. وترتوي بذرة
كلمة الخلاص التي تبذرها في قلوب السامعين بأمطار الروح القدس الغزيرة. لهذا وعد
النبي قائلاً: “ثم يعطي مطر زرعك الذي تزرع الأرض بهِ، وخبز غلة الأرض، فيكون
دسمًا وسمينًا، وترعى ماشيتك في ذلك اليوم في مرعى واسع” (إش23: 30).

 

17-
لا تحدث المستهترين بأسرار الكتاب

احذر
لئلا تنقاد إلى التعليم وأنت في شبابك، فتضل بالمجد الفارغ، ولا تعلم ما قد تعلمته
بالاختبار أكثر مما بالقراءة أولئك الذين قد تدنسوا إلى النهاية (أي المستهترين)،
فيتم ما قد أعلنه الرجل الحكيم سليمان القائل: “في أذنَي جاهلٍ لا تتكلم
لأنهُ يحتقر حكمة كلامك” (أم 9: 23). و”لا تعطوا القدس للكلاب، ولا
تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير، لئَلاَّ تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم” (مت6:
7). يليق بنا أن نخفي أسرار المعاني الروحية عن البشر الذين هم من هذا النوع حتى
نتغنى بحق: “خبأْتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئَ إليك” (مز 11: 119).

 يخبرك
أحكم رجل، أي سليمان، قائلاً: “أعطوا مسكرًا لهالكٍ وخمرًا لمرّي النفس، يشرب
وينسى فقرهُ ولا يذكر تعبهُ بعدُ” (أم 6: 31-7). بمعنى أن أولئك الذين قد
صاروا في ضيق الحزن والأسى بسبب أعمالهم الماضية، أسندهم بأفراح المعرفة الروحية
بوفرة وذلك مثل “خمرٍ تفرّح قلب الإنسان لإلماع وجههِ أكثر من الزيت، وخبز
يسند قلب الإنسان” (مز 15: 104). هؤلاء أصلحهم بالشرب القوي لكلمة الخلاص،
لئلا يغرقوا في الحزن المستمر، ويسقطوا في اليأس الذي للموت، لئلا يبتلعوا من
الحزن المفرط (2 كو 7: 2). أما الذين لا يزالون في برود واستهتار، غير مضروبين
بالحزن القلبي، هؤلاء نقرأ عنهم “كلام الشفتين إنما هو إلى الفقر” (أم
23: 14).

 هكذا
نتجنب بكل حرص ممكن الانتفاخ بالمجد الباطل، وبهذا نصير شركاء مع ذاك الذي يمدحه
النبي القائل: “فضتهُ لا يعطيها بالربا” (مز 5: 15). لأن كل من يوزع
كلمات الله بدافع محبة مديح الناس… يكون كمن يعطي أمواله بالربا، ويستحق ليس فقط
عدم مكافأة بل عقابًا شديدًا..

 

18-
أسباب عقم التعليم الروحي

 بالتأكيد
هناك سببان يجعلان التعليم الخاص بالأمور الروحية غير فعال:

 أ-
أن المعلم يمدح أمورًا ليس له خبرة بها، فيعلِّم سامعيه كلمات جوفاء فارغة.

 ب-
أن السامع إنسان شرير مملوء بالخطايا، ولا يريد أن يتقبل في قلبه القاسي تعاليم
الرجل الروحاني المقدسة والمخلصة. وقد قال النبي عن مثل هذا: “غَلِّظ قلب هذا
الشعب وثَقِّل أذنيهِ… لئَلاَّ يبصر بعينيهِ ويسمع بأذنيهِ ويفهم بقلبهِ ويرجع
فيُشفَى” (إش10: 6).

19
– ولكن أحيانًا من أجل كرم اللّه السخي في عنايته بنا… يهب للإنسان غير المستحق
للتعليم نعمة التعليم الروحي من أجل خير الكثيرين..

 

ملخص
المبادئ

 


المعرفة الروحية السليمة هي التي تُبني على معرفة اختبارية عملية.


للمعرفة العملية جانبان:

 1-
التعرف على الخطأ وطرق علاجه.

 2-
التعرف على الفضائل والتدريب عليها.


المعرفة الروحية أو التفسير الروحي ينقسم إلى:

 1-
التفسير التاريخي، وهو يتحدث عن الأمور والوقائع بأسلوب بسيط لا يرمي إلى معنى سري.

 2-
التفسير المجازي واستخدام الاستعارة.

 3-
التفسير الرمزي (استخدام الرموز).

 4-
التفسير التشبيهي، وهو الذي يحوي في التشبيهات أسرارًا سماوية مقدسة عالية.


كل إنسان يفهم الكتاب المقدس قدر قامته الروحية…


كيف نقتني المعرفة الروحية؟

 1-
التخلص من اهتمامات هذا العالم.

 2-
السلوك بلا عيب في طريق وصايا الرب. لأن النفس المتدنسة والتي تصر على التمسك
باللذة لا تقدر أن تتفهم الكتاب المقدس.


أسباب عقم التعليم الروحي:

 أ
– أن المعلم يتكلم في أمور لم يختبرها.

 ب-
أن السامع قد أعمى عينيه بالخطية ولا يريد أن يرى الوصية.

 

______________________

[1]
يشك فيما إذا كان هو نفسه الأب يوحنا المذكور في كتاب المؤسسات 28: 5، والذي تُنسب
إليه المناظرة 19.

[2]
ظهر منذ بدء المسيحية بدعة قام بها اليهود الذين صاروا مسيحيين، وهي المناداة بكل
طقوس اليهودية وأعيادها كما هي بحرفيتها.

[3]
النص الإنجليزي “التابعين للكنيسة الجامعة”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار