الفصل الثاني
الفصل
الثاني
حرب
الذات
11-
خطورة الذات
أقدم
عدو حارب البشرية، وأخطر عدو، هو الذات، إن الشيطان لا يحاربك بقدر ما تحاربك ذاتك.
مشكلتك الكبري هي الذات.
الذي
ينتصر على ذاته من الداخل، يستطيع أن ينتصر خارجاً على العالم وعلى جميع الشياطين،
والذي تهزمه ذاته ويضعف هو أمامها، يمكن أن يقع في أية خطية.
وإذ
استعرضنا تاريخ الخطية في العالم، نجد أن الذات متداخلة في كل خطية ولذلك فالإنسان
المنتصر على ذاته، يكون منتصراً في كل حرب روحية، مادامت ذاته لا تخونه ولا تفتح
أبوابه للأعداء، فلا يهمه أي عدو خارجي، وصدق القديس يوحنا ذهبي الفم قال:
لا
يستطيع أحد أن يؤذي إنساناً ما لم هذا الإنسان نفسه.
والأذية
الحقيقية هي فقدان الملكوت وفقدان السلام الداخلي، وهذا لا يأتيك مطلقاً من الخارج،
ما دامت نفسك قوية في الداخل.
ولعل
إنساناً يسأل: ألا تأتي عثرة من الخارج؟ إغراء.. شهوة.. محاربة خارجية؟
نقول
إن الحروب الخارجية تأتي وكذلك العثرات، ولكن لا سلطان لها عليك، السلطة هي
لإرادتك، المرجع الأخير هو ذاتك؟
هل
أنت في داخلك تقبل العثرة أو الإغراء، أو لا تقبل؟ هل أنت تصمد أمام الحرب
الخارجية أو لا تصمد؟
إن
يوسف الصديق تعرض لحرب عنيفة من الخارج من امرأة فوطيفار. ولكنه لم يسقط، لأنه كان
رافضاً الخطية في داخل قلبه. فلم يقبل الإغراء، وانتصر على العثرة.
إن
الشيطان يقترح عليك اقتراحات ولكنه لا يرغمك على التنفيذ.
12-
الذات والخطية
إذن
الوقوع في الخطية سببه الذات دون التركيز على الإغراءات الخارجية التى هي مجرد
عروض تقبلها الذات أو ترفضها.
حقاً
أن كثرة إلحاح هذه الإغراءات يسبب ضعف الذات من الداخل، فتستسلم أخيراً وتسقط.
ويكون
ضعف الذات هو السبب المباشر. أما العثرات فهي سبب غير مباشر.
ولذلك
فإن الذات القوية من الداخل تبعد عن العثرات الخارجية، حتى لا تؤثر عليها هذه
الإغراءات، فتضعف أمامها. وهكذا حذرنا المزمور الأول من طريق الأشرار، ومجالس
المستهزئين وقال القديس بولس: “أما الشهوات الشبابية فأهرب منها” (1تى 2:
23).
والهروب
هنا يكون دليلاً على نقاوة الذات، لأنها ترفض التأثير الخارجي الخاطئ..
ولذلك
حسناً هرب يوسف الصديق، ولم يكن هروبه دليل ضعف، بل دليل قوة.. كان برهاناً على
قوته التى استطاعت أن ترفض الخطية وتبعد عنها.
الذات
النقية ترفض حتى الفكر الخاطئ، وليس فقط العثرة الخارجية إنها ترفض أن تتفاوض مع
هذا الفكر، إنما تطرده بسرعة، حتى لا تعطيه فرصة للاستقرار، وفرصة لإضعافها من
الداخل.
وقوة
الذات تأتى هنا في غلق أبواب الفكر وأبواب القلب أمام كل اقتراح خاطئ من الشياطين..
ولهذا
فإن المرتل يسبح الرب في المزمور قائلاً: “سبحي الرب يا أورشليم.. سبحي إلهك
يا صهيون، لأنه قوى مغاليق أبوابك، وبارك بنيك فيك” (مز146).
وسفر
النشيد يطوب الذات التى هي “جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم” (نش4: 12)
ولقد
صدق المثل الذي قال:
أنت
لا تستطيع أن تمنع الطير من أن يحوم حول رأسك، ولكنك تستطيع أن تمنعه من أن يعشش
في شعرك.
لابد
أن تأتي العثرات. ولكن ما هو موقف ذاتك منها؟ ما مدي استجابة الذات أو رفضها لهذه
العثرات؟
إنك
لابد ستقابل في يوم من الأيام شخصاً يقول لك كلاماً مثيراً.. ولكن المهم هل أنت في
الداخل، ستنفعل وتثار؟ أم ستكون أقوي من الإثارة؟ وهذا الكلام الذي قد يكون مثيراً
لغيرك، لا يكون مثيراً لك، إنما تقابله في هدوء ورصانة وحكمة.
وهنا
أختبار الذات، لا أقول إن السبب كله يقع على الحروب الخارجية إنما هناك حرب داخلية
مع الذات. فإن كانت الذات قد خانت الله، وقبلت الأعداء الخارجيين، أعداءها وأعداء
الله، فلا نستطيع هنا أن نعفيها من المسئولية..
وهنا
نسأل: هل ذاتك صديقتك أم عدوتك؟ هل هي معك أم عليك؟ وصدق مار إسحق قال..
إن
اصطلحت مع ذاتك، تصطلح معك السماء والأرض.
أي
إن استطعت في داخلك أن تقيم صلحاً بين جسدك وعقلك وروحك، ويسير الثلاثة معاً في
طريق واحد هو طريق الروح، ولا يشتهي الجسد ضد الروح، ولا الروح ضد الجسد حينئذ
تصطلح معك السماء والأرض، فلا تخطئ إلى الله، ولا إلى ألناس ولا تخطئ إلى نفسك..
ولكن
لعل إنساناً يقول إنه يحب ذاته، وذاته تحبه، وهو يسعد ذاته على لدوام، وهنا نعرض
لنقطة هامة وهي: المحبة الخاطئة للذات
13-
المحبة الخاطئة للذات
ما
معني أن تحب ذاتك؟ هل معنى ذلك أن تدلل ذاتك، وتعطيها كل ما تطلب وكل ما تشتهي؟
وهل محبتك لذاتك هي أن تمدح الذات، وتمجدها، وتفضلها على جميع الناس.
إن
كنت تفعل هذا وما يشابهه، إذن فأنت تحب ذاتك محبة خاطئة..
المحبة
الحقيقية للذات هي أن تسيرها في طريق روحي، وتلصقها بمحبة الله، وتوصلها إلى
ملكوته.
والمحبة
الحقيقية للذات هي أن تؤدب هذه الذات إن أخطأت، وتقوم طريقها كلما انحرفت الحقيقية
للذات هي أن تؤدب هذه الذات إن أخطأت، وتقوم طريقها كلما انحرفت، وإن أدي الأمر أن
تعاقبها، أو أن تقف ضد رغباتها الخاطئة.
غبر
أن الذات قد تريد أحياناً أن تعيش في حياة اللذة، سواء كانت لذة جسدية أو حسية، أو
لذة بالعالم وشهواته.. وهنا تكون ذاتك حرباً عليك.. ويكون واجبك أن تقف ضدها بكل
قوة.. ونتذكر باستمرار قول الرب:
”
إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني” (لو9: 23).
يضع
أمامنا الرب فضيلة إنكار الذات كفضيلة رئيسية في الحياة معه، ولو أدي الأمر أن
يحمل الإنسان صليبه كل يوم، وربما يكون صليباً في مقاومة هذه الذات، وفي إخضاعها.
ولكن
ما أكثر الذين يحبون ذواتهم محبة خاطئة، ومن مظاهر ذلك..
14-
تكبير الذات
يريد
أن تكون ذاته باستمرار كبيرة وعظيمة، ولكنه يخطئ في الوسيلة إذ يسعى إلى ذلك
بطريقة خاطئة.
فهو
يريد أن تكون نفسه كبيرة من الخارج، وليس في الداخل.
كبيرة
من الخارج، أي بمظاهر خارج النفس، كالمناصب والألقاب، والغني والشهرة، ومديح الناس،
وكل هذه الأمور لا علاقة لها بطبيعته النفس ونقاوتها، بل هي ضدها وتدل على جهل
وعدم فهم. بينما يقول لنا الوحي في المزمور:
كل
مجد ابنه الملك من الداخل (مز45).
على
الرغم من أنها” مشتملة بأطراف موشاة بالذهب، ومزينة بأنواع كثيرة”
(مز44).
فما
هو هذا المجد الداخلي، لمن يريد لنفسه أن تكون كبيرة حقاً، وبطريقة روحية؟
المجد
الداخلي، هو أن تكون الذات صورة الله ومثالة، كما سبق الله وخلقها على شبهه (تك1: 26،
27).
المجد
الداخلي للذات هو أن تشتمل بثمار الروح التي هي محبة فرح سلام وداعة لطف.. إلخ.
(غل5: 22). وأن تكون الذات نقية قديسة طاهرة بلا لوم في كل شئ، متضعة هادئة رحيمة
حكيمة.. فهذا هو المجد الحقيقي والذي يوصل نفسه إلى هذه الفضائل فهو الذي يحب نفسه
محبة حقيقية روحية.
أما
كسب المديح للذات، وتمجيدها من الخارج. وأما السعي إلى احترام الناس لهذه الذات.
وتقديرهم لها. فهي أمور خارجية، من المفروض في الإنسان الروحي أن يرتفع عن مستواها..
ما
الذي تستفيده الذات روحياً، إن مدحها الآخرون؟ وما قيمة هذا المديح بالنسبة إلى
أبدبتها؟ وهل الكرامة الخارجية هي وسيلة روحية لتكبير الذات، أم هي حرب روحية يسقط
فيها الكثيرون؟
من
مظاهر هذه الحرب. ما يسمونه عبادة الذات، أو عشق الذات..
إذ
يريد الإنسان أن تكون ذاته جميلة في عينية، جميلة في أعين الناس، بلا عيب أمامهم
ولا نقص.. كما لو كان يؤمن بعصمة ذاته، أو بأنه لا يمكن أن يخطئ.
إنه
إنسان معجب بذاته، كمن يحب باستمرار أن ينظر إلى مرآة، ويتأمل محاسنه.
مثل
هذا الإنسان لا يمكن أن يحتمل اهانة، مهما كانت ضئيلة، ولا يحتمل نقداً، ولا يحتمل
أن يكمله أحد بصراحة.
إن
هذا كله، يراه مشوهاً لصورته التي يريد لها أن تبقي جميلة رائعة أمام الناس وإذ لا
يقبل الصراحة أو النقد، يبقي كما هو في أخطائه، ولا يصحح مسيرته، ولا يغير صفاته،
وهكذا تكون محبة الذات سبباً في ابعاده عن النقاوة الداخلية.
وتكون
محبة الذات هذه خطراً على أبديته، لأنها ليست محبة حقيقية.
إنها
محبة لسمعه هذه الذات. ولصورتها أمام الناس، وليست محبة لأبديتها، ولا محبة
لنقاوتها، إنها محبة غير روحية تشكل خطراً، وتجلب ضرراً، ونستطيع أن نقول إنها
ليست محبة، بل هي حرب روحية.
ومع
ذلك، فإن محاولة تكبير الذات بمحبة مديح الناس، هي حرب يسقط فيها كثيرون..
والذي
يحب المديح، لا يكتفي بمديح الناس، بل يتطور إلى أن يتحدث كثيراً عن نفسه،
ويمتدحها أمام الآخرين؟
وفي
حديثه عن نفسه، لا يكون عادلاً، ولا يذكر حقيقية ذاته كاملة، فهو لا يتحدث إلا عن
محاسن ذاته وانتصاراتها وأمجادها، وفي نفس الوقت يخفي ما فيها من عيوب، وإن أظهر
له أحد هذه العيوب أو بعضها يحاول أن يبررها ويدافع عنها.
15-
حرب الذات هي حرب قديمة
إنها
الحرب التي حورب بها أبوانا الأولان، حينما أغراهما الشيطان، قائلاً: “تصيران
مثل الله، عارفين الخير والشر” (تك3: 5).
وكما
كان كبر الذات حرباً للإنسان كان هو نفسه سقطة الشيطان.
وفي
ذلك وبخه الوحي الإلهي قائلاً: “وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات. أرفع
كرسي فوق كواكب الله. أصعد فوق مرتفعات السحاب.. أصير مثل العلي” (إش14: 13،
14). فتكرار كلمة” أصعد وكلمة فوق مع كلمة مرتفعات” كلها تدل على محاولة
تكبير الذات.
بل
أن تكبير الذات وصل هنا إلى درجة التأله.. أصير مثل العلي.
هل
ترون خطورة للذات أكثر من هذا الارتفاع، أو من هذا الانحدار؟ لقد حورب هيرودس بهذه
الحرب، فضربه ملاك الرب، فأكله الدود ومات (أع12: 22، 23).
ومن
مظاهر تكبير الذات أن يكون الإنسان باراً في عيني نفسه.
وقد
قيلت هذه العبارة في سفر أيوب “فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب.
لكونه باراً في عيني نفسه” (أي32: 1).
بل
وبخه اليهو قائلاً له: ” قلت أنا أبر من الله” (أي35: 1)
ومن
مظاهر تكبير الذات في القديم، قصة برج بابل:
هؤلاء
الذين قالوا: “هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً، يكون رأسه في السماء..
ونصنع
لأنفسنا اسماً” (تك11: 4).
وكانت
النتيجة أن الله عاقب كبرياء هؤلاء، بأن بلبل ألسنتهم وبددهم في الأرض.
يقودنا
هذا أن نبحث نقطة أخري وهي أن محبة الذات تصطدم بالله!
16-
الذات تصطدم بالله
إذا
وثق الإنسان بذاته، يبدأ بعمل خطير وهو: استقلال ذاته عن الله..
يثق
بتدبيره لنفسه، وتحلو تدابيره فى عينيه، فلا يستشير الله فى شئ ويقول: ما دمت أعرف،
فلماذا اطلب معرفة من الله، ولماذا أطلب معونة؟
لذلك
فالواثق بذاته: تصعب علية جداً حياة التسليم.
حياة
التسليم تحتاج إلى اتضاع قلب، وعدم التمسك بالرأى الخاص، وبالتالى تقف ضدها تماماً
حرب الذات.
هنا
ونتذكر الخطأ الذى وقع فيه يونان النبى، الذى هرب من الله، إذ كان له مشيئة خاصة
لم تتفق وقتذاك مع مشيئة الله.
و
لما عفا الله عن نينوى- غم ذلك يونان غماً شديداً فاغتاظ- حتى وبخه الله قائلاً: “هل
اغتظت بالصواب؟” (يون1: 4،4).
حقاً
انها مأساة، أن يغتاظ إنسان من مشيئة الله، اغتياظاً يطلب به الموت ولكنها الذات!!
حتى بالنسبة إلى نبى عظيم كيونان، حورب كما حورب غيره.
على
أن هناك اتجاهاً آخر فى مشكلة الذات، وهو رفض الله كلية.
وقع
فى هذا الخطأ المرعب، الوجوديون الذين رأوا بسبب شهواتهم الخاصة أن وجود الله يعطل
وجودهم.
و
رأوا أن محبة الله تقف ضد رغباتهم، وضد تحقيق الذات عندهم بالصورة التى يحبونها فى
حياة اللذة والمتعة، وفى حياة الحرية المطلقة التى تريد أن تفعل ما تشاء، حتى لو
كان ضد القيم والآداب والمثل، وضد وصايا الله.
أن
الحرية المطلقة التى تطلبها الذات، هى حرب من حروب الذات، تهدف إلى الاباحية،
وتنتهى إلى الالحاد.
و
بعض الناس دخلوا فى هذا النطاق ولكن بأسلوب مختلف، ولكنه للأسف ينتهى إلى نهايات
مشابهة.. هؤلاء هم اللاهوتيون أعطوا أنفسهم حرية فى العقيدة بغيرة حدود. وكل ما لم
يوافقهم من تعليم الكتاب انكروه، أو اعتبروه اساطير أو حاولوا ترجمته حسب إتجاه
الذات عندهم.
قصة
فلك نوح لا تعجب عقلهم مثلاً، إذن لا مانع من اعتبارها أسطورة.. على أن هناك نوعاً
آخر اتخذت عنده الذات أسلوباً ضد وصية الله ولكنه أخف من هذا بكثير..
مثال
ذلك الذين لا يحفظون وصية يوم الرب بسبب الذات ومشاغلها أو الذين يكسرون وصية
العشور، بسبب الذات وانفاقاتها.
هؤلاء
اصطدمت عندهم الذات بالله سلوكياً وليس عقيدياً..
محبة
الذات تصطدم أيضاً بأب الاعتراف:
17-
الذات تصطدم بأب الاعتراف
الإنسان
المعتد بذاته، يكون أب الاعتراف بالنسبة إليه مجرد شكليات.
أنه
لا يطلب إرشاد من أب اعترافه لأنه يعرف كل شئ والحل حاضر فى ذهنه، وهو لا يطلب منه
قيادة حياته الروحية، لأنه يعرف كيف يقودها ويعرف الخير لها بالأكثر..!!
كل
ما يطلبه من أب الاعتراف هو الموافقة عما يعرضه هو عيه، حتى يستوفى الشكليات من
جهة موافقة أب الاعتراف، وإن لم يوافقه، يظل يجادله وبلح.
و
يشرح ويبدى أعتراضات عملية على الحلول الأخرى التى يعرضها أب الاعتراف، لكى يستقر
أخيراً على رأيه. وبالاختصار نقول عن الواقع فى حرب الذات أن الطاعة صعبة عليه،
وأنه يسلك دائماً حسب هواه..
أنه
يفكر لنفسه، والفكر الذى يأتيه من غيره، هو مجرد اقتراح لا يلتزم به، مهما كان
مصدره. وإن كان سلوكه هكذا مع اب اعترافه، فبلا شك سيسلك هكذا مع رؤسائه المدنيين.
لذلك
كثيراً ما نرى المعتد بذاته يصطدم برؤسائه فى العمل. ويمكن أن يصطدم ببعض زملائه
أيضاً، إنه يشعر أنهم يتدخلون فى عمله.
18-
الشعور بالذات
شعور
الإنسان بذاته وتمركزه حولها له أسباب نذكر منها:
أول
شئ يجعل الإنسان يشعر بذاته، هو التفوق، والمواهب، والقدرات غير العادية والشعور
بالقوة.
كل
هذه أمور قد تحاربه من الداخل وربما تريد أن تعبر عن وجودها بأى مظهر خارجى يثبت
به الإنسان أنه صاحب مواهب ومقدرات..
و
تزيد الحرب عليه، إن دخلت فى دور من المقارنة..
و
شعر أنه أفضل من غيره فى شئ ما، أذكى منه، أو أكثر معرفة أو أكثر خبرة، أو أقوى
جسداً، أو أجمل شكلاً، أو صاحب موهبة معينه، فى الرسم، فى الموسيقى، فى الشعر، فى
عمل اليد عموماً، فى اللغة.. إلخ.
و
حتى فى خدمة الرب قد تبرز الذات.. إن شعر الإنسان أن له طاقات فى الخدمة أكثر من
غيره. كأن يكون أكثر حفظاً من الألحان أو أجمل صوتاً، أو أن يكون أكثر من غيره
دراسة للكتاب، أو إلماماً بأقوال الآباء، أو أن يكون أعمق تأثيراً فى خدمته، أو فى
وعظه، أو فى وعظه، أو فى تدبيره، أو فى مشروعاته.
و
قد يكون سبب الشعور بالذات: المركز، المنصب، الغنى، الشهرة. وربما تكون كل هذه
أسباب شعور بالذات، ولكن المتواضعين يفلتون منها، إن استخدموا كل ذلك فى مجال خدمة
الآخرين، وليس فى مجال ظهور ذواتهم أو الافتخار بها، أو الارتفاع على غيرهم..
إن
المواهب له بلا شك خطورتها.
فقد
ترفع القلب من الداخل، وربما ترفعه فى الخارج ايضاً، وتقود إلى حرب المجد الباطل،
ولذلك قد يتساءل الفكر عن الذين أعطاهم الرب موهبة صنع المعجزات، كيف كانوا
يحتملونها؟ وبخاصة لو كانت إقامة موتى، أو فتح أعين العميان.. ولهذا قال أحد
الآباء:
إن
وهبك الله موهبة، فاسأله أن يهبك معها اتضاعاً ليحميها، أو أسأله أن يرفعها عنك.
و
هنا ونتعجب من الذين، بدلاً من أن يطلبوا من الله أن يمنحهم نقاوة القلب وثمار
الروح، نراهم يطلبون منه موهبة التكلم بألسنة مثلاً..
و
لا تكون فى ذهنهم وقتذاك خدمة الكلمة فى مجاهل أفريقيا أو الصين أو اليابان.. وإنما
يطلبون الموهبة وكفى.
ألا
يحتمل جداً أن تكون وراء طلب مثل هذه المواهب، حرب من الذات؟
ماذا
تفيدك أيها الأخ أمثال هذه المواهب، التى قد تكون حرباً عليك، ولماذا يحزن قلبك إن
لم تكن لك؟ هوذا الرب يأمرنا أن نطلب ملكوت الله وبره.
أما
أن شاء تدبيره الإلهى، أن يهبنا شيئاً من هذه المواهب أم من الجائز أن تقودنى إلى
كبرياء تضيع أبديتى؟
19-
نتائج عبادة الذات
الإنسان
المعتد بذاته يصل إلى العناد وتصلب الرأى.
فكره
هو فوق الكل، لا يقبل فيه معارضة، بل يعادى من يعارضه أو يكرهه، أو يعمل على
تحطيمه، أو على الأقل يتجاهل الرأى الآخر.
إنه
اعتداد بالذكاء الشخصى أو بالمعرفة الشخصية. وفيه يكون الشخص صعب التفاهم جداً.
و
أمثال هؤلاء، أن حدثهم أحد، يردون عليه قبل ان يكمل حديثه، وقد يقاطعونه أثناء
الكلام أكثر من مرة.. ومهما أورد محدثهم من أدلة قوية، يبقون على رأيهم كأن لم يقل
شيئاً..
و
لذلك يتجنبهم الناس، أو يتجنبون النقاش معهم، شاعرين أنه لا فائدة. والمعتد بذاته،
إذا تولى رئاسة، يصل إلى أسلوب من التسلط.
ليس
فقط من جهة تصلبه فى الرأى إنما أيضاً من جهة تنفيذ هذا الرأى ولو بالقوة، وقد
يحدث هذا حتى فى محيط الخدمة، حينما يلغى أحد الخدام شخصية كل الخدام الآخرين
والنقاش معهم، إذ لا فائدة من النقاش! أنا قلت كده!
و
هنا عبادة الذات، تقود حتماً إلى الغرور، والكبرياء، وحب العظمة.
و
فيها ينتقد الإنسان حياة الوداعة والتواضع والهدوء، ويصل من التسلط إلى التأله.
على أن هناك جانباً آخر، قد يقع فيه لون آخر من محبى الذات..
20-
الإشباع الخاطئ للذات
و
ذلك هو الإشباع الخاطئ لمحبة الذات ونقصد به اشباع الذات عن طريق اللذة وليس عن
طريق الكبرياء.
يجمع
الأمرين معاً قول القديس يوحنا الرسول، شهوة الجسد وشهوة العيون، تعظم المعيشة
(1يو16: 2).. فشهوة الزنا تدخل فى حرب الذات وشهوة الطعام هى حرب أخرى للذات فى
نطاق الجسد.
لأن
حرب الذات قد تأخذ اتجاهاً جسدياً، كما تأخذ اتجاهاً نفسياً.
و
قد يدخل فى إشباع الجسد، عدم القدرة على الصوم، والتهالك على الطعام الشهي، وشرب
الخمر، وعلى أنواع المكيفات، ربما تصل إلى حد الإدمان. والحديث عن شهوات الجسد،
موضوع طويل ليس الآن مجاله..
21-
الذات في محيط العطاء
محبة
الذات تقف حائلاً منيعاً ضد الآخرين، وضد حياة البذل، والعطاء.
مثال
لذلك الغنى الغبى وأهماله للعازر المسكين (لو16). ومثال لذلك أيضاً كل المصابين
بالبخل والتقتير، والذين يهملون دفع البكور والعشور والنذور، لكى ينفقوه على الذات.
على
أن المحب لذاته قد يعطي، ولكن في حدود معينة لا تصطدم بذاته ورغباتها..
هو
قد عطي من فضلاته ولا يستطيع مطلقاً من أعوزه، كما فعلت تلك الأرملة القديسة التي
طوبها الرب له المجد (لو21: 4).
ومهما
أعطي، فإنه يعطي خارج ذاته، ولا يمكنه مطلقاً أن يبذل ذاته. المحب لذاته، لا يمكنه
أن يضحي بذاته من أجل غيره، ولا يمكنه أن يفتدي غيره بنفسه. وإن وجد خطراً يلحق به
إن دافع عن غيره، يضع حداً لدفاعه. لأن ذاته هي الأهم في نظرة!.. حقاً ما أبعد
محبة الذات عن التضحية، وعن الفداء، وعن الاستبسال في الدفاع عن الآخرين.
بل
قد تقف الذات حائلاً ضد الخدمة أيضاً، بحجة ضيق الوقت أيضاً. فالمحب لذاته يعطي
للخدمة ما فضل من وقته كما يعطي الفقراء من فضلاته.
ومن
الجائز أن يعتذر عن الخدمة، ولا يلتزم بمواعيدها، إن طرأت عليه مشغولية ما، فإنه
يفضلها على الخدمة، مهما كانت نتائج ذلك بالنسبة إلى الخدمة.
إن
كان الأمر هكذا، فماذا نقول إذن عن الاستشهاد؟
المحب
لذاته لا يستطيع ان يقدم على الاستشهاد، لأن نفسه عزيزة عليه، ولهذا كان لابد
للشهيد أن يتخلص أولاً من محبة الذات والاهتمام بها هذا الاهتمام الباطل الذي لا
يحفل بأبديتها.
الشهيد
من أجل الله يبذل ذاته.
وهناك
درجة أقل من الشهادة، وهي إعطاء الإنسان ذاته لله بتكريسها له. فالتكريس درجة عليا
في الخدمة، يهب المكرس فيها كل وقته لله، على شرط أن يبعد التكريس أي تكبر به
الذات، إنما تكريس تبذل فيه الذات.
والإنسان
المنكر لذاته، حينما يعطي إنما يعطي خير ما عنده.
لآته
لا يحب الخير لذاته، بقدر ما يحب الخير لغيره، وفي ذلك يقول الرسول عن المحبة
إنها” لا تطلب ما لنفسها” (1كو13).
المحب
لذاته لا يمكنه أن يعطي خير ما عنده، بل يحتجزه لنفسه.
واسؤا
ما في محبة الذات في هذه الناحية أن يعطى الإنسان شيئاً ثم يندم عليه فيسترجعه.
ننتقل
الآن إلى نقطة أخري عن الذات وهي: أخطاء الذات في المعاملات
22-
أخطاء الذات في المعاملات
أحياناً
يجد الإنسان المحب لذاته، إنه لابد أن يقف ضد الآخرين لا ثبات ذاته.
وأول
خطوة في ذلك هي المنافسة.
المنافسة
إن كانت مباراة في النفع العام، بحيث يتنافس الكل في خدمة المجتمع، حينئذ تكون
المنافسة خيراً.. وكما قال الكتاب: “حسنة هي الغيرة في الحسنى” (غل4: 18).
إما
أن كانت المنافسة هي محاولة انتصار فريق على الآخر، ولو بتحطيمه فهنا تظهر الذات
ومعها عدم محبة الآخرين.
حسن
أن يتبارى الجميع في التفوق أما أن يكره شخص من يتفوق عليه فهنا أيضاً تظهر خطورة
محبة الذات. هنا تقود الذاتية إلى الحسد وإلى الغيرة وإلى الكراهية.
إنها
الغيرة الطائشة التي تريد أن يصل إليها وحدها كل شئ، ولا يصل إلى أحد شئ، هي وحدها
التي تكبر والتي تملك، وهي وحدها التي تتفوق، والتي تمدح، وهي التي تسلط عليها
الأضواء، ولا تسلط على غيرها.. وإلا..
وإلا
تبدأ الذات حرباً مع كل من ينافسها، أو يسير في نفس الطريق معها. ذات تريد أن تكبر،
وذات أخري تريد أن تكبر وحدها، وهنا الخطورة حيث تثير هذه الذات جواً غيرها دون
عيب فيه، ودون أن يقترف ذنباً ضدها أو ضد أحد..
إنه
صليب يحمله المتفوقون، ممن يحسدونهم على تفوقهم.
وهذا
هو الذي لاقاه داود النبي من شاول الملك، أو هذا هو الذي لاقاه يوسف الصديق من
أخوته، ولنفس السبب قام هيرودس ضد السيد المسيح منذ مولده وبنفس الشعور قال: الفريسيون
بعضهم لبعض: “انظروا أنكم لا تنفعون شيئاً.. هوذا لعالم قد ذهب وراءه”
(يو12: 19).
حقاً
ما أصعب تلك العبارة التي قيلت في سفر التكوين.
“لم
تحتملها الأرض أن يسكنا معاً” (تك13: 6).
إذا
أرادت الذات أن تملك، تكون مستعدة أن تحطم كل من ينافسها، مثلما حدث أن آخاب قتل
نابوت اليزرعيلي.
ونفس
الوضع في الاحترام والمديح.
إن
كان من مشاكل المحب لذاته، أنه يحب مديح الناس واهتمامهم به واحترامهم والاهتمام
له، فأخطر من هذا، شخص يريد أن يكون الوحيد الذي هو موضع الاحترام والاهتمام
والمديح بتقدير الآخرين.
ومن
هنا تأتي الصراعات بين أصحاب المهنة الواحدة، أو الذين يعملون في نشاط واحد، أو
يتنافسون على رئاسة.
مريم
واحد، أو يتنافسون على رئاسة.
مريم
كانت جالسة عند قدمي المسيح تستمع إليه، ولم تفعل شيئاً ضد مرثا. ولكنها لم تسلم
من انتقادها.. إنها الذات التي دفعت مرثا إلى انتقاد أختها مريم، لماذا أتعب أنا
وحدي، تقوم هي لتتعب معي، أو لماذا هي تتمتع بجلسة التأمل واحرم أنا منها؟ (لو10: 40).
وكما
حدث من أجل الذات أن مرثا انتقدت مريم، حدث لنفس السبب أن الابن اكبر انتقد أخاه
الأصغر (لو15).
نقطة
أخري في محبة الذات. وهي أن المحب لذاته لا يمكن أن يأتي بالعيب على نفسه وإنما..
يلقي
بمسئولية أخطائه على غيره.
حتى
أن رسب في الامتحان، فإما أن واضع الامتحان كان قاسياً في أسئلته، وإما أن المصحح
لم يكن رحيماً في تصحيحه. وإما أن الله لم يسنده في امتحاناته على الرغم من
الصلوات التي رفعت إلهي.
ولذلك
يري نفسه مظلوماً باستمرار المحب لذاته.. إما أن يصل وإما دائماً يسخط، ويتذمر،
ويشكو.
يشكو
والدية، ويشكو المجتمع ويشكو الزمان الذي يعيش فيه، ويشكو معاملات الآخرين، ويشكو
معاملات الآخرين، ويشكو أسباباً عديدة لعدم وصوله، وينتقد كل اللذين وصلوا،
وأسالبيهم التي ارتفع هو عن مستواها..
أما
ذاته فهي الوحيدة التي لا يشكوها والوحيدة التي لم تخطئ..
ومن
أجل هذا، هو لا يصلح عيباً فيه، لأن ذاته تبدو أمامه بلا عيب.. وإذ تستمر متاعبه
ويستمر عدم إصلاحه لنفسه، تستمر بالتالي شكاواه التي لا تنتهي.
إن
كان رئيساً يشكو من أخطاء مرؤوسيه.. وإن كان مرؤوساً يشكو رؤساءه وزملاءه..
وإن
كان ولا أحد من هؤلاء قد أخطأ، حينئذ يشكو الأنظمة والقوانين واللوائح! المهم أنه
يدافع عن ذاته إن ارتكب خطأ: فيغطيه بالكذب أو بتبريرات عديدة، أو يلقي التبعى على
غيره، أو يقول إنه ما كان يقصد.. وهكذا بدلاً من أن يصلح ذاته، يغطيها!
والمحب
لذاته حساس جداً نحو كرامته، يعامل نفسه والناس بميزانين مختلفين.
يدقق
جداً في أقل كلمة توجه إليه بينما لا يبالي بما يقوله هو للناس. ويريد معاملة، لا
يعامل بها غيره.
هو
حساس نحو كرامته، ولكنه ليس حساساً نحو كرامة الناس في معاملته لهم.
متى
وكيف ينكر الإنسان ويدين ذاته هذا ما أود أن أحدثك عنه الآن.
23-
المثال العظيم في إنكار الذات
إن
كان الإنسان الأول قد أنهزم في حرب الذات، واشتهي أن يصير مثل الله (تك3: 5) فإن
السيد المسيح الذي بارك طبيعتنا فيه، صحح هذه النقطة. وكيف كان ذلك؟ يقول عنه
الرسول إنه:
”
أخلي ذاته. وأخذ شكل العبد صائرً في شبه الناس” (في2: 7).
وعاش
على الأرض فقيراً، ليس له أين يسند رأسه (لو9: 58) بلا وظيفة رسمية في المجتمع.
وتنازل عن كرامته.” ظلم. أما هو فتذلل ولم يفتح فاه.. واحصي مع إثمه”
(أش53: 7، 12) ولم يدافع عن نفسه..
أنكر
ذاته مكن أجلنا. ووضع ذاته لكي يرفعنها نحن. ووقف كمذنب لكي نتبرر نحن. ذاته لم
يضعها أمامه بل وضعنا نحن..
ومع
أن معمودية يوحنا كانت للتوبة ولم يكن السيد محتاجاً إلى توبة، وبالتالي ما كان
محتاجاً إلى معمودية، إلا أنه من أجلنا تقدم إلى العماد. وفي نكران للذات قال
لعبده يوحنا: ” اسمح الآن” (مت3: 15).
إن
إخلاء المسيح لذاته موضوع واسع، ليس الآن مجاله. يمكن أن تقرأ عنه مقالاً طويلاً
في كتابنا تأملات في الميلاد.
نتابع
الآن عناصر إنكار الذات: بذل الذات
24-
بَذْل الذات
سواء
كان هذا البذل من أجل الله، أو من أجل الكنيسة، أو من أجل أي إنسان قريب أو بعيد.
وما أجمل قول القديس بولس الرسول في هذا الشأن:
“ولا
نفسي ثمينة عندي” (أع20: 24) وهكذا بذل الرسول نفسه في خدمته.
“في
تعب وكد. في أسهار، في أصوام. في جوع وعطش، في برد وعري، بأسفار مراراً كثيرة،
بأخطار في المدينة، بأخطار في البرية، بأخطار في البحر، بأخطار من أخوة كذبة”
(2كو11) “في شدائد، في ضرورات، في ضيقات، في سجون” (2كو6: 4، 5).
وهكذا
أعطي نفسه مثالاً للخدمة التي لا تبحث عن الراحة. إنما تبذل ذاتها وتتعب في
الكرازة والتعليم وفي البحث عن الضال..
إنه
نفس مثال الشمعة التي تذوب لتنير للآخرين، ومثال حبة البخور التي تحترق لتعطي
رائحة ذكية لغيرها.
إنه
مثال نقدمه لمن يشترط لتكريسه أن يكون ذلك في بلدة كبيرة، أو في كنيسة غنية، أو في
كنيسة قريبة من بيته!
من
أجل الكرازة تغرب الرسل في بلاد بعيدة. وكرز البعض وسط شعوب من آكلي لحوم البشر.
المهم أن تنتشر كلمة الله.
إذا
دعيت يا أخي للخدمة، لا تفكر في ذاتك، ولا في راحتك، ولا في احتياجاتك المالية
والمادية، فالله يعتني بكل هذه. إنما ركز تفكيرك كله في احتياج النفوس إلى الله.
وابحث عن الأحياء المحتاجة، والمناطق غير المخدومة مهما بذلت في سبيل ذلك..
وتذكر
في الخدمة قول الرب:
”
من وجد حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلي يجدها” (مت10: 39).
فما
معني هذه العبارة العجيبة؟ وما هي أعماقها الروحية؟ وما أمثلتها؟
25-
مَنْ أضاع نفسه يجدها
لعل
البعض كان يظن أن موسى النبي من أجل غيرته المقدسة- قد ضيع نفسه، حين ترك الامارة
والقصر الملكي!!” مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله.. حاسباً عار المسيح غني
أفضل من خزائن مصر” (عب11: 25، 26).
ولكن
نفس موسى لم تضع، وإنما وجدها في راحة الآخرين، وفي إيمانهم، وفي عمل الله به.
وهكذا صار زعيماً للإيمان في أيامه.
وأول
من ائتمنه الله على شريعة مكتوبة.
ووقف
موسي على جبل التجلي مع المسيح وإيليا. أما الإمارة التي ضيعها فكانت نفاية إلى
جوار الأمجاد التي حصل عليها.
على
أن موسي ما كلن ينظر إلى هذه الأمجاد حينما ترك قصر فرعون.. إنما كان يهمه أن يبذل
ذاته لأجل الشعب مفضلاً أن يذل معهم على التمتع بالقصور!!..
ونفس
الوضع نراه مع أبينا إبراهيم. فحينما دعاه الله، إنما دعاه إلى البذل، بأن يترك
أهله وعشيرته وبيت أبيه، ويذهب ليتغرب بعيداً في أرض لا يعرفها (تك12). ثم دعاه
بعد ذلك إلى اختبار أصعب، إلى بذل ابنه الوحيد.” وإبراهيم لما دعي أطاع”
(عب11: 8).
وبذل
إبراهيم صار صورة مضيئة عبر الأجيال. وعوضه الله عنه بنسل كنجوم السماء ورمل البحر.
وكلنا أبناء لإبراهيم (رو4: 11، 16).
هل
كان إبراهيم يفكر في ذاته، حينما رفع السكين ليذبح ابنه؟!كلا، لم تكن ذاته أمامه
اطلاقاً، بل كانت أمامه وصية الله. وبنفس الشعور ترك إبرام وطنه، وهو لا يعلم إلى
أين يذهب (عب11: 8).
ولكن
الله وضع المكافأة لهذا الذي بذل، ولكل من يبذل.
إبذل
ذاتك إذن. وثق أن هذه الذات ستكون عزيزة وغالية جداً عند الله. ولن يتركها تضيع.
بل سيردها إليك أضعافاً. وتجدها فيه.
ننتقل
إلى نقطة أخري في إنكار الذات، وهي: الزهد وعدم التنعم
26-
الزهد وعدم التنعم
الإنسان
الذي يهتم بذاته وشهواتها يقول كما قال سليمان من قبل: “بنيت لنفسي بيوتاً، غرست
لنفسي كروماً، عملت لنفسي جنات وفراديس.. ومهما اشتهته عيناي. لم أمسكه عنها..”
(جا2: 4- 10).
هنا
التنعمات المادية والجسدية للذات والتي ينطبق عليها قول الرب: “من وجد حياته
يضيعها” (مت10: 39).
وعكس
ذلك الزهد، في الأكل، في الملبس، في كل شئ.
الذين
تنعموا استوفوا خيراتهم على الأرض. كما قيل لغني لعازر (لو16: 25) أما الزاهدون
فأجرهم فوق مع الله في السماء.
كل
قصص الأباء الرهبان والمتوحدون والسواح، إنما هي أمثلة رائعة عجيبة في حياة الزهد
التي يتجحد الذات وكل شهواتها.
وهناك
أمثلة في الزهد، حتى لأشخاص عاشوا في قصور الملوك مثل دانيال النبي لذي قيل عنه: “وأما
دانيال، فجعل في قلبه أنه لا يتنجس في قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر
مشروبه ” (دا1: 8). وقال هو عن نفسه في صومه:
”
لم آكل طعاماً شهياً. ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر. ولم أدهن. حتى تمت ثلاثة أسابيع
أيام” (دا10: 3).
أين
الذات هنا، بالنسبة إلى إنسان يعيش في قصر ملك، ويرفض كل أطايبه ويكتفي بالقطانى؟!
ومع أنه كان رئيساً للولاة، لا يضع في فمه شيئاً شهياً..
إن
تداريب الصوم هي محاولات عملية لقهر الذات. وكذلك السلوك بالعفة.
27-
قهر الذات
الصوم
والعفة هما قهر للذات من جهة طلبات الجسد وشهواته. وهناك قهر آخر للذات من جهة
النفس..
سعيد
هو الإنسان الذي يراقب ذاته ويمنعها كلما تشرد نحو النعمان العالمية.
فقد
تميل النفس إلى حب الظهور، وإلى الإعلان عن ذاتها، والسعي وراء العظمة. وفي كل ذلك
ينبغي أن نقاومها.
وتقنع
ذاتك التنعم بالله أفضل وأنه خير لها أن تكتنز خيراتها في العالم الآخر.
إن
الذين يريدون أن يتنعموا هنا، لابد يقف أمامهم قول الرب: “الحق أقول لكم إنهم
قد استوفوا أجرهم” (مت6: 5).
لا
تحاول إذن أن تأخذ كل حقوقك على الأرض، فمن الخير أن تأخذها هناك، حيث يسمح الله
كل دمعة من عينيك.
فإن
مالت نفسك. أو مال جسدك إلى متع العالم الحاضر. امنعها بشدة لا قسوة عليهما. إنما
ضماناً ولأبديتهما.
فالذي
يدلل ذاته هنا، إنما يهلكها.. والذي يتراخي في ضبط ذاته، تقوي ذاته عليه وتتمرد
على سلوكه الروحي. بعكس الذي يدرب ذاته ويروضها في دروب الرب.
وثق
أن قهر الذات لذة روحية لا تعادلها كل ملاذ الجسد.
ولعلني
أكون قد كلمتك عن قهر الذات في مقال سابق عن التغصب.
ومن
العجيب أن الذات تحب أن تظهر حتى في الخدمة! حيث يجب أن تختفي تماماً.
28-
الذات في الخدمة
إن
الشيطان إذا وجد الإنسان حريصاً يقهر ذاته في كل ملاذ الجسد، قد يحاول أن يدخل معه
في حرب أخري، لكي يجعل للذات مجالاً للظهور في محيط الخدمة!
وما
أسهل أن يجد الإنسان في الخدمة مجداً وظهوراً واشباعاً للذات.
ما
أسهل أن يتخذ إنسان العظة لعرض معلوماته، والإعلان عن مواهبه ومعارفه، حتى إن كان
كل ما يقوله بعيداً كل البعد عن خلاص النفس وعن موضوع العظة! ويقف الشيطان ضاحكاً
راضياً عن العظة التي تهلك الواعظ، ولا تفيد أحداً من الموعوظين!
ما
أسهل أن الخادم يربط المخدومين بشخصه وليس بالله. أو يكون منهم فريقاً يناصره إذا
تعب. وهنا تبدو الذات واضحة.
أما
الروحيون فهم ليسوا كذلك.
العظة
بالنسبة إليهم هي محاولة مخلصة للدخول إلى أعماق النفس لأجل تطهيرها وتقريبها إلى
الله، بترك خطاياها، وبمحبة الخير والله، أياً كانت اللغة أو الأسلوب.
فالمهم
هو الهدف الروحي.
شتان
بين عظة يخرج منها السامعون قائلين [هذا واعظ علامة] وبين عظة يخرجون منها قائلين
نريد أن نتوب..
ذاته
الواعظ أو المعلم أو الكارز، ليست هي الهدف، إنما الهدف هو خلاص النفس. والواعظ
الناجح هو الذي يكسب نفوساً للرب، وليس الذي يكسب تقديراً شخصياً من سامعيه.. وما
أجمل قول المرنم في المزمور:
”
ليس لنا يارب ليس لنا. لكن لاسمك القدوس أعط مجداً” (مز115: 1).
العظة
هي أن نكشف للموعوظ ذاته وحروبه: ونعلمه كيف يدين ذاته وكيف ينتصر عليها: لا أن
نقدم له معلومات لا يدان في اليوم الأخير على جهله أياها!
ولو
أن كل واعظ نقي عظته من الذات، وركزها على خلاص الآخرين، لكسبنا للملكوت كسباً
عظيماً..
”
ينبغي أن ذاك يزيد. وإني أنا أنقض” (يو3: 30).
وهكذا
كان يوحنا يحول كل محبة الناس إلى المسيح ويختفي هو. إنه لم يأت ليشهد لنفسه،
وإنما” ليشهد للنور، ليؤمن الكل بواسطته” (يو1: 7).
جاء
يعد الناس لاستقبال المسيح، ويهيئ له شعباً مستعداً (لو1: 17) وينجح يوحنا في
رسالته لاختفاء ذاته. ونسجل هنا حقيقة هامة:
هناك
أمران تنجح الخدمة بهما:
1
أن يكون الله هو الهدف.
2-
وإن يكون الله هو الوسيلة ولا تكون الذات هدفاً ولا وسيلة.
ذلك
لأن كثرين يعتمدون على ذاتهم في الخدمة اعتماداً أساسياً، على ذكائهم ومعلوماتهم
وتأثيرهم الشخصي كما يعتمدون على شهرتهم وهيبتهم في قبول الناس لتصرفهم ولكلامهم..!
وأين الله؟
وإذ
لا يدخل الله في الخدمة، تفشل وتظهر الذات. وإذ تقل الصلاة في الخدمة، تضع لأن
الله لم يباركها.
إن
خدمة الروحيين لها طابعها الخاص: تشعر فيها أن الله هو الذي يعمل. وهو الذي يبارك
كل خطوة وأنها ليست نتيجة فلان أو فلان..
لذلك
يوجد أيضاً السلام في محيط الخدمة، وتوجد المحبة أيضاً والتعاون. وليس فقط كل واحد
يختفي لكي يظهر الله، إنما أيضاً يختفي لكي يقدم غيره من الخادمين على نفسه.
أما
إن وجد في الخدمة بولس وأبلوس. فهنا توجد الذات. وتوجد معها الشقاقات (1كو3: 3، 4).
ولهذا
نصح السيد المسيح تلاميذه بأن يبعدوا الذات عن محيط الخدمة، حينما فكروا من يكون
الأول فيهم. وقال لهم:
”
لا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً كما أن ابن
الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم. ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت20: 26- 28).
وما
أجمل قول الشيخ الروحاني:
[كل
مكان حللت فيه. كن صغير أخوتك وخديمهم]
إن
محبة الرئاسة حرب شديدة قد تعمل على إفساد الخدمة. وكذلك التنافس ومحبة الظهور.
وكلها ناتجة عن الذات.
وهذه
كلها عالجها السيد المسيح بمبدأ” المتكأ الأخير” لو14: 10).
29-
المتكأ الأخير
ولسنا
نعني هنا الأخير من جهة المكان، إنما من جهة المكانة.
فلا
تحسب نفسك أنك أهم الموجودين في المكان الذي تحل فيه.
وإن
رأيك هو أهم الآراء، وقرارك هو أهم القرارات. ومركزك هو الأهم.. وينبغي أن تكون
أنت المطاع، وأنت المحترم وسط الكل، وإلا تغضب وتثور!!
لا
تعط لنفسك كرامة وتفرضها على الآخرين. إنما اترك الناس يكرمونك من أجل ما يرونه من
وداعتك واتضاعك.
لا
ترغم الناس على احترامك.. فالاحترام شعور داخل القلب، لا يأتي بالإرغام، إنما
بالتقدير الشخصي.
قد
ترغم إنساناً على طاعتك ولكنك لا تستطيع أن ترغمه على احترامك والارغام في هاتين
الحالتين كليتهما لون من سيطرة الذات.. وفي معاملاتك مع الناس. كن نسيماً ولا تكن
عاصفة!
كثيرون
يحبون صفة- العاصفة- لأن فيها القوة. أما النسيم فيمثل الوداعة واللطف، اللذين
ينبغي أن يتصف بهما كل من ينكر ذاته.
في
معاملاتك مع الناس. لا تفضل نفسك على غيرك.
فإن
الرسول يقول لنا: “مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة” (رو12: 10).
على
أن يكون ذلك من عمق القلب، وبعمق الاتضاع، وبغير رياء..
وهناك
درس آخر في التعامل مع الناس، دمه لنا الرب في العظة على الجبل، وهو:
30-
الميل الثاني
وقال
في ذلك: “من سخرك ميلاً واحداً، فأذهب معه اثنين. من أراد أن يخاصمك ويأخذ
ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً” (مت5: 40، 41).
وبنفس
الوضع تحدث الرب عن الخد الآخر.
فقال:
“من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً”،
وكأنه
أراد بها كله أن يقول لنا:
كن
مظلوماً لا ظالماً. وكن مصلوباً لا صالباً. لا تنتقم لذاتك.
إن
الذات تريد أن تأخذ حقها، وتأخذه بنفسها، وهنا على الأرض، وبسرعة على قدر الإمكان.
أما
تعليم الرب لنا في إنكار الذات فيقول لنا فيه:
“لا
تقاوموا الشر” (مت5: 39).
لا
تجعل ذاتك تتدخل، لتنال حقوقك أو لتنتقم.
واذكر
قول الكتاب: “لي النقمة، أنا أجازي، يقول الرب” (رو12: 19).
ومع
أن النقمة للرب، لا تطلب أنت منه هذه النقمة. فالكتاب يقول:
”
المحبة لا تطلب ما لنفسها” (1كو13).
ولماذا
لا تطلب ما لنفسها؟ ذلك لأنها بعيدة عن الذات.
وفي
نفس الوقت الذي لا تمجد فيه نفسك، ينبغي على العكس أن تدين ذاتك.
مشكلة
المشكلات، في كل المعاملات، أن يعتقد الإنسان أنه على حق! على طول الخط!
31-
إدانة الذات
لذلك
إذا أخطأ لا يعتذر، لأنه يشعر أنه على حق ولم يخطئ. وإذ ساء تفاهمه مع أخية لا
يذهب ليصالحه، لأنه يأمل أن طلب الصلح لابد يأتي من الطرف الآخر! لماذا؟ إنها
الذات.
بل
حتى مع الله، قد لا يعترف بأخطائه، لأن ذاته تقنعه أنه لم يخطئ.
إدانة
الذات تأتي من الاتضاع. والاتضاع يأتي بنكران الذات وغير المتضع لا يدين ذاته ولا
يلومها. بل دائماً يدين ويلوم الآخرين!!
وإن
قلت له: لماذا تلوم الآخرين يلومك لأنك تقول له هذا.
الإنسان
الذي لا يعكف على تمجيد ذاته وتكبيرها، بأسلوب علماني، والذي يهدف باستمرار إلى
تنقية ذاته من كل الأخطاء وتكبيرها، بأسلوب علماني، والذي يهدف باستمرار إلى تنقية
ذاته من كل الأخطاء والنقائص.. تراه باستمرار يلوم نفسه، ويفحص أخطاءه ويدين ذاته
عليها..
في
إحدي المرات زار البابا ثاؤفيلس منطقة القلالي، وسأل الأب المرشد في الجبل عن أحسن
الفضائل التى أقتنوها، فأجابه:
[صدقني
يا أبي، لا يوجد أفضل من أن يأتي الإنسان بالملامة على نفسه في كل شئ..].
هذا
هو الأسلوب الروحي الذي يسعي به الإنسان إلى تقويم ذاته: يأتي بالملامة على نفسه،
وليس على غيره وليس على الظروف المحيطة به.. وليس على ظاناً أنه قصر في معونته..!
والذي
يدين نفسه ههنا، ينجو من الدينونة في العالم الآخر.
لأنه
بإدانته لنفسه يقترب من التوبة، وبالتوبة يغفر له الرب خطاياه. أما الذي لا يدين
ذاته. من أجل اعتزازه بهذه الذات، فإنه يبقي في خطاياه، ولا يتغير إلى أفضل، ويكون
تحت الدينونة. وصدق القديس الأنبا أنطونيوس حينما قال:
[إن
دنا أنفسنا، رضي الديان عنا]..
[إن
ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله. وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله].
وإدانتنا
لأنفسنا تساعد على المصالحة بيننا وبين الناس. يكفي أن تعتذر لإنسان وتقول له: [لك
حق. أن أخطأ في هذا الأمر].. لكي تضع بهذا حداً لغضبه ويصطلح معك.. أما إن ظللت
تبرر موقفك، فإنك تري خصمك يشتد في إثبات إدانتك. وما أجمل قول القديس مقاريوس
الكبير في هذا المجال:
[احكم
يا أخي على نفسك، قبل أن يحكموا عليك..].