المسيحية

نقاط الجدل



نقاط الجدل

نقاط
الجدل

إليكم الآن
أهم النقاط التي يجادل فيها مؤمنون من شتّى الطوائف دون التعمّق في مقصودها، ودون
محاولة صادقة لتوحيد الكلمة حول ما يقوله الوحي الكتابي – القرآني فيها. ونأسف أن
يكون هناك بعض مسؤولين دينيين يتسرّعون في الحديث عن حقائق الوحي بلا علم، وبلهجة
سطحيّة وطفوليّة، لا رصانة فيها ولا حشمة ولا نضج.

 

إن
الحجج التي يرتكز عليها بعض المسيحيين المتعصّبين لرفض القرآن الكريم ونبيّه
الشريف هي:

1-
مخالفة القرآن لبعض العقائد الإنجيلية.

2-
حياة النبي محمد، فيأخذون عليه تعدُّد زوجاته وكثرة حروبه.

 

إني
أُوضح فيما بعد أن القرآن الكريم لا يطعن في عقيدة واحدة من العقائد الإنجيلية.
إنما ما أوصل بعض المسيحيين إلى هذا الظن الخطأ، هو سوء تفسير بعض المسلمين لنصوص
القرآن. فمن المبادئ التي ذكرتها في الباب الأول، سنكتشف الاتّفاق التام والوحدة
بين الكتاب والقرآن. فلن يكون هناك داع للمسيحي أن يرفض القرآن، ولا للمسلم أن
يزدري الكتاب. ثم أتطرّق إلى سيرة النبي محمد منزّهاً إيّاه عن التّهم الموجهة
إليه.

 

ذكرت
الأسباب التي دفعت فئة من المسيحيين إلى الارتداد عن القرآن. إليكم الآن النقاط
البارزة التي يستند إليها بعض المسلمين للطعن في المسيحية:

1-
الله واحد في أقانيم ثلاثة (الثالوث).

2-
لقب “ابن الله” المنسوب للمسيح.

3-
ألوهيّة المسيح.

4-
صلب وموت المسيح.

5-
“تزوير” التوراة والإنجيل
.

 

ما
يهمّنا في هذه النقاط، هو معرفة ما يقوله الوحي الإلهي عنها، إذ نريد أن يكون
جدلنا مبنيّاً على “كتاب منير” كما أوصانا القرآن الكريم. فإِن وجدنا
النقاط في كتب الوحي قبلنا بها واستسلمنا لها. وإِن لم نَجدها فيها طرحناها بعيداً
عنّا.

 

بعد
الجواب على هذه النقاط، سنكون قد جاوبنا على حجّة بعض المسيحيين لرفض القرآن على
أساس أنه يخالف الإنجيل. فستبطل تلك الحجة لأننا نبرز الاتفاق بين القرآن
والإنجيل. وننهي الباب الثاني هذا بموجز عن سيرة محمد.

 

 (1) الله واحد في أقانيم ثلاثة

في
التوراة، كشف الله عن ذاته، موحياً فيها أنه هو الإله الذي خلق الكون، وأن لا إله
إلا هو. وأكّد الإنجيل على هذا الوحي الصادق، إلاّ أن الله أوحى فيه أن وحدته لا
تعني وحدانية أو عزلة، فكشف أنه واحد في “أقانيم” ثلاثة هي: الله
كلمته روحه. فيقول الرسول يوحنا في مطلع إنجيله:

 

“في
البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله. كلٌّ به
خُلِقَ، وبدونه لم يُخلق شيء مما خُلق.. والكلمة صار جسداً وسكن بيننا”
(يوحنا 1: 1-14).

 

هذا
هو كلام الوحي الإنجيلي. إنه يخبرنا أن الله عنده “كلمة”، وأن الكلمة هو
الله. فالله وكلمته جوهر واحد، كما أن الإنسان وكلمته جوهر واحد. الكلمة الذي
“صار جسداً وسكن فينا” هو المسيح، “كلمة الله”، كما أوحى الله
ذلك في القرآن أيضاً.

 

وقد
أوصى المسيح تلاميذه أن يُعمِّدوا المؤمنين به “باسم الآب والابن
(الكلمة) والروح القدس” (متّى 19: 28). لاحظ أن المسيح لم يقل لرسله أن
يعمّدوا “بأسماء”، بل “باسم” الآب والابن والروح القدس، لأن
الله واحد، واسم الله يذكره المسيح بصيغة المفرد (إسم)، لا بصيغة الجمع (أسماء).
من هذا الكلام يستنتج المؤمن أن الله هو: آب وابن وروحٌ قدس، أو بعبارة أخرى، لا
تختلف عن الأولى: الله وكلمته وروحه.

 

إن
المسيح، قبل أن يترك هذا العالم، وإذ رأى تلاميذه غارقين في حزن عميق لعلمهم أنه
سيرحل عنهم، قال لهم إنه سيرسل لهم من يُعزّيهم بعد ذهابه، قاصداً الروح القدس، إذ
قال: “..أنا أسأل الآب فيعطيكم مُعزّياً آخر ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق
(الروح القدس).. لا أدعكم يتامي؛ إني آتي إليكم” (يوحنا 16: 14-18).
فَهِم المؤمنون من هذا الكلام أن الروح المُعزّي الذي سيأتي بعد انتقال المسيح إلى
السماء، هو روح الله، روح المسيح، الله نفسه، ولذلك قال لهم “لا أدعكم يتامى،
إني آتي إليكم”. بقوله “إني آتي إليكم”، بعد قوله إنه سيرسل
“المُعزّي وروح الحق”، يقصد أن هذا الروح والمسيح واحد. لذلك سُمّي
المسيح كلمة الله وروح الله. ويُصدّق على ذلك القرآن الكريم:

 (إنّما
المسيح ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) (النساء
171).

 

يظن
البعض أن الروح المعزّي الذي وعد به المسيح رسله هو النبي محمد. إلاّ أن هذا
التفسير لا ينطبق على ما جاء في الإنجيل ولا في القرآن عن الروح. فيقول الإنجيل إن
المسيح أرسل الروح القدس على رسله بعد صعوده إلى السماء بعشرة أيام
“فامتَلأوا من الروح القدس وأخذوا يتكلّمون بلغات مختلفة” (أعمال الرسل
4: 2). هذه الآية وسائر الآيات الإنجيلية والقرآنيّة عن الروح القدس لا تنطبق على
النبي محمد. إن الإنجيل والقرآن كلاهما يخبران أن الروح القدس حلّ على مريم لتحمل
في أحشائها السيد المسيح:


جاوب الملاك مريم: “الروح القدس يحلّ عليك، وقدرة العليّ تظلّلك” (لوقا
1: 35).


(
المسيح
عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) (النساء 171).


(
..
فأرسلنا إليها روحنا، فتمثّل لها بشراً سويّاً) (مريم 17).

 فكيف
يمكن أن يكون هذا الروح هو النبي محمد؟ هذا التفسير خطأ من أساسه لأنّ النبي محمد
لم يُولد إلاّ ستّة قرون بعد تلك البشارة.

 

لقد
أوحى الله حقيقة الثالوث في التوراة أيضاً، إلاّ أن المؤمنين لم يفهموها حتى تجلّى
الوحي الإنجيلي. فإننا نجد في سفر (كتاب) التكوين، في الفصل الثامن عشر منه، أن
الله ظهر لأبينا إبراهيم، خليل الله، بشكل ثلاثة أشخاص. الأمر الغريب في هذه
القصّة التوراتية هو أن إبراهيم يخاطب الثلاثة كواحد، مُستعملاً صيغة الفرد حيناً
وصيغة الجمع حيناً، ويبدو وكأنه في حيرة أمام هذا الظهور الإلهي. إليكم بعض
المقتطفات: “تجلّى الرب له (لإبراهيم).. فرفع إبراهيم عينيه ونظر،
فإذا ثلاثة رجال واقفين أمامه. فلمّا رآهم (صيغة الجمع) بادر إلى لقائهم،
وسجد إلى الأرض وقال: يا سيدي (صيغة المفرد)، إن نلتُ حظوة في عينيك فلا تجز عن
عبدك.. أقدّم كسرة خبز فتسندون (صيغة الجمع) بها قلوبكم ثم تمضون..” (تكوين
18).

 

تلك
هي أهم النصوص الكتابيّة التي أوحاها الله للكشف عن حقيقة “الثالوث”، أو
“الثالوث القدوس”، كما اصطلح علماء اللاهوت على تَسميتها.

 

مسيحيّون
كثيرون خلطوا، في فجر المسيحيّة، بين “الثالوث” و”التثليث” (*). الثالوث هو الإيمان بأنّ الله
واحد، وأنّ في جوهره الإلهي الواحد “أقانيم” ثلاثة، لا آلهة ثلاثة.

إن
كلمة “أقنوم”
جمعها أقانيم كلمة اصطلح عليها علماء اللاهوت، وهي تنطبق في علم اللاهوت على
حقيقة روحية تتعلّق بالله وحده، لا بغيره.

 

يدعونا
الله في الوحي الإنجيلي إلى تمييز كلمته وروحه في ذاته الإلهية. فذات الله
هي “الآب” أو “الله”، وكلمته المُنبثقة منه، أو
“المولودة” منه وفيه
روحياً طبعاً هي “الابن، وذهنية الله هي “الروح القدس”. يجب
الملاحظة ان الكلمة والرّوح هما كلمة الله وروحه، لا كلمة وروح إلهين آخرين. هذا
ما نعنيه بأقانيم ثلاثة في جوهر واحد.

 

هناك
مَن يسأل: “لماذا كل هذا التمييز وكل هذه الكلمات المُعقّدة؟ “
نجاوب: ” لأن الله هو الذي بادر وأوحى ما يريدنا أن نعلم عن
ذاته الإلهية. فبالتالي إنه من واجبنا أن نجتهد لنفهم”.

 

أما
التثليث، فهي عقيدة تختلف عن الثالوث تماماً، لأنها تقول بوجود آلهة ثلاثة
في جواهر إلهية ثلاثة، لكل إله جوهره الخاص به، كإله الخير وإله الشر وإله العقاب
مثلاً، والثلاثة أزليّون. وهذا بالطبع كُفر أدانه الرسل والمسؤولون المسيحيون في
القدم والقرآن.

 

لقد
قام بعض اليهود، منذ أن نشأت المسيحية، بمحاربتها وشقّ صفوفها عن طريق نشر البدع،
منها بدعة التثليث، وادعى البعض أن مريم أمّ المسيح هي من الآلهة الثلاثة. وقد
انتشرت البدعة التثليثيّة في القرون الأولى من المسيحيّة. لذلك يُدين القرآن بدعة
التثليث بقوله: (لقد كَفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة (تفسير الجلالين: أي
أحدهما والآخران عيسى وأمّه وهم فرقة من النصارى) وما من إله إلا إله واحد)
(المائدة 73).

 

لاحظ
أن “فرقة من النصارى”، لا كلّهم، هم المقصودون في الآية. ويوضح القرآن
أن الآلهة الثلاثة، التي كانت تعبدها تلك الفرقة، هي الله وعيسى ومريم، فقال:


(وإذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟
قال: سُبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) (المائدة 116).

 


(يا أهل الكتاب لا تغلوا (تتجاوزوا الحدّ) في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه، فآمنوا
بالله ورسله ولا تقولوا (إنهم آلهة) ثلاثة (الله وعيسى ومريم). انتهوا (من قول
هذا)، خيراً لكم. إنما الله اله واحد سبحانه) (النساء 171).

 

لا
يوجد اليوم فرقة من المسيحيين تؤمن بأن مريم إلاهة، ولا أن الله “ثالث
ثلاثة”، فهذا بالطبع كُفر. إن الإنجيل لم يوحِ أن الله “ثالث
ثلاثة”، فليس هناك إلا إله واحد، جوهره الله وكلمته وروحه، وهذا لا يعني آلهة
ثلاثة، بل إله واحد فيه أقانيم ثلاثة، لا آلهة ثلاثة. كلّ مَن يستطيع التمييز بين
الأقانيم الثلاثة في ذات إلهية واحدة، وآلهة ثلاثة، أي بين “الثالوث الواحد
في الجوهر”، و”التثليث المتعدّد الجواهر” يُظهر أنه بلغ قدرة عالية
في التفكير السليم، الناضج والمُتّزن.

 

كل
مسيحي يتّفق مع القرآن ليقول: “لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث
ثلاثة”. فليس مِن مسيحي جدير بهذا الاسم يمكنه أن يقول كلام الكُفر هذا، بل
وبالعكس إنه يَشجُبه، فالله ليس “ثالث” ولا “ثاني” ولا
“أول ثلاثة”. إنما الله واحد لا إله إلا هو سبحانه. فكلّنا مع القرآن
الكريم لنفي التثليث. ولو قصد القرآن نفي الثالوث لقال: “لقد كفر كلّ من قال
أن الله واحد في ثلاثة”.

 

فَلْيَعلَم
المسيحيون اليوم أن القرآن لا ينعتهم بالكُفر لأجل عقيدتهم، ولا يقصدهم في هذه
الآيات الشريفة. ولِيَعلم المسلمون ذلك أيضاً عن القرآن وعن إخوانهم المسيحيين.

 

فلماذا
نفور الواحد من الآخر وهناك اتفاق في الكتب المقدّسة؟! ‍‍

 

إليك توضيحٌ مبسّطٌ عن
الثالوث: إن الإنسان وكلمته جوهر واحد. والإنسان وروحه جوهر واحد. إذاً، الإنسان
وكلمته وروحه جوهر واحد. مَن أعطى كلمته، أعطى كل ذاته، وحتى روحه. فكما أن
الإنسان وكلمته (أو فكره، فالكلمة تعبّر عن تفكير الإنسان) وروحه كيان واحد، هكذا
الله وكلمته وروحه واحد.

 

إن عمليّة جمع، نُضيف
فيها الرجل على كلمته وروحه، لا يَنتُج عنها رجال ثلاثة، بل رجل واحد، الرجل نفسه،
في طاقاته الثلاث. الإنسان، إذاً، هو أيضاً ثالوثٌ، وصورة مصغّرة للثالوث الإلهي.
ولا عجب، فهو مخلوق على صورة الله.

 

في الإنسان حركة حياتية
روحية بينه وبين نفسه، فيستشير المرء نفسه، ويرضى عن أفعاله أو يكرهها. الإنسان
ليس مُنغلقاً عن نفسه، مُنعزلاً عنها
.. إلاّ إذا أصابه مرضٌ
نفسانيٌّ وعُقَدٌ نفسانيّة، تَظهر عوارضها سريعاً في شخصية غير متّزنة ومنشقّة.

 

تلك الحركة الحياتية
الروحية والفكرية متوفّرة عند الله تعالى بشكلٍ كامل، لا انشقاق فيه. إننا، بفضل
الوحي الإنجيلي، عَلِمنا أن الله ليس واحداً فحسب، بل إنه ليس وحدانياً، فهو ليس
مُنعزلاً عن نفسه، بل مُنفتحاً عليها وفي حضرتها، لا مُنغلقاً على نفسه كالصنم.
وعلمنا من الإنجيل أن الله يحب نفسه، لأنه يعلم أنه الجمال الكامل المُستحب. لذلك
كلّ من تأمّل في الله شعر بانسجامه تعالى مع ذاته، فهو الاتّزان الكامل، ولا نقص
فيه سبحانه، وهو الوحيد الذي يكتفي بنفسه وبغير حاجة إلى أحد.

 

إن الله، وتفكيره عن
نفسه، ومحبّته لها، هو ما يَعنيه الإنجيل بالآب (الله) والابن (الكلمة أو الفكرة
الإلهية: “بنات أفكاره”) والروح القدس (بيئة المحبة الروحية التي يعيش
فيها الله).

 

نقول عن إنجاز أَتَمّه
إنسان أنه “بنات أفكاره” لأنه وليدها. إن الله يفكّر بذاته، وهذا
التفكير هو “الكلمة”، كلمة الله، أو نطقه، في ذاته وعن ذاته. هذا هو
“الكلمة الذي صار جسداً وسكن بيننا” كما جاء في إنجيل يوحنا عن المسيح.

 

من استطاع التمييز بين
الثالوث والتثليث
وهذا ما يدعونا إليه القرآن قد خَطا خطوة روحانية وفكرية ناضجة تؤهّل للاتحاد الأبدي مع
المولى الحبيب المشكور على ما أوحاه لنا، نحن غير المستحقّين، عن ذاته الفائقة الجمال
والكمال والحياة.

 

(2) المسيح ولقب “ابن الله” 

كثيرون
يُصدمون من لَقَبُ “ابن الله” المُتعلّق بالمسيح، لأنّ ليس لله أبناء
كما للبشر. إلاّ أنّ لقب “ابن الله” المتعلّق بالسيّد المسيح يعني أن
ليس له أبٌ بشريٌّ كسائر البشر. فإذا سألنا: “مَن أمّ المسيح؟” كان
الجواب: “مريم”. “ومن أبوه؟!”. إن الكتاب والقرآن متّفقان على
أن المسيح وُلد من مريم وهي عذراء، لم يمسَسْها رجل، وأنه بالتالي ليس للمسيح أب
بين الرجال. هذا ما يقصده الإنجيل، كما سنرى، بلقب “ابن الله”، وهي
حقيقة تشهد لها التوراة ويشهد لها القرآن.

 

فجاء
في التوراة، وقد تنبأت بمجيء المسيح، أن الله، في القرن العاشر ق.م.، أرسل النبي
“ناتان” ليتنبّأ بالمسيح إلى الملك داوود، قائلاً له إن الله يقول عن
المسيح: “سأكون له أباً وسيكون لي ابناً” (2 صموئيل 14: 7). لم تتوضّح
النبوءة حتى تَمّت مع مَولد المسيح.

 

ثمّ
في القرن الثامن ق.م.، تنبّأ النبي “أشعيا” بالمسيح، موضحاً أنه سيولد
من عذراء، إذ قال: “ها إن العذراء ستَحبل وتَلِد ابناً..” (أشعيا
14: 7). ولم تتوضّح النبوءة أيضاً حتى تمّت، فولد المسيح من عذراء لم تَعرف رجلاً.

 

ثم
جاء في الإنجيل أن الملاك جبرائيل، عندما بشّر مريم بمَولد المسيح منها، تعجّبت

وسألته:
“كيف يكون هذا وأنا (عذراء) لا أعرف رجلاً؟ “أجابها الملاك: “إن
الروح القدس يحلّ عليك وقوة العليّ تُظلّلك، فلذلك القدوس المولود منك
يُدعى ابن الله” (لوقا 34: 1-35).

 

يجب
ملاحظة كلام الملاك عن كثب. فهو يشرح لماذا يُلقّب المسيح “ابن الله”
والسبب هو ان “الروح القدس” هو الذي يحلّ على مريم، “فلذلك”
يُدعى الطفل القدوس “ابن الله”، أي أنه ليس ابن أحد من الرجال.

 

ويُعلّق
إنجيل متّى على ذلك، مؤكِّداً على بتوليّة مريم ليوسف خطيبها الذي شكّ في أمرها:
“فظهر ملاك الرب ليوسف قائلاً: لا تَخَف يا يوسف إبن داوود أن تأخذ مريم زوجة
لك، لأن الذي حبلت به هو من الروح القدس. إنها ستَلِد ابنا وتدعو اسمه يسوع. وهذا
لكي يتمّ ما قيل من الرب بالنبي (أشعيا) القائل: ها إن العذراء ستحبل وتَلد
ابناً” (متّى 19: 1-24).

 

وأنزل
الله وحيه القرآني مصدّقاً على أعجوبة مولد المسيح من العذراء مريم بفعل إلهي لا
بشري، إذ ورد: (قالت (مريم للملاك) أنّى يكون لي غلام ولم يمسَسْني بشر ولم أَكُ
بغياً قال: كذلك قال ربك، هو عليّ هيّن، ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً
مقضياً. فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً) (سورة مريم 20-22).

 

هكذا أكّد القرآن لِعرب
الجاهلية أن أمّ المسيح عذراء لأنها وَلَدَته لا بواسطة رجل، بل بمبادرة وتدخّل
إلهيّيْن. تلك الحالة الفريدة في تاريخ البشرية جعلت من المسيح “ابن
الله”، لأن لكل إنسان أباً وأماً. ويختلف المسيح في ذلك عن آدم، لأن آدم خُلِق
من الطين ولا أمّ له، بَيْدَ أن للمسيح أمّاً عذراء هي مريم.

 

لكن كيف يمكننا، إذاً،
فهم ما جاء في القرآن: (قُل هو الله أحد الله الصمد لم يَلِد ولم يولد ولم يكن له
كفواً أحد) (الإخلاص 1-4)؟

 

جوابنا هو أن هذا
الكلام مُوجّه إلى مُشركي مكّة لتنزيه الله عن آلهتهم، لا إلى المسيحيين عن
المسيح. فكان أهل قريش، كما أوضحت سابقاً، يعبدون آلهة خرافية يحسبونها تتزوّج
وتلد آلهة أخرى. فنزلت الآية تنزيهاً لله عن الأصنام، فهو أزلي، لم يلده إله آخر،
ولا ينجب آلهة أخرى تشاركه في الألوهية كآلهة الميتولوجيا.

 

يدفعنا القرآن نفسه إلى
هذا التفسير، إذ نَجد في سورة الأنعام أن الله ليس له “صاحبة” ينكحها
ويُنجب منها ولداً كسائر آلهة قريش الخرافية: (بديع السماوات والأرض، أنّى يكون له
ولد ولم تكن له صاحبة (ينكحها) وخلق كل شيء
..) (الأنعام
101).

 

إنّ تلك الآية
القرآنيّة لا تستهدف السيّد المسيح إنّما تقصد (الذين جعلوا لله شركاء الجنّ
وخَلَقَهُم وخَرَقُوا له بنينَ وبنات (خرافيّين) بغير علمٍ (منهم أنّهم
مُخطِئون) سبحانه وتعالى عمّا يَصِفون) (الأنعام 100).

 

لذلك يقول محمد في
القرآن: (إن كان للرحمان ولدٌ فأنا أوّل العابدين) (الزخرف 81). المقصود الإلهيّ
في هذه الآية، بالطبع، أولاد الجِنّ (آلهة وأرواح قريش الخُرافيّة) الوارد ذكرهم
أعلاه، لا المسيح المولود من هذا الإله الواحد الذي كان النبي له تعالى (أوّل
العابدين)، إذ كان (أوّل المُسلمين) في شبه الجزيرة العربيّة كما فسّره القرآن.

 

كان من الصعب على عرب
الجاهلية استيعاب الحقائق الإنجيلية الروحية، من جرّاء انغماسهم في الجسديات لدرجة
أنهم جعلوا آلهتهم تتزوّج جسديّاً بصاحبة ينكحونها. فوضّح لهم القرآن، بلغتهم
وذهنيّتهم، أن الإله الواحد الذي خلق كل شيء، لا يحتاج إلى “صاحبة” ينجب
منها ولداً نكاحاً، لأن قدرته روحية، وهو بكلمة منه يخلق ما يشاء. لم يكن العرب
مُهيّئون لفهم الخلق بأمر إلهي، فبيّن الله لهم في القرآن، وبلغة يفهمونها، الفرق
الشاسع بين تصرّفه وتصرّف آلهتهم، فقال:

 

 (ما كان الله
أن يتّخذ من ولد (نكاحاً كآلهة قريش الخرافية) سبحانه إذ قضى أمراً، فإنما يقول له
كن فيكون) (مريم 35). (أنظر تفسير الجلالين).

 

وأيضاً قوله تعالى في
سورة الزُّمَر: (لو أراد الله أن يتّخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلُقُ ما يشاء.
سُبحانه هو الله الواحد القهّار) (سورة الزُّمَر 4).

 

إلاّ أنّ القرآن يعود
مُوضّحاً أنّ الله اصطفى مريم لأنّه أراد منها إبناً:

 

· (إذ قالت
الملائكة: يا مريمُ إنّ الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساءِ
العالمينَ) (آل عمران 42).

· (قال
(الملاك لمريم): إنّما أنا رسولُ ربِّك لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالت
أنّى يكون لي غلامٌ ولم يَمْسَسْني بشرٌ؟..قال: كذلك قال ربُّك: هوعليّ هيّنٌ
ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمراً مَقضِيّاً. فحَمَلَتهُ..
[(مريم
19-22).

 

وهذا هو الذي حصل فعلاً
مع السيّد المسيح. فيُصرّح القرآن، كما رأينا، أنّ المولى عزّ وجلّ اصطفى
مريم البتول – دون سواها من نساء العالمين – لأجل أن يخلق في أحشائها وبكلمته
الإلهيّة
مسيحه المُبارك. فهناك إذاً، في أحشاء مريم قال الله للمسيح: (كُن!)
فكان. فحَملت البتول المباركة المُصطفاة في الحال بكلمة الله كما
ورد في سورة آل عمران: (إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه
اسمه المسيح) (آل عمران 45).

 

القرآن يصدّق هكذا على
الوحي الإنجيلي فيما يخصّ المسيح:
والكلمة صار جسداً وسكن في ما
بيننا. وقد شاهدنا مجده مجداً من الآب لإبنه الوحيد المُمتلئ نعمةً وحقّاً
(يوحنا 1:
14).

 

فالمقصود إذاً من لقب
“ابن الله” هو أن المسيح ليس له أب بشري. هذا هو المعنى الروحي لهذا
اللّقب الذي فيه يتّفق الوحي الكتابي
القرآني. من أراد جدلاً متعصّباً يفرّق صفوف المؤمنين، فعليه أن
يتحمّل كامل المسؤولية أمام عرش المولى. أما نحن المُلتزمون في (الصراط المستقيم)
فقد بَيّنا حقيقة المقصود الإلهي ووحدة الوحي فيه، واهتُدينا في (الصراط المستقيم)
باللجوء إلى (الجدل بالتي هي أحسن) الذي يوحّد صفوف المؤمنين.

 

(3) ألوهية المسيح

لم يكن يخطر على بال
أحد، أن الله هو بنفسه سيتّخذ جسداً ليظهر به في العالم الذي خلقه، دون أن يستنكف
من هذا التنازل، فيكلّم الإنسان الذي جَبَلَهُ، مُجالساً إياه كإنسان مثله. أمّا
الإنسان، ومن جرّاء غريزته الشرّيرة والمتكبّرة، فهو يرفض احياناً الإيمان بأن
الإله العليّ يتواضع إلى مستوى خليقته البشرية.

 

ماذا
يقول الوحي الكتابي

القرآني عن التجسد الإلهي؟

 

إننا
نجد التوراة تهيّىء المؤمن إلى قبول التجسّد الإلهي على مرحلتين: في مرحلة أولى،
أوحت التوراة حقيقة وجود الله الواحد الأحد. ثمّ في مرحلة ثانية أوحى الله
النبوءات عن السيد المسيح، مقدّماً إياه بصفات ومميّزات خارقة.

 

كان
الناس، قبل التوراة، يعبدون آلهة دكتاتورية، يُستعبدون لها بخوف. ففي مرحلة أولى،
قدّمت التوراة الإله الواحد، الحنون، الرحمن، الرحيم، غافر المستغفرين، ظهر يخاطب
إبراهيم ويحاوره، ولموسى وللأنبياء ويكلّمهم عن المحبة، حين كان عابدو الأوثان
يرتجفون خوفاً من آلهتهم وينسحقون أمامها لإظهار خضوعهم التّام لها.‍‍‍‍‍‍‍‍‍

 

أما
الله، فقد علّمنا في التوراة أن نحبّه كأب يسهر على أطفاله المؤمنين، لا أن نرتعب
منه إلا إذا كنّا من الظالمين: “.. الربّ إلهٌ رحيمٌ، حنونٌ، بطيءُ الغضب،
وكثير المراحم والوفاء..” (خروج 34: 5-7). ويؤكّد القرآن على ذلك في آياته
المنيرة، مقدّماً المولى عزّ وجلّ على أنّه (الرحمان الرحيم).

 

في
المرحلة الثانية، وَعَدَ الله بإرسال المسيح، رحمة منه على الناس، ليَنتشِلَهم من
جحيم الأنانية والغطرسة والجهل. أوحى الله إلى الأنبياء أن هذا المسيح سيكون
متواضعاً، لكنه مع ذلك عظيماً، ونَسَبَ الله إليه أسماء رمزية تُشير إلى جوهره
الحقيقي وهويّته الفريدة. فقال عنه النبي أشعيا (القرن الثامن ق.م.): السيد الرب
نفسه يعطيكم هذه الآية: “ها إنّ العذراء ستحبل وتلد ابناً اسمه
عمانوئيل” (أشعيا 14: 7) نجد تفسير هذا الإسم في إنجيل متّى “الله
معنا” (متّى 23: 1) وهكذا، فالله هو نفسه معنا في المسيح. وقال أشعيا أيضاً
إن “اسمه مشير عجيب، إله جبّار، أبو الأبد، أمير السلام” (أشعيا 6: 9).

 

الاسمان
“إله جبّار” و”أبو الأبد” لم يخصّهما الله بنبيّ ما، ولا
يتجرّأ إنسان عاقل على حملهما. بل وبالعكس نجد أسماء مثل “عبد الله”،
“عبد المسيح” و”عبد النبي”. فكأن الله يقول في التوراة، من
خلال هذه الأسماء الإلهية المعطاة للمسيح، إنه سيأتي هو بنفسه في جسد المسيح.

 تظهر
ضرورة التجسّد الإلهيّ لخلاص الإنسان في صرخة النبي أشعيا مُستنجِداً بالله،
وطالباً ظهوره تعالى شخصيّاً على الأرض: “..آه، ليتك تشقّ السماوات
وتنزل..” (أشعيا 63: 19).

 

هناك
نبوءة أخرى في التوراة للنبي “ميخا”، وهو معاصر للنبي أشعيا، تنبّأ فيها
بمولد المسيح في بيت لحم ثمانية قرون قبل ميلاده، ثم استطرد قائلاً: إن
“مخارجه” أو “أصله” منذ الأزل. فيقول الله بفم ميخا:
“أنتِ يا بيت لحم (بمنطقة) إفراتة، انك أصغر بلدان يهوذا، ولكن منك سيخرج لي
الذي سيملك على إسرائيل، ومخارجه منذ القدم، منذ أيام الأزل” (ميخا 2:
5). فكيف يأتي المسيح في المستقبل وتكون أيامه منذ الأزل؟

 

لقد
فُهِمت تلك النبوءة لمّا تمّت، فأكّد الإنجيل
الذي جاء 750 سنة بعد ميخا على نبوءته، إذ قال المسيح في جدل حادّ مع اليهود: “قبل أن
يكون إبراهيم
، أنا كائن” (يوحنا 58: 8). ومعروف أن إبراهيم سبق المسيح
على أرضنا بألفي سنة. فكيف كان المسيح في الوجود من قبله؟

 

تَظهر
أزلية المسيح
التي تنبّأ بها
ميخا
من كلام المسيح
نفسه: “أنا قد مجّدتك (يا الله) على الأرض.. فالآن مجّدني أنت، يا أبتِ، عندك
بالمجد الذي كان لي عندك من قبل خلق العالم” (يوحنا 4: 17-5). يعلن
المسيح في هذه الآية عن وجوده “قبل خلق العالم”، أي عن ألوهيته. إن
المسيح هنا يتكلّم في حضرة تلاميذه وبصوت عال، ليُعلّمهم بأي روح يجب مخاطبة الله:
بلطفٍ وحنان، وليكشف طبيعته الإلهية للمستمعين إليه، فهو “كائن قبل خلق
العالم”. وفي الوحي الإنجيلي آيات عديدة تكشف عن أزلية روح المسيح، لا
جسده بالطبع الذي خُلِقَ فوُلِدَ كسائر الناس.

 

يستغرب
البعض من أمر التجسد الإلهي، ويتساءلون أسئلة بذهنيّة مادية، تحدُّ من قدرة الله.
فسمعنا من تساءل: “لو تجسّد الله بالمسيح على الأرض، كيف كان يُدير العالم
والفلك من السماء؟”.

 

إنه
لسؤال طفولي غريب! فكأن على الله أن يترك السماء لينتقل الى الأرض! سبحانه القدير
على كل شيء، يُدير الكون أينما كان وبمجرّد إرادته وبكلمة منه تعالى. إننا نستطيع
في عصرنا هذا، أكثر من أي عصر مضى، فهم التجسّد الإلهي بعد أن كشف علم النفس عن
طاقات الروح المجهولة. فالإنسان الروحاني يستطيع أن يرحل بروحه بعيداً عن جسمه
آلافاً من الكيلومترات، بل وأن يظهر بالروح لأشخاص في بلدان بعيدة عن جسده وأن
يسيطر على تفكير بعض الناس، وأن يرشد أفراداً وجماعات بعيدة عن جسده. فإن كانت تلك
قدرة روح الإنسان المخلوق، الذي لم يكتشف كلّ طاقاته الروحية بعد، فما بالكم بروح
الله القدوس القادر على الخوارق والمستحيلات؟! فالله بوسعه أن يتجسّد على الأرض
دون أن يترك السّماء.

 

لكن
ما يهمّنا في أمر الوحي، ليس ما يقول عنه بعض دعاة الإيمان به، بل ما أوحى الله هو
بنفسه لأنبيائه عن مخططه، وإن كان في ذلك شكّ لبعض ذوي الإيمان الرخيص، الذين
يتمسّكون بتفكيرهم الضيّق، رافضين الانفتاح على ما يريدنا الله أن نفهم.

 

ماذا
يقول القرآن الكريم عن المسيح؟

يقول
إنه كلمة الله وروحه: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم) (آل عمران 45). لاحظوا أن اسم الكلمة الإلهية هو
“المسيح عيسى”، أي أن المسيح هو “كلمة الله”. وكلمة الله لا
تنفصل عن الله، فهي مثله ومعه منذ الأزل، كما أوحى الله في الإنجيل: “في
البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان الله.. والكلمة صار
جسداً” (يوحنا 1: 1-14).

 

يقول
القرآن إن المسيح هو أيضاً روح الله: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه) (النساء 171). فكما أننا لا نستطيع فصل الكلمة عن
صاحبها، كذلك أيضاً لا يمكننا فصل روحه عنه فكلمة الله هي الله، وروح الله هي
أيضاً الله، وهو الثالوث الإلهي الواحد في الجوهر، الوارد ذكره في الوحي الإنجيلي.

 

يجادل
البعض في ذلك بحجج خسيسة، كقولهم إن هناك رؤساء دينييّن يحملون لقب “روح
الله” دون الانتماء إلى جوهر الله. جوابنا هو أن التقاليد البشرية هي التي
نسبت ألقاباً كهذه للبشر وأن الوحي الإلهي منها برّاء. إن الكتب السماوية لم تقل
عن أي نبي، مهما عظمت مكانته عند الله، أنه كلمة الله أو روح منه تعالى. هنا أيضاً
يظهر شكل من أشكال انحراف التقاليد عن الوحي.

 

إن
الله تعالى استعمل أحسن الأساليب مع العرب ليكشف لهم حقيقة جوهر المسيح تدريجيّاً،
بموجب خطّه التربويّ الحكيم. من يريد معرفة مزيدٍ من الحقائق التي أوحاها الله،
فعليه أن يلجأ إلى الكتاب، وأن يقرأه، ولكن أن يفعل ذلك مستنجداً بروح الله، وألاّ
يقرأ بروح محض بشرية أو فلسفيّة تحجب الحقائق الروحية عن العقل. فالمهم ليس مطالعة
كتب الوحي، وإنما الروح التي بها نقرأ تلك الكتب السماوية.

 

إن
كان القرآن لا ينفي لاهوت المسيح، فكيف يمكننا تفسير الآية الكريمة التالية منه:
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح: يا بني إسرائيل
اعبدوا الله ربّي وربّكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة) (المائدة
72).

 

الجواب:
لاحظ أن الآية لا تقول: “لقد كفر كل من قال إن الله هو المسيح”،
بل (الذين قالوا إن الله هو المسيح)، وهم المسيحيون أو النصارى (*)، المعروفون بمعشر الذين يقولون إن الله هو
المسيح.

ولكن
لماذا كفروا؟ ألأنهم قالوا إن الله هو المسيح؟

لو
كان هذا هو المقصود، لنزلت الآية واضحة لا جدل فيها: لقد كفر كلّ من قال إن
الله هو المسيح. إلاّ أن القرآن لا يعتبر كلّ المسيحيين كفاراً، ويقول بالعكس
حسنات كثيرة عن النصارى، علماً بأنهم يقولون إن الله هو المسيح.


(ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا (بالقرآن) الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم
قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون) (المائدة 82).

 


(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة 62).

 


(
الذين
أتيناهم الكتاب من قبله هم به (بالقرآن) يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنّا به
إنه الحق من ربّنا، إنّا كنّا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا
ويدرؤون بالحسنة السيئة وممّا رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو (الشتم) أعرضوا
عنه) (القصص 52-55).

 

نستنتج
من هذه الآيات الشريفة أن القرآن لا يحكم على معشر “الذين يقولون إن الله هو
المسيح” لقولهم هذا، وإلاّ لقضى عليهم جميعاً. إنما يقصد الوحي تلك الفئة
المسيحية التي كفرت من جرّاء أعمالها الشريرة، لكنه يثني على المؤمنين الصالحين
منهم (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا
يستكبرون) (البقرة 62 والمائدة82).

 

إن القرآن يميّز بين
فئتين مسيحيّتين، فئة منها صالحة وأخرى طالحة وهي المنعوتة بالكفر:


(ليسوا سواءاً من أهل الكتاب أمّةٌ قائِمةٌ يتلونَ آيات الله ءَانآءَ
اللّيل وهم يَسجدون يُؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنهونَ عن
المُنكر ويُسارعون في الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين وما يفعلوا من خيرٍ فلن
يُكفَروهُ والله عَليمٌ بالمُتّقين) (آل عمران 113-115).


(ومِن أهل الكتاب مَن إن تأمنه بقنطار يؤّده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا
يؤدّه إليك إلاّ ما دمت عليه قائماً) (آل عمران 75).

 


(ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلا أنفسهم وما يشعرون)
(آل عمران 69).

 

يجب
ملاحظة تمييز الوحي القرآني بين فئتين من أهل الكتاب. فالطائفة الضالة هي الكافرة،
لا لأجل إيمانها بأن الله هو المسيح، بل من جرّاء أعمالهم وسرقتهم أموال الناس.
فالقرآن الذي يثني على الرهبان والقسيسين في آياته الكريمة، يفضح رهباناً آخرين
بقوله:

 (إن
كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) (التوبة 34).

إن
أكل أموال الناس هي عبادة أوثان. ولقد علّمنا الوحي أن كل عمل كافر وكل فحشاء هي
بمثابة عبادة أوثان، وبالتالي فهي إشراك بالله. فيقول الوحي الإنجيلي:

“اعلموا
هذا جيداً: إنه ليس للزاني، ولا للنجس، ولا للطّماع
وكلّهم عابدو أوثان – ميراث في ملكوت الله والمسيح” (افسس 5:
5).

 

وقال
السيد المسيح أيضاً في هذا المضمار: “لا يستطيع أحد أن يخدم سيّدين، لا
تستطيعون أن تخدموا الله والمال” (متّى 24: 6). ومع ذلك فإننا نجد أفواجاً من
الذين يدّعون الانتماء إلى المسيح، هم في الحقيقة عبدة أوثان، قد أشركوا آلهة
المال والملذّات بالله.

 

فلا
عجب أن يفضح القرآن، بعد الإنجيل، تلك الفئة الكافرة من معشرالمسيحيّين الذين
يقولون إن الله هو المسيح. هؤلاء النصارى منعوتون بالكفر لإشراكهم حبّ المال
والملذّات بالله، لا لقولهم إنّ الله هو المسيح. هذا هو تفسيرنا.

وإننا
نصدّق على الوحي القرآني: نعم، لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح؛ ونحن ممّن
يقولها مطمئنّين آملين ألاّ نكون كفاراً بأعمالنا. ولكننا، للمزيد من التوضيح،
نقول اليوم أيضاً: “لقد كفر الذين قالوا إن محمداً هو رسول الله”، ونحن
نؤمن أن محمداً هو رسول الله، ونأمل أن لا نكون كفاراً بابتعادنا عن مبادئ القرآن
ووصاياه الشريفة، وروحه السموحة الطيبة، التي ابتعد عنها الكثير الكثير ممّن
يقولون إن محمداً رسول الله. كما أننا نقول أيضاً: “لقد كفر الذين قالوا إن
موسى نبي الله”، ونحن نؤمن بموسى نبيّاً، ونكفر بالصهاينة الذين يقولون إن
موسى نبي الله.

 

إن
التجسّد الإلهي أمر كان لا بدّ منه بسبب الظلمات الحالكة التي غرق فيها الإنسان،
فضلّ ضلالاً مبيناً، يعجز عن إنقاذه منه الأنبياء أنفسهم. ويظهر هذا العجز من كلام
النبي أشعيا القائل: “كلّنا ضللنا” (أشعيا 6: 53)
الله وحده لا يضلّ السبيل، وهو وحده قادر على تحرير الإنسان من
الضلال. فلذلك “صار الكلمة جسداً وسكن بيننا” (يوحنا 14: 1).

لقد
استجاب المولى العزيز لصرخة النبي أشعيا: “آه، ليتك تشقّ السماوات
وتنزل”.

 

(4) صلب المسيح

لقد
تنبّأت التوراة بالمسيح، وأوضحت أن اليهود سوف يزدرونه ويقتلونه. فقال النبي أشعيا
في القرن الثامن ق.م. وهو يتنبّأ بالمسيح:

“إنه
مزدرى ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومُختَبِر العذاب، إنه مزدرى ومحتقر. بَيْد أنه
حمل عاهاتنا وأوجاعنا، فحسبناه معاقباً ومضروباً من الله ومُذلّلاً. لكنّه جُرح
لأجل معاصينا، وسُحِق لأجل آثامنا، وعقاب الله الذي يعطينا السلام قد وَقَع عليه،
وبجروحه، نحن شُفينا. كلّنا كالغنم ضللنا، فأَلقى الرب عليه آثامنا جميعاً. عومل
بقساوة عظمى وكان متواضعاً، لا يفتح فاه. حُرمت عنه العدالة وحُذِف من أرض
الأحياء، وقُتِلَ
من جرّاء خطايانا. دُفِنَ مع الأثمة ولم يضرَّ أحداً
البتّة، ولم يعرف فمه الكذب. رضي الله أن يسحقه بالعذاب، لكنه إذا جعل نفسه ذبيحة
مرضية (يتقبّلها الله)، سيرى نسلاً وتطول أيامه ومرضاة الرب تنجح على يده”
(أشعيا 1: 53-10).

 

هكذا
وصفت التوراة مأساة وموت السيد المسيح قبل وقوعها بثمانية قرون. لو قيل هذا الكلام
بعد حدوثه، لما كان الوصف أدقّ وأصحّ مما حدث فعلاً.

 

ماذا
يقصد الوحي في هذه النبوءة بقوله: “جُرِحَ لأجل معاصينا.. كلّنا ضللنا”؟
ما هي تلك المعاصي، وما هو الضلال الذي سار فيه كل اليهود؟ إنها معاصي الروح
الصهيونية وأضاليلها التي تسلّلت في الشعب اليهودي وشجبها المسيح بقوة.
“كلّنا ضللنا” قال النبي أشعيا. ضلال الصهيونية هو تسييس اليهودية،
أو تحويل اليهوديّة من دين إلى دولة. وقد أرادها الله إيماناً وتوبة للبشر أجمعين
ولذلك أعلن المسيح: “إنّ مملكتي (الروحيّة العالميّة) ليست من هذا العالم
(السياسيّ الضيّق) ” (يوحنا 18: 36). إنّ اليهود الصهاينة حتى اليوم في
ضلالهم، يحاولون، بعد احتلالهم فلسطين، توطيد أركان دولة إسرائيليّة سياسيّة كبرى
تمتدّ من النيل إلى الفرات. إنّ مأساة الشرق الأوسط سببها الصهيونية، وهي تعبّر عن
مأساة المسيح في عصرنا.

 

إن
الضلال الصهيوني كان قد أصاب تلاميذ المسيح أنفسهم، إذ كانوا في البدء ينتظرون منه
القيام بحركة صهيونية، وبحملة عسكرية فاتحة، عنيفة ومسلّحة، ضد الرومان والبلدان
المجاورة لفلسطين. لذلك وجدنا المسيح يكلّمهم عن مأساته تدريجياً، ليهيّئهم إلى
نظرة مختلفة عن المسيح. فبعد أن تأكّد أنهم آمنوا حقاً أنه المسيح المنتظر، كشف
لهم الصعيد الروحي لا السياسي لرسالته وأنه سيُصلب: “ومن ذلك اليوم أخذ يسوع
يصرّح لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم، ويتألّم كثيراً على أيدي شيوخ
الشعب ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتَل، وفي اليوم الثالث يُبعَث حيّاً” (متّى
21: 16).

 

لكن
تلاميذه لم يقبلوا منه هذا الكلام لأوّل وهلة، ورفض بطرس تلك الرؤية الغير
سياسيّة، فهبّ صارخاً: “لا سمح الله، يا سيد، لا، لا يكون لك هذا” (متّى
22: 16). إلاّ ان المسيح وبّخه ولم يكفّ عن التنبؤ مراراً وتكراراً بصلبه (متّى
23،16 ولوقا 22،9 ولوقا 9، 44- 45).

 

كانت
الذهنية الصهيونية مسيطرة على اليهود، وعلى تلاميذ المسيح أنفسهم، لدرجة أنهم لم
يفهموا قصد معلّمهم حتى بعد بعثه. ويقول الإنجيل إنه ظهر بعد قيامته من بين
الأموات لإثنين من تلاميذه، ليشرح لهما، من التوراة، النبوءات التي تكلّمت عن
قتله، فقال لهما: “يا قليلي الفهم ويا بطيئي الإيمان بكل ما قاله الأنبياء!
أما كان ينبغي أن يتحمّل المسيح هذه الآلام كلّها ليدخل في مجده؟ ثم أخذ يفسّر
لهما من موسى ومن جميع الأنبياء ما يخصّه في الكتب كلّها (كتب التوراة) ”
(لوقا 25: 24-27).

 

لقد
دخل المسيح في مجده من باب الفداء والاستشهاد. هذا المجد روحيّ لا سياسيّ ولا
عالميّ. إن الاستشهاد من أجل الحق في نظر الله مجد وكرامة، لا عار يخجل منه المرء
كما يظن البعض. لم يزدرِ المسيح الاستشهاد، ومن يرى في ذلك عاراً فهو ليس مقتدياً
بروح الله. لقد لزم زمناً طويلاً حتى يفهم ذلك أتباع المسيح، حتى أن بعضهم كان
يخجل من “فضيحة الصلب” و”عاره” كما كتب القدّيس بولس (1
كورنثوس 23: 1).

 

كثيرون
ازدروا المسيح من أجل صلبه. لكن لم يخجل الرسل من موت معلّمهم، لأن المسيح، بعد
بعثه، أفهمهم هدف الله من الصلب، واستسلموا له بالنهاية. فيقول الرسول بولس في
الوحي الإنجيلي: “أمّا نحن، فننادي بالمسيح وإياه مصلوباً، شكّاً لليهود
وحماقةً للأمم” (1 كورنثوس 23: 1).

 

أراد
الله أن يكون موت المسيح تجربة، يفرز بها أتباع المسيح الحقيقيين، عن أتباع
الصهاينة الذين آمنوا به لظنّهم أنه سيؤسّس المملكة اليهودية السياسية. هؤلاء
الآخرون خاب أملهم به إذ رأوه مصلوباً وميتاً فارتدّوا عن حمل رسالته. يقول القرآن
الكريم في تلك الفئة المرتدّة عن المسيح بعد موته، وقد آمنوا به من قبل:

 

 (وإن
من أهل الكتاب (اليهود) إلاّ ليؤمننّ به (بعيسى) قبل موته، ويوم القيامة
يكون عليهم شهيداً (لأنهم عاينوا آياته ولم يؤمنوا به بعد موته لتمسّكهم
بالصهيونية)) (النساء 159). تدلّ هذه الآية القرآنيّة بوضوح على أنّ المسيح مات
فعلاً.

 

إن
كان هذا وضع اليهود (من أهل الكتاب) أمام المسيح المصلوب- وخاصّةً الفرّيسيين
والكتبة منهم وهم مُهيّئون لموت المسيح من خلال نبوءات التوراة- فكم بالأحرى كان
من الواجب مراعاة عدم إدراك عرب الجاهليّة لهذا الموضوع. إنه لم يكن في مقدورهم
استيعاب وقبول مسيح يبدو مهزوماً ظاهرياً، مُعلّقاً على صليب من قِبَل جماعة مفروض
عليها مبايعته.

 

لماذا
كان لا بدّ للمسيح أن يستشهد؟ للقضاء على روح الصهيونية في أتباعه، حتى يعلموا،
وهم يؤمنون أنه حقاً المسيح، إذ رأوه على الصليب معلقاً، إن الصهيونية ليست إلا
خرافة يجب التخلّي عنها. لو لم يستشهد المسيح، لما فهم أتباعه ولتمادوا في ضلالهم،
طالبين منه تنفيذ المخطط الصهيوني بإنشاء مملكة إسرائيلية مستقلة عن الأمبراطورية
الرومانية، يترأسها هو ملكاً على إسرائيل، وقائداً لفتوحاتها. لقد قضى المسيح
بصلبه على الأماني الصهيونية.

 

إن
المسيح هو المخلّص لأنه أتى ليخلص كافّة المؤمنين به، لا من سلاسل الصهيونية
الخدّاعة فحسب، بل من كل عقيدة تشابهها، وإن تقنّعت بالدين. هذا هو حال المسيحيّة
والإسلام إذا تحوّلا “ديناً ودولة”. فكلّ محاولةٍ لتسييس الدين، أيّ
دين، هي صهيونيّة أخرى مقن‍ّعة تحت إسمٍ آخر. وقع في هذا الفخّ الكثيرون، منهم
معشر الفاتيكان نفسه منذ حُوّلت حاضرة الفاتيكان إلى “دولة الفاتيكان”
سنة 1929. (راجع كتاب “الإسلام والإيمان“-منظومة القيم- للدكتور
محمّد شحرور،الفصل الأخير منه وعنوانه “قولٌ في الإسلام والسياسة
حيث يشجب تسييس الإسلام وأسلمة السياسة. دار النشر: “الأهالي للطباعة والنشر
والتوزيع”، دمشق- سنة1996).

قلت
إنه كان مستحيلاً على عرب الجاهلية استيعاب رسالة المسيح وهو يبدو مُنهزماً. لذلك
قدّم لهم القرآن وقائعَ الإنجيلِ تمهيدياً، خاصة وأنهم كانوا يُقيِّمون الرجل
بفروسيّته ومهارته في السيف، لا بتواضعه وحنانه وقدرة استشهاده لأجل الحق. وهذه هي
ذهنية الكثيرين حتى اليوم، كأنهم لم يتعلّموا من الوحي شيئاً، فهم يزدرون
ويستضعفون المتواضعين. وهذه التصرفات هي من ملامح المنطق الصهيوني الذي إنتصر عليه
المسيح مُستشهداً، وإياه متحدّياً حتى الموت، والموت على الصليب.

 

لقد
مهّد القرآن الكريم الحكيم العرب إلى استيعاب حكمة استشهاد المسيح بلباقة، ولن
يكتشف هذا الأمر إلاّ مَن بَحث بتدقيق وحُسن نيّة. فيقول القرآن عن اليهود،
مُديناً إياهم:


(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله (برفضهم المسيح) وقتلهم الأنبياء بغير حق..
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم.. بل رفعه الله إليه) (النساء
155-158).

 

يعتقد
بعض السطحيّبن أن هذه الآيات الكريمة تنفي صلب وموت المسيح جسدياً. فيندفعون
بالتالي، وبحماس، ضد الإنجيل، رافعين شعار التزوير، ومخالفين، بعدم تمهّلهم هذا،
الوحي القرآني المصدّق للإنجيل. ولو قرأوا في القرآن بهدوء وبلا تعصّب، لوجدوه
يتكلّم عن موت المسيح.

 

هنا
تظهر حاجة البحث عن وحدة الوحي، وضرورة التعمّق إلى المقصود الإلهي من خلال كتاب
منير يرشدنا، لئلا نقع في فخ التفسير الحرفي دون الروحي. إن القرآن نفسه
يدفعنا إلى ذلك بالإشارة الصريحة إلى موت المسيح الذي يقول في القرآن: (والسلام
عليّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً) (مريم 33).

 

يتكلّم
القرآن، إذاً، عن موت المسيح وبعثه، مُصدّقاً بذلك للإنجيل. يظن بعض المؤمنين
السطحيّين أن هذه الآية تشير إلى عودة المسيح في آخر الزمان، وعندئذ سيموت،
على حدّ قولهم. إننا لا نجد في الوحي ركيزة لهذه الخرافة، ولا نفهم لماذا يقبل
هؤلاء بموت المسيح في آخر الزمان، ولا يقبلون بموته عندما أتى.

 

تكلم
القرآن أيضاً عن وفاة المسيح في سورة المائدة، حيث يخاطب المسيح الله بعد وفاته
قائلاً: (.. وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم، فلما تَوَفَّيْتَني كنتَ
أنتَ الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) (المائدة 117). ويدين القرآن، كما رأينا
سابقاً، اليهود الذين كفروا بالمسيح بعد موته بقوله: (وإنّ من أهل الكتاب إلاّ
ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) (النساء 159).

 

وقد
ورد ذكر وفاة المسيح أيضاً في سورة آل عمران: (ومكروا (اليهود لقتل المسيح) ومكر
الله والله خير الماكرين. إذ قال الله: يا عيسى إني متوفّيك ورافعك إليّ
ومطهّرك من الذين كفروا (اليهود الذين كفروا بك) وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين
كفروا (بك) إلى يوم القيامة) (آل عمران 54-55).

 

كيف
نستطيع التوفيق بين الآيات التي يعلن فيها الله بنفسه وفاة عيسى، والتي يعلن فيها
أيضاً عيسى عن وفاته، وبين آية سورة النساء القائلة: (ما قتلوه وما صلبوه لكن شبّه
لهم
[؟ فهل يناقض الوحي القرآني نفسه؟لا!

 

لقد
رأينا أنّ مَن توقّف عند التفسير الحرفيّ (انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة،
ذلك هو الخسران المبين) (الحج 11). إننا، بارتقائنا إلى مقصود الوحي الروحي، لا
نرى في سورة النساء (157) نفياً لصلب وموت المسيح جسدياً. فما يقصده الله، هو أن
اليهود لم يقضوا على رسالة المسيح بصلبهم إياه. لقد تخيّلوا أنهم بقتله يجهضون
رسالته في مهدها، لكن ذلك (شبّه لهم)، وها أن رسالته، بعد موته، تنتشر كالنار في
العشب اليابس إلى أنحاء العالم.

 

فلقد
كان اليهود الصهاينة يخشون رسالة المسيح المضادة للصهيونية أكثر من شخصه. وإذ
برسالته، التي استهدفوها مباشرة بقتله، تنتشر في العالم بسبب صلبه. هكذا
انتصر الله، وهو (خير الماكرين)، على مكر اليهود (آل عمران 54
55).

 

يظن
البعض أن مكر الله فاق مكر اليهود لأنه رفع المسيح إليه، ولم يسمح لهم بقتله. هذا
تفسير يخالف الوحي الإلهي، وبالتالي لا نقبله. نقول نحن إن الله فاق مكره مكر اليهود،
بأنه جعل من موت مسيحه هزيمة للصهيونية، ثم بعثه ورفعه إليه، وقد ظن اليهود
الصهاينة أنهم أسقطوه ورسالته إلى أسافل الجحيم. ثم خزاهم الله إلى الأبد، إذ جعل
أتباع المسيح (فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة) (آل عمران 55).

 

إننا
لا نجد مبرّراً للذين ينفون صلب المسيح ظنّاً منهم أنهم بذلك يرفعون من شأنه. فهل
الاستشهاد في سبيل الله عار؟

 

إن
الله يجاوب أولئك الذين “ينزّهون” المسيح عن الصلب: (قل فمن يملك من
الله شيئاً، إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض
جميعاً) (المائدة 17).

لقد
رأينا سابقاً في الكتاب المقدّس أنّ النبي أشعيا، ثمانية قرون قبل المسيح، قال أنّ
الله قد قرّر تسليم مسيحه إلى الموت: “.. حُذِف من أرض الأحياء وقُتِل من
جرّاء خطايانا.. أراد (الله) أن يسحقه بالعذاب” (أشعيا 53: 8-10).

 

عقيدتنا
راسخة بأننا “لا نملك من الله شيئاً”، وأنه أراد فعلاً أن يهلك المسيح
جسدياً، كما تنبّأ بذلك الأنبياء في التوراة، وكما علّم المسيح في الإنجيل، وصدّق
لذلك القرآن. إنما، إذ أراد الله أن يسحق مسيحه جسديّاً، استهدف نصره الروحي
أبدياً، بتحطيم الصهيونية وإفرازاتها الكثيرة والمقنّعة في العالم، تحطيماً نهائياً..
وقريباً بإذنه تعالى.

 

الإعتقاد
بأنّ المسيح لم يُقتل يعني الإيمان بمسيح سياسيّ وعسكريّ. وهذا شكلٌ آخر من
الصهيونيّة. كان يتوجّب على المسيح أن يُقتل ليغيّر ذهنيّة ذوي النيّة الحسنة،
الذين وقعوا في فخّ المادة.

إننا
نستنتج من كلامنا هذا أمراً بسيطاً وهو: إن الإيمان بأن المسيح قد صُلب فعلاً، لا
يخالف تعاليم القرآن إذا فُسِّرت آياته الشريفة كما فسّرناها، ولا يخالف الإنجيل
أيضاً. أما الإيمان بعدم صلب المسيح، فيدفع المفسّرين إلى الالتواء بحثاً عن تفسير
ينطبق على سائر آيات القرآن والإنجيل التي تتكلّم عن موت المسيح. ونتيجة هذا
التصرّف هو نقض الإنجيل بدلاً من التّصديق عليه كما يريد القرآن. هذا التصرّف
المُذنب ليس (الجدل بالتي هي أحسن[ولا هو (الصراط المُستقيم).

 

إن
الاستشهاد من أجل الله فخر ومجد لا حدّ لهما. ولا يستطيع أحد نزع اكليل المجد هذا
عن هامة السيد المسيح، الشهيد والفادي الأول والأعظم. من فهم هذه الحقيقة وهذا
الواقع البديهي، يكفّ عن محاولة “تنزيه” المسيح عن الاستشهاد، إذ (لا
تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) (البقرة 154).

 

إن
القرآن منطقي مع نفسه، فهو لا يعتبر المستشهدين لله أمواتاً، بل أحياء. ولذلك، فإن
القرآن هو أول من يحترم وصيّته هذه بعدم التوقّف عند قتل المسيح، فهو حي إلى
الأبد، لم يقتله اليهود، فقد مكر عليهم خير الماكرين وأحياه إلى الأبد لكنهم لا
يشعرون:

 (ولا
تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزَقون) (آل عمران
169).

 

بناء
على ذلك، نقول نحن المؤمنون بصلب وموت وقيامة المسيح: المسيح حيٌّ!،‍ (فما قتلوه
وما صلبوه لكن شبّه لهم).

 

 (5) “تزوير” التوراة والإنجيل

 (أ) البراهين القرآنية على صحّة الكتاب:

لقد
روّج بعض اليهود، منذ القدم، إشاعة تزوير الكتاب، وبالأخص الإنجيل، على أيدي
المسيحيين. هدف اليهود من ذلك هو إقناع الناس بأن النبوءات التي يستند إليها
المسيحيون للإيمان بيسوع مسيحاً، هي نبوءات غير واردة في التوراة، وأن المسيحيين
تلاعبوا في نبوءات الكتاب لتنطبق على يسوع.

 

ولقد
صدّق هذا الإفتراء كثيرون وتناقلوه، عاملين به، فاستهانوا بالكتاب، وبالإنجيل
خاصة، حتى يومنا هذا، لدرجة أنهم يحرّمونه في بلادهم وبيوتهم، ويحلّلون كتباً
ومجلات يحرّمها الخلق القرآني.

 

إن
الادعاء بتزوير الكتاب بدعة من وحي الشيطان الذي (يوسوس في قلوب الناس) كذباً
لتضليلهم (سورة الناس 5). إننا لا نجد في الوحي القرآني آية واحدة تُحذّر المؤمنين
من الكتاب على أساس أنه مزوّر، بل يقول القرآن إنه للتوراة وللإنجيل مصدّقٌ. فهل
يصدّق القرآن على ما هو مزوّ‍ر؟

 

وكيف
يكون في القرآن آية تحذّر من الكتاب والوحي واحد؟ لم ولن يسمح الله القادر على
صيانة وحيه بتزوير كتبه. وإلاّ كيف يمكننا اللجوء إلى كتاب منير للهدى؟ وأين يكون
المرجع؟ من يفتري على الكتاب بالتزوير، يفتري أيضاً على القرآن المصدّق عليه.

 

إن
نقطة الإختلاف الكبيرة بين الوحي القرآني ومسلمين تقليديّين كثيرين، هي في أمر
تصديق القرآن للكتاب وافترائهم هم عليه. فيقول القرآن:

 (الذين
آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم
الخاسرون) (البقرة 121).

 

إن
تفسير “الجلالين” لعبارة (يتلونه حق تلاوته) هو “أي يقرأونه كما
أنزل”. هذا هو التفسير الصادق المصيب. إن شهادة القرآن على صحة النص التوراتي
والإنجيلي لا جدل فيها. فكيف يتجرأ البعض، وهم يؤمنون بالقرآن، بمخالفته؟ إنهم
بافترائهم على الكتاب يكفرون، ويقول القرآن إن من يكفر بالكتاب (فأولئك هم
الخاسرون) (البقرة 121).

ويقول
القرآن أيضاً في هذا الصدد: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة 47).

 

إن
القرآن، إذاً، يدفع أهل الإنجيل أن يحكموا بموجبه إذا أرادوا الهدى. أفليس هذا
التصديق الإلهي القرآني شهادة لعدم تزوير الإنجيل ودعوة إلى الرجوع إليه؟ وهناك
يهود ومسلمون ومسيحيون كثيرون يقولون عكس كلام القرآن هذا فأي دينونة تنتظر (أولئك
الفاسقين)؟

 

إن
الذين ينعتون الإنجيل بالتزوير، لا يعبّرون عن إيمان مطلق بالقرآن، بل عن تعصّب
أعمى ليس سوى قناعٍ يخفي كراهيتهم لوحي الله. كذلك كل الذين يزدرون القرآن
لتمسّكهم بالإنجيل. لأن كل مسلم يقول بتزوير الإنجيل، هو مخالف للقرآن، وكل مسيحي
يطعن في القرآن هو مخالف لروح الإنجيل.

 

فالقرآن
يستند باستمرار إلى الكتاب كمرجعه الثابت والأكيد والأمين، إذ يقول الله لمحمد أن
يرجع إلى قرّاء الكتاب إن شكّ فيما أنزل في القرآن: (فإن كنت في شكّ مما أنزلنا
إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) (يونس 94).

 

ليت
كل مسلم يعمل بروح القرآن، وكل مسيحي بروح الإنجيل، للتخلص من سلاسل التعصّب التي
تقود إلى الجحيم. فليتمثّل المسلم بنبي الإسلام المتواضع، الذي لم يشحن قلبه إلا
بكلام تقوى عن التوراة والإنجيل: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها
النبيّون.. وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التوراة
وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور.. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه..) (المائدة
44-47).

 

هل
من آية قرآنية واحدة يرفضها المؤمن بالإنجيل لطعنها في الإنجيل؟ لا، ليس في القرآن
آية واحدة تمسّ بالإنجيل وتعاليمه، شرط أن يكون التفسير (بالتي هي أحسن). والتفسير
الأحسن هو الذي يصدّق على الإنجيل، لا الذي يناقضه. كل تفسير قرآني يناقض الإنجيل،
هو على القرآن شهادة زور. فلا يسعنا إلا أن نأسف من أولئك الذين يسيئون التفسير
القرآني، ثم يدعمون تفسيرهم الباطل هذا بحجة أن الإنجييل مزوّر. والحجّة أقبح من
الذّنْبِ، لأنهم يتناسون أن القرآن يعارضهم ويحاكمهم.

 

كما
أننا نأسف من الذين يرفضون القرآن بحجة أنه يخالف الإنجيل، بيد أن القرآن
لا يخالف الإنجيل
إطلاقاً، بل إنّه يصدّق عليه‍‍‍‍‍‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
! فلماذا يرفضونه بحجة باطلة؟ أفليس من الأفضل أن يؤمنوا به على
أساس أنه للإنجيل مصدِّقٌ؟ فيقول القرآن لأهل الكتاب:

 (يا
أيها الذين أوتوا الكتاب، آمنوا بما نزّلنا (القرآن) مصدّقاً لما معكم)
(النساء 47).

 

فعلى
أهل الكتاب أن يجتهدوا بحثاً عن التفسير القرآني المؤيّد لما معهم. فإذا عملوا
بحكمة ومحبّة، لوحّدوا الصفّ وقضوا على النعرة الطائفيّة.

 

يوجّه
القرآن وصاياه إلى المسلمين أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله
(محمد) والكتاب (القرآن) الذي نزّل على رسوله، والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي
أُنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه (التوراة والإنجيل والقرآن) ورسله
واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً) (النساء 136).

 

ليس
في وسعنا أن نحكم على الذين يكفرون بالتوراة والإنجيل في نصهم الحالي بأكثر
من حكم الله عليهم (فقد ضلّوا ضلالاً بعيداً). أقول “في نصهم الحالي”
لأنه نفس النص الذي عرفه النبي محمد. وهذا النص هو المقصود في الوحي، فالبراهين
على أصالته كثيرة وتقطع كلّ حجّة مضادة، وليس من برهان علمي واحد على تحريفه. وإن
وجد أحد هذا البرهان العلمي، فليتقدّم به أكون له شاكراً ومن الأتباع المسترشدين
به.

 

 (ب) البراهين العلمية على صحة الكتاب:

لم
يُنزل الله وحيه الكتابي عبثاً ليتلاعب به الإنسان حسب مزاجه. فيما يلي أهم
البراهين العلمية التي تصدّق مع القرآن الكريم على الكتاب. إنها نتيجة اكتشافات
الحفريات الآثارية الحديثة.

1-ملفات
البحر الميّت: إكتُشِفَت سنة 1947 في “قمران”، بالقرب من البحر الميّت
في فلسطين، ملفّات ترجع إلى القرن الثاني ق.م.، وتشمل التوراة باللغة العبرية،
مدوّنة على جلد الماعز. لقد قارن العلماء هذا النص بالذي بين أيدينا اليوم، فوجدوه
واحداً. تلك الملفّات موجودة الآن في متحف القدس، ولدى المتاحف العالمية نسخ
مصوّرة وكاملة عنها، وهي تحت تصرّف من يريد البحث فيها.

 

2-إكتشف
العالم الآثاري “رايلاندز” (
Rylands) مقطعاً من إنجيل
يوحنا، مدوّناً على ورق البردي، ويرجع إلى حوالي سنة 125م. مع العلم بأن يوحنا
الذي كتب إنجيله توفي حوالي سنة 105م.، النص هو مقطع من الفصل الثامن عشر من إنجيل
يوحنا، وهو ينطبق تماماً على النص الحالي.

 

3-إكتشف
العالم الآثاري “شاستربيتي” (
Chester Beatty)
مقاطع كثيرة من الإنجيل مدوّنة على ورق البردي، وترجع إلى القرن الميلادي الثالث.
النص ينطبق تماماً على ما هو بين أيدينا، تلك الأوراق هي من أهم الإكتشافات
المُبرهِنة على صحة نص الإنجيل، وهي محفوظة في متحف “ميتشيجان” (
Michigan) بالولايات المتحدة.

 

4-في
متحف الفاتيكان، يوجد نص كامل للتوراة والإنجيل يرجع إلى القرن الرابع م. (حوالي
330م.) وهو باللغة اللاتينية. النص ينطبق تماماً على ما هو بين أيدينا، وهو معروف
بنص “الفاتيكانوس” (
Vaticanus).

 

5-في
المتحف البريطاني (
British Museum) نص كامل للتوراة والإنجيل باللغة اليونانية
القديمة، يرجع أيضاً إلى القرن الرابع م. (حوالي 330م)، إكتُشف في دير القديسة
كاتريينا بصحراء سيناء، ولذا فهو معروف بنص “السينايتيكوس” (
Sinaiticus). والنص ينطبق تماماً على ما هو بين أيدينا.

 

6-تتعدّد
الطوائف المسيحية، ولكن نص الكتاب واحد عند الجميع، من الشرق إلى الغرب، ومن
الشمال إلى الجنوب، وبمختلف اللغات.

 

7-علماء
مسلمون كثيرون نفوا تزوير الكتاب وأهمهم الأفغاني والشيخ محمد عبده.

 

يصدّق
البعض أسطورة رفع الإنجيل إلى السماء مع السيد المسيح، وبالتالي عدم وجوده على
الأرض من بعد المسيح. كيف يكون هذا ويقول القرآن إن الكتاب يُتلى (حق تلاوته)؟ فهل
يمكن تلاوته وهو غير موجود؟! بالطبع لا!

 

إنّ
القرآن لم يقل يوماً إن الإنجيل قد اختفى من على وجه الأرض. بل، وكما رأينا، إنه
يدعو إلى الحكم بالإنجيل. فكيف يأمر القرآن بالحكم بالإنجيل وهو غير موجود؟!

 

لقد
أتى القرآن قراءةً عربيةً للكتاب الموجود آنذاك بلغتين فقط: العبرية واليونانية.
إن ورود الكتاب في هاتين اللغتين، لهو دليل قاطع على أن الكتاب موجود على الأرض،
ولم يرفع مع المسيح إلى السماء. وتبرهن على ذلك ايضاً الاكتشافات الآثارية التي
ذكرناها.

 

ولا
يجب علينا أن ننسى أن ورقة بن نوفل كان من الكتّاب الذين ينقلون نصوص التوراة
والإنجيل. ورقة هو ابن عم السيدة خديجة، زوجة النبي محمد الشريفة، الذي لجأت إليه
خديجة مع محمد ليُطَمئنه عن صدق رسالته كما جاء في الحديث: “كان (ورقة) امرأً
قد تَنَصّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية
ما شاء الله أن يكتب” (انظر صحيح البخاري). هذا دليل على أن الكتاب كان
موجوداً، وفي شبه الجزيرة العربية بالذات، في أيام محمد، وقبله وما زال.

 

كل
هذه الأدلّة تشير إلى صحّة الكتاب، وتبرز الهوّة الهائلة بين ما يقول القرآن ونبيه
عن الكتاب، وبين الذين يفترون عليه من التقليديين. وكفى للكتاب أن يكون القرآن
ونبيه المصطفى له شاهدَيْن ومصدّقيْن.

 

يدّعي
البعض أن الإنجيل زُوّر بعد نزول القرآن. إنها لأسوأ الحجج وأقبحها. فلقد أتينا
بالبرهان العلمي القاطع على أن النص الإنجيليي الموجود اليوم، هو النص الذي يشهد
له القرآن ويصدّق عليه، وهو نفسه الموجود منذ الوحي به في القدم.

 

“إنجيل” برنابا:

 بعد
أن روّج فئة من اليهود إشاعة تزوير الإنجيل، أشاعوا أن “الإنجيل” الأصلي
أو “الحقيقي” مخفيٌّ في الفاتيكان، وأن اسمه “إنجيل برنابا”.
هذا “الإنجيل” افتعلوه هم أنفسهم في القرن السادس عشر وسمّوه
“إنجيل برنابا”. قصدوا من جرّاء هذا “الإنجيل” زرع البلبلة
والعداوة بين المسيحيين والمسلمين ليسودوا هم على العالم.

 

كثيرون
وقعوا في فخّ هذا “الإنجيل” لعدم معرفة أو تحليل ما جاء فيه، واندفعوا
عشوائياً لمحاربة الإنجيل وأهله على أن إنجيلهم مزوّر، وبحجة أن إنجيل برنابا هو
الإنجيل الحقيقي.

 

إن
سرّ انجذاب البعض نحو “إنجيل” برنابا، هو ذكره للنبي محمد على لسان يسوع
(عيسى)، ولم ينتبهوا إلى أمر في غاية الأهميّة، وهو أن يسوع، في هذا
“الإنجيل”، ينكر أنه هو المسيح، ويقول إن المسيح هو محمد، وإنه خُلِق
قبله. وهذا يخالف تعاليم الإنجيل والقرآن، فهما يؤكدان أن يسوع (عيسى) هو حقاً
المسيح. إليكم من هذا “الإنجيل” بعض المقتطفات:

 

فصل
1: 96: “قال الكاهن ليسوع: قف يا يسوع، لأنه يجب علينا أن نعرف من أنت.. (3)
إنه مكتوب في كتاب موسى (التوراة) أن إلهنا سيرسل لنا مسيّا (المسيح) الذي سيأتي
ليخبرنا بما يريد الله.. (4) لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنت مسيّاً الله
الذي ننتظره؟ (5) أجاب يسوع: حقاً إن الله وعد هكذا، ولكني لست هو، لأنه خُلِق
قبلي وسيأتي بعدي..”.

 

فصل
13: 97: “فقال حينئذ الكاهن: ماذا يُسمّى ماسيّا (أيّ المسيح)؟ (14) أجاب
يسوع: إن اسم مسيّا عجيب لأن الله نفسه سمّاه لمّا خلق نفسه، ووضعها في بهاء
سماوي. (15) قال الله: اصبر يا محمد.. (17) إن اسمه المبارك محمد”.

 

هذا
الكلام مخالفة صارخة لما أوحاه الله في الإنجيل وفي القرآن الذي يصدّق على ما جاء
في الإنجيل بقوله إن عيسى هو حقاً المسيح. ولم يَدّعِ النبي محمد يوماً أنه
هو المسيح دون عيسى، كما أنه لم يدّع يوماً أنه خُلِق قبل عيسى. أين تعاليم القرآن
الشريف من افتراءات “إنجيل” برنابا؟

 

لقد
لعب مؤلفو هذا “الإنجيل” على محبة المسلمين للنبي محمد لتحريضهم ضد
المسيحيين، وتوسيع الهوّة بين الفئتين الشقيقتيْن، ليسودوا هم، اليهود، دون سواهم،
عاملين بمبدأ “فرّق تسد”. ولكن كل مسلم مفكّر وصادق سيعي، عاجلاً أم
آجلاً، أن الإيمان “بإنجيل برنابا” هو كفر بالقرآن الكريم المناقض له،
والمصدّق للوحي الإنجيلي الحقيقي بشهادته أن عيسى هو المسيح حقاً.

 

لقد
نشرت مطبعة “المنار” المصرية، لصاحبها السيد محمد رشيد رضا، ترجمة عربية
لإنجيل برنابا، وهي ترجمة من الإنكليزية للدكتور خليل سعادة، منها نقلنا المقتطفات
الواردة هنا. يشرح المترجم في مقدمته ما يكفي لتعرية اليد اليهودية التي ألّفت هذا
“الإنجيل”. فقد ألّفه يهودي اعتنق المسيحية وصار راهباً، ثم اعتنق
الإسلام. ونظن أنه اعتنق الدينين زوراً لنشر أضاليله في صفوفهما. لقد اكتشف
العلماء أن هذا “الإنجيل” كُتب أصلاً باللغة الإيطالية، وأنه يرجع إلى
القرن السادس عشر. وتبيّن ذلك من نوع الحبر المستعمل، والخط الإيطالي، والأسلوب
الفينيسي المشهور آنذاك بإيطاليا، ونوع الورق المكتوب عليه.

 

هل
من آيات قرآنية عن التزوير؟

يرتكز
البعض على آيات قرآنية معيّنة لنعت الكتاب بالتزوير. إنهم يتناسون الآيات القرآنية
المصدّقة للكتاب. إن القرآن لا يناقض نفسه بنعت الكتاب بالتزوير بعد التصديق عليه.
إليكم بعض الآيات القرآنية التي يستند إليها دعاة التزوير، منها يتّضح أن التزوير
المقصود في القرآن هو التلاعب في التفسير، لا في آيات الكتاب.


(أفتطمعون أن يؤمنوا (اليهود) لكم (أيها المسلمون) وقد كان فريق منهم يسمعون كلام
الله (في التوراة) ثم يحرّفونه (عن معناه) من بعد ما عقلوه (فهموا مقصود الله) وهم
يعلمون) (البقرة 75).

 


(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق
وهم يعلمون) (البقرة 146).

 


(وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب، لِتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب.
ويقولون هو من عند الله (أي من الكتاب) وما هو من عند الله (أي ليس في الكتاب بل
من عندهم) ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون[(آل عمران 78).

 

لاحظ
أنهم (يلوون ألسنتهم)، لا يزوّرون نصّ الكتاب. فبتلوية ألسنتهم، يأتون بتفاسير
تناسب مصالحهم، دون تبديل أو تحريف نصّ الوحي الكتابي.

هذا
هو تفسيرنا للآيات السابق ذكرها التي حاول ذوو النيّة السيّئة أن يلووها بلسانهم للإفتراء
على الإنجيل. إنّ القرآن يُصرّح أنّ اليهود الذين يمارسون ذلك:


(من الذين هادوا (اليهود) يحرّفون الكَلِمَ عن مواضعه..) (النساء 46).

 


(ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل.. فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم
قاسية، يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكّروا به) (المائدة
12-13).

 

إن
المقصود الإلهي بالتحريف واضح ويُشير إلى تحريف (الكلم عن مواضعه)، أي تحريف
الكلام عن معناه. وتجدر الإشارة إلى أن فئة من (الذين هادوا)، أي اليهود بني
إسرائيل، هم المقصودون في تلك الآيات القرآنية. وذلك لأن بعض اليهود كانوا، وما
زالوا، يلوون كلام الله ونبوءاته، تبريراً لرفضهم السيد المسيح. وإن
“إنجيل” برنابا المنحول، لهو خير مثل على هذا الالتواء.

 

إن
القرآن لا ينفرد بشجب اليهود لتلاعبهم بكلام الله وتحريفه عن مواضعه، إذ أن النبي
أرميا (القرن السادس ق.م.) أعلن في التوراة غضب الله على اليهود لتحريفهم التوراة،
فيقول أرميا: “كيف تقولون: إننا حكماء وعندنا شريعة الله (أي التوراة)؟! فلقد
حوّلها قلم الكتبة الكاذب إلى كذب” (أرميا 8: 8).

 

لا
بدّ من التوقّف عند كلام أرميا هذا، لتوضيح المقصود الإلهي منه. فقد ثار هذا النبي
منذ القدم على الكتبة لأنّهم شوّهوا مقصود الله بتفاسيرهم الباطلة، فحوّلوا
التوراة إلى كذب. إنني، إذ أؤكد على صحة التوراة، اقصد صحة النص التوراتي
الوارد إلينا اليوم. إن هذا النص هو الذي عرفه النبي محمد، وهو الذي عرفه المسيح.
لا تزوير في هذا النص، ولا يمكن أن تتلاعب فيه يد بشريّة، لأن الله أراد بحكمته
الخارقة، أن تصل التوراة إلينا في نصّها الحالي. لماذا؟ ليكشف الله لنا مخطّطه
الخلاصيّ لصالح البشريّة كلّها وليفضح تأثير الروح الصهيونيّة السلبيّ على الرؤساء
والكتبة اليهود. فهؤلاء بدأوا كتابة التوراة منذ القرن العاشر ق.م.، أي بعد موت
موسى بحوالي ثلاثمائة سنة. فأدخلوا على التوراة، قصداً، تفسيراتهم الصهيونية للوحي
الإلهي البرّاء منها.

 

إننا،
ممّا كتبه اليهود في التوراة، نستطيع أن نميّز تسلّل روح الصهونية والعنصرية من
خلال القصص الواردة فيها، والتي تعبّر عن روح الكراهية التي طغت على اليهود
المتعصّبين. ولقد ارتكب اليهود جرائم جسيمة، ورد ذكرها في التوراة، وحاول الكتبة
اليهود تبريرها قائلين أنهم ارتكبوها بأمر من الله. والله من كل هذا برّاء.

 

كل
من بحث في التوراة عن كثب وجد فيها إلهين: الإله الخالق الذي لا إله إلاّ هو،
و”الإله” الذي ألهَّه الكتبة اليهود، وهو الشيطان، “إله”
القتل والذبح والسرقة والكذب. وهناك أمثلة كثيرة في التوراة، نرى من خلالها عدم
تمييز اليهود بين الله الخالق والشيطان الذي كان يتقدّم إلى ضمائر اليهود مختلساً
اسم الله.

 

إننا
نجد عن ذلك مثلاً في التوراة في كتاب القضاة (فصلَي 17 و18). إنها قصة كاهن كان
يستشير الله عن طريقة حجرين صغيرين اسمهما “الأفود والترافيم” (المعروفة
بالجاهلية باسم “الأزلام” وقد حطّمها النبي محمد لدى فتحه مكة). كان
مدوَّناً على أحد الحجرين “نعم” وعلى الآخر “لا”، وكانا
يوضعان في وعاء، ثم يمدّ الكاهن يده بعد تحريك الوعاء، ويأخذ حجراً منهما، ويعمل
بموجب ما أخذ في يده. فيفعل الأمر إن أخذ “نعم” ويرتد عنه إن أخذ
“لا”. والقصة تروي أن “الله” كان تمثالاً منحوتاً يستشيره
الكاهن، وقد أمر “الإله” الصنم هذا، اليهود بقتل وذبح من حولهم
والاستيطان محلّهم على أرضهم. والأمثلة كثيرة على هذا “الإله” الصهيوني
الشيطاني (سفر التثنية 20: 10-14).

 

أهمية
التوراة هي فضحها الأمر، وإتاحة الإمكانية للمؤمن أن يميّز هويّة هذا
“الإله” الدجّال الذي يعبده اليهود العنصريون. هذا الإله الصهيوني ليس
إلا الشيطان في صورة صنم يوحي أفكاراً توسّعية ويحرّض على القتل، وقتل الأنبياء
أنفسهم لفضحهم الجرائم التي ارتكبها اليهود، كما فعل النبي ميخا الذي ندّد باليهود
لأنهم “يبنون صهيون بالدماء وأورشليم بالظلم قائلين
: إن الرب معنا وفي
وسطنا” (ميخا 9: 3-12). فمن هو هذا “الرب” المتعطّش إلى الدماء
الذي يفضحه الأنبياء؟

لقد
كشف المسيح عن هوية هذا “الرّب” عندما قال لليهود الذين رفضوه: “إن
أباكم هو الشيطان وأنتم تريدون تنفيذ مشيئة أبيكم” (يوحنا 44: 8).

 

إن
الإنجيل والقرآن، إذ هما يصدّقان على التوراة، إنما يصدّقان على ما أوحى الله
فيهما من هدى للناس، لكنهما يدعوان المؤمنين إلى تمييز مخالب الصهيونية المندسّة
في التوراة كما فعل النبي أرميا، والنبي ميخا وغيرهما من الأنبياء قبل أن يقوم
بفضحهم المسيح ومن بعده النبي العربي الكريم أيضاً.

فقد
فضح المسيح الكتبة والفريسيين اليهود ونعتهم بالمرائين: “لماذا تُخالفون أنتم
وصيّة الله من أجل تقاليدكم؟..وهكذا أبطلتم كلام الله من أجل تقاليدكم. يا
مُراؤون، صَدَقَ أشعيا في نبوءته عنكم حين قال: هذا الشعب يُكرمُني بشفتيه وأمّا
قلبه فبعيدٌ عنّي، وهو باطلاً يَعبُدُني بتعاليم وضعها البشر” (متّى
15: 7-9).

 

لا
يجب على المؤمنين النفور من التوراة من جرّاء تسلّل روح الصهيونية إليها. بل
وبالعكس، إن في ذلك لحافزاً يدفع الأقوياء إلى استخلاص ما فيها من كنوز روحية كما
فعل الأنبياء والمسيح ومحمّد. فإنّ معزّة النبي محمد للتوراة والإنجيل، لهي خير
ضمان لمن يلجأ إليهما: (قل (يا محمد للعرب الذين يزدرون التوراة والإنجيل) فأتوا
بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه) (القصص 49).

 

في
مفهوم نبي الإسلام الحبيب، الكتاب والقرآن كلاهما من عند الله. أقصد الكتاب في نصه
الوارد إلينا اليوم، فهو نفس النص الذي عرفه النبي محمد. لقد جعل الله رسول
القرآن، رسولاً للكتاب أيضاً، فالقرآن وحي عربي للوحي الكتابي. لذلك يقول الله
لمحمد أن لا يطلب من أهل الكتاب الرجوع إليه كحكم فعندهم حكم الله في الكتاب:


(وكيف يُحكِّمونَك وعندهم التوراة فيها حكم الله.. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل
الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (المائدة 43-47).

إن
النبي العربي الكريم يدعو المؤمنين، من خلال القرآن، إلى السير على خطى الذين
سبقوهم في الإيمان، فترعرعوا في المراعي الروحية الخصبة، ونضجوا بمياه الحياة
المتدفقة بوفرة من الكتاب، الصراط المستقيم. فيقول القرآن:


(يريد الله ليبيّن لكم (أيها العرب) ويهديكم سنن الذين من قبلكم.. يا أيها الذين
آمنوا (بالإسلام) آمنوا بالله ورسوله والكتاب (القرآن) الذي نزل على رسوله (محمد)
والكتاب (التوراة والإنجيل) الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً[(النساء 26 و136).

 

إنها
لوصية القرآن. فليعمل بها المؤمنون الصّادقون، يهودٌ ومسيحيون ومسلمون. وليُوحّد
ربّ العالمين بين عباده من كافّة الشعوب، كاشفاً لعياله عن وحدة وحيه في الكتاب
وفي القرآن، ليسبّحه عياله، وليشهدوا سوياً للتوحيد بتوحيد الوحي والكلمة والصف ضد
الشيطان الرجيم وعباده مُحرّفي التفسير التوراتيّ الإنجيليّ القرآنيّ الواحد.

 

(6) سيرة النبي محمد

يأخذ بعض المستشرقين على النبي محمد كثرة زوجاته
وحروبه، وخاصة زواجه من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد بن حارثة، الذي كان النبي
محمد قد أعتقه وتبنّاه قبل البعثة.

 

أزواج النبي محمد:

لا
يعمل المسلمون ما فيه الكفاية لإلقاء الضوء الحقيقي على تفاسير الوحي القرآني وعلى
سيرة النبي محمد النزيهة. فأتت بعض التفاسير الرسمية سيئة، تزيد سوء ظن المستشرقين
في القرآن وفي سيرة محمد. نلاحظ ذلك جليّاً في أمر زواج محمد بزينب بعد طلاقها من
زيد، فيفسّر ذلك علماء الإسلام “بأن وقع بصر النبي محمد على زينب بعد زواجها
من زيد فوقع في نفسه حبها”. وهذا التفسير غير أكيد إطلاقاً، إنما هو اجتهاد،
لا نظن أن المفسّرين قد أحسنوا فيه، وسنقدّم تفسيرنا في حينه.

 

وُلد
نبي الإسلام الكريم سنة 570م في مكّة وتوفّاه الله يوم الإثنين 8 حزيران (يونيو)
سنة 632م. توفي والده عبد الله قبل مولده وتوفّيت أمه آمنة وهو في الخامسة من
عمره. فتولّى رعايته جدّه عبد المطلب الذي توفّي بعدها بثلاث سنوات، فاحتضنه عمّه
أبو طالب وكان يعزّه كثيراً.

 

كان
عبد المطلب، جدّ محمد، وجيهاً من آل بني هاشم، من قبيلة قريش بمكة. كان له عشرة
أبناء منهم عبد الله (أبو محمد)، وأبو طالب (عمّه الذي احتضنه)، وحمزة (آمن به
ودافع عنه)، وأبو لهب وأبو جهل (عدوّا محمد).

 

آمنة
أم النبي، هي أخت ورقة بن نوفل الذي اعتنق المسيحية، وإبنة عم خديجة، زوجة محمد
الأولى.

 

أمضى
محمد شبابه في مكة، وعُرِف بنزاهته وعفّته وسموّ خلقه، وحبه للعزلة والتأمّل. كان
أهل مكة يدعونه “الأمين” لصدقه وأمانته. كان حبه للمناجاة والتأمل
يقودانه إلى مغاور الجبال المحيطة بمكة، هرباً من غوغائية العالم، ومبحراً في
أعماق الروحانيات، منصتاً إلى أصوات أمواجها الخفيّة، تهتزّ لها روحه المتعطشة
لله.

 

هذا
لم يمنعه من مشاركة الحياة التجارية بمكة. فكان يهتمّ بالقوافل العابرة بها، حاملة
السّلع وموارد الرزق إلى المنطقة من الشام. عمل محمد عند قريبته خديجة، وهي أرملة
تاجر غني بمكة. كان يقود قوافلها إلى الشام للتجارة، وأعجبت بأمانته في المعاملات
التجارية. فأرسلت إلى عمه أبي طالب للزواج منه، فوافق محمد. كان عمره خمسة وعشرين
سنة وعمر خديجة أربعين سنة.

 

كان
الزواج موفّقاً وسعيداً. ولد لهما ثلاثة أبناء توفّوا صغاراً، وأربع بنات هنّ:
رقيّة وزينب وأم كلثوم وفاطمة.

تعرّف
محمد أثناء رحلاته إلى الشام على رهبان مسيحيين، منهم الراهب بحيرة الذي صادقه
وأُعجب بخلقه الحسن، وكان يحدّثه عن الأنبياء والمسيح. ولم يعرف محمد أن الله كان
يهيّئه ليكون رسول العرب.

 

لما
نضجت روح محمد بالتأمّل والمناجاة، انكشفت له السماء لأول مرّة، وعمره أربعون سنة،
فظهر له ملاك الله جبرائيل (أو جبريل) “وكان يخلو في غار حراء. فجاءه الملك
فقال له: إقرأ. قال (محمّد): ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد.
فقال: إقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد. فقال
إقرأ، فقلت ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثالثة، ثم أرسلني. فقال: إقرأ باسم ربك
الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم. فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده،
فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني، زمّلوني! فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي” (صحيح البخاري).

 

هذه
أول رؤية أنعم الله بها على رسوله. فارتاب محمد كما ارتاب قبله موسى، إرميا،
دانيال وأنبياء آخرون. وقد لجأ محمد، أول ما لجأ، إلى زميلة حياته زوجته المخلصة
وصديقته الحميمة خديجة التي طمأنته، ولم تشك به وهلة كما جاء في الأحاديث الشريفة،
بل ” انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، ابن عمها، وكان امرأً قد
تنصّر في الجاهليّة وكان يكتب الكتاب
.. وكان شيخاً مُسنّاً قد
عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك (محمد). فقال له ورقة يا ابن
أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا
الناموس الذي نزّل الله على موسى. يا ليتني فيها جدعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك
قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَوَ مخرجيّ هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل
قط بمثل ما جئت به، إلاّ عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً. ثم لم ينشب
ورقة أن توفي” (صحيح البخاري).

 

هكذا
طمأن ورقة ابن أخيه محمّداً، مصدّقاً على حقيقة ما رآه. وقد تمّت نبوءة ورقة في
محاربة أهل قريش لمحمد، إذ أنهم نبذوه كما نُبِذ كلّ نبي من قومه في الكتاب. يجب
ملاحظة أن ورقة رأى في رسالة محمد ما جاء به موسى. فالرسالة واحدة والوحي واحد.

 

لقد
آمن بمحمد فريق صغير في البداية. وكانت خديجة أولى المؤمنين. لم يطمئن لهذا الوضع
الجديد أثرياء مكة المتاجرون بأصنامها، ولا ذوو النفوذ فيها. فرأوا في عقيدة
التوحيد خطراً على تجارتهم وسلطانهم. فعادوا محمداً وأتباعه واضطهدوهم شرّ اضطهاد.

 

تحمّل
محمد عبء رسالته ومشقّاتها، مثابراً فيها وقد كلّفته ماله وراحته. وأبى أن يجابه
أعداءه بالسلاح، حتى أنه لم يحمل سيفاً يحتمي به، بل أمر أتباعه بترك مكة والهجرة
إلى الحبشة. فلجأ إليها أثنا عشر من أتباعه إلى النجاشي، امبراطور الحبشة، وهو
مسيحي. فرحّب بهم ومنحهم حق اللجوء إلى الحبشة والإقامة بربوعها مطمئنين.

 

احتمل
محمد عشر سنوات من الضيق والاضطهاد بمكة، مبشّراً فيها برسالته دون جدوى، إذ لم
يؤمن به إلا القليل من أهلها. بل كانت معارضة قريش له تزداد عنفاً، حتى أنها شكّلت
خطراً حقيقياً على حياة النبي وأتباعه، بعد عدّة محاولات جدّية لقتله. فاضطر محمد
إلى الهجرة من مكة إلى يثرب، حيث كان له فيها اصدقاء مناصرون كثيرون، ولم يعاده
إلا اليهود فيها.

 

فاجعتان
أليمتان أصابتا محمداً تباعاً قبل هجرته إلى يثرب، وهما موت أبي طالب، عمه الذي
احتضنه وحماه ضد قريش، وموت خديجة، رفيقة حياته المُخلصة التي احبّته وآمنت به،
وكانت له السند الروحي الذي ثبّت إيمانه وثقته بنفسه. وسمّى عام وفاتهما بعام
الحزن.

 

لقد
حاول أهل قريش، برئاسة أبي سفيان، إغراء محمد بالمال والنفوذ ليتراجع عن رسالته.
فأرسلوا وفداً إلى عمه أبي طالب، قبل موته بقليل وهو على فراش المرض، ليتوسط بينهم
وبين محمد. فعرضوا عليه المال والجاه والملك على أن يرتد عن التوحيد: “إن كنت
بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن
كنت تريد به شرفاً، سيّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد ملكاً،
ملّكناك علينا. أما الإله الواحد، فلا!”. إلاّ أن النبي محمد تمسّك مخلصاً
برسالته وقال: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك
هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه”. وتوفي أبو طالب وأصبح الأمر بين
قريش ومحمد أسوأ مما كان عليه.

 

في
هذه الفترة، قبل الهجرة إلى يثرب بقليل، كانت أعجوبة “الإسراء
والمعراج”، وهي حدثٌ روحيٌ تاريخيٌّ مهم في حياة محمد وأتباعه. كان محمد في
هذه الليلة في بيت ابنة عمّه هند، شقيقة علي بن أبي طالب، آتاه الملاك جبريل وأسرى
به على فرس اسمه “البُراق” (من البرق) إلى جبل سيناء حيث كلّم الله
موسى، ثم إلى بيت لحم حيث مهد المسيح، ثم إلى بيت المقدس، ومنها عرّج إلى السماء
ثم عاد إلى بيت هند. ورد ذكر الحدث في سورة الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) (الإسراء
1).

 

لم
تقبل قريش ولا كثيرون من أتباع محمد حدث الإسراء والمعراج، وارتد عنه الكثيرون.
فازدادت عليه الاضطهادات والعزلة، فقرّر الهجرة إلى يثرب يوم 24 أيلول (سبتمبر)
سنة 622م.

 

بعد
الهجرة، اتخذ محمد لنفسه زوجات، لا محبة بالنساء كما يظن بعض المستشرقين، بل
لتوحيد الصفوف بالمصاهرة. أول من تزوجها هي “سودة” أرملة احد أتباعه من
الذين هاجروا إلى الحبشة ثم عادوا منها. وسبب زواجه بسودة كان لإعالتها وأولادها،
وكانت سودة كبيرة السن.

 

وحّد
النبي محمد صف المؤمنين بالمصاهرة، فتزوّج عائشة ابنة أبي بكر صديقه ورفيقه وهي في
السابعة من عمرها، لكنها مكثت في بيتها حتى بلغت التاسعة، وفي هذه الأثناء تزوج من
سودة. وتزوّج حفصة ابنة عمر بن الخطاب، ليزيد روابط الوحدة بين المسلمين. وأنه،
لحرصه على تلك الوحدة، زوج بناته الأربع إلى كل من عثمان بن عفان الذي تزوج بنتيه
“رقيّة” و”أم كلثوم”، ولذا عُرف ب”ذي النورين”،
وعلي بن أبي طالب الذي تزوّج فاطمة، وخالد بن الوليد الذي حارب النبي وانتصر عليه
في أحد، ثم أسلم وتزوج ابنته زينب، وتزوّج النبي خالة خالد، ميمونة. وتزوّج محمد
زينب بنت خديجة وأم سلمة لأسباب إنسانية، لا عاطفية أو شهوانية، فكانتا أرملتي
شهيدين، وكانتا متقدّمتين في السن.

 

أما
زواجه من زينب بنت جحش، فهو في رأينا، ليس كما قدّمه المفسّرون المسلمون عن سورة
الأحزاب التي تذكر القصة. فإليكم النص القرآني مع تفسير الجلالين له، ونلحق به
تفسيرنا الذي ينطبق على عظمة خُلُق النبي الكريم محمد:


(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم
..) (الأحزاب
36).

 

تفسير
الجلالين: نزلت في عبد الله بن جحش وأخته زينب. خطبها النبي لزيد بن حارثة. فكرها
ذلك حين علما بظنّهما قبل، أن النبي خطبها لنفسه. ثم رضيا للآية.

 

(.. ومن يعصِ
الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً) (الأحزاب 36).

 

تفسير
الجلالين: فزوّجها النبي لزيد. ثم وقع بصره عليها بعد حين. فوقع في نفسه حبّها،
وفي نفس زيد كراهتها. ثم قال للنبي: أريد فراقها. فقال: أمسك عليك زوجك.

 

تفسيرنا:
لم يقع في قلب النبي حبّ زينب. وكان سبب رفض النبي طلاق زيد منها، أنه هو، أيّ
النبي، الذي استدعاها مع أخيها عبد الله للزّواج من زيد. وقد تمّ الزواج بعد نزول
الآية، مع كرههما الزواج من زيد قبل نزولها. فطلاق زيد أحرج محمد وعرّض زينب إلى
المسّ من شرفها، فيقال عنها: “إن ابن النبي قد طلّقها”. إن في ذلك
استقباحاً لها، وبالتالي سبب تفرقة بين محمد وآل بني جحش. فلم يكن أمام النبي، وهو
يريد أن يتفادى هذا الوضع المُحرج، إلاّ أن يتزوج زينب للرفع من شأنها أمام الناس،
فيُقال عنها “إن النبي قد تزوّجها”. لكن ما كان يخشاه محمد هو عدم فهم
الناس لحقيقة الأمر، فيقولون إنّه قد تزوّج زوجة إبنه لأنه أحبها. فألحّ على زيد
بعدم الطلاق.

 


(إذ تقول للذي أنعم الله عليه (بالإسلام) وأنعمت عليه (يا محمد بالإعتاق: وهو زيد
بن حارثة. كان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله قبل البعثة وأعتقه وتبنّاه) أمسك
عليك زوجك واتّق الله (في أمر طلاقها) وتخفي في نفسك ما الله مُبديه
..) (الأحزاب
37).

 

تفسير
الجلالين: مظهره من محبتها، وأن لو فارقها زيد لتزوّجتها.

 

تفسيرنا:
يخفي النبي في نفسه لا محبته لزينب، بل وعيه لخطورة الوضع، وأن لو فارقها زيد
لاضطرّ أن يتزوّجها لسترها.

 


(
.. وتخشى
الناس (أن يقولوا تزوّج زوجة ابنه) والله أحق أن تخشاه (وتزوّجها ولا عليك من قول
الناس: الجلالين)) (الأحزاب 37).

 

وتفسيرنا:
على النبي التصرّف بحكمة، حسبما يقتضيه الأمر ضميرياً أمام الله، عاملاً (بالتي هي
أحسن)، لا بالتي يرضى عنها الناس، وإن قالوا افتراءاً أنه تزوّج زوجة ابنه حباً
بها. فالله أحقّ أن يخشاه محمد، والله يعلم ما في قرارة القلب، فهو يعلم أن محمداً
تزوجها ستراً لها، وحفاظاً على رصّ الصف، لا لأنه عشقها.

 

يتناسق
تفسيرنا مع سيرة النبي محمد إجمالاً في أمر زوجاته، وفي كل لحظات حياته.

 

أهم حروب النبي محمد:

بعد
هجرة النبي إلى يثرب، سُمّيت “المدينة”، أي مدينة النبي، أو المدينة
المنوّرة. كان لمحمد فيها أنصار كثيرون منهم قبيلتا الأوس والخزرج، ولم يُعاده
فيها إلا اليهود، الذين كانوا مع مشركي مكة أشدّ أعدائه. لذلك قال القرآن: (لتجدّن
أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا (قريش) ولتجدنّ أقربهم مودة
للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا
يستكبرون) (المائدة 82).

 

حارب
مشركو مكة محمداً بعد هجرته، وبتحريض من اليهود. فالنبي، الذي كان يأبى حمل
السلاح، اضطرّ أن يدافع عن المؤمنين وعن الرسالة بالسلاح، ضد أعداء هجموا على
المدينة، بعد أن داهموا بيوت المؤمنين في مكة وهجّروهم منها. إن الدفاع عن النفس
حق مشروع عند الجميع وإهماله تقصير. لذلك سمح الله للمؤمنين بالقتال: (أُذِنَ
للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير) (الحج 39)، (وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله) (الأنفال 39).

 

1-
غزوة بدر:
إنتصر
فيها المسلمون وعددهم ثلاثمائة فقط على مشركي قريش وعددهم ألف، في السنة الثانية
للهجرة.

 

2-غزوة
أحد:
إنتقم فيها القريشيون من هزيمتهم في بدر، وكانوا بقيادة خالد بن الوليد،
استشهد فيها حمزة، عم النبي. السنة الثالثة من الهجرة.

تنبّه
النبي محمد أن لليهود يداً محرّضة أثارت القريشيين ضدّه.

 

3-غزوة
الخندق:
حرّض اليهود أهل مكة مجدّداً ضد المسلمين، فحاصروا المدينة، وكان
عددهم عشرة آلاف. فنصح سلمان الفارسي، وهو عسكري مسيحي فارسي متدرّب على القتال،
النبي محمد أن يحفر خندقاً حول المدينة. كان هذا الخندق سبب فشل غزو قريش للمدينة
في السنة الخامسة بعد الهجرة.

 

4-غزوة
بني قريظة:
كان اليهود قد تآمروا على المسلمين في غزوة الخندق، بعد وعدهم
بالحياد. فأمر محمد بغزو قبيلة بني قريظة اليهودية واستئصال أعدائه اليهود منها.
فلجأ اليهود إلى خيبر، المدينة العربية الوحيدة التي كان يسكنها يهود فقط.

 

توطّدت
أركان المسلمين في المدينة بعد غزوتي الخندق وبني قريظة، واستتبّ الأمر لمحمد
والمسلمين. فأخذ العرب يرهبونه ويفكرون في مصالحته.

 

عهد
الحديبية:
ازداد
شوق المسلمين للحج إلى مكة بعد ست سنوات من هجرتهم عنها. فترأّسهم النبي في مسيرة
سلمية إلى مكة، وتوقفوا عند مشارفها في الحديبية. أبى القريشيون السماح للمسلمين
بالحج. فدارت بين الفريقين مفاوضات صلح، نتج عنها عهد الحديبية. أهم اتفاقيات هذا
العهد هو صلح عشر سنوات، على أن لا يدخل المسلمون مكة هذا العام، بل في العام
القادم، ولمدة ثلاثة أيام فقط.

عاد
محمد والحجاج إلى المدينة بعد ثلاثة اسابيع. وقد سمح عهد الحديبية لمحمد بنشر
رسالته في أنحاء شبه الجزيرة كلها، وساهم في إبراز الوجه السلمي للعقيدة
الإسلامية. فاعتنق كثيرون من العرب دين التوحيد، والتفّوا حول النبي محمد. عندها
تزوج خالد بن الوليد زينب، بنت النبي، وتزوّج محمد ميمونة، خالة خالد، فزادت تلك
المصاهرة من صلابة الوحدة بين المسلمين.

 

رُسُل
محمد إلى الملوك والأمراء:
بعد هدوء الوضع في شبه الجزيرة العربية، أرسل
محمد إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإيمان به وبرسالته. أهم الملوك هم
“هرقل ” ملك البيزنطيين، و”كسرى” ملك الفرس، والنجاشي
“أحمصة” إمبراطور الحبشة، و”المقوقس” عظيم القبط في مصر.

 

إنني
أحلّل في الباب الرابع مضمون الرسالة التي بعثها محمد لهرقل.

 

5-غزوة
خيبر:
لم
يعد أمام محمد من خطر إلاّ من يهود خيبر. فبعد العودة من الحديبية بأقل من شهر،
خرج محمد على رأس جيش من المسلمين وحاصروا حصون خيبر. إنتصر المسلمون على اليهود
الذين استماتوا في القتال، واستأصلهم محمد من شبه الجزيرة العربية. السنة الهجرية
السابعة.

في
السنة الهجريّة العاشرة، كانت شبه الجزيرة العربية بكاملها في نور الإسلام، عاش
فيها المسيحيون والمسلمون بأمان.

 

دخل
محمد مكة المكرّمة فاتحاً دون أن يقابل مقاومة تُذكر. فدخل الكعبة وحطّم أصنامها
قائلاً: (قُل جاء الحق وزَهق الباطل. إن الباطل كان زَهوقاً) (الإسراء: 81). وصفح
النبي الكريم عن أعدائه بقريش بعفو شامل.

 

إنتقل
محمد رسول الله إلى رحمته تعالى في السنة الحادية عشرة من الهجرة (632م)، مطمئنّاً
بعد أن أتم الرسالة الإلهية، في المدينة المنوّرة حيث قبره المكرّم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار