اللاهوت الدفاعي

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

رسالة
بولس إلى تيطس بين الأرثوذكسيّة والأرثوبراكسيّة

مقدّمة

هناك
أربع رسائل في العهد الجديد موجّهة مباشرة إلى أشخاص(1). في الرسالة إلى فيليمون
يُعالج بولس موضوعًا شخصيًّا (موضوع أونسيموس). أمّا الرسائل الثلاث الأخرى
فموجّهة إلى أشخاص بصفتهم (الرعويّة). وتتطرّق أيضًا هذه الرسائل الثلاث إلى
تنظيمات (رعويّة). لذلك درجت العادة على تسميتها بالرسائل (الرعويّة): الرسالتان
إلى تيموتاوس والرسالة إلى تيطس.

بالإضافة
إلى هذه الميزة هناك قواسم مشتركة كثيرة تربط الرسائل الرعويّة وتجعلها جزءًا
مميّزًا في العهد الجديد. أسلوبها ولاهوتها ومواضيعها مُتقاربة. تتقارب خصائصها
أحيانًا من خصائص بولس في رسائله المنسوبة مباشرة إليه وفي أحيان كثيرة تختلف
عنها. لا يسعنا هنا أن نستعرضها، ولا أن ندخل في المسائل الصعبة التي ما زالت تقسم
شارحي الكتاب المقدّس بشأن كاتب الرسائل الرعويّة وتاريخها وأسلوبها ومكانها في
لاهوت بولس وفي حياته الأرضيّة..

نتوقّف
هنا فقط على الرسالة إلى تيطس دارسينها من زاوية بُنيتها الأدبيّة بعد أن نكون قد
ترجمناها ترجمة حرفيّة قريبة، بقدر المستطاع، من النصّ اليونانيّ المُعتمد في
النشرات العلميّة الأخيرة. أمّا سائر المقاربات (كشخصيّة الكاتب وشخصيّة المرسل
إليه ومكان تحرير الرسالة..) فلن نتطرّق إليها؛ فهي لا تخلو في معظم الأحيان من
الفرضيّات التي لا يمكننا في أيّ حال تثبيتها أو نفيها. لقد اقتُرحت بُنى بُنية
وتصاميم عديدة للرسالة إلى تيطس (2). سوف نعرض بُنية للرسالة نقترحها انطلاقاً من
الخطوط الكبرى التي ترسمها مُقدّمتها وليس من خلال المواضيع والتوجيهات الواردة في
الرسالة.

رسالة
بولس إلى تيطس (ترجمة حرفيّة)

1
1مِن بولُسَ عَبدِ اللهِ ورَسولِ يسوعَ المسيحِ لأجْلِ إيمانِ مُختاري اللهِ
ومَعرِفَةِ الحقِّ الذي بحَسَبِ التقوى، 2على رجاءِ الحياةِ الأبديَّةِ التي
وَعَدَ بها اللهُ غيرُ الكاذبِ قَبْلَ الأزمنةِ الدهريَّةِ، 3وأَظهَرَ كَلِمَتَهُ
في أَوقاتٍ خاصَّةٍ، بالكرازةِ التي اؤتُمِنْتُ أنا عليها، حَسَبَ أَمْرِ اللهِ
مُخَلِّصِنا، 4إلى تيطُسَ الوَلَدِ الحقيقيّ حَسَبَ الإيمانِ المُشتَرَكِ، نِعمَةٌ
وسلامٌ مِنَ اللهِ الآبِ والمسيحِ يسوعَ مُخَلِّصِنا.

5مِنْ
أَجْلِ هذا تَرَكتُكَ في كريتَ كي تُتِمَّ تَنظيمَ الأُمورِ الباقيةِ

وتُقيمَ
في كلِّ مَدينةٍ شيوخًا، كما أنا أَوصَيتُكَ، 6إنْ كانَ أَحَدٌ دونَ لومٍ، رَجُلَ
امرأةٍ واحدةٍ، له أولادٌ مؤمنونَ غيرُ مُتَّهَمينَ بالفجورِ وغيرُ عُصاةٍ.
7لأنَّه يَجِبُ أنْ يكونَ الأُسقُفُ دونَ لومٍ كوكيلِ اللهِ، غيرَ مُعجَبٍ
بنَفسِهٍ، ولا غضوبًا، ولا مُدمِنًا للخَمْرِ ولا عنيفًا ولا ساعيًا إلى الربْحِ
الخسيسِ، 8بل مُضيفًا للغُرَباءِ، مُحِبًّا للخَيرِ، رزينًا، بارًّا، وَرِعًا،
مُتمالِكًا نفسَهُ، 9مُتمَسِّكًا بالكلمَةِ الصادقَةِ بِحَسَبِ التعليمِ، حتّى
يكونَ قادِرًا أنْ يَعِظَ بالتعليمِ الصحيحِ، وأن يوَبِّخَ المُناقضينَ.

10لإنَّه
هناكَ كثيرونَ، عُصاةٌ ومُتَكَلِّمونَ بالباطِلِ ومُخادعونَ، لا سيَّما الذينَ
مِنَ الخِتانِ، 11الذينَ يجِبُ سدُّ أفواهِهم، هُم الذينَ يَقْلِبونَ بيوتًا
بجُملَتِها، مُعَلِّمينَ ما لا يَجِبُ، مِن أجْل رِبحٍ خسيسٍ. 12قالَ واحِدٌ
مِنهم، نَبيُّهُمُ الخاصُّ: “الكريتيّونَ دائمًا كذّابونَ، وحوشٌ خبيثةٌ،
بُطونٌ كسالى”. 13هذه الشهادةُ حقَّةٌ. لأجْلِ هذا السبَبِ وَبِّخهم بِشدَّةٍ
كي يكونوا أصحّاءَ في الإيمانِ، 14غيرَ مُصغيّينَ إلى خُرافاتٍ يهوديَّةٍ ووصايا
أُناسٍ مُعرضينَ عَنِ الحقِّ. 15كلُّ شيءٍ طاهِرٌ للأطهارِ؛ أمّا للأنجاسِ وغيرِ
المؤمنينَ فلا شيءَ طاهرٌ، لَكنْ تَنَجَّسَ ذهنُهم وضميرهم. 16يُعلِنونَ أنَّهم
يَعرفونَ اللهَ، أمّا بالأعمالِ فيُنكِرونَهُ، فإنَّهم رَجِسونَ وعُصاةٌ وغيرُ
ميّالينَ نحوَ أيِّ عَمَلٍ صالِحٍ.

2
1أمّا أنتَ فتَكَلَّمْ بِما يوافِقُ التَعليمَ الصحيحَ: 2أن يكونَ الشيوخُ
قَنوعينَ، وَقورينَ، رِزانًا، أصحّاءَ في الإيمانِ والمَحَبَّةِ والصبرِ؛ كَذَلِكَ
3العجائزُ في سيرَةٍ توافِقُ القداسَةَ، غيرَ شرّيراتٍ ولا مُستَعبَداتٍ لِخَمْرٍ
كثيرٍ، مُعَلِّماتٍ الصلاحَ، 4كَي يَنصَحنَ الشابّاتِ أنْ يَكُنَّ مُحِبّاتٍ
للأزواجِ، مُحِبّاتٍ للأولادِ، 5رزيناتٍ، عفيفاتٍ، مُهتمّاتٍ بالبَيتِ، صالِحاتٍ،
خاضعاتٍ لأزواجِهنَّ حتّى لا يُجَدَّفَ على كلمةِ اللهِ. 6كذَلِكَ عِظِ الشُبّانَ
أنْ يكونوا رِزانًا 7في كلِّ شيءٍ، مُقدِّمًا نَفسَكَ مِثالاً لأعمالٍ حَسَنَةٍ،
في التعليمِ صفاءً ورصانةً 8وكَلمةً صحيحةً لا يَشوبُها لَومٌ، حتّى يُخزى الخَصمُ
إذْ لا شيءَ له ليقولَ سوءًا بِشأنِنا. 9(عِظِ) العَبيدَ أنْ يَخضعوا لأسيادِهم في
كلِّ شيءٍ، أن يكونوا مُرضينَ غيرَ مُناقضينَ 10ولا مُختَلِسينَ، بَل مُظهِرينَ
كُلَّ أمانةٍ صالِحةٍ كي يُزَيِّنوا في كلِّ شيءٍ التَعليمَ الذي هو للهِ
مُخَلِّصِنا.

11فإنَّهُ
قد أُظهِرَتْ نِعمَةُ اللهِ المُخَلِّصةُ لِجَميعِ البَشَرِ 12مُعَلِّمةً إيّانا
حتّى، إذا كُنّا نابذينَ الكُفرَ والشَهواتِ الدُنيويَّةَ، نحيا بالرزانةِ
وبالبرِّ وبالتقوى في الدَهرِ الحاضر، 13مُنتَظرينَ الرجاءَ السعيدَ وظهورَ مَجْدِ
اللهِ العظيمِ وَمُخَلِّصِنا يسوعَ المَسيحِ 14الذي أَعطى نَفسَهُ مِن أجْلِنا
حتّى يَفتَديَنا مِن كلِّ إثمٍ ويُطَهِّرَ لِنَفسهِ شعبًا خاصًّا، غيورًا على
أعمالٍ حَسَنَةٍ.

15بِهَذه
تَكَلَّم وَعِظْ وَوَبِّخْ بِكلِّ أَمرٍ؛ لا يَستَهِنْ بِكَ أَحَدٌ.

3
1ذَكِّرهُم أَنْ يَخضَعوا للرِئاساتِ والسلُطاتِ، ويُطيعوا ويكونوا مُستَعدِّينَ
لكُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ، 2وأنْ لا يِشتِموا أَحدًا، وأنْ يكونوا مُسالِمينَ،
حُلَماءَ، مُبدينَ كُلَّ وَداعَةٍ نَحوَ جميعِ البَشَرِ. 3لأنَّهُ، نَحنُ أيضًا،
كُنّا قبلاً أغبياءَ، عُصاةً، ضالّينَ، مُستَعبَدينَ لِشهواتٍ وَلَذّاتٍ
مُختَلِفَةٍ، عائشينَ في الخُبثِ والحَسَدِ، مَمقوتينَ، مُبغضينَ بَعضُنا بَعضًا.
4لَكِنْ لَمّا أُظْهِرَ لُطفُ اللهِ مُخَلِّصِنا وَمَحَبَّتُهُ للبَشَرِ، 5لا
لأَجْلِ أعمالٍ في بِرٍّ عَمِلناها نَحنُ، لَكنْ بِحَسَبِ رَحْمَتِهِ، خَلَّصَنا
بِواسِطَةِ غَسلِ ميلادٍ آخَرَ وَتَجديدِ الروحِ القُدُسِ 6الذي سَكَبَهُ عَلينا
وافِرًا بِيسوعَ المَسيحِ مُخلِّصِنا، 7حَتّى إذا ما كُنّا مُبَرَّرينَ بِنِعمَةِ
ذاكَ، نَصيرُ وَرَثَةً بِحَسَبِ رَجاءِ الحياةِ الأَبَديَّةِ. 8صادِقَةٌ هي
الكَلِمَةُ،

وأُريدُكَ
أنْ تَتَشَدَّدَ بشأنِ هذه الأمورِ، حتّى يَهتمَّ المؤمنونَ باللهِ أن يُمارِسوا
أعمالاً حَسَنةً؛ إنَّها حَسَنةٌ ونافِعةٌ للبَشَرِ. 9أمّا المُباحثاتُ السخيفةُ
والأنسابُ والخصوماتُ والمُنازعاتُ بِشأنِ الشريعَةِ فاجتَنِبها، لأنّها غيرُ
نافِعةٍ وباطلةٌ. 10الرجُلُ الهرطوقيُّ، بعدَ إنذارٍ مَرَّةً وثانيةً، أعرِضْ
عَنهُ، 11عالِمًا أنَّ مِثلَ هذا مُضَلَّلٌ ويُخطئُ إذ هو قاضٍ على نَفْسِهِ.
12عندَما أُرسِلُ أرتيماسَ إليكَ أو تيخيكوسَ، فاجتَهِدْ أَنْ تأتيَ إليَّ إلى
نيكوبوليسَ، لأنّي هُناكَ عَزَمْتُ أنْ أَشتوَ. 13زيناسُ مُعَلِّمُ الشَريعةِ
وأَبُلّوسُ أَهِّبهُما باجتِهادٍ، كي لا يُعوِزَهُما شيءٌ. 14وَلْيَتَعَلَّمِ
الذينَ لنا أنْ يُمارِسوا أعمالاً حَسَنَةً في سبيلِ الحاجاتِ الضروريّةِ، حتّى لا
يكونوا دونَ ثَمَرٍ.

15يُحَيّيكَ
جَميعُ الذين مَعي. حَيّي مُحِبّينا في الإيمانِ. النعمةُ مَعَ جَميعِكُم.

1-
العنوان أو المقدّمة (1: 1-4)

إنّها
من أطول مقدّمات الرسائل (راجع مثلاً مقدّمة الرسالة إلى الرومانيّين). تصف
المُرسِل (بولس)(3) والمُرسَل إليه (تيطس). ترسم المهمّات المعطاة لبولس بحسب هذه
المقدّمة بُنية الرسالة عامّة. بولس هو عبد الله ورسول يسوع المسيح لأجل إيمان
مختاري الله أوّلاً ولأجل معرفة الحقّ الذي (أو التي) بحسب التقوى ثانيًا. وهذه
المهمّة تأخذ بُعدها من خلال الرجاء، رجاء الحياة الأبديّة.

أمّا
من جهة تيطس فتوجيهات بولس له ترتكز على الإيمان المشترك بينهما. بمعنى آخر، يظهر
مُباشرة من مقدّمة الرسالة أنّ المقصود بالإيمان هو تجسيده في بُعده العمليّ. فبين
إيمان مُختاري الله والإيمان المُشترك بين بولس وتيطس تأتي كلمة الله من خلال
كرازة بولس لتُشكّل نقطة الثقل إن في المُقدّمة أو في الرسالة عامّةً.

 

2-
القسم الأوّل: تنظيم الجماعة على أساس معرفة الحقّ بحسب التقوى (1: 5 – 2: 51)

تظهر
الآية 1: 5أ كمقدّمة، ليس فقط للقسم الأوّل من الرسالة، بل لكلّ التوجيهات الواردة
فيها. بولس ترك تيطس في كريت لتتميم تنظيم الأمور؛ وها هو يكتب إليه ليُعطيه أُسس
هذا التنظيم: التوازن بين التعليم الصحيح (معرفة الحقّ) وبين التطبيق العمليّ
(التقوى).

أمّا
الآية 2: 51 فتظهر كخاتمة للقسم الأوّل من خلال تكرار الأفعال التوجيهيّة: تكلّم
(راجع 1: 9 و2: 1)، عِظ (راجع 1: 9 و2: 6)، وبِّخ (راجع 1: 9 و1: 13). وتوبيخ تيطس
يكون بكلِّ أمر (جمعها أوامر، وليس أمور) لأنّ كرازة بولس وتوجيهاته تتوافق مع
(أمر الله مُخلّصنا) (1: 3)؛ وبالتالي لا يُمكن لأحد أن يستهين بتيطس.

أ
– كيان بلا لوم، التوازن بين العمليّ والتعليم الصحيح (1: 5ب-9)

ولأنّ
التنظيم يكون هرميًّا، يبدأ بولس بالشيوخ وبالأسقف. حالتهم (كساهرين على الجماعة
وكوكلاء الله) يجب أن تتناسب مع طريقة عيشهم: هذا هو أساس اختيارهم. يُلخّص بولس
هذا التنظيم الرئاسيّ بثلاث كلمات: التمسّك بالكلمة (الكرازة البولسيّة)، الوعظ
بالتعليم الصحيح، توبيخ المُناقضين. كيان يرتكز على هذا المُثلّث هو كيان بلا لوم.

 

ب-
كيان يُلام، الخلل بين العمليّ والتعليم الصحيح (1: 10-16)

مهمّة
توبيخ المُناقضين قادت بولس للتكلّم على العصاة المُخادعين، مُظهرًا ماهيّة الكيان
الذي يُلام: إنّه الكيان الذي يعيش خللاً بين المعرفة والأعمال. هذا الخلل جعل
بولس ينعتهم بكلّ صفة تُظهر فصلاً بين حالتهم (ختان، معرفة الله) وسلوكهم (يقلبون
بيوتًا، غير ميالين نحو أيّ عمل صالح). يندرج أيضًا اتّهام بولس للكريتيّين بكلام
نبيّهم في هذا الإطار: كذّابون (يفصلون بين معرفة الحقّ وبين مسلكهم)، وحوش خبيثة
(تفترس الكلمة)، بطون كسالى (لا تهضم الكلمة المسموعة لتُترجمها أعمالاً).

أمّا
تيطس فعليه أن يوبّخهم بشدّة “كي يكونوا أصحّاء في الإيمان”؛ إنّها
الركيزة الأولى في التنظيم (التمسّك بالكلمة الرسوليّة). صحّة الإيمان تخلق
توازنًا بين حالة الشخص وبين تصرّفاته. هذا ما يأمر بولس تيطس بالتكلّم به.

 

ج-
جماعة بلا لوم، توازن بين حالة الشخص وتصرّفه (2: 1-10)

الكلام
الذي يوافق التعليم الصحيح يبني الجماعة ويجعلها بلا لوم. إنّه كلام يُترجَم
عمليًّا بتوازن بين حالة الشخص وبين أعماله. المُسنّ وقور، صحيح الإيمان؛ العجوز
في سيرة توافق القداسة، تُعلّم الصلاح للشابّات؛ الشابّات عفيفات كي لا يُجدّف على
كلمة الله؛ الشبّان رزان حتّى لا يجد الخصم أيّ شيء للتكلّم عليه بالسوء؛ العبيد
خاضعين كي يُزيّنوا التعليم الآتي من الله.

في
هذا التنظيم تظهر أيضًا مهمّة تيطس وهي أي يكون بشخصه مثالاً: صفاءً ورصانة في
التعليم الصحيح. أمّا الهدف من هذا التنظيم فهو إيصال الكلمة بطريقة لا يشوبها
لوم. هذا الهدف تُحقِّقه النعمة في كيان المؤمن.

د-
النعمة تُعلّم التوازن (2: 11-14)

يرتبط
هذا النصّ اللاهوتيّ بشكل وثيق بما يسبقه (فإنّه..)، مانحًا الأساس
اللاهوتيّ-الكريستولوجيّ لتوجيهات بولس “الرعويّة”. فالنعمة تُعطي
المعنى الصحيح لعمل الله الخلاصيّ، وتجعل من يقبلها يحيا بالرزانة وبالبرّ
وبالتقوى، وتؤمّن له القوّة لنبذ الكفر والشهوات الدنيويّة وممارسة الأعمال
الحسنة. وما هذه الممارسات إلاّ حقلٌ للعمل في هذه الحياة (الأرضيّة) بانتظار
الرجاء السعيد والحياة الأبديّة. فالنعمة إذًا تُعلّم ليس فقط التوازن
“الأرضيّ” (الكيانيّ-المسلكيّ)، بل أيضًا التوازن الأرضيّ-السماويّ
باستحقاق الفادي المُخلّص، الله العظيم يسوع المسيح. بهذه الطريقة يُمهّد بولس
للكلام على البُعد الأرضيّ السلطويّ وموقف المؤمن منه.

 

3
– القسم الثاني: إيمان مُختاري الله يأمر بالأعمال الصالحة (3: 1-41)

 

أ-
التبرير بالنعمة يمنح التوازن الأرضيّ-السماويّ (3: 1-8أ)

شهادة
الحياة التي يعرضها بولس تحت ضمير المتكلّم الجمع (نحن) والتي يُظهر فيها كيفيّة
الانتقال من الحالة الماضية إلى غسل الميلاد الآخر تكشف عمق توجيهات بولس
“العالميّة-الأرضيّة”. فالمؤمن الذي نال بالمُخلّص يسوع المسيح الروح
القدس وافرًا يُصبح وريث “الحياة الأبديّة”. وعي المؤمن لهذا الميراث
ولأساس حصوله عليه يجعله يعيش “الحياة الأرضيّة” خاضعًا للسلطات
الزمنيّة ومسالمًا جميع البشر. فالناس، كيفما كانت أعمالهم (في الخبث أو في
البرّ)، هم مكان ظهور لطف الله ومحبّته للبشر. إذا لم يعِ الفاسدون والضالون لهذه
الحقيقة، فالمؤمن يعرفها ويعيشها انطلاقًا من كونه مُبرَّرًا بالنعمة. على أساس
هذا التبرير بالنعمة يبني المؤمن تصرّفه الخارجيّ (مع الرئاسات ومع جميع البشر)
وتصرّفه الداخليّ (ضمن الجماعة المسيحيّة).

 

ب-
الأعمال ثمر الإيمان (3: 8ب-14)

يشمل
المقطع الأخير من الرسالة بعض توجيهات موضوعة ضمن (تضمين): (حتّى يهتمّ المؤمنون
بالله أن يُمارسوا أعمالاً حسنة) (3: 8ب)، (وَليَتَعلَّم الذين لنا أن يُمارسوا
أعمالاً حسنة) (3: 14). ما هي هذه الأعمال الحسنة التي يجب التشدّد بشأنها؟ أولاً،
إنّها التحلّي بالكرازة الصحيحة (3: 9-11)؛ ثانيًا، إنّها الوقوف على حاجات
الكارزين (3: 12-13). وتظهر هذه الأعمال كنتيجة (ثمر) للإيمان (المؤمنون بالله)،
(الذين لنا). هذه الحاجات تُلخّص عمليًّا كلّ توجيهات الرسالة. فالتحلّي بالكرازة
الصحيحة يمنح الكيان الذي فيه تتكامل الحالة بالأعمال؛ أمّا النوع الثاني من
الأعمال فليس تمامًا الوقوف على حاجات الكارزين بقدر ما هو مُتابعة الاستقاء من
الينابيع ذات التعليم الصحيح المُستقيم (كاتب الرسالة) وتأمين الظروف المناسبة
لمواصلة هذا التعليم (زيناس مُعلّم الشريعة، أبولّوس).

 

4
– التحيّات (3: 15)

تشمل
التحيّات النهائيّة ثلاثة (أبعاد): بُعد الرسول ومُعاونيه الذين اؤتمنوا على كلمة
الله الصحيحة؛ بُعد (المؤمنين) أصحاب الإيمان المشترك الكفيل بالأعمال الصالحة؛
بُعد (النعمة) المُبرِّرة الضامنة ميراث الحياة الأبديّة والآمِرة بالتالي
بالأعمال الحسنة (الدنيويّة).

 

خاتمة

لا
تخلو الرسائل الرعويّة من اللاهوت (العقائديّ). قد لا يمكننا التحدّث عن لاهوت بحت
في الرسائل الرعويّة من خلال (تكديس) المقاطع التي تتطرّق إلى المواضيع
اللاهوتيّة، لأنّ اللاهوت في هذه الرسائل ليس بحثًا عقائديًّا؛ إنّه لاهوت
(تطبيقيّ): توجيهات رعويّة. فالكلمة الصحيحة الصادقة تولّد مسلكًا مُستقيمًا.
يُخرج هذا المبدأ المسيحيّة الناشئة من إطار عقلانيّ فلسفيّ ويجعلها تطرح الأسئلة
العمليّة اليوميّة التي راحت تتزايد مع توسّع انتشارها. ويأتي دور (وكيل الله)
ليرسم الإطار اللاهوتيّ- المسلكيّ الصحيح. وهذا المسلك يطال كافة فئات الجماعة
ويشمل العلاقات الداخليّة والخارجيّة.

تشمل
الأخلاقيّات الداخليّة البيت الخاصّ والكنيسة (الجماعة المسيحيّة)، وتندرج في إطار
التنظيم الكنسيّ وإطار التقوى الشخصيّة. أمّا الأخلاقيّات الخارجيّة (مع المجتمع
وكافة الناس) فهدفها محاربة المُخادعين والهراطقة وعدم تشكيك الآخرين أو إعطائهم
فرصة للتجريح بالجماعة.

صحيح
أنّ أساس التوجيهات المسلكيّة التنظيميّة هو الأمانة للتقاليد وللكرازة
(الرسوليّة). لكنّ هدف رسالة تيطس (والرسائل الرعويّة عامّة) اللاهوتيّ -الإيمانيّ
لا يقتصر على تكرار الماضي. فالأجيال المسيحيّة الناشئة لا تنتظر (سقطة نورانيّة)
كسقطة طريق دمشق للحصول على الإيمان. هناك الأمّهات والجدّات والعجائز اللواتي
يُلقّنّه للأجيال الصاعدة.

ويبقى
اختبار الرسول وشهادة حياته (واختبار كلّ مؤمن) نقطة الثقل في إيصال الكرازة.
فالمقطعان اللذان يتوسّطان الرسالة ويتطرّقان لعمل الله الخلاصيّ (2: 11-14؛ 3:
1-7) يرتكزان على ضمير المتكلّم الجمع (نحن) مُجسّدين (اليوم) في حياة المؤمن عمل
الله الخلاصيّ. ما قام به الله (الثالوث) ليس عملاً من الماضي، إنّه يطالك أنتَ
اليوم وهنا. بل أكثر من ذلك، عندما أُظهرت نعمة الله المُخلّصة ومحبّته للبشر،
(أنتَ ونحن)(4) كنّا هناك أغبياء وعصاة، فعلّمتنا أن نحيا بالرزانة مُنتظرين
الرجاء السعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار