علم الكتاب المقدس

الفصل الأوّل



الفصل الأوّل

الفصل
الأوّل

الكتاب
المقدّس هو كلام الله

يستهل
المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الدستور العقائدي في الوحي الإلهي فيقول: إنّ
المجمع المقدّس يصغي بورع إلى كلمة الله ويعلنها بثقة. أجل، لقد حسن في عيني الله
الجوّاد والحكيم أن يكشف عن ذاته ويعلن سرّ مشيئته (أف 1: 11) إلى البشر فكلّمهم
عبر الأنبياء والمعلّمين قبل أن يكلّمهم بابنه الذي هو بهاء مجده وصورة جوهره (عب
1: 3). لقد كلّمنا الله كأحبّاء وحدّثنا ودعانا إلى مشاركته في سعادته وأرادنا أن
نعرفه بواسطة هذه الكلمة: إنّه الإله الوحيد الحقيقي، إنّه الآب الساهر والقاضي
العادل، إنّه المخلص الذي يهتمّ بما يعود إلى إشراكنا في الخيرات الإلهية التي
تفوق تمامًا إدراك العقل البشري. وهذه الكلمة وصلت إلينا عبر الكتاب المقدّس
بعهديه القديم والجديد.

فالعهد
القديم، الذي هو في الوقت عينه تاريخ خلاص وشريعة ووعد، يبقى، بعد أن أتمّه المسيح
وبلغ به إلى كماله، كلام الله. والعهد الجديد، الذي هو تتمّة سرّ الخلاص بالمسيح
وبداية الكنيسة بالرسل، لا يزال يقول لنا مشيئة الله التي لا تريد أن يهلك واحد
منّا (2 بط 9: 3)، والتي تورع مواهب الروح على كل إنسان (2 كو 12: 11) حتى يخلصوا
جميعًا ويبلغوا إلى معرفة الحق (1 تم 2: 4).

نحن
الذين لا نستطع بقوانا الخاصة أن نعرف من الله إلاّ ما ندركه عبر خلائقه حيث ينعكس
كيانه، قد أُعطينا وحيًا يكشف لنا عن سرّ هذا الكيان ويدخلنا في حياة الله. نحن
الذين نعرف الضعف البشري وعجز الإنسان ووهنه، لاسيّمَا بعد أن دخلت الخطيئة إلى
العالم (روم 5: 12)، قد جاءتنا كلمة الله بعبارة واضحة. وقد كُتبت بروح الله الحي
في قلوبنا وأيضاً في ألواح من حجر (2 كور 3: 3) وفي أوراق البردي والجلود الرقيقة،
بانتظار أن تُطبع على الورق وتتُرجم إلى لغات البشر وتنتشر في كل أنحاء العالم.

هذه
الكلمة حملها الشعب العبراني قبل المسيح فبشّر بها ودوّنها في كتبه، ثمّ حملها شعب
إسرائيل الجديد، أي الكنيسة، بحسب أمر المعلم الذي قال لهم: “اذهبوا إلى
العالم كلّه وأعلنوا البشارة إلى الناس أجمعين ” (مر 16: 15)،
و”علِّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، أن يعملوا بكل ما كلَّمتكم به ”
(مت 28: 20).

 

أ-
إعتراضات

نقول
للناس إنّ الكتاب المقدّس هو كلام الله، أمّا هم فيميّزون بين العهد الجديد والعهد
القديم، بين الأناجيل وسائر الأسفار المقدّسة. والمؤمنون يكتفون إجمالاً بمعرفة
بعض المقاطع من الإنجيل، تاركين معرفة سائر كتب العهد الجديد للاختصاصيين في
الكتاب المقدّس وللأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات ؛ ولكنّهم يرفضون رفضاً
قاطعًا أن يحسبوا أسفار العهد القديم كتبًا تحتوي على كلام الله، لا بل يقولون:
كلام أسفار العهد القديم أقلّ شأنًا من كلام الفلاسفة القدماء، وهو على كل حال لا
يستحقّ كلّ هذا الاهتمام وهذه الأبحاث.

يقولون
أوّلاً: إنّ أسفار العهد القديم أسفار صعبة الفهم، فلماذا إضاعة الوقت في قراءتها؟
نحن نكتفي بأسفار العهد الجديد ولا سيمّا بالأناجيل المقدّسة. ويقولون ثانيًا: إنّ
هذه الأسفار كُتبت منذ ألفَي سنة ونيّف، فلماذا نلتزم نحن بقراءتها، وبمَ تفضل على
الكتب القيّمة التي تركها لنا الأقدمون في بلاد الشرق واليونان؟ ويقولون ثالثًا:
تروي هذه الأسفار قصّة شعب لم يكن أفضل من سائر الشعوب، لا بل كان شعبًا منغلقًا
على ذاته، خائفًا على إيمانه وعاداته، معتبرًا أنّ الله له وحده دون سائر الشعوب،
فما الفائدة من قراءتها؟ ويقولون رابعًا: لو كان ما نقرأه في هذه الأسفار هو من
المستوى الرفيع دينيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا لقبلنا به، ولكنّنا نكتشف الكذب
والاحتيال والقساوة عند أشخاص كانوا رجال الله، ونطّلع على أمور منعت الكنيسة
المؤمنين أجيالاً عديدة من قراءتها لأْنّها رأت فيها ضررًا لهم.

إنّ
مثل هذه الاعتراضات وغيرها تجعل العديد من المؤمنين يتورّعون عن قراءة أسفار العهد
القديم لأنّها بالنسبة إليهم تكاد تكون كلامًا بشريًا، فكيف تكون كلامًا إلهيًا؟
من أجل هذا سنقتصر في حديثنا على أسفار العهد القديم، تاركين جانبًا أسفار العهد
الجديد التي لا يختلف عليها أحد. فما هو موقف الكنيسة من أسفار العهد القديم، وما
هو موقف المؤمنين العملي، وما يكون ردّنا على اعتراضاتهم؟ وننهي بقول عن أهمية
الكتب المقدّسة ولاسيّمَا كلام الأنبياء الذي هو قمة كلام الله في العهد القديم.

 

ب-
موقف الكنيسة

هذه
الاعتراضات التي أوردناها قد عرفتها الكنيسة منذ بداية عهدها. عرفتها أوّلاً على
لسان فلاسفة وثنيين أمثال بورفيريوس الصوري وقيلسيوس الذي حاربه أوريجانس، وكلاهما
كان يزدري اليهودية والمسيحية على السواء. وعرفتها ثانيًا على لسان المعارضين لليهودية
الذين كانوا يعتبرون أنّ الفكر اليهودي ما زال يسيطر على الفكر المسيحي الشرقي،
ولهذا ندّدوا بالشعب اليهودي الأعمى الذي لم يطّلع على الشريعة الجديدة، وهاجموا
أسفار العهد القديم. وعرفتها ثالثًا وخصوصاً على لسان الغنوصيين الذين انطلقوا من
فلسفة ازدواجية ثنوية تعتبر الكون خاضعًا لمبدأين متعارضين، أحدهما مبدأ الخير
والآخر مبدأ الشر، فطبّقوا هذه الازدواجية على الكتاب المقدّس، وجعلوا عالم الشرّ
في العهد القديم، وقالوا إن الذي خلق الكون المادي ونظّمه هو إله الشرّ الذي
أعطانا أيضاً الشريعة اليهودية فجاءت على شكله شريرة ؛ أمّا العهد الجديد فهو عالم
الخير وفيه يأتي المسيح الذي ينجّينا من الشريعة القديمة ومن إله اليهوديّة
الشرّير.

في
هذا الخط الغنوصي الذي يعتبر المعرفة سبب الخلاص، شدّد مرقيون (القرن الثاني
المسيحي) على التعارض بين أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد، وجعل الإنجيل
منفصلاً انفصالاً تامًا عن أسفار التوراة: انّ الشريعة القديمة تلفت انتباهنا إلى
العدالة والقساوة والعنف، والشريعة الجديدة إلى الحبّ والرحمة والحرية. فهل يعقل
أن تأتي الشريعتان من إله واحد؟ كلا! فالشريعة الأولى مصدرها إله المحبّة الذي ظهر
لنا في يسوع المسيح. لقد كانت المعارضة واضحة بين يسوع والعالم اليهودى، وهذا دليل
على المعارضة بين نظامين وعهدين وشريعتين وإلهين. ولقد جاء يسوع يحرّر الناس من
النظام الأوّل والعهد الأوّل والشريعة الأولى. وفي هذا الإطار لم يكتشف مرقيون بأن
ينبذ العهد القديم بكامل أسفاره، بل راح يعمل مقصّه في كتب العهد الجديد، فلم يأخذ
إلا بانجيل القديس لوقا ورسائل القديس بولس بعد أن احتفظ منها بمقاطع واستغنى عن
مقاطع أخرى.

هذه
الطريقة في معاملة أسفار العهد القديم قد وقفت بوجهها الكنيسة منذ القديم بلسان
الآباء والمعلّمين بانتظار أن تعلن تعليمها في مجامعها. نذكر هنا ايريناوس، أسقف
ليون في فرنسا، وترتليانس، الكاتب القرطاجي المسيحي، ويوستينوس، ابن نابلس قي
فلسطين، وغيرهم، كلّهم دلّوا على ايجابيات العهد القديم، وفسّروا الرموز الكتابية،
وقالوا إنّ الله ذاته هو الذي أوحى بأسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد، وانّ
التطور الظاهر من العهد القديم إلى العهد الجديد يعود إلى طريقة الله في تربية
البشرية فينتقل بها من عالم الخطيئة إلى عالم الإنجيل عبر مراحل متعددة تصبّ كلّها
في أسفار العهد القديم الذي يجد كماله في العهد الجديد.

وما
قنع الآباء بالردّ على هذه الهرطقات بل راحوا يدرسون أسفار العهد القديم ويعرضونها
على المؤمنين فجاءت بشكل كتب علمية كتلك التي دوّنها أوريجانس المصري، أو بشكل
عظات كتلك التي نقرأها من يوحنا فم الذهب في شرحه لسفر التكوين أومن القدّيس
اغوسطينس في تفسيره للمزامير.. ومن خلال درس الكتاب المقدّس سيُبرز الآباء أهمية
دراسة النص الحرفيّ لنفهم ما قاله الكتّاب الملهمون قبل أن نصل إلى المعنى الكامل
الذي نجده في المسيح. وهكذا سيصبح الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد منطلقًا
لتآليف لاهوتية سيكون لها دورها الكبير في حياة المؤمنين. نذكر منها “برهان
الكرازة الرسولية” لايريناوس، و”البرهان” لأوسابيوس القيصري،
و”مدينة الله” لأغوسطينس، و”العبادة بالروح. والحق” لكيرلّس
الاسكندراني الذي بيَّن أنّ أسفار الشريعة والأنبياء لم تلغَ في العهد الجديد بل بلغت
فيه كمالها، لأنّ الطقوس التي مارسها اليهود لا نزال نمارسها نحن المسيحيين في
عبادتنا الروحية لله، ولأنّ ممارستهم كانت ظلاً ورمزاً لما نمارسه نحن في العهد
الجديد.

ج-
موقف المؤمنين العمل

نحن
المؤمنين نعتبر أن أسفار التوراة هي من الكتب التي لها مكانتها في تاريخ العالم
وفي حياة البشر، ونقول إنها تفترق عن سائر الآداب الدينية لأنّ أصلها يرجع إلى
الله، لأنّها كلام الله، لأنّها قاعدة إيماننا، لأنّها جاءت إلينا بوحي منه تعالى.
أجل، عندما نقرأ الكتب المقدّسة فالله القدوس الحاضر في الكون هو الذي يكلّمنا.
عندما يحدّثنا إنسان نستمع إليه. وعندما يحدثنا الله، علينا أن نفتح قلبنا لكلامه
فنحفظه ونكرّره ونخبر أولادنا بأعمال الله من أجلنا. ولكي نفهم كلام الله لا يكفي
أن نقرأ نصوصه وكأنها نصوص قديمة مثل غيرها، فنحن لا نستطيع أن نفهم كلام الله إن
كنّا غريبين عن الله ولا نستطيع أن نفهم كلام الله ونطّلع عليه من دون عمل الروح
القدس (1 كور 2: 11). وهذا يفترض نفسًا منفتحة للرب مستعدة لتقبّل ما يقوله لنا
بروح الايمان والثقة.

إنّ
المؤمن الحقيقي يسير على هدي الكنيسة التي تعتبر الأسفار المقدّسة كتابها الذي فيه
تعلَم مَن هو الله، وفيه تقرأ قصة الخلاص، وفي التأمّل في كلمته تجد الطريق والحق
والحياة (يو 14: 6). المؤمن يقرأ الكتاب المقدّس داخل الكنيسة التي أودعها الله
إيّاه وديعة تحافظ عليها، ويَسمع كلمات الكتاب في الكنيسة حيث تُعلَن كلمة الله في
الليتورجيا، ويَفهم كلمات الله عندما يُشارك أجيال الآباء والمعلّمين، أجيال
العلماء والقديسين، فيسير على خطاهم ويستفيد من اختباراتهم ويغتني بغناهم، هم
الذين جعلوا هذه الكلمة حاضرة في حياتهم ومحيطهم فصارت سيفًا له حدّان يَنفذ في
الأعماق إلى ما بين النفس والروح (عب 4: 12).

ويعرف
المؤمن أيضاً أنّ هذه الكلمة التي توصلها إلينا الكنيسة قد كتبها أُناس مثلنا
وظلّوا عدة أجيال وأجيال يدوّنونها ويعيدون تدوينها على ضوء اختبار ديني تعمّقوا
فيه يومًا بعد يوم. لقد كتبوا هذه النصوص بلغة لا نفهمها، وانطلقوا من ظروف
تاريخية خاصة وعقليات لم نألفها. ولكنَّ هذا لا يمكنه أن يقف حاجزًا بيننا وبين
كلام الله. لا شك أنه ليس بالأمر الهيّن أن نُدرك كلام الله عبر كلام البشر وأن
نُدرك معانيه رغم القشرة التي يمكنها أن تحجبه عنا، وأنّ صعوبة كلام الأسفار
المقدسة لا تعفينا من البحث الجدّي ولا تعذر كسلنا وتقاعسنا وتذرّعنا بكثرة
أشغالنا. لكن إذا كان الله أراد أن يلاقينا على دروب البشر، فعلينا أن نطّع على
هذه الدروب ونسير عليها لنحقق الوصول إلى الرب. لقد سار العبرانيون أربعين سنة في
صحراء التيه لا نورَ يضيء طريقهم إلاّ نور الرب، ولكنهم وصلوا في النهاية إلى أرض
الرب.

 

د-
الرد على الاعترافين الأوّل والثاني

إنّ
الاعتراضات التي ذكرناها فيها بعض الحق والصواب وفيها الكثير من الضلال وهي على كل
حال لا تحول بيننا وبين الولوج إلى غنى الكتاب المقدّس.

إنّ
الاعتراض الأوّل يدور حول صعوبة أسفار العهد القديم. لا شك في ذلك ونحن أمام مكتبة
تضم 46 كتابًا فيها الشعر والنثر، والتاريخ والصلاة، والقصص الشعبي المدهش المليء
بالمعجزات والعجائب، والقوانين والشرائع التي تكوّمت على مدى سبعة قرون فسردها
الكاتب وكأنّها دوّنت كلّها في وقت واحد. بيد أنّه يمكننا أن ندخل إلى قراءة العهد
القديم، فننطلق من النصوص التي يوردها العهد الجديد ونعود إلى الأسفار التي وردت
فيها. ويمكننا أيضاً أن نستعين بالمقدمات التي تفتح أمامنا فهم الكتاب، كما نستطيع
أن نلجأ إلى الهوامش والشروح.

إذا
كان الطالب في المدارس الثانوية يدرس الأدب القديم ويُعمل الفكر فيه ليفهمه لأنّه
تراث الآباء والأجداد، فلماذا لا يريد المؤمن أن يطّلع على تراث الذين أوصلوا
إلينا وديعة الايمان؟ لماذا لا يريد أن يطّلع على الطريق التي سلكها آباؤه ليصلوا
إلى المسيح؟ إنّ العهد الجديد هو نهاية المسيرة، أفلا نحب أن نعرف البداية؟ أفلا
نحب أن نتأمل في كلمة الله التي خلقت في البدء الأول السماء والأرض كل ما فيهما
(تك 1: 1 ي)، ثم خلقت في البدء الآخر في شخص المسيح “خليقة جديدة” (2
كور 5: 17)؟

أمّا
الاعتراض الثاني فيدور حول قِدَم هذه الأسفار التي كُتبت منذ آلاف السنين. فلماذا
إضاعة الوقت في كتب دُوِّنت قبل المسيح وأمامنا الكثير لنقرأ اليوم ونستفيد منه؟
ولماذا نؤثر كتبًا خرجت من البادية ومؤلّفات تركها لنا أقل الشعوب تحضُّرًا في
الشرق القديم، على كتب ومؤلّفات ورثناها من أثينة ورومة ونينوى وبابل وأوغاريت
وإبله؟.. لا شك في أنّ ذكر هذه الحواضر، ولاسيّمَا الشرقية منها، يملأنا فخرًا
واعتزازًا ويدعونا إلى اكتشاف كنوز أديبة تركت بصماتها في عمق أعماق حياتنا
الاجتماعية والدينية. لكن إذا كان الأمر كذلك، فلنبدأ ونحسب أسفار العهد القديم
بعضاً من تراثنا الذي لم يُكتشَف قبل القرن العشرين الحالي، أمّا الكتاب المقدّس
فظل معروفًا يُقرأ في كل لغات العالم دون انقطاع، أقلّه منذ القرن الأول المسيحي.
ولقد استند إليه العلماء ليعرفوا بعض الشيء عن شعوب عاشت في الشرق وكاد أثرها يضيع
لولا نصوص التوراة. أما استعان اللغويون بنصوص العهد القديم ليدخلوا إلى فهم نصوص
راس شمرا؟ أما يلجأ دارسو الديانات إلى نصوص سفر التكوين ليفهموا أمورًا كثيرة
تبيَّن فيمَا بعد انها من تراث الشرق الذي نعيشه؟

نحن
نرفض باسم علم التاريخ والإنسان أن تقتصر معلوماتنا على ما وصل إلينا من العصور
الحديثة، ونطلب أن نطلع على تراثنا كلّه، وعمره خمسة آلاف سنة ونيّف، ومن هذا
التراث الكتاب المقدّس. ونزيد باسم إيماننا أنّ التوراة لا تكتفي بإعطائنا معلومات
تاريخية ورؤى فكرية وأفكارًا أديبة.. بل تتعدى كل ذلك، وكدت أقول إنّها لا تهتمّ
بما ننتظره من غيرها من الكتب. إنّ همّها أن تعطينا معلومات دينية عن الله الخالق
الذي نعبده، عن الله المخلّص الذي يمكننا أن نثق به فلا يخيّب ثقتنا، عن الإنسان
في حياته الزوجية والعائلية، في حالة الحرب والسلم، في علاقته بالقريب والغريب
والغنّي والفقير. لذلك نحن نحتاج إلى قراءة اسفار المقدّسة رغم قِدَم عهدها.

 

ه-
الردّ على الاعتراض الثالث

إنّ
الاعتراض الثالث يدور حول كون هذه الأسفار تعود لشعب اشتهر بتعصّبه وانغلاقه على
ذاته. إنّ هذا الكلام لا شك بصحّته ولكنّ لنا عليه بعض الملاحظات.

أوّلاً،
إن الله الذي يتعدّى الزمان والمكان أراد أن تنزل كلمته في زمان ومكان معيَّنين،
فاختار الشعب العبراني، واختار الألف الثاني، واختار أرض كنعان ليوصل كلامه إلى
البشرية بانتظار أن يتجسّد ابنه أيضاً في هذه الأرض ذاتها على عهد اغوسطس قيصر،
إمبراطور رومة، وهيرودس، ملك اليهودية. كان بامكان الله أن يُنزل كلمته في مصر،
صاحبة المدنيّة الزاهرة، أو في أثينة، حاضرة الفلسفة، أو في رومة، عاصمة العالم
القديم، لكنه لم يفعل ذلك في تدبيره وسرّه. غير أنّ هذا لا يعني أنه إذا نزل كلام
الرب في أرض كنعان فيجب عليه أن يبقى في أرض كنعان. فإن أوحى الرب إلى شعب ببعض
حقائق جسّدها الكاتب الملهم في لغة من اللغات، فهذا لا يعني أنّ كلام الله حُصر في
لغة من اللغات. وإذا كان كلام الله قد تجسّد عند الشعب العبراني في ثقافة معيَّنة
ومدنيّة محدّدة، وهي على كل حال ثقافة الشرق ومدنيّته، فهذا لا يعني أنه رفض سائر
الثقافات ونبذ ما في سائر المدنيات من غنى. كلام الله بدأ في أرض كنعان وعليه أن
يمتد إلى أقاصي الأرض. والإنجيل الذي بدأ به يسوع في اليهودية سيتعدّى اليهودية
إلى السامرة والجليل وحتى أقاصي الأرض (أع 1: 8) فلا يبقى مكان لم يسمع كلام الله
ولا بقعة لم يُعرف فيها اسم يسوع.

ثانيًا،
نزل كلام الله في بلد من البلدان فكان له طبيعة هذا البلد دون سائر البلدان، كما
أنّ يسوع تجسَّد في الشعب اليهودي فكان له طبيعة أبناء اليهود، ولا ضير في ذلك إذا
فهمنا انّ الجزء يمثّل الكل، وانّ تقديس عيلة من عيال البشر، هي العيلة المقدسة،
مقدّمة لتقديس جميع عيال الأرض، وأنّ تكريس أرضٍ من أراضي البشر، هي أرض فلسطين،
عربون لتقديس جميع أنحاء الأرض، وأنّ تخصيص شعب من شعوب الأرض، هو الشعب العبراني،
بنعمة حَمْل كلام الله واستقبال كلمة الله، يسوع المسيح، بداية لتخصيص جميع الشعوب
بنعمة استقبال كلمة الله في شخص ابنه يسوع المسيح. هذا ما فهمه القديس بطرس يوم
عمَّد كورنيليوس الوثني، ذلك القائد الروماني العائش في قيصرية فيلبس. لقد نزل
الروح القدس بغتة على جميع الحاضرين، وكانوا وثنيين، كما نزل يوم العنصرة على
الرسل، وكانوا يهودًا.

ثالثًا،
إذا كان كلام الله قد كُتب باللغة العبرية، فهل يعني أنه وَقْفٌ على العبرانيين؟
ومتى كان الله عبدًا لتصوّرات البشر وأداة بيدهم يوجّهونه كيف يشاؤون؟ الله حرّ في
تصرّفه ونحن الجبلة الضعيفة لا نستطيع أن ندخل إلى أعماق سرّه. هذا على مستوى
الله، أما على مستوى الناس، فكلّنا يعرف أن الكتاب الذي يسلَّم للنشر لا يعود ملك
صاحبه بل ملك جميع الناس؛ فبالأحرى كلام الله. فما أوحى به الرب إلى أحد الناس
فكتبه، لم يعد ملكًا له أو لشعب من الشعوب بل أصبح لجميع الشعوب. ولقد أراد الشعب
اليهودي مرارًا أن يتفرّد بكلام الله ولا يوصله إلى الآخرين ليحتفظ به لذاته (راجع
قصة يونان الذي رفض أن يذهب إلى أهل نينوى الوثنيين ليحمل اليهم كلام الله). ولكنّ
كلام الله لا يوضع في إطار أو سجن بل يدفع صاحبه إلى أن يتكلّم. كلام الله لا يوضع
تحت مكيال، بل على منارة (مت 5: 14).

رابعًا،
ان كلمة الله كما وصلت إلينا في أسفار العهد القديم لم يعبّر عنها الإنسان بصورة
كاملة، بل تطوّرت مع تطوّر الإنسان المؤمن ولن تصبح كاملة إلاّ في شخص الابن الذي
أُعطى لنا وأُعطي لنا معه كل شيء. أي لسان يستطيع أن يعبّر عمّا في قلب الإنسان؟
فكيف يريد البشر أن يدركوا الرب ادراكًا تامًا؟ لا أحد يعطينا صورة تامة عن الله
إلاّ ابن الله. يقول يسوع: “أنا والآب واحد” (يو 10: 31)، و”ما من
أحد يعرف الابن إلا الآب، وما من أحد يعرف الآب إلا الابن ” (مت 27: 11)،
و”لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً” (يو 8: 19)، لأني في أبي وأبي فيَّ،
ويكني أن يراني أحد لكي يرى الآب فيَّ. “فإذا كنتم تعرفوني عرفتم أبي أيضاً.
وقد عرفتموه ورأيتموه. مَن رآني رأى الآب. ألا تؤمنون بأني في الآب وانّ الآب فيَّ
” (يو 14: 7- 10)؟ نورد هذه الآيات لنقول إن كلام الله وصل إلينا كاملاً فقط
في شخص ابن الله يسوع المسيح الكلمة المتجسد، وإنّ كل قول غير هذا يبقى ناقصًا
فينتظر كماله في يسوع المسيح. ولكنّ هذا الواقع يجب أن يدفعنا إلى أن نستعدّ لسماع
كلام المسيح عبر ما ورد من كلام الله في العهد القديم.

خامسًا،
إنّ الشعب العبراني ظلّ أجيالاً يتأمل في ما يصل إليه من كلام الله بلسان الآباء
والأنبياء والمعلّمين، فاستعدّ لكلام المسيح. فمن المستحسن أن نطّلع على الكثير من
نصوص العهد القديم لندخل بطريقة أعمق في نصوص العهد الجديد. وكما ان الرب درَّب
شعبه أجيالاً وأجيالاً قبل أن يُخبرهم عن ملكوت الله في المسيح، فإنّه لا يزال
يدرّبنا، نحن أبناء الكنيسة، لندخل في ملء إنجيل المسيح. إنّ العهد القديم هو قصة
مسيرة الإنسان على دروب الله، وهي دروب صعبة وطويلة يطيل فيها الله أناته على
الإنسان، فيمشي مشيته مهما كانت بطيئة، ويوصله في آخر المطاف إلى الشريعة الكاملة
في المسيح رغم ضعفه وزلاّته وخطاياه، عبر شرائع ناقصة ألّفها الناس وهم لا يريدون
أن يتخلوا عنها، وعبر عادات متأصلة صارت في المجتمع طبيعة ثانية. أما العهد الجديد
فهو مسيرة الله إلى الإنسان، وهو عمل الابن الذي صار جسدًا وحلَّ فينا فرأينا
مجده، مجد الابن الوحيد الآتي من لدن الآب (يو 1: 14). ومسيرة الإنسان إلى الله،
أي مسيرة العهد القديم، ومسيرة الله إلى الإنسان، أي مسيرة العهد الجديد، تلتقيان
في شخص يسوع الإله الإنسان الذي هو مساوٍ لأبيه (فل 2: 6) في الجوهر والذي صار
شبيهًا بالإنسان في كل شيء ما عدا الخطيئة (عب 4: 15).

سادسًا،
يشبّه الله نفسه بتشبيهين اثنين يدلاّن على علاقته بشعبه. يشبّه نفسه بالزوج
الأمين الذي يعرف أن يغضّ النظر عن زوجته الخائنة ويعرف أن يعاقب ساعة يكون العقاب
دافعًا إلى التوبة والرجوع إلى الرب (راجع سفر هوشع). ويشبّه نفسه بالوالد الذي
يهتمّ بابنه فيؤدّبه (أم 3: 11، 12؛ تث 4: 1، 18: 32)، ويقوده من الجهالة إلى
الأدب ومن الحماقة إلى الحكمة، ويسير به على طريق معرفته له. كلّ هذا نسمّيه طريق
تربية الله لشعبه. فكما أخذ شعبه من عالم الوثنية المصرية وقاده بصورة تدريجية إلى
عبادته دون سواه، كذلك عمل على تهذيب هذا الشعب فنقله شيئًا فشيئًا من طرق اعتادها
في عالم الشرق القديم إلى طرق أخرى.

ونأخذ
على ذلك بعض الأمثلة. ففي القديم كانت المرأة تُحسَب من متاع الرجل، وقد جعلها سفر
الخروج (20: 17) بعد بيت الرجل وقبل عبده وأمته وثوره وحماره. تلك كانت العادة في
الشرق وقد أوردها سفر الخروج كما كانت. أما سفر التثنية (5: 20) فقد فصل بين
الزوجة وسائر ما يملك الزوج، وجعل الزوجة أثمن ما عند الإنسان. ثم نقرأ في سفر
التكوين (1: 26) انّ المرأة والرجل متساويان لأنهما كليهما مصنوعان على صورة الله
ومثاله. ونقرأ أيضاً في السفر ذاته (2: 32 ي) أنّ الإنسان يترك أباه وأُمه ليتّحد
بامرأته، وهي لحم من لحمه وعظم من عظمه.

وهناك
مثَل آخر عمّا يُسمَّى شريعة المعاملة بالمثل والقائلة: سن بسن وعين بعين (خر 21:
24- 25). فإذا قابلنا هذه الشريعة بما نقرأ في الإنجيل نجد أنها لا تليق بالإنسان
فكيف بالمسيحي: “لا تنتقموا ممن يسيء إليكم. مَن أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك
فاترك له رداءَك أيضاً” (مت 38: 5 ي). ولكن إذا قابلنا هذه الشريعة بشريعة
الغاب الأولى وجدنا تطوّرًا ظاهرًا نحو الأحسن. كانت تقول الشريعة الأولى: يُقتل
قايين فيُثأر له سبع مرّات، ويُقتل لامك فيُثأر له سبعًا وسبعين مرّة (تك 23: 4-
24)، أي لا يكون للانتقام نهاية. ولمّا جاءت شريعة موسى بدأت، على نقصها، تضع حدًا
للانتقام وتجعل نسبة بين الجريمة والعقاب: مَن قلعَ لك عينك فلا “تقلع ”
له رأسه بل اكتفِِ بعينه، ومن قطع لك يدك فلا “تقطع ” جسمه بل اكتفِ
بقطع يده. لا شك في أننا لسنا على مستوى الإنجيل الذي يطلب منّا لا أن ننتقم سبعًا
وسبعين مرّة بل أن نغفر بعضنا لبعض سبعًا وسبعين مرّة (مت 18: 21- 22). بيد أنّ
تلك الطريقة في المعاملة بالمثل كانت حسنة في وجه من الوجوه لأنّها تقي الأبرياء
من اعتداء الأقوياء وتعاقب المذنبين بقساوة. ولقد تطوّرت هذه الشريعة عبر نصوص
العهد القديم بحيث إنّ سفر الخروج يقول (23: 4- 5): إذا لقيت ثور عدوّك أو حماره
شاردًا فردَّه إليه. وإذا رأيت حمار مَن يبغضك رازحًا تحت حمله فلا تمتنع عن
مساعدته ورفع الحِمل معه. ويقول سفر اللاويين (17: 19- 18): لا تبغض أحدًا في قلبك
بل عاتبه فلا تتحمّل خطيئة بسببه. لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك، بل أحبب
قريبك مثلما تحب نفسك.

 

و-
الردّ على الاعتراض الرابع

يدور
الاعتراض الرابع حول المستوى الديني والأخلاقي في أسفار العهد القديم. ويذكر
المعترضون خصوصًا قصة لوط وما فعل مع ابنتيه (تك 30: 19 ي)، وقصة تامار مع يهوذا
(تك 38: 1 ي)، ونساء سليمان العديدات (1 مل 11: 1 ي)، ولا ينسون احتيال إبراهيم
على فرعون (تك 12: 1 ي) وعلى ابيملك (تك 20: 1 ي)، واحتيال يعقوب على أخيه عيسو
(تك 25: 29 ي) ووالده اسحق (تك 27: 1 ي) وخاله لابان (تك 30: 25 ي)، واحتيال بني
يعقوب على أهل شكيم (تك 34: 1 ي) وقساوتهم على أخيهم يوسف (تك 37: 12 ي) حين باعوه
عبدًا للتجّار الاسماعيليين.

ويمكننا
أن نذكر الكثير من الأحداث التي تدلّ على أنّ البشر الذين يريد الرب أن يقودهم
إليه هم خاطئون ضعفاء، وأنّ الكلام الذي قاله القديس بولس (روم 13: 5) عن الخطيئة
التي كانت قبل شريعة موسى، هو واقع وحقيقة. ولقد قال يوحنا في رسالته الأولى (8:
1- 10): “إذا قلنا إنّنا بلا خطيئة خدعنا أنفسنا وما كان الحق فينا. أما إذا
اعترفنا بخطايانا (فيسوع) أمين عادل، يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل شرّ. وإذا
قلنا إننا ما خطئنا جعلناه كاذبًا وما كانت كلمته فينا”.

أجل،
لقد عرف الكتَّاب الملهمون في العهد القديم أنّهم خطأة، وفهم الأنبياء أنّ الشعب
الذي هم منه هو شعب خاطئ. نلاحظ مثلاً أنّ كاتب سفر التكوين لا يرضى عن تصرّف
إبراهيم عندما باع امرأته لفرعون. إنّ الكتاب المقدّس يورد خطايا رجال اختارهم
الله لرسالة خاصة، ولكنّه يُتبع ذلك بالقصاص المناسب، كل هذا يبيّن لنا أنّ
الخطيئة، وإن كانت حصّة البشرية، إلاّ أنّ الله لا يرضى بها وهو يفعل المستحيل لكي
يعود الشعب عنها ويتوب إلى ربّه.

ولكن
لماذا نتوقّف على أحداث خاصة ووقائع منفردة، عندما نقرأ أسفار التوراة، ولا نتطلعّ
إلى تاريخ الخلاص الذي يقوده الله عبر الكتاب المقدّس حتى يوصله إلى المسيح، ولا
نتطلع إلى مواعيد الله التي تبدأ بشكل مواعيد مادية من نسل كبير وأرض طيّبة وتنتهي
بشكل مواعيد مسيحانية هي مواعيد بالمسيح الآتي من عند الرب ليحلّ ملكوته على
الأرض، ولا نتطلع إلى شريعة ستدلّ الناس على خطيئتهم فتهيّئهم لقبول النعمة
“من أجل الحياة الأبدية برِبنا يسوع المسيح” (روم 5: 21)؟ لماذا لا
نتأمّل في شخص إبراهيم الذي قَبِل أن يترك كلّ شيء ويذهب في الطريق الذي يشير إليه
الرب؟ ولماذا لا نتأمل في حياة يعقوب فنتوقف عند هذا الانقلاب الذي تمَّ فيه يوم
لاقى الرب في مجاز يبّوق (تك 22: 32 ي)؟ ولماذا لا نقرأ قصّة زواج اسحاق بسارة (تك
24: 1 ي) وفيها ما فيها من طراوة؟ ولماذا لا نعجب بعفّة يوسف بن يعقوب (تك 39: 1
ي) أمام امرأة فوطيفار، وبكرم أخلاقه بوجه خساسة اخوته يوم قال لهم مستخلصًا
العبرة ممّا حصل له من انحطاط ورفعة: “السوء الذي أردتموه لي أراده الله
خيرًا كما ترون ” (تك 50: 20)؟ وهل نذكر داود الذي كان بحسب قلب الرب فعرف أن
يتوب ساعة الخطيئة، وأن يتقبّل المصيبة ساعة تأتيه وأن يمجّد الله بأقواله
وأعماله؟ وسليمان الذي لم يطلب الى الرب إلا الحكمة ليحكم بين الشعب ويميّز بين
الخير والشرّ (1 مل 3: 9)؟ وجماعة المساكين، مساكين يهوه، الذين عاشوا انتظار
الشعب لمجيء الرب يسوع على الأرض، فكان منهم زكريا وأليصابات وسمعان الشيخ وحنّة
النبيّة وجماعة الرسل والتلاميذ؟ كل هؤلاء استقبلوا المخلّص مستنيرين بكلام الله
الذي اعتادوا أن يقرأوه في الأسفار المقدّسة ويلهجوا به ليلاً ونهارًا (مز 1: 2 ؛
28: 35) فيهلّلوا للرب تهليلاً ويحدّثوا بخلاصه الذي لا حدَّ له (مز 71: 14- 15).
وهنا نودّ أن نوضح أمرًا مهمًّا يحجب عنّا رؤية حقيقة كلام الله، ألا وهو طريقة
عرض الأحداث في الكتاب المقدّس وكأنّها راجعة كلّها إلى الله. تؤخذ مدينة أريحا
(يش 6: 1 ي) بحدّ السيف، ولكنّ الشعب يعتبر أنّ الرب أسلمها إلى يد يشوع بعد
الطواف حولها سبعة أيّام. وينتصر يشوع على الملوك المتحالفين عليه (يش 10: 6 ي)
قبل شروق الشمس، فينسب انتصاره إلى الله الذي أوقف الشمس والقمر في دورتيهما ليتمّ
لبني إسرائيل أن ينتصروا على أعدائهم انتصارًا كاملاً. ويقتحم الشعب مدينة من
المدن ويقتلون فيها من يقتلون ويسلبون ما يسلبون ويهدمون ويحرقون، ثم يقولون:
أمرنا الرب بأن نحلّل قتل جميع من في المدينة بحدّ السيف من رجل وامرأة وطفل وشيخ
حتى البقر والغنم والحمير (يش 6: 21). تلك كانت طريقة خاصة في الاخبار وإيراد كلام
الأشخاص. فإذا أخذنا بمبدأ الفنون الأدبية عرفنا أن نكتشف من خلال الأساليب
المتعدّدة ما يريد أن يوصّله الله إلينا من تعليم.

وهناك
أسلوب آخر يجعل النص يلتبس على القارئ. نقرأ في الكتاب: “وقال الله
لموسى” (خر 11: 1)، و”كلَّمَ الرب موسى” (خر 12: 1)، وكأني بالله
لا عمل له إلا أن يكلِّم موسى، وكأنّ موسى لا يفعل شيئًا إلاّ ما يأمره الرب به.
لا شكّ في أنّ موسى يعتبر نفسه عبد الله، وفي أنّ مسرّته هي أن تكون عيناه على يد
الرب وقلبه مفتوحًا على كلامه. ولا شك في أنّ الله ألقى في قلب موسى وحيًا من وحيه
يوم لقيه في البرّية وأعلن له اسمه، يهوه، أي الإله الذي هو وليس أحد سواه. ولكنّ
هذا لا يعني أنّ كل ما أعلنه موسى من شرائع (وما أعلنته التقاليد اللاحقة عن موسى)
جاء مباشرة من لدن الله. ونحن نعرف انّ هذه الشرائع مشتركة بين الشعوب الساميّة
العائشة في هذا الشرق.

هنا
نلاحظ أن الكتاب أخذ غنى الشعوب الساميّة ولخّصه في شريعة موسى التي ستجد كمالها في
شريعة المسيح، فكان الشرق كلّه استعدادًا لمجيء المخلّص. والى هذا رمز القديس متى
(2: 1 ي) عندما جعل المجوس، هؤلاء الملوك الآتين من الشرق، يأتون ليسجدوا ليسوع
لأنّهم أبصروا مجده وعلموا بمولده. وسيكون تاريخ الغرب استعدادًا لمجيء المخلّص
بالسلام الروماني الذي عمَّ العالم المتمدّن وبالثقافة اليونانية التي ستنتشر في
حواضر العالم وتستعدّ لتنقل العهد الجديد في لغة شائعة فتجعله بمتناول الشعب
آنذاك. وستستعد كذلك مدنيّات وثقافات وتيّارات فكرية عديدة لتكون الإناء الذي
يُصبّ فيه كلام الإنجيل، فتصبح كالعهد العتيق بالنسبة إلى العهد الجديد وكالرمز
بالنسبة إلى الحقيقة التي هي في يسوع المسيح.

لو
كنّا نقرأ موسى كما نقرأ رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنتوس (7: 1 ي)
لميّزنا بين ما أوحى به الرب وما يوصي به القدّيس بولس انطلاقًا من اختباره المبني
على كلام الله. لا شك في أنّ ما كتبه القديس بولس يقع كلّه تحت الإلهام، أي إنّ
الله دفعه إلى قول هذا الكلام، فلا يمكن أن يكون فيه خطأ أو ضلال من جهة العقيدة،
ولكننا نقول إنّ هناك أمورًا قال بها القديس بولس فكانت لزمان دون سائر الأزمنة
ونذكر منها على سبيل المثال وضع المرأة في الكنيسة (1 كور 11: 2 ي). وهذا الكلام
ينطبق على ما ورد في كتب الشريعة: فهناك أمور لا تزال تُعتَبَر قاعدة لحياتنا نحن
المسيحيين اليوم، وهناك أمور تجاوزها الزمن فلم نعد نأخذ بحرفيّتها، ولكننا ما
زلنا نستوحي الروح الذي كُتبت فيه. فإن كان بناء المعبد على سبيل المثال لا يهمّنا
جملةً ولا تفصيلاً (خر 25: 1 ي)، إلاّ أنّ الاهتمام بمعبد الرب والقيام بشعائر
الطقوس بروح دينية لا يزالان حاضرين في الكنيسة وفي كل جماعة مسيحية تجتمع باسم
الرب (مت 18: 19). وإن كانت بعض الأحداث لا تهمّ إنسان اليوم لأنّها منحصرة في شعب
من الشعوب إن لم نقل في قبيلة من القبائل، إلاّ أنّ العبرة التي نستنتجها من هذه
الأحداث هي أنّ الرب يوجّه تاريخ العالم بطريقة سرية لا نفهمها، وهي ستؤول في
النهاية إلى أن يُجمع “في المسيح كل شيء في السماوات والأرض ” (أف 1:
10).

 

ز-
أنت تعلم الكتب المقدِّسة

بهذا
الكلام بادر القدّيس بولس تلميذه تيموتاوس (2 تم 3: 15) فحذّره من الاستماع إلى
الخرافات ودعاه إلى الأخذ بالتعليم الصحيح (2 تم 3: 4؛ 1 تم 4: 1) والتعلّق بالكتب
المقدّسة التي تعلّمها منذ نعومة أظفاره، لأنّها تزوّده بالحكمة التي تهدي إلى
الخلاص في الإيمان بيسوع المسيح. هذه الكتابات المقدّسة (روم 1: 2) يعزوها الآباء
إلى الروح القدس، وهي تحوي أقوال الله (روم 3: 2) وكلام الله (مر 7: 13) الذي كتبه
أُناس نزل عليهم وحي الله (يو 35: 10).

هذه
الأسفار المقدّسة قد اعتبرتها الكنيسة والآباء القديسون اعتبارًا كبيرًا. فمنذ
القرن الأوّل يؤكّد إكلمنضوس، أسقف رومة، أنّ الكتب المقدّسة حق وصدق. ويعلن
يوستينوس أنّ الأنبياء تكلّموا بواسطة الروح القدس فلم يقولوا إلاّ ما سمعوه ورأوه
بعد أن ملأهم الروح القدس بأنواره.

وعالج
ثيوفيلُس الانطاكي (كتب في نهاية القرن الثاني) قضيّة الوحي في الكتاب المقدّس وقابل
الإنجيل بأسفار موسى والأنبياء فقال: انّ ما تكلّمت به كتب الشريعة عن البرّ
يتوافق مع ما قاله الأنبياء وذكره الإنجيليون. فلكلّ هؤلاء مُنح الروح القدس، وهم
لم يتكلّموا إلاّ بفعل الروح الواحد. لم أكن أؤمن بالحقائق العتيدة (ارتدّ إلى
الإيمان بعد قراءة الكتب المقدّسة، مثل يوستينوس وطاطيانس)، أمّا الآن وقد تشبّعت
منها فأنا أوْمن، لأنّي اكتشفت كتب الأنبياء الذين حرّك قلوبهم الروح القدس
فتنبّأوا عن الماضي بالصورة التي حدث فيها، وعن الحاضر كما هو، وعن المستقبل بحسب
النظام المحدَّد له لكي يتمّ في أوانه. كل ما عرفناه عن خلق الكون فقد عرفناه
بواسطة الروح القدس الذي علّمنا إيّاه مستعينًا بموسى وبسائر الأنبياء.

ومن
أنطاكية ننتقل إلى الإسكندرية حيث كان للكتاب المقدّس مركز الصدارة. يقول اكلمنضوس
(150- 205): الرب هو الذي تكلّم بفم أشعيا وبفم إيليا وبفم الأنبياء. إذًا، على
الفلاسفة أنفسهم أن يبحثوا عن الحقيقة الإلهية عند الأنبياء، فأقوالهم توضح لنا
طرق التقوى وهي أساس الحقيقة. والكتب الإلهية تعرض أمامنا قواعد الحياة في
الفضيلة، وهي سبل مختصرة تقود إلى الخلاص.. وعندما يردّ اكلمنضوس على الغنوصيين
يقول: انّ الله هو علّة كل الأمور الصالحة، علّة مباشرة للعهد القديم وللعهد
الجديد، وعلّة غير مباشرة لكتب الفلسفة. إن التوراة والإنجيل هما عمل الرب الواحد
لأنّ الأنبياء عندما تكلّموا إنما فعلوا ذلك بتأثير الله ووحيه. وهكذا فالكتاب
المقدّس هو كلام الله. ويقول أوريجانس (185- 255) الذي حارب هو أيضاً بدعة
الغنوصيين: انّ الروح عينه أوحى بأسفار العهد القديم والعهد الجديد. والكنيسة تعلم
أنّ الروح أرسل وحيه إلى كلّ من الآباء والقدّيسين والأنبياء والرسل، فلم يكن روح
للذين كتبوا في القديم، وروح آخر للذين أوحى إليهم فكتبوا ما كتبوه بعد المسيح.

وفي
الكنيسة الغربية قال إيريناوس: إنّ أسفار العهد القديم والجديد قد أوحى بها الروح
القدس الذي تكلّم بواسطة إرميا النبي كما تكلّم بواسطة متّى الإنجيلي وبولس
الرسول. فأسفار العهد القديم والجديد تنبع من الروح الواحد. وأعلن ترتليانس الطابع
الإلهي في الكتب المقدّسة وذكر مكانتها في الكنيسة الأولى ثمّ قال: نحن نجتمع
لقراءة الكتب المقدّسة، فبكلماتها نغذّي إيماننا ونثبّت رجاءنا ونقوّي ثقتنا
ونُدخل في ذواتِنا وصايا الله.

هذا
الذي قيل في الأجيال المسيحية الأولى ستعلنه الكنيسة في قانون إيمانها، فتقول: إنّ
الروح القدس قد تكلّم بالأنبياء. وتعلن أنّ الكتاب المقدّس بعهديه هو كلام الله،
أي أنّه يحوي أقوالاً يوجّهها الله إلى البشر من أجل خلاصهم. وأقوال أسفار العهد
القديم في سرّ خلاصنا تبقى غامضة وناقصة، ولكنها تتوضح شيئًا فشيئًا إلى أن يأتي
ملء الأزمنة (غل 4: 4) فتسطع على ضوء المسيح (أف 12: 4- 14) ويُكشف سرّ الرب في
يسوع للقدّيسين، أي المؤمنين (كو 1: 26- 27).

 

ح-
خاتمة

إنّ
الكنيسة تسلّمت الأسفار المقدّسة على أنّها كلام الله، وكرّمتها كما كرّمت جسد
الرب، وهي لا تني تأخذ خبز الحياة، خاصة في الليتورجيا، لتقدّمه غذاء للمؤمنين
سواء عن مائدة كلمة الله أو عن مائدة جسد المسيح. ولقد اعتبرت الكنيسة ولا تزال
تعتبر هذه الكتب قاعدة مطلقة لإيمانها، وتعدّها إلهامًا من لدن الله سُطِّر كتابة
بصورة نهائية. وإنّ هذه الكتب تورع كلمة الله بالذات دونما تغيير، وتجعل صوت الروح
القدس يدوّي في أقوال الأنبياء والرسل. لذلك يجب على كل كرازة مسيحية أن تتغذّى
بالكتاب المقدّس وتخضع لتوجيهه، ففي الكتب المقدّسة يلاقي الآب السماوي أبناءه
ليكلّمهم بمحبة. وإنّ لكلام الله من الشدّة والفاعلية ما جعل الكنيسة تجد فيه
دعامة وقوة، ولأبنائها في إيمانهم عضدًا، ولنفسهم قوة، ولحياتهم الروحية ينبوعًا
صافيًا وخالدًا.

نقرأ
أسفار العهد الجديد لأنّنا نجد فيها ملء كلمة الله، لكنّنا نقرأ أيضاً أسفار العهد
القديم، وإن نقصها الكمال الذي نجده في العهد الجديد. فالاستعداد لمجيء المخلّص
ليس بمرحلة يمكن أن نلغيها، والكلام الذي قيل قبل المسيح ليس كلامًا باطلاً لأنّ
الاله الذي كلّمنا بواسطة أنبيائه في العهد القديم هو ذاته الذي كلّمنا بابنه في
العهد الجديد، وان يكن راعى وسائل التربية فكشف لنا تدريجيًا عن حقائق الإيمان
ومتطّلبات الأخلاق، وإن يكن انتظر ملء الزمان، يوم التجسّد، ليعطنا الوحي كاملاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار