علم المسيح

الإنسان والإله



الإنسان والإله

الإنسان والإله

.
بقيت مشكلة لا بدّ من الإيماء إليها – ولا أبغي إلاّ الإيماء، لأنه من العبث
محاولة حلّها؛ فإنّ أعصى المعضلات المتعلقة بالمسيح، إنما هي معضلة الصلات
القائمة، في كيانه، بين طبيعته الإلهية وطبيعته الإنسانية؛ بين ما كان يجعله
شبيهاً بنا، وما كان يجعله مختلفاً عنا اختلافاً جذرياً. وهذه المعضلة، في حدّ
ذاتها، لا تدخل في نطاق علم النفس، ولا في نطاق التاريخ. فالاعتقاد بوجود إنسان
وإله في كائن واحد وفي ذات الآن، ينتسب إلى تلك العيوب التي يتهرّب منها العقل،
والتي تسميّها الكنيسة ” أسراراًَ”، والتي تدخل قي نطاق ما يدعوه بولس
” عثرة “. في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (1: 23 – 24)

 

. كتب
باسكال: ” إن الكنيسة قد بذلت من الجهد في سبيل البرهان عن إنسانية يسوع
المسيح، للذين أنكروها، مثل الذي تكلّفته للبرهان عن ألوهيته “. وغريب أن
البدع التي أنكرت على الله أن يتأنسّ أكثر من البدع التي رفضت أن تقرَّ للإنسان أن
يتألّه. وكأني بتلك الغواية القديمة لا تزال عالقة بقلب الإنسان – الغواية الوثنية
– تلك التي وسوست بها الأفعى (رمز للشيطان) إلى آدم: ” سوف تكونان آلهة!
“. وقد لاحظ باسكال مصُيباً ” أن البدعة لم يكن في وسعها أن تعقل انسجام
حقيقتين متنافيتين. فلمّا بدا لها أن الإقرار بإحداهما يتضمن إنكار الأخرى، تمسّكت
بإحداهما وتنكّرت للأخرى. وأماّ العقيدة الصحيحة فهي في اندغام الحقيقتين ”
وذاك ما صرح به مجمع نيقية، يوم أعلن أن يسوع هو ” ابن الله المولود من جوهر الآب،
مساو له في الجوهر، مولود غير مخلوق، أبدي، مثل الآب، ومن ثم، صامد في طبيعته
“. ونجد ملخص ذلك في قانون الإيمان – وهو القانون النيقاوي، أو بالحرى، قانون
مجمعي نيقية (325) والقسطنطينية (381): ” إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب
في الجوهر.. “. بيد أننا نجد في تتمة هذا النص تصريحاً ببشرية المسيح لا يقل
وضوحاً عن التصريح بألوهيته: ” تجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وصار
إنساناً.. ” فالله والإنسان متميزان فيه ومتحدان في آن واحد، وقائمان قياماً
ثابتاً، ليس له انفصام. فمن آمن بهذا السر فهو على السنة الصحيحة، ومن أنكره فقد
خرج على الكنيسة

 

هل
كان بالإمكان أن نقع، في متن الإنجيل، على شئ من سر العلاقات التي قامت، في يسوع،
بين طبيعته الإلهية والإنسانية؟.. إن ما يتضح وضوحاً كاملاً هو أن الألوهية فيه لم
تمتص الطبيهة الإنسانية، كما توهم القائلون بالطبيعة الواحدة. ففي المشهد الرائع
الذي جاء فيه وصف ” التجربة “، نراه قريباً كل القرب من أوضاعنا
البشرية، ومضطراً إلى مجالدة العدو: فهو يجهز على خصمه، لأنه إله، ولكنه مضطراً
إلى مصارعته لأنه إنسان. ولقد أورد لوقا (12: 50) عبارة أعلن فيها المسيح أن له
” معمودية يعتمد بها ” – وهي التي قصد بها آلامه واستشهاده – ثم أضاف
قائلاً: ” وما اشد تضايقي حتى تتم! “. عبارة مؤثرة، يؤخذ منها تواجه
الطبيعتين، واضطراب الطبيعة الإنسانية بإزاء ما وقفت عليه الطبيعة الإلهية من سر
مصيره الفاجع. وفي بستان الزيتون، في الليلة التي سبقت استشهاده، يتجلى لنا أيضاً
ذاك التواجه في مشهد مروع: فالمسيح، من جرى خضوعه للقدرة الإلهية خضوعاً حرّآَ،
أخذ ينازع من شدّ ة الهول، فقام دليلاً على صراعه، ذاك العرق المتساتل على الثرى
” كقطرات من دم ”

.
(لوقا 22: 44)

 

.
بالإمكان إذن أن نتمثل الألوهية، في يسوع، قوّةً قد أحاط بها إحاطة كاملة، وآزرته،
بل سمت به فوق ذاته في تحقيق أهداف رسالته الجلىّ، حتى إذا ما حانت ساعة التضحية،
خضع لها خضوعاً حرّاً، وتنازل لها عن حياته تنازلاً مطلقاً.. ولكن هل بالإمكان أن
نفهم كيف استطاع إنسان أن يعَي وجود الله فيه؟.. إننا نجد، في الكتاب، إشارات
مقتضبة جدّ اً، هي أقرب إلى الإشكال منها إلى الإفصاح عن تلك المخبّآت. فنحن نذكر،
مثلاً، حادثة المرأة المنزوفة، يوم لمست، خفية، هدب ردائه، وكيف التفت إليها وقد
شعر ” أن قوةً قد خرجت منه! “. ونحن نقرأ أيضاً، في إنجيل لوقا، أن يسوع
” قد تهلّل في الروح القدس ” (لوقا 10: 21)، كما أننا في، في إنجيل
يوحنا، إشارات مضاهية إلى ” ارتعاش يسوع في روحه “، و” اضطرابه
“، ساعة أنهض لعازر من القبر (يوحنا 11: 33). ارتعاش غامض لا يعود البتة إلى
أسباب بشرية، بل رّبما إلى أغوار سر من أعمق الأسرار

 

. لا
نستطيع أن نتجاوز هذا الحدّ من التقصّي. فإنه حيثما توجّهنا في شعاب التحليل،
واستيضاح ملامح يسوع الطبيعية ولنفسية، اصطدمنا بحاجز منيع: إنه السرّ وكفى! عبث
كل عاولة لا تتوخى من وصف المسيح سوى الاستطلاع؛ ومن التجديف أن يتصوّر الباحثون،
مهما تورعوا، أن باستطاعتهم أن ” ينظروا إلى المحجوب وكأنه سافر”، على
حدّ ما جاء في صلاة ليترجيةّ قديمة؛ من التجديف أن يعزب عن ذهنهم أنهم ليسوا بإزاء
معضلة علميّة، بل بإزاء حقيقة إيمانية

 

(1)
راهب دومينكاني (1386- 1455) له في الفن رسوم مشهورة منها “البشارة”
و”تكليل العذراء”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار