علم الكتاب المقدس

الفصل الحادي والعشرون



الفصل الحادي والعشرون

الفصل
الحادي والعشرون

النصوص
الكنعانيّة

أ
– المقدّمة

1
– كنعان

إنّ
اسم كنعان يحمل بعض الالتباس. نقرأه منذ منتصف القرن الخامس عشر في كتابة بابلية
مسمارية لأدريمي ملك ألالخ، شمالي غربي سورية. وقد طبّقه مصريو المملكة الحديثة
على الواجهة البحرية التي يتقاسمها اليوم لبنان وسورية وفلسطين. وإذا عدنا إلى
تقليد البيبليا التاريخي، فالكنعانيون هم سكّان فلسطين الذين تغلّب عليهم بنو
إسرائيل حوالي سنة 1200. ولكنّ التبدّل السياسي الذي حصل لا يعني تواصلات في
التاريخ الأدبي. فعلى مستوى اللغة نعرف بشهادة أش 18: 19 أنّ العبرية، لغة
الإسرائيليين واليهوذايين كانت “لغة كنعان”. ولهذا يسمّي اللغويّون
“كنعانيًا” فرع اللغات السامية التي تمثّل العبري والفينيقي. وقد يكون
العبرانيون الآتون من البداوة قد أخذوا لغة الحضارة الكنعانية فصارت لغتهم كما
سيأخذون الكتابة الأرامية فتصبح كتابتهم. ومع هذا، فالعلماء لا يتحدّثون عن الأدب
الكنعاني، فالشميلة لم تتمّ بعد. بل يقولون: هناك أدب فينيقي وأدب عبري. حتّى الآن
لم نجد أثرًا أدبيًا لسائر الشعوب الذين أقاموا على واجهة البحر المتوسط بالقرب من
الفينيقيين والعبرانيين. هذا هو وضع الفلسطيين الذين أقاموا على الشاطئ الجنوبي
لفلسطين يوم كان بنو إسرائيل يقيمون في الجبال.

 

2-
الفينيقيون

خلال
الألف الأوّل ق. م. كانت المدن الساحلية الواقعة شمالي أرض الفلسطيين منطقة
الفينيقيين، توحّدها اللغة والحضارة المادية ونوعية الحياة رغم التفتّت السياسي
الذي فرضته الطبيعة في ذاك الزمان. وكان غنى الفينيقيين يأتيهم من التجارة عبر
البحر هذا ما عبّر عنه حز 27- 28 في أقوال على صور تعبّر عن دهشته وغيرته. ومثل
هذا الازدهار خلق انطلاقة نحو الفن والجمال على مستوى البناء (بنوا هيكل سليمان 1
مل 5: 15: 32) بأمر ملكهم حيرام وصنعوا كل آنيته (6: 13- 51) بقيادة حيرام آخر
الذي أبوه من صور وأمّه من سبط نفتالي (1 مل 7: 13) والذي يقول فيه 2 أخ 13: 2:
“هو ابن أرملة من بنات دان، وأبوه رجل من صور، عالم في عمل الذهب والفضّة
والنحاس والحديد والحجر والخشب والأرجوان والبرفير البنفسجي والكتّان الناعم والقرمز”.
وكان للصيدونيين دور كبير في بناء السامرة بأمر ملكهم إتبعل الذي زوّج ابنته
إيزابيل بآحاب ملك السامرة وبنى لها في العاصمة معبدًا للبعل (1 مل 16: 31).
وتأثّرت فخّاريّات الفينيقيين بمصر قبل أن تأخذ انطلاقتها وتنتشر في كل حوض البحر
المتوسط. غير أنّنا لم نجد الكثير من نتاج القلم في المدن الفينيقية. منهم من قال
إنّ الفينيقيين كانوا يدمّرون “كتبهم” فلا يصل إلى سرّهم
“التجاري” أحد. ومنهم من قال إنّ اليونانيين أزالوا معالم الفينيقيين
لئلاّ يعودوا إلى أرض تركوها. أمّا العينيات التي وصلتنا فهي قليلة: بعض المدوّنات
الملكيّة في جبيل (بيبلوس- لبنان) تمتد من القرن العاشر إلى القرن الخامس فتعطينا
نموذج نثر مليء بالخيال والصور. وهناك شهادات نادرة من العالم: مدوّنة ملك كيليكية
ني القرن الثامن عشر: وُجدت في كاراتيي في تركيا. نصوص محفورة على تمائم جاءت من
أرسلان تاش في شمال سورية. هذا يدل على أنّ الكتابة الفينيقية ازدهرت حتّى في أرض
غريبة. ولكنّ مجمل النقوشات الآتية من المدن الفينيقية هي مُختصرة. لا شكّ في أنّ
الفينيقيين خلقوا أعمالاً أدبية واسعة، ولكنّهم كتبوها على الورق البردي فتلفت.
غير أنّها تركت بعض الآثار في الآداب الأجنبية. إنّ حوليات صور للمؤرخ اليوناني
ميناندريس الأفسسي التي احتفظ يوسيفوس في قديمياته اليهودية ببعض فصولها، تعود إلى
كرونيكات فينيقية دوّنت في اللغة الفينيقية. والميتولوجيا الفينيقية التي دوّنها
فيلون الجبيلي ونقل أوسابيوس القيصرى بعض المقاطع منها، قد تكون نتيجة عوّل عميق
لنظريات الكهنة الفينيقيين. ومن نشاط الفينيقيين أيضاً بعض المؤلّفات القرطاجية
التي أحبّها الرومان ومنها مقال في الزراعة لماغون.

 

3-
أوغاريت

بدأت
الاكتشافات الاركيولوجية في رأس شمرا (يبعد حوالي 10 كلم إلى الشمال من مرفأ
اللاذقية) منذ سنة 1929. تكوّن هذا التلّ من بقايا مدينة انتهى تاريخها في عصر
البرونز. ومنذ سنة 1931 عرف العلماء أنّ اسم المدينة هو أوغاريت، وقد تحدّثت عنها
الوثائق المسمارية منذ الألف الثاني ق. م.

سُمّيت
النصوص “كنعانية” ولكنّ اللغة ليست كنعانية بل لهجة سامية تتميّز عن
الفينيقية والعبرية. سُمّيت اللغة الأوغاريتية، ولكنّها لم تكن اللغة الوحيدة
المكتوبة في أوغاريت. فقد وُجدت مدوّنات مصرية هيروغليفيّة وعدد من اللويحات
المكتوبة بطرق متعددة. فالأبجدية القبرصية المينوسية (أي قبرص وكريت) التي لم تُحل
رموزها بعد، تتمثّل ببعض لويحات تشهد على العلاقات التجارية والثقافية بين أوغاريت
وبحر إيجه. ولكنّ مجموعة اللويحات اللا أوغاريتية الآتية من راس شمرا كُتبت بالحرف
المسماري: اللغة الحثية، اللغة الحورية، واللغة البابلية التي فرضت نفسها لغة
دولية حتى نهاية عصر البرونز. ففي اللغة البابلية دوّنت المراسلات الدبلوماسية
التي وجدت في أرشيف أوغاريت الملكي. أمّا اللغة المحلّية فدوّنت التقاليد الوطنية
(ميتولوجيا، طقوس) والمراسلات الخاصة.

إنّ
تنوعّ اللغات الموجودة في أوغاريت يكشف اتّساع علاقات المدينة الدولية، والتفاعل
بين سكّان من اتنيات مختلفة (أسماء سامية مع أسماء حورية، كتب طقوس في لغتين حيث
نجد مقطعًا حوريا ثم أوغاريتيا). وقد أبرز الأرشيف المُكتشف هناك التنظيم الداخلي
لدولة صغيرة كانت أوغاريت عاصمتها، كما أبرزت موقعها على المستوى الدولي في
المرحلة الأخيرة من تاريخها أي في القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق. م.

وإذا
عدنا إلى أرشيف إبله (تل المرديخ، قرب حلب) نرى أنّ اسم أوغاريت كان معروفًا منذ
سنة 2400 ق. م. وقد دلّت التنقيبات على أنّ المدينة كانت مزدهرة منذ بداية الألف
الثاني، وكانت على اتصال مع مصر إلى هذا الوقت تعود السلالة الملكية التي حكمت
المدينة حتى زوالها بطريقة نهائية. تتحدّث النصوص القديمة عن السلالة الملكية
(أختام) منذ بداية الألف الثاني، ولكنّنا لا نستطيع تتبعّ تاريخ أوغاريت وتسلسل
ملوكها قبل سنة 1400 ق. م.

تدور
المدينة في الفلك المصري. فهناك وثائق تدل على أنّ الفرعون أمينوفيس الثالث (1402-
1364) يتدخّل في شؤون أوغاريت. وتطلعنا النصوص على صراعات مع الدول المُجاورة.
أمّا الحدث الأبرز في تلك الفترة فهو تدخل الملك الحثّي العم شوبيلوليوما الأوّل
الذي تسلّط على الممالك الصغيرة في سورية الشمالية وانتزع أوغاريت من التأثير
المصري. وظلّت أوغاريت تدور في فلك الحثيين حتى الحدث القاتل الذي حصل حوالي سنة
1180: دمّر حريق المدينة كلّها وأزال الدولة الأوغاريتية يوم تحطّمت المملكة
الحثية وواجهت مصر هجمات شعوب البحر كانت كارثة أوغاريت نموذجًا لمنطقة انقلبت
أوضاعها في نهاية عهد البرونز. وهكذا تتهيّأ وحدات سياسية جديدة ستحتل المسرح
الدولي خلال العصر الحديدي.

وأعطتنا
النصوص البابلية والأوغاريتية التي وجدت في أوغاريت، معلومات عن الاقتصاد والمجتمع
ونظُم مملكة أوغاريت. فهناك وثائق إدارية تعرّفنا بأهمّ المنتوجات المحلية
(الحبوب، الخمر، الزيت، الملح، الأرجوان، الصدف) والمنتوجات العابرة في أوغاريت
التي كانت مركزًا تجاريًا هامًّا بحريًا وبريًّا (المعادن، النحاس والقصدير،
الحجارة الكريمة). وكانت الجماعات (عظماء الملك بل الملك نفسه) توجّه (أو تدقّق
في) الانتاج والتجارة. كانت الجماعات الريفية تدفع عشر محصولها الزراعي بواسطة الشيوخ
أو الموظّفين أو وكلاء الملك. وكانت المدينة مركز إنتاج صناعي. كان الصنّاع
متخصّصين وكانوا في “نقابة” لها رئيسها وكان هناك من يمسك حسابات
الموادّ المستعملة. هذا يعني أنّنا بحاجة إلى عدد من الكتبة لتسيير هذا الاقتصاد
الموجّه. أمّا حقّ التجارة فكان امتيازًا يمنحه الملك. وهكذا مثّلت أوغاريت
نموذجًا معروفًا عن هذه الدويلات السورية في عصر البرونز. يعيش أناس مختلفون تحت
سلطة ملك بفضل نظام إنتاج فاعل يمكنه أن يولّد الضغط الاجتماعي (هناك من يقول إنّ
كارثة القرن الثالث عشر سبّبتها ثورة اجتماعية). كان الملك في أوغاريت شخصاً
مقدّسًا، والأساطير تمتدح وظيفته الملكية: فهو ابن الإله السامي ورضيع الإلاهات.
وتقدّم لنا الميتولوجيا مجمع آلهة هو انعكاس سماوي لقصر ملكي. وكان الملك يقوم
ببعض الوظائف الدينية خلال الذبائح العامّة أو حفلات التكفير الجماعية. أمّا
علاقته بالكهنة فهي غامضة.

 

ب-
اكتشاف النصوص الأوغاريتية وحلّ رموزها

1
– الاكتشاف

سنة
1928 كان فلاّح سوري يفلح حقله في مينة البيضاء التي تبعد كلم واحد عن راس شمرا.
فاكتشف مدفنا لفت انتباه مصلحة الآثار في سورية التي كانت آنذاك تحت الانتداب
الفرنسي. وبدأ التنقيبات كلود شافر في مينة البيضاء. وفي تلّ رأس شمرا نفسه. في
أيّار سنة 1929، وقع المنقبون على كمّية من الأسلحة وأدوات نذور من البرونز وقد
حفرت عليها علامات مسمارية في كتابة مجهولة. ثمّ اكتشفوا 48 لويحة طينية حفرت
عليها الحروف المسمارية عينها. وتلاحقت حملات التنقيب من سنة 1930 إلى سنة 1933
فقدّمت سلسلة من اللويحات التي تشكّل أجمل الوثائق عن الميتولوجيا الأوغاريتية. كل
هذا وُجد في بيت رئيس كهنة أوغاريت. ووُجدت معه أولى اللويحات البابلية.

وتتابع
العمل، فظهرت بقايا هيكلين وأنصاب رُسمت عليها آلهة. وفي سنة 1939، بدأت التنقيبات
في القصر الملكي. وهناك اكتشف البحاثة أرشيفًا غنيًا من اللويحات الأوغاريتية
والبابلية. أعطتنا اللويحات الأوغاريتية معلومات عن اقتصاد المملكة وإدارتها،
وقدّمت لنا اللويحات البابلية المراسلات الدبلوماسية التي أتاحت لنا أن نكتب تاريخ
أوغاريت في القرنين الرابع عشر والثالث عاثر واكُتشف سنة 1954 فرن لطبخ اللويحات.

ثمّ
وُجد أرشيف ورسائل (باللغة البابلية) في بيوت خاصّة، كما وُجدت لويحات أدبية دوّنت
في اللغة البابلية. أمّا في ما يتعلّق بالنصوص الأوغاريتية، فإنّ السنة 1961 كانت
أغزر السنوات منذ بداية التنقيبات: فقد وجد الباحثون في بيت أحد الكهنة لويحات
ميتولوجية وليتورجية تساعدنا على الاطّلاع على الديانة الأوغاريتية. ثمّ وُجدت
لويحات أخرى خلال شتاء 1969- 1970. ونشير أيضاً إلى تنقيبات تمّت في رأس ابن هاني
الذي يبعد 3 كلم إلى الجنوب الغربي من رأس شمرا. وُجد هناك قصر فيه مقطع لويحات-
وفي إحداها نص جميل يتكلّم عن السحر.

 

2-
فك رموز الأوغاريتية

كان
شارل فيرولو مدير الآثار في سورية. وكان عالمًا في اللغة الأشورية. فبدأ بنقل
النصوص ونشرها. كتابة مسمارية يتألّف فيها الحرف من مسمار إلى خمسة، أمّا الحروف
فلم تتعدّ الثلاثين حرفًا. وهذا ما دفع فيرولو إلى القول إنّنا أمام أبجدية جديدة
من الأبجديات السامية. قرأ الألماني هانس باور النصوص، وحسّن إدوار دورم القراءة
فاكتشف أوّل عبارة وهي “رب كهنم” أي رئيس الكهنة. وهكذا بدأ العلماء
يترجمون النصوص الأوغاريتية التي كرّس لها شارل فيرولو حياته كلّها.

نحن
أمام لغة سامية غربيّة (اللغات السامية الشرقية: الأشوري، البابلي)، والعالم
السامي الغربي تفرعّ منذ الألف الأوّل ق. م. إلى الكنعانية في الشمال والأرامية،
إلى العربي الجنوبي وابني في الجنوب. وما نجده في إبلة دليل على وجود السامية
الغربية منذ سنة 2300 ق. م.

وُجدت
في رأس شمرا نصوص من أنواع متعدّدة، لائحة أسماء (فلان بن فلان)، لائحة مواد
غذائية (طحين، زيت، خمر..)، لائحة بما دخل إلى الخازن أو مالية الدولة. وهناك
لائحة بيوت تدلّ على إدارة الأملاك غير المنقولة (بيوت، حقول، كروم).

وهناك
الرسائل بين الأفراد، والرسائل الدبلوماسية. وأخيرًا كتب الطقوس: أسماء الآلهة،
طريقة تقدمة الذبائح ومُشاركة الملك في مثل هذه الاحتفالات. وقد وجد سنة 1929 كتاب
طقوس كبير يتضمّن عبارات تشجب الخطيئة وتقدّم الذبائح. كانت هذه العبارات تتلى في
جوقتين (النساء من جهة والرجال من جهة ثانية) بحضور ملك وملكة أوغاريت. ووجد سنة
1961 كتاب طقسي نجد فيه الصلاة التي يوجّهها شعب أوغاريت للاله بعل ساعة يدق الخطر
“إن هاجم عدوّ قويّ أبوابكم، إن هاجم خصم شجاع أسواركم، فارفعوا عيونكم إلى
بعل، وقولوا: يا بعل، أبعد القويّ عن أبوابنا، أبعد الشجاع عن أسوارنا. يا بعل
نكرّس لك ثورًا. يا بعل سنني بنذرنا. يا بعل، سنكرّس لك ذكرًا (أو بكرًا). يا بعل
ستتمّ ذبيحة دموية. يا بعل، سنقدّم وليمة. يا بعل سنصعد إلى المعبد. يا بعل سنسير
في الطريق المؤدية إلى الهيكل. حينئذ يسمع بعل صلواتكم فيطرد القويّ بعيدًا عن
أبوابكم والشجاع بعيدًا عن أسواركم “.

ونقدّم
نصا يدلّ على أسلوب التوازي في النصوص: “إسمع، يا بعل القويّ. أصغ يا راكبًا
على الغمام. نجعل الموقدة في البيت ومشعل النار في القصر تكون المرأتان امرأتي
إيل، تكونان امرأتي إيل إلى الأبد. يُذبح البقر والأغنام أيضاً. ينحر العجول وأسمن
الكباش، عجول السنة (التي عمرها أقلّ من سنة) والحملان”.

 

ج-
النصوص الأدبية في أوغاريت

1-
الأساطير

نعرف
أسطورتين أوغاريتيين كبيرتين، وقد دوّنت كل منهما على ثلاث لويحات مشوّهة. إنّهما
تتعلّقان بملكين غريبين ولكنّهما تتوجّهان إلى أهل أوغاريت. تعطياننا العبر
العديدة فتحذّر الإنسان من محاولة الارتفاع إلى مستوى الآلهة، أو تعلّمه طرق
العناية الإلهية وضرورة الوظيفة الملكية وأهمية السلالة (الملكية الوراثية هي
النظام الذي أراده إيل، الإله السامي).

 

أوّلاً:
أسطورة أقهات

تحسّر
دانيل لأن لا نسل له. فظهر له بعل في الحلم وأمره بأن يقوم ببعض الطقوس ليزول
شقاؤه. سيكون له ابن يتمّم نحوه واجبات مذكورة في النصّ. تشفعّ بعل لدى الإله إيل
فبارك دانيل الذي وُلد له ولد. وتصوّر اللوحة الثانية أقهات ابن دانيل على أنّه
صيّاد شاب فسلّمه إله الصناعة قوسًا عجيبة. فاشتهت الإلاهة عنات (الإهة الصيد
أيضاً) هذا السلاح الجديد. دفعت للبطل سعرًا غاليًا جدًا، بل قدّمت له الخلود، على
ما يبدر، ولكنّ اقهات رفض. غضبت الإلاهة وانتزعت من الإله إذنًا بأن تنتقم من
اقهات. حين كان الصياد جمل طارت فوقه ورمته برجل يشبه الباز لتقتله. وتنفّذ مقصدُ
عناة. علم دانيل بموت ابنه، فلعن الطيور وطلب من بعل أن يقتل الباز فوجد في حلقه
بقايا الميت، فأقام له مراسم الجنازة. وبعد أن عاشت أخت اقهات في الحداد عزمت على
الانتقام لأخيها. تزيّت بزي يجعلها شبيهة بالإلاهة عنات وذهبت إلى ذلك الذي دفعته
عنات ليقتل اقهات.. وينتهي النصّ هنا لأنّ الأسطورة ناقصة. قد ينتهي الخبر بنهاية
سعيدة فيروي كيف أنّ دانيل حصل بعد هذه المحنة على ذرية كبيرة واستعاد ابنه اقهات.
أمّا العبرة فهي تحذير من التهوّر الذي يمثّله اقهات ودعوة إلى الحكمة التي
يجسّدها دانيل.

 

ثانيًا:
أسطورة كارت

كارت
هو ملك لا ولد له. فقد ضربه الشقاء وانتزع منه امرأته وأولاده. قدّم ذبيحة، فظهر
له إيل في الحلم وعلّمه ماذا يعمل لكي يستعيد نسله: يجمع جيشًا، يحاصر مدينة بعيدة
فيُخضع ملكها الذي يعطيه ابنته زوجة له. بعد أن روت اللويحة حلم كارت وأمر الإله
له، ذكرت الحلم وروت تنفيذ المُخطّط بكلام مماثل لكلام إيل. وتبيِّن اللويحة
التالية نجاح العملية: أعطى الملك البعيد ابنته وتمّ الزواج. وأعلن أنّه سيكون
للزوجين سبعة بل ثمانية أبناء وسبع بنات بل ثماني. وبعد فجوة في اللويحة نرى امرأة
كارت تدعو عظماء المملكة إلى وليمة فينتحبون لأنّ كارت سيموت. وتبدأ اللويحة
الثالثة برثاء كارت الغريب. موته يبعث على الشكّ لأنّ الملك هو ابن الإله. ولكنّ
الملك أرسل في طلب آخر بناته (تسمّى الثامنة) فقامت بأعمال طقسية.. وصوّر حدث جديد
الأرض التي لفحها الجفاف بسبب مرض الملك (يسبّب مرضه كارثة كونية). ثمّ ينتقل
الراوي من الأرض إلى السماء فيرى أيل يدعو جماعة الآلهة لكي يشفوا كارت. تهرّب
الآلهة، فصنع إيل خليقة مجنّحة تحمل الشفاء. ولكن، ما إن استعاد كارت نشاطه حتّى
برزت محنة جديدة. سعى وليّ العهد ياسيب، لكي ينزل أباه عن العرش لأنّه “لا
يدافع عن حق الأرملة ولا يقضي للبؤساء”. وتنتهي اللويحة بلعنة يتلفّظ بها
كارت على ياسيب.

 

2-
الميتولوجيا

الفارق
الوحيد بين الأساطير والميتولوجيا هو أنّ العمل يتمّ في العالم الإلهي مع
الميتولوجيا. وبفضل الميتولوجيا، تعرّفنا إلى مجمع الآلهة الأوغاريتي وهو منظّم
بطريقة متناسقة. يتسلّم إيل الوظيفة الإلهية الرئيسية. إنه الشيخ الحكيم والصالح
ربه يرتبط توازن الكون. إلاّ أنّه لا يستطيع أن يتدخّل بطريقة فاعلة. بعل الشاب هو
بطل شجاع وهو يحتاج إلى من يهدّئ غلواء عنفه. للإلاهات الكبيرات دور ثانوي: إنّهنّ
صورة عن الآلهة الذكور: أشيرة هي زوجة الإله إيل، هي المحتالة تجاه الحكيم. عناة
هي أخت بعل، تتحلّى بالعنف أكثر ممّا بالبطولة.

 

أوّلاً:
سطرة بعل

هناك
لويحات عديدة دوّنها رئيس الكهنة ايلوملكو فروى مغامرات الإله بعل الذي هو في قلب
عبادة أهل أوغاريت. هل تمثِّل هذه اللويحات أحداث دورة سطرية واحدة؟ هل يشكّل كل
خبر وحدة في ذاته؟ وإذا كنا أمام دورة، فأيّ ترتيب نتبع؟ هل نفكر أنّ كل حدث
ميتولوجي يوافق وقتًا من الاحتفالات الدينية حسب تناغم الفصول. تلك أسئلة يتجادل
فيها حتّى اليوم دارسو الآداب الاوغاريتية.

 

*
بعل والبحر

موضوع
القصيدة هو انتصار الإله بعل على يم إله البحر. بنى يم قصرًا فدلّ على مملكته،
وحاول أن يثبت ملكه بإخضاع بعل الذي هو”سيد الأرض”. وأرسل وفدًا إلى
جماعة الآلهة يطلب منهم أن يسلّموه بعل. وافقت الآلهة، أمّا بعل فرفض واتّهم
الآلهة بالجبانة. وسلّح كوثار، الإله الحدّاد والمهندس، بعل فبارز يم، إله البحر
فغلبه وقتله. هكذا تنظّم الكون في عالم أوغاريت كما تنظّم في العالم البابلي حيث
نرى “الإله الخالق” يقتل وحش البحر الأولاني ثمّ يخلق الكون. أمّا وظيفة
هذه السطرة الأوغاريتية فتشديد على التسلّط على البحر لأنّ الإله يم (البحر) خضع
أمام بعل.

 

*
بعل وعناة

الوجه
المهمّ في هذه اللويحة هو وجه الإلاهة عناة العنيفة. ولكنّنا نتساءل هل هذه
القصيدة هي امتداد لقصيدة بعل والبحر؟ فالعمود الأوّل يصوّر وليمة أقامها بعل
ليحتفل بانتصاره على يم. ثمّ تصوّر اللويحة عناة وهي تقتل خصومًا سرّيين في أرض
المعركة ثمّ في داخل قصرها. ما معنى هذا الحدث؟ يرى فيه بعض البحّاثة طقسًا دمويًا
من طقوس الخصب. فبعد أن ارتدت عناة ثيابها سمعت بعل يدعوها. قلقت لأنّها ظنّت
أخاها في خطر وهي من اعتادت أن تحمل إليه العون. ولكنّ بعل طلب منها أن تتوسّط إلى
الإله إيل ليقبل بأن يُبنى قصر لبعل فيدلّ على سلطانه السامي. وفي نهاية اللويحة
نرى عناة ذاهبة إلى كاشر.

 

*
قمر بعل

نحن
عند كاشر الذي أتته عناة وأفهمته أن لا قصر لبعل. صنع الإله سلسلة مصنوعات فنّية
حملها بعل وعناة إلى الإلاهة أشيره زوجة الإله إيل، وهما يطلبان رضاها. فذهبت
أشيرة إلى إيل زوجها ودافعت أمامه عن قضيّة بعل: لا بدّ من بناء القصر ليمارس بعل
وظائفه كسيّد العاصفة والمطر فاقتنع إيل. وإذ علم بعل بواسطة عناة بنجاح مسعاه،
دعا كاشر الذي بدأ بالعمل. وحين وصل بعل إلى قمّة مجده أرسل يتحدّى الموت. فتكريس
ملك بعل وتشييد قصره يقابل عيد تنصيب الله ملكًا في أرض إسرائيل في بداية السنة.
نُصِّب بعل سيّدًا للمطر، لهذا فتح كاشر نافذة في قصره يرسل منها المطر على الأرض.

 

*
بعل والموت

يروي
هذا الحدث الذي يحتل لويحتين من لويحات ايلوملكو تفاصيل الحرب بين بعل وموت (اله
الموت). أمر موت بعل أن يزل في فه. استسلم بعل فاختفى. عرف الإله إيل بهذا
الاختفاء فأعلن الحداد وتحسّر على البشر الذين حُرموا من “إله الأرض”.
وبكت عناة هي أيضاً، ولكنّها وجدت جسد أخيها فحملته بمعاونة الإله شمش (الشمس) إلى
قمة الجبل الذي يشكل الرباط بين السماء والأرض. ثمّ ذهبت تبحث عن مُوت القاتل
زّقته تمزيقًا. وعاد بعل إلى الحياة (هناك فجوة كبيرة تحرمنا من حدث هامّ) لأنّنا
سنراه جالسًا على عرشه على الجبل. وبعد سبع سنين واجه بعل مُوت من جديد في مواجهة
توقفت بأمر إيل الذي يحافظ على التوازن في الكون. مُنع إيل من أن يمحق بعل ولم
يُسمح لبعل بأن يُهلك موت. تستند هذه السطرة إلى ملاحظة دورة المياه، مبدأ الحياة.
تَترك المياه السماء وتَدخل إلى بطن الأرض (أي مسكن الموت)، وتعود من هناك إلى
السماء لتكوّن السحب من جديد. والينابيع (أو العيون) التي تجمع المياه الجوفيّة
والسماء، هما الفاعلان في إعادة هذا التكوين. فاسم الإلاهة عناة يرتبط بالينابيع.
أمّا دور الإله شمش فواضح في الميتولوجيا. أمّا صراع السنة السابعة بين بعل وموت،
فهو يدلّ على الاعتقاد أنّ نهاية السبع سنين فترة حرجة في حياة الكون، وقت صراع
بين قوى الحياة وقوى الموت. أمّا حكم الإله إيل فيعني أنّ الحياة والموت باقيان ما
بقي الإنسان.

 

*
أحداث ميتولوجية أخرى عن بعل

نرى
بعل سيّد المطر، جالسًا على جبله. تسيل منه المياه وتُحيط به البروق. ونراه في
لويحة أخرى يخصب البقر ذهب بعل ليصطاد البقر البري، وراحت عناة تبحث عنه فالتقت به
كما التقت بقطيع من البقر وينتهي النصّ بإنشاد ولادة العجول. قد نجد هنا إشارة إلى
أنّ بعل أحبّ بقرة قبل أن ينزل تحت الأرض.

وفي
لويحة اكتشفت سنة 1959، نطّع على علاقات بعل بعناة: أكلت عناة لحم أخيها بعل من
دون سكين. وشربت دمه من دون كأس، ثمّ زارت الينابيع والعيون. إنّ عناة الإلاهة
الينبوع (أو العين) امتلأت من جوهر أخيها، امتلأت من الماء.

وهناك
نصّ يروي حرب بعل مع كائنات سرّية تسمى “الشرهة” و”المخرّبة”.
خرج بعل مضرّجًا بالدم ولكنّه انتصر أعلن الإله إيل في النهاية مملكة بعل.

 

ثانيًا:
ولادة الآلهة

إيل
هو والد الآلهة. يلتقي على شاطئ البحر الإهتين: أشيرة وبديلتها. وبعد أن قامت
السيّدتان بعملية سرية حاول الإله إيل أن ينام معهما. ولكنّه كان ضحيّة عجزه ولا
ننسى أنّ ملامح الإله إيل هي ملامح عجوز. وبعد أن شوى عصفورًا، استعاد نشاطه فحبلت
المرأتان وولدتا شخصين هما نجمة الصبح ونجمة المساء، وهذا يعني خلق الزمن أو خلق
عالم النجوم. ثمّ ضاجع إيل المرأتين فولدتا الآلهة المشهورين بالشراهة. وإذ لم
تستطع محاصيل الطبيعة أن تشبعهم، أمر إيل أن تُحمل إليهم تقدمة. فترك الآلهة
“الشرهون” الصحراء وذهبوا إلى الأرض المزروعة حيث وجدوا لهم غذاء.
الآلهة الشرهون هم آلهة من الدرجة الدنيا، هم “أبناء إيل ” المذكورون في
اللويحات الليتورجية والذين يتغذون من تقدمات يرفعها إليهم البشر وهكذا تعلّمنا
السطرة أنّ خدمة الآلهة تبعث الإنسان على العمل في الزراعة التي هي عنصر جوهري من
عناصر الحضارة.

 

ثالثًا:
ميتولوجيات ذات وظائف دينية خاصّة

نجد
في رأس شمرا نصوصاً ميتولوجية عديدة تختلف عن دورة بعل ونشيد ولادة الآلهة. ليست
وظيفتها أن تذكر أو تفسّر أو تؤوّن أحداثًا أساسية وكونية مثل خلق العالم أو تعاقب
الفصول. إنّ وظيفتها أن تحافظ على فاعلية ممارسة من الممارسات، أن تتجاوب مع حاجات
خاصّة. قد تفترض هذه السطرة طقوسًا، ولكنّ هذه الطقوس ظرفيّة وهي تختلف عن تلك
التي نجدها خلف السطرة ذات الطابع الكوني.

 

*
أعراس القمر

يروي
هذا النص الصغير زواج إله يحمل اسم القمر الاوغاريتي والإهة البابليين القمرية.
ويصوّر النصّ الاستعداد للزواج (الذي يزوّج، وزن المهر الذي يحمله العريس) وتنتهي
اللويحة بنشيد للإلاهات القابلات اللواتي يحضرن الولادات. فالقمر “الذي يُولد
من ذاته ” يُعتبر كفيل الخصب البشري. وإذ أراد النص أن يعطي هذا الموضوع
وجهًا دراماتيكيًا، جعل القمر وبديله بشكل كائنين من جنسين متقابلين (رجل وامرأة)،
وهذا ما ميّز المعتقدات البابلية (عرفت الإهة القمر= سهر) والمُعتقدات الغربية
(الإله القمر). فالقصيدة هي نشيد زواجي يؤمّن للمتزوّجين الجدد نسلاً كبيرًا.

 

*
حورون والحيّات

تروي
لويحة وجدت سنة 1961 كيف أنّ الإهة شابة طلبت بواسطة الإلاهة الشمس (رسولة العالم
الإلهي) من آلهة عديدة من أجل ضحية أفعى سامّة. رفض الآلهة الواحد بعد الآخر، أن
يتدخّلوا. هكذا تعرّفنا إلى تسلسل الآلهة الأوغاريتية: بدأت اللائحة مع إيل فوصلت
إلى الآلهة الكواكب. غير أنّ حورون قدّم الدواء وطلب أجرته ساعة حب مع الإلاهة
التي رضيت أن تذهب إلى بيته. عُرف حورون لدى الساميين الغربيين بأنّه الإله الشافي
فحدّثتنا عنه هذه السطرة.

 

*
سكر الإله إيل

تصوّر
هذه اللويحة وليمة يسكر فيها الإله إيل فيترك القاعة، يسنده الآلهة وهو
“يتخبّط في خراه وبوله “. ونجد في آخر اللويحة دواء نحارب به نتائج
السكر.

 

*
أرواح الموتى

هناك
نصوص أوغاريتية تذكر كائنات تسمى “رفائيم” أو أرواح الموتى. تتحدّث عن
وليمة دامت سبعة أيّام أولمها دانيل ودعى إليها هؤلاء الرفائيم. ترتبط الوليمة
المقدّمة للموتى بولادات جديدة، ويمكننا أن نعتبر أنّ المؤمنين يدعون أرواح الموتى
لتؤمّن تواصل الحياة في البيت. ويُدعى الرفائيم أيضاً ليؤمّنوا البركة للمدينة أو
للملك وعائلته. ومن بين الرفائيم المذكورة أسماؤهم نتعرّف إلى ملكين من ملوك
أوغاريت. وهكذا يدل الرفائيم أوّلاً على موتى العائلة الملكية وغيرهم من الموتى.

 

رابعًا:
حداد إيل لموت بعل

ذهب
الرسل يبحثون عن بعل وجاؤوا يعلمون إيل بنتيجة بحثهم: “تجوّلنا حتّى أقاصي
الأرض، حتّى حدود الأراضي المروية. وصلنا إلى أجمل المروج وإلى أطيب الحقول
القريبة من مقام الموتى. وصلنا إلى قرب بعل فوجدناه مرميًّا على الأرض. مات بعل
القدير، هلك أمير الأرض وسيّدها. حينئذ نزل إيل الرحوم وصاحب القلب الكبير عن عرشه
وجلس على الموطئ، ثم انتقل من الموطئ وجلس على الأرض. وذرَّ على رأسه رماد الحداد،
وعلى جمجمته تراب الحزن. تحزّم بالمسح وخدش جلده بحجر وقطع بالموس شعره المضاعف.
هشَّم وجهه وذقنه وصرخ بأعلى صوته: مات بعل: ماذا سيحدث للشعب؟ مات ابن داجون!
ماذا سيحدث للمجموعة البشرية؟ سأنزل إلى الأرض على خطى بعل “.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نرجو اغلاق مانع الاعلانات لدعم الموقع كي نتمكن من الاستمرار